تعتبر الجرائم الواقعة على الأسرة من أشد الجرائم التي تهدد أمن المجتمع و استقراره و تلحق أضرارا نفسية بليغة بالمتضرر منها ، فهي متعددة و كثيرة منها جريمة اهمال العائلة و جريمة اهمال الزوجة الحامل و جريمة عدم تسديد النفقة و جريمة الاهمال المعنوي للأولاد ، هذه الأصناف من الأفعال المجرمة قانونا لفتت انتباه رجال القانون و المتضررين منها خاصة ، شخصيا أخذت مني قسطا كبيرا من التخمين في ايجاد آليات مكافحتها و اتباع صيغة ممنهجة للقضاء على طريقة تواترها حتى لا تصبح خطرا جينيا قد يدفع بالتفكير لمقاطعة الزواج من نفس فصيلة العائلة ان ما تكررت تلك الجرائم عبر أجيال متعاقبة ، اذ أصبح القانون يقف عاجزا على سد ثغرات التسلل و الادمان لبعض المظاهر الاجتماعية التي تقع بداخل الأسرة و يتستر عليها الفاعلون بشخصية مغايرة للشخصية الاجرامية و هذا ما يفسر ازدواجا في تعاملهم ما يشكل عقدا و أمراضا نفسية لن يلعب القانون دور الطبيب المعالج لها بل تحتاج لجلسات مع أخصائيين نفسانيين و اجتماعيين لدراستها و التعمق في فهم فصولها و اسبابها الحقيقية ، و هنا يمكن الاشارة بين قوسين الى أن أي ظاهرة اجرامية لم يجدي القانون و لا الحملات العقابية نفعا في التقليل منها فهذا يعني ان أصولها ليست تولى للقانون لاحتوائها ، فكم من أب يبدو امام المعارف متزنا و جادا و أمينا في عمله الا ان تعامله مع زوجته و اولاده يوحي على شخصية مجرمة من وضوح الغطرسة و حب التحكم بإسداء الأوامر لدرجة التهديد بالطرد من الأسرة و كلها افعال تخبئها جدران العائلة وتسكت عنها الأم لتبقى سجينة حبيسة بينها و بين نفسها و هذا يزيد ثقلا و معاناة نفسية مزمنة ليست تنتهي الا بانتهاء المشكلة.
و كم من أولاد عاشوا خوفا و رعبا وسط أهاليهم و يهددون بالتعذيب أو الموت ، و كم من فتاة ملتزمة أزعجتها رسائل الهاتف المهددة لها بالموت فعاشت الرعب نهارا أكثر منه ليلا لتنقلها بين العمل أو الجامعة فأصبحت حبيسة هواجس الموت الذي بات يهددها في كل لحظة و في كل مكان ، و كم من أولاد ولدوا بهوية مشكوك فيها فمنع الملف التحقيقي من ان يأخذ مجراه من التأكد من النسب من خلال تحليل البصمة الوراثية لأسباب شخصية لصيقة بالأب و منها ما يعود لعدم السماح بانتهاك الخصوصيات الفردية.
و كم من زوجة طلبت الخلع للتطليق فرحلت مع أولادها من الأسرة بعد الاتفاق امام القاضي بتحمل الزوج نفقات أولاده لكن الاتفاق طعن فيه باستمرار في الترافع كون أن الزوجة هي من طلبت التطليق ، و يحدث أن تكون نصوص القانون بعيدة في انصاف الجانب المتضرر من القضايا الاجتماعية فلا نجد قانون العقوبات ينزل بأقسى العقوبات حينما تشرد الزوجة مع أولادها او حينما يتحايل على القانون بادلاءات مزورة تخفف من ثقل ملف الزوجة فيضيع الأولاد بسبب هذا الصراع الزوجي بدءا بحرمانهم من رعاية الوالد وصولا الى حرمانهم من النفقة التي تؤمن لهم ضروريات العيش ، ومن هذه الأفعال ما يكون السكوت هو من يديرها لألا تأخذ منحاها من الترافع و التداول في جلسات المحكمة علنا او في جلسات مغلقة ...
فان كانت ما حظيت به الأسرة من اهتمام خاص في جل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، باعتبارها الخلية الأساسية في المجتمع واللبنة الأساسية لتطوره وتماسكه وصلاحه، فهو أساس حرصت التشريعات على إرساء قواعده لتنظيم العلاقات بين أفراد الأسرة الذين تجمع بينهم صلة الزوجية والقرابة وهذا حفاظا على قيمها وتماسكها وتقرير أحكام لحماية الأسرة من الأفعال التي تمس بكيانها واستقرارها، وعلى هذا الأساس ذهب البعض إلى القول بضرورة منح الأسرة الشخصية القانونية لتستفيد من الحماية والخصائص التي يتمتع بها الشخص المعنوي و هو ترخيص واسع يتناول مختلف النقاط الجوهرية ازاء أي فعل اجرامي يهدد السلامة الجسدية و المعنوية للمتضرر مهما يكن جنسه أو عمره.
فاذا كان الأصل أن تحريك الدعوى العمومية هو من اختصاص النيابة العامة و حدها باعتبارها وكيلة عن المجتمع كما نصت عليه المادتين 1 و 29 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري إلا أن المشرع قد يقيد النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية في أحوال معينة منها وجوب تقديم شكوى المضرور و ذلك لاعتبارات عدة منها المحافظة على الروابط الأسرية كما هو الحال في جريمة ترك مقر الأسرة إذ تغلب مصلحة الأسرة على المصلحة العامة التي تسعى النيابة العامة لحمايتها، و عليه نصت الفقرة الأخيرة من المادة 330 على أن لا تتخذ إجراءات المتابعة إلا بناءا على شكوى و الشكوى هي الإجراء
الذي يباشر المجني عليه أو وكيله الخاص يطلب فيه تحريك الدعوى الجنائية في جرائم معينة حددها القانون و على سبيل الحصر لإثبات المسئولية الجنائية وتوقيع العقوبة على شخص أخر هو المشكو في حقه ولا تستلزم الشكوى شكل خاص فقد تكون شفاهة أو كتابة بشرط أن تدل على رغبة المجني عليه في تحريك الدعوى العمومية قبل المتهم إلا أنه يجب أن تقدم الشكوى أثناء قيام العلاقة الزوجية القانونية لأنه إذا وقع أن سبق و ترك الزوج مسكن الزوجية لمدة أكثر من شهرين متخليا عن كل أو بعض التزاماته دون مبرر شرعي ثم وقع الطلاق بين الزوجين و بعده جاءت الزوجة لتقديم شكوى ضد زوجها فان شكواها سوف لن تقبل لأنها تكون قد فوتت عن نفسها تحقيق الغرض الذي قصده المشرع لحماية الأسرة من التفكك و الإهمال و عليه تستلزم الشكوى إرفاق نسخة من عقد الزواج لإثبات قيام العلاقة الزوجية و إذا كان الزواج عرفي فوجب على الزوج المتروك تسجيل الزواج وفقا للمادة 22 من قانون الأسرة و بعدها يقدم شكواه، لكن متى قدمت الشكوى من الزوج المتروك أصبح يد النيابة طليق من هذا القيد و جاز لها أن تباشر كافة إجراءات التحقيق و رفع الدعوى و تتصرف في التحقيق كما يتراءى لها غير أنها غير ملزمة بتحريك الدعوى العمومية و تبقى صاحبة ملائمة المتابعة فيجوز لها تقرير حفظ الشكوى إذ هي رأت أن شروط المتابعة غير متوفرة .
أما جريمة اهمال المرأة الحامل فتعتبر من جرائم الإهمال العائلي و هي ترك الزوج لزوجته و إهمالها عمدا أثناء مدة حملها، و غاية المشرع من تجريم هذا الفعل هي حماية طفل المستقبل و أم الغد إذ أن المشرع لم يكتفي بتجريم الإجهاض حماية للجنين و إنما أحاط هذا الأخير بحماية أكثر من خلال تجريم فعل إهمال الزوجة الحامل نظرا لخطورة هذا الفعل على صحة الجنين و نفسية الأم و بذلك نصت المادة 330 البند الثاني من قانون العقوبات أن الزوج الذي يتخلى عمدا و لمدة تتجاوز شهرين عن زوجته مع علمه بأنها حامل و ذلك لغير سبب جدي يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنة و بغرامة من 500 إلى 5000 دينار و تقوم هذه الجريمة كسابقتها على ركن مادي و ركن معنوي و تتوقف المتابعة فيها على شكوى الزوجة المهملة ، فالركن المادي للجريمة يقتضي توافر
أربعة عناصر جاءت بها المادة330/2من قانون العقوبات و تتمثل في:
*قيام العلاقة الزوجية
*ترك مقر الزوجية
*المدة لأكثر من شهرين
*حمل الزوجة
لكن الملاحظ أن العقوبة المقررة للزوج الجاني لا تفي بالغرض اذا كان الأذى سيلحق بشخصين و هي الأم الحامل و ابنه بعد الوضع ، فعلى القانون أن يكون صارما و غير متسامح لمن تسول لهم أنفسهم التقدم لعقد قران و ابداء تحمل مسؤولية الزواج بادئ الأمر ثم بعده يحدث التخلي عن الواجب المقدس و هو صون العائلة من التشرد و من أنواع أشكال الضياع ، ثم المجتمع المتماسك القوي يعتمد على ما تنتجه الأسر من روابط الزواج فتحمل المسؤولية في العقد يجب أن يكون مقرونا بتشديد العقوبة و الا حرمان مثل هذه الأصناف من الزواج ان ما كانت الخلفية النفسية في أصلها مبينة على الاهمال وفق البيئة التي تربى فيها هؤلاء العاجزين و المتخاذلين عن احترام الغير من اصبح شريك حياة.
بالموازاة مع هذه التجاوزات من هذه الجرائم ما يكون مسكوتا عنها و لأسباب منها :
*خوف الزوجة من ردة فعل الزوج ان ما هي تقدمت بشكوى ضد زوجها و تكتفي بالرجوع الى أهلها و التزام السكوت عن ضررها و هذه أذى مضاعف يعود سلبا على نفسيتها و على أهلها.
*نظرة الزوجة الى الزوج الجاني على الرغم من اهماله و أفعاله الا انه يبقى أب ابنائها و تحترم بذلك عدم التصريح بأفعاله حتى لا يصطدم الأولاد أكثر بحقيقة والدهم و قد يكون العكس اذ قد تكون الجاني هي الأم و هنا الضرر يكون بليغا على أساس أن الأم هي من يوفر الحماية و الحنان لأولادها و هي من تحمي أسرتها كحاضنة أمينة .
هذا و قد رتب المشرع الجزائري في إطار العلاقات الأسرية مجموعة من الحقوق و الواجبات التي يجب مراعاتها ضمانا لاستمرار هذه العلاقات، و من بين هذه الواجبات واجب الزوج في الإنفاق على أسرته، و هذا الواجب يفرضه الوازع الأخلاقي و الاجتماعي قبل أن تفرضه المادة 37 و المواد من 74 إلى 77 من قانون الأسرة، فقد جاء في المادة 37 المذكور أعلاه أنه يجب على الزوج نحو زوجته النفقة الشرعية حسب وسعه إلا إذا ثبت نشوزها، و جاء في المادة 77 أنه تجب نفقة الأصول على الفروع و الفروع على الأصول حسب القدرة و الاحتياج و درجة القرابة في الإرث.
و يبقى الامتناع عن القيام بهذا الواجب يرتب أثار سلبية في المجتمع و للحد من هذه الآثار تدخل المشرع الجزائري و رتب جزاء على من لا يدفع النفقة المقدرة في ذمته حيث جاء في المادة 331 من قانون العقوبات ما يلي:" يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات و بغرامة من 500 إلى 5000دج كل من امتنع عمدا و لمدة تتجاوز شهرين عن تقديم المبالغ المقررة قضاء لإعالة أسرته و عن أداء كامل قيمة النفقة المقررة عليه إلى زوجه أو أصوله أو فروعه، و ذلك رغم صدور حكم ضده بإلزامه بدفع نفقة إليهم.
باستقراء هذه المادة نلاحظ أن المشرع الجزائري قد جرم فعل الامتناع عن تسديد النفقة، هذه الجريمة التي تدخل ضمن جرائم الإهمال العائلي أو جرائم التخلي عن الالتزامات الزوجية، الا أن الواقع المعاش يعطي حقائقا مخيفة لإسقاط القوامة على الزوجة بدل الزوج في الانفاق و سد حاجات الأسرة و هي من الجرائم المسكوت عنها أيضا ، اذ أن الزوجة تقوم بالنفقة على الأسرة و من غير تصريح ربما حتى لأهلها خوفا من المشاكل و ترضى أن تقبل بالواقع المفروض عليها من الزوج و في نيتها الحفاظ على أسرتها و أولادها و هذا ما لم يحث عليه الشرع و لا القانون ، و الأصح أن تستوضح الأمور قبل الزواج أي في فترة التعارف ليعرف كل ذي حق حقه و يفصل في الأدوار وضوحا و ليس تسترا ، و ان لم يبد الزوج استعدادا لتحمل مسؤولية النفقة فالأجدر به عدم التقدم للزواج ، لأن الزواج في حقيقته تكفل بالإنفاق و استعداد لتربية جيل قادم عديدة و ليس لمجرد متعة او لعب بمشاعر الغير و نظامهم في الحياة.
هذا و لقد ظهرت في الآونة الأخيرة جرائم الاعتداء على الأصول أو على الفروع أو العكس ، فقد تتفكك أواصر القربى بين الآباء و الأبناء و تتحول بذلك علاقة المحبة الى بغضاء و كراهية و قطيعة مما يسبب الخلافات المتكررة و المتبوعة بعمليات الضرب و هجر مقر الأسرة و الأخطر من ذلك هو اعتداء الأبناء على الآباء و الأمهات أو قتل الأم لويدها لسبب من الأسباب ، و قد وردت الاشارة في مواد من قانون العقوبات مثل نص المادة رقم 258 ، 368،369،259 الى أن قتل الأصول هو ازهاق روح الأب او الأم الشرعيين ،و قتل الفروع هو ازهاق روح الوليد حديث الولادة كما نصت على ذلك المادة 261 من قانون العقوبات ما يستوجب عقوبة الاعدام على كل من ارتكب جريمة قتل و عقوبة السجن المؤقت من 10 الى 20 سنة على الأم التي تقتل وليدها ، و يبقى خلف هذا النوع من الجرائم التي اهتز لها استقرار المجتمع لها اسباب خفية قد تنصف في واقع الحال جزءا من القضية و تدين الجزء الآخر ، فأسباب العنف و العدوان تتولد من سوء المعاملة و عسر التواصل النفسي بين الأولياء و أبنائهم أو العكس ، فكثيرة هي الجرائم التي لا يتم التبليغ عنها خوفا من الفضيحة و كشف المستور ، و غالبا ما تكون الضحية الأكثر تنازلا و بالتالي تضررا هي المرأة لمعرفتها الأكيدة و المجربة أن المجتمع لا ينصف و لا يتفهم فترضى بالتنحي جانبا عن الظهور و الادلاء بالتصريحات أو التبليغ بشكاوي تستعيد من خلالها حقها المهضوم ، و ما أكثر المتضررين بسبب احدى هذه الجرائم ، اذ لا يستقر وضع المجتمع الا و يهتز على جريمة تهز المشاعر الآدمية و تزرع الرعب و الخوف و التأسي من الحال الذي وصلت اليه مشاعر بشر هذا الزمن.
فهل سيكفي القانون لوحده لوضع حد لهذه الجرائم أو متابعتها متابعة عادلة عبر ما يسمى بالمحاكمات العادلة لضمان الحقوق و استرداد ما يمكن استرداده؟ ، أم أن تفعيل الوازع الديني في كل العلاقات و الارتباطات هو ما يجعل الضمير يقظا لألا ترتكب مثل هذه الجرائم التي باتت تهدد كيان المجتمع و استقراره و كيان الأسرة كحاضنة و نواة أولية لأفعال العنف و الضرب و كل تجاوزات الضرر التي من شأنها أن تفتك بالروح..
أكيد تفعيل الوازع الديني و تطبيق القانون بصرامة و بدرجة الفعل المرتكب هما آليتان من شأنهما التقليل من انتشار ظاهرة الاجرام التي تحدث بداخل الأسر و خارجها ، لأن الجريمة لا تعترف بمسرح واحد لارتكابها بل متى ما سولت النفس الخبيثة لارتكاب الفعل المجرم تقبل عليه و لو في جنح الظلام لأن المجرم بلغ ذروة التحرر و التجرد من الانسانية و بالتالي الشعور بالذنب و الندم ، فعلى الهيئات الفاعلة في المجتمع من مسجد و مدرسة و نخب مثقفة ان تؤدي الدور المنوط بها لإنشاء أسر متوازنة و بالتالي مجتمع يبني و لا يهدم ،يربي و لا يشرد ، يصنع الحضارة و لا يصنع التخلف ،يقضي على الجريمة و لا يشجع عليها.