لطالما كنت أتعجب حين أرى أو أعلم أن أحد المنتسبين إلى دين الله الحنيف قد أكل مال أخيه المسلم بالباطل - أو في الإنسانية وإن لم يكن مسلما – دون أن يحسب للآخرة والوقوف بين يدي الله حسابا , وكثيرا ما كنت أندهش من جرأة بعض المحسوبين على الإسلام في الإقدام على ظلم الناس والبغى والتجبر على عباد الله , دون أن يتذكر أحدهم أن الآخرة آتية لا محالة , وأن الموت أقرب إليه من حبل الوريد , وأنه سيكون أمام محكمة الله العادلة التي لا مفر منها ولا مناص .
ولكن هذا التعجب وذلك الاندهاش قد زال في الحقيقة حين أدركت أن كثيرا ممن يزعمون أنهم مسلمون , ويعلنون انتسابهم بالاسم لهذا الدين الخاتم , قد أسقطوا من حساباتهم الدار الآخرة , فأجروا تعاملاتهم مع الناس وكأنه لا وجود للآخرة في تصرفاتهم , أو لكأن الموت قد استثناهم من حتمية انتقالهم من هذه الدار الفانية !
وإذا كان الاعتقاد باليوم الآخر من أركان الإيمان , و لا تصح عقيدة المسلم إلا باليقين به , إلا أنه – وللأسف الشديد – غير ملاحظ في حياة كثير من المسلمين بشكل عام , وغير مدرج ضمن أولويات الاعتبار عندهم أثناء التعامل مع الآخرين , حتى كاد هذا الركن الأصيل من أركان الإيمان يتحول عند هؤلاء إلى مجرد لفظ لإثبات عدم خروجهم من الملة والدين , بينما لا وجود ولا مكان له في الميدان العملي في حياتهم .
والحقيقة أن ما نراه اليوم من موت الضمير وانحسار الأخلاق وغياب الصدق وضياع الأمانة وانتشار الظلم والبغي بين الناس , وشيوع النصب والاحتيال والخداع لأكل أموال الناس بالباطل , تحت مصطلحات شيطانية مبتدعة من أمثال "شطارة" و "ذكاء" و "دهاء"........ هي نتيجة متوقعة لسقوط الآخرة من حساب كثير من المسلمين , فما بالك بغير المسلمين !
إن العاقل الحقيقي في هذه الحياة الدنيا , والكيس الأريب فيها , ليس ذلك الرجل الذي يكذب ليأكل حقوق الآخرين , ولا الذي يتغافل عن أهم وأخطر حقيقة على وجه الأرض ألا وهي "الآخرة" , وإلا لكان إبليس اللعين هو أذكى المخلوقات على الإطلاق ....بل العاقل بحق هو ذلك الرجل الذي يجعل من إيمانه ويقينه باليوم الآخر الميزان الذي يضبط به سلوكه وتصرفاته و تعامله مع الآخرين , ويحسب لهذا اليوم العظيم ألف حساب .
ومن هنا يمكن فهم حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ : ( الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ) سنن الترمذي برقم2459 وقال : هذا حديث حسن .
فالعاقل الحق في الإسلام هو الذي لا ينسى الدار الآخرة أبدا , بل يجعلها نصب عينيه في جميع تقلبات حياته العملية , ويسّخر هذه الحياة الدنيا الفانية , للنجاة والفلاح في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
إن من يدقق في آثار غياب اعتبار الآخرة في حياة الناس اليوم , والنتائج الكارثية التي تمخضت عن تغافل وتناسي البشر عن حقيقة حتمية الوقوف بين يدي الله للحساب يوم القيامة , يتأكد له عظم مكانة هذا الركن من أركان الإيمان في دين الله الخاتم , والدور البارز والرئيس لهذا المعتقد في استقرار وسعادة وهناءة حياة بني آدم على وجه الأرض .
والحقيقة أن من يستقرأ السيرة النبوية الشريفة , ويقلب في صفحات حياة السلف الصالح من هذه الأمة , يدرك مكان الآخرة في قلوبهم وعقولهم , وكيف هيمن الإيمان بهذا الركن على جميع تفاصيل حياتهم اليومية , سواء داخل البيت مع الزوجة والأولاد والأهل والأرحام , أو خارجه مع سائر الناس مسلمهم وذميهم ومعاهدهم , وكيف كان لهذا الإيمان الدور الأهم في السعادة التي كانت تهنأ بها مجتمعاتهم في ذلك الوقت .
فهذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما - قد آتاه الله من الذكاء والفطنة والدهاء وتوقد الذهن ما يستطيع به أن يتحايل على كثير من الناس , ولكن دينه وإسلامه وخوفه من الحساب يوم القيامة منعه من استخدام دهائه فيما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , فتراه يقول : "لولا الإسلام لمكرت مكرا لا تطيقه العرب" ويقول أيضا : " لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( المكر والخديعة في النار ) لكنت من أمكر هذه الأمة . الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/3
إنه اليقين الحقيقي بحتمية مجيء هذا اليوم العظيم , والذي ينتج عنه سلوك وعمل يتناسب مع ذلك اليقين القلبي , ومن هنا لم نقرأ في سيرة السلف الصالح ما يتناقض في سلوكهم مع الإيمان باليوم الآخر, بل طالعنا الكثير من الروايات والأخبار الموثقة التي تؤكد أمانتهم وصدق تعاملهم مع الناس , تحسبا لهذا اليوم الذي أيقنوا بقرب مجيئه كما أخبر الله تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } المعارج/6
قال ابن كثير : المؤمنون يعتقدون كونه قريبا ، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله، عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة . تفسير ابن كثير 8/224
أما حين سقطت الآخرة من حساباتنا في هذا العصر , فقد انقلبت الدنيا – كما نرى – إلى مكان مليئ بالظلم والقهر والبغي والعدوان , ويعج بالمآسي والآلام والأحزان , وتنعدم فيه الطمأنينة والأمن و السلام , و تحول الناس من بشر خلقهم الله تعالى لعبادته وطاعته , وللتعارف والتعاون في عمارة الأرض , استعدادا للقاء الله والفوز برضاه وجنته في الآخرة .....إلى كتلة من الشهوات والأهواء تتنافس وتتناحر فيما بينها لإشباع غرائزها .
إن البشرية تحصد بنسيانها وتغافلها وإسقاطها الآخرة من حساباتها الثمار المرة في الدنيا , من خلال ما تعيشه من بؤس وشقاء وتعاسة , ناهيك عن الحساب الذي يتنظرها غدا يوم القيامة أمام الله .