سؤال أوجهه لنفسي أولا وللقارئ الكريم ثانيا , نظرا لأهمية الإجابة عليه في قرارة نفس كل واحد منا , خاصة في هذا الزمن الذي تضخمت فيه الأنا والذات عند كثير من الناس إلى حد لا يطاق , وأضحت الشهرة والظهور منتهى آمال كثير من شباب الأمة وفتياتها , حتى لو كانت تلك الشهرة في معصية الله ومخالفة أمره - عياذا بالله - !
لست أعني بالخبيئة هنا الكنوز المدفونة في باطن الأرض أو قاع البحر كما قد يظن البعض , ولا الوديعة المصرفية أو الحساب البنكي المفتوح الذي يعتبره البعض الآخر من الضروريات في هذه الأيام , وإنما أعني : العمل الصالح الخفي الذي يقوم به المسلم دون أن يطلع عليه أحد من البشر حتى يلقى الله تعالى وهو على ذلك .
قد تكون الخبيئة الصالحة صدقة يدفعها صاحبها إلى مستحقيها بعيدا عن أنظار المدّاحين وعيون الناس أجمعين , متحليا بذلك بصفة واحد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ....) صحيح البخاري برقم/1423
وقد جاء في الأثر أن عليُّ بن الحسين رحمه الله كانت له خبيئة من العمل الصالح لم يعلم بها أحد إلا بعد وفاته , كان يتصدق ويعيل مائة بيت من بيوت الأرامل والأيتام والفقراء سرا بالليل ، فلما توفي انقطعت المؤنة عن مائة بيت كان يأتيهم رزقهم بالليل من مجهول ، فعلموا أنه هو الذي كان يحمله إليهم وينفق عليهم .
وقد تكون الخبيئة الصالحة عبادة خفية كصلاة في جوف الليل والناس نيام , أو صيام يوم شديد الحر بينما عامة الناس مفطرون , وقد أورد صاحب كتاب سير أعلام النبلاء خبر خبيئة داود بن أبي هند الذي صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا حتى زوجته ، وكان خزازا يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيا فيفطر ، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت , ويظن أهله أنه قد أكل في السوق .
وقد تكون الخبيئة الصالحة قضاء حوائج المسلمين من الضعفاء والعاجزين والمساكين , وهو ما اشتهر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من هذه الأمة , وأولهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما , فقد جاء في كتاب ابن عساكر "تاريخ دمشق" عن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل ، فيستقي لها ويقوم بأمرها ، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ، فأصلح ما أرادت ، فجاءها غير مرة كيلا يُسبق إليها ، فرصده عمر فإذا هو أبو بكر الصديق الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة ، فقال عمر : أنت هو لعمري . تاريخ دمشق لابن عساكر 30/322
وفي عصرنا الحاضر الكثير من النماذج والأمثلة المعاصرة عن أناس انكشفت لهم خبيئة صالحة في حياتهم أو بعد مماتهم رغم حرصهم الشديد على إخفائها عن العالمين , فكانت دليلا دامغا على أن الخير في هذه الأمة وفي أتباع هذا الدين الخاتم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لا يمكن تعداد واستقصاء جميع مزايا وخصائص الخبيئة الصالحة والعمل الخفي الخالص لوجه الله تعالى , وما لا يدرك كله لا يترك كله , ويكفي ذكر بعض تلك المزايا والخصائص لاستنهاض الهمم لتكون لكل مسلم خبيئة صالحة وأهمها :
1- الخبيئة الصالحة هي في الحقيقة صك براءة من النفاق والرياء , فلا يمكن أن يخالط الرياء وحب الظهور العمل الخفي , كما لا يمكن أن يتسلل النفاق إلى العمل الخالص لوجه الله .
ونظرا للتعارض والتناقض التام بين الرياء والعمل الخفي والنفاق والإخلاص , فلا يمكن لمدمني الظهور والرياء و المنافقين أن تكون لهم خبيئة صالحة أو عمل صالح خفي , فهي صفة وخصلة الصالحين من عباد الله فحسب .
2- الخبيئة الصالحة رصيد المؤمنين في أوقات اشتداد الأزمات ونزول الكروب , فهي تعينهم على الثبات وعدم الاضطراب في زمن الفتنة أولا , وتكون سببا في نجاتهم واستجابة دعائهم في الملمات ثانيا .
ويكفي في هذا المقام ذكر حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم "خبيئة صالحة" , فدعوا بتلك الأعمال الخفية الصالحة فكانت سببا لنجاتهم وخروجهم سالمين . صحيح البخاري برقم/2272
3- الخبيئة الصالحة دليل على صدق الإيمان وقوة اليقين بموعود الله سبحانه , فأمثال هذه الأعمال الخفية لا يمكن ان تصدر إلا من رجل قوي إيمانه بما أعده الله تعالى للمخلصين من عباده , وأيقن بإطلاع الله تعالى على سره وعلانيته , وهو بتلك الخبيئة يصل إلى منزلة الإحسان في العبادة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) صحيح البخاري برقم/50
وفي الختام : يكفي دافعا للمسلم على أن تكون له خبيئة صالحة وعمل خفي صالح لا يعلم به أحد إلا الله قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ( من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل ) الصحيح الجامع للألباني برقم/6018
*إيمانيات*