الشافعي مؤسس منطق الفقه الإسلامي
الدكتور جيلالي بوبكر
يكاد يتفق أغلب المشتغلين بعلم علم أصول الفقه أو أصول التشريع الإسلامي على أن النشأة الأولى لهذا العلم لم تكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، على غرار أحكام الفقه التي نشأت مع ظهور الإسلام، بما أن الإسلام تعاليم و أخلاق و أحكام عملية، وكانت الأحكام العملية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تأتي مما ورد في القرآن الكريم و مما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعرض له من أسئلة أو وقائع أو أقضية أو خصومات، فجاء مجموع الأحكام الفقهية في مرحلتها الأولى صادر من القرآن و السنّة.
فالعقائد والأخلاق والأحكام العملية، كل هذا كان مصدره الوحي، وطلب معرفته من السماء أولى من أيّ عمل اجتهادي للوصول إلى الأحكام ومن ثم لا حاجة لاستخدام أصول الفقه ولتقنينها من أجل استنباط الأحكام في العبادة أو في المعاملة. واجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم امتداد للوحي، وفي هذا يقول السرخسي: "وأما ما يشبه الوحي في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو استنباط الأحكام بالرأي والاجتهاد، فما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنّه يكون صوابا لا محالة لأنّه ما كان يُقرّ على خطأ، فكان ذلك منه حجة قاطعة، ومثل هذا من الأمة لا يُجعل بمنزلة الوحي لأن المجتهد يخطأ ويصيب".1
استمرت الحياة في عصر النبوة تسترشد بالكتاب و تستنير بالسنّة، وبعد انقضاء عصر النبوة وانقطاع الوحي وجد المسلمون أنفسهم أمام مستجدات وطوارئ اقتضت التدخل لمعالجتها، الأمر الذي دفعهم إلى الكشف عن قدراتهم في الاجتهاد و"إلحاق الأشباه والنظائر ببعضها البعض إن لم يجدونها في كتاب الله أو سنة نبيّه، مستلهمين في عملهم هذا روح الشريعة وما ترشد إليه قواعدها العامة وأغراضها التي تهدف إليها".2 واعتمد في ذلك على حديث معاذ بن جبل، لمّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: "قال له بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: اجتهد رأيي، فقال النبيٍ صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يُحبّه الله ورسوله".3
اجتهد أهل الاجتهاد في عصر الصحابة فيما استجد و طرأ في حياتهم، ولم يحدث في عهد الرسول، و لم يواجه المسلمين من قبل فاستنبطوا الأحكام باجتهادهم و زادوا على الأحكام التي لديهم و مصدرها الوحي، الكتاب و السنة، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في مرحلتها الثانية مؤلفة من أحكام الله و رسوله و فتاوى و أقضية وتشريع الصحابة ومصادر الأحكام، القرآن و السنة و اجتهاد الصحابة. وفي هذيـن المرحلتين "لم تدون هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية، بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلا من الواقع وما وقع من الحوادث. ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية، ولم تعرف هذه المجموعة بعلم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة فقهاء".4
لما جاء عهد التابعين و تابعي التابعين في القرنين الثاني و الثالث الهجري، وجد المسلمون أنفسهم في دولة ذات رقعة واسعة جغرافيا وثقافيا وفكريا ، وأمام مستجدات عديدة هي بمثابة مشاكل اجتماعية ومشكلات فكرية و أمام حركة عمرانية و عقلية لم يشهدها عهد النبوة، أو عهد الصحابة الأمر الذي حمل المجتهدين على توسيع مجال الاجتهاد ونطاق التشريع للعديد من الوقائع، فكان ذلك و شرعّت أحكام كثيرة لوقائع افتراضية، فكان أن أضيف إلى أحكام عهد النبوة وأحكام الصحابة مجموعة من الأحكام الفقهية في مرحلتها الثالثة تتكون من أحكام الله ومن أحكام رسوله ومن أقضية الصحابة وفتاوى المجتهدين من التابعين وتابعي التابعين، ومصادر الأحكام في مرحلتها الثالثة القرآن والسنة واجتهاد الصحابة والتابعين.
كثر الاجتهاد و استخدم الاستنباط لكثرة الوقائع، و تفرّغ البعض للعلم والإفتاء كسعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، واشتغل هؤلاء بمناهج واضحة « يسيرون عليها من الأقييسة واعتبار المصالح وغير ذلك عند عدم النص الصريح في المسألة المعروضة عليهم لبيان حكم الله تعالى فيها".5 كما حصل تطور كبير في الفعل الاجتهادي لدى الأئمة المجتهدين في القرن الثاني الهجري، و ظهر ذلك في المناهج المتبعة والقواعد المستخدمة والأحكام المستنبطة عن ذلك، و هو ما نجده عند أبي حنيفة و الإمام مالك وغيرهما من العلماء.
في هذا العهد بدأ تدوين الأحكام الفقهية مع البدء في تدوين السنة، وجاءت الأحكام مطبوعة بطابع علمي لأنها جاءت مرتبطة بأدلتها و عللها وأصولها العامة التي تتفرع عنها، و سمي أصحابها فقهاء و سمي العلم بها علم الفقه «وأول ما دُوّن فيها فيما في وصل إلينا موطأ الإمام مالك بن أنس فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان كتاب حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين".6 وبعده تمّ تدوين عدة كتب منها: كتاب الأم للشافعي و هو عماد فقه المذهب الشافعي، كما نجد كتب الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة التي دوّنها وصارت أساس فقه العراقيين.
أما علم أصول الفقه فقد نشأ في القرن الثاني الهجري، لأنه في القرن الأول الهجري لم تدع الحاجة إليه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالوحي أو بالسنة أو باجتهاده الفطري من غير احتياج إلى أصول أو قواعد استنباطية اجتهادية، وأصحابه اجتهدوا في إطار النصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية ومن غير حاجة إلى قواعد لغوية يفهمون بها النصوص. واستنبطوا النصوص فيما لا نص فيه بملكتهم الحالّة في نفوسهم من معاشرتهم الرسول، ووقوفهم على أسباب النزول وورود الأحاديث و فهم مقاصد الشارع و مبادئ التشريع. إلا أنه لما اتسعت الفتوحات و اختلط العرب بغيرهم و دخلت اللّغة العربية مفردات وأساليب غير عربية فلم يعد اللسان على ما كان عليه، فكثر المشتبه في فهم النصوص مما أدى إلى وضع قواعد و شروط لغوية و غيرها تمكن من فهم النصوص و زاد في الحاجة إلى قواعد وبحوث في الأدلة الشرعية و في شروط و طريقة الاستدلال هو ما أدى إلى انفجار التشريع والجدل بين أهل الحديث وأهل الرأي، فتلك القواعد و البحوث و الشروط و الكيفية المتعلقة بالأحكام والأدلة والاستدلال كل ذلك يسمى علم أصول الفقه.
بدأ علم أصول الفقه مولودا صغيرا ثم نما و نضج حتى كبر، بدأ متفرقا في أحكام الفقه لأن كل مجتهد من الأئمة الأربعة و غيرهم كان يشير إلى حكمه من خلال دليل ما ووجه الاستدلال به، و أول من دوّن قواعد هذا العلم و بحوثه مستقلة مرتبة هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في كتابه 'الرسالة'.
ب- الشافعي مؤسس علم أصول الفقه:
لقد اعتمد أهل الاجتهاد من الصحابة و التابعين على أسس و معايير محددة ومضبوطة في استنباط الأحكام الشرعية و في تطبيقها على الوقائع الجديدة، كانت هذه الأسس و المعايير راسخة في ذواتهم، مصدرها النص الشرعي القرآن، وما عايشوه وشاهدوه وسمعوه من أقوال وتصرفات وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم و أقواله و تقاريره.
يوجد من الصحابة من صرّح بوضوح في مسائل تتعلّق بالأحكام وبعلاقتها بالأصول التي تمّ الاستناد إليها في عملية استنباط الأحكام الشرعية الفقهية، فقول ابن عمر لأحد سمعه ينهى عن التمتع بالحج إتباعا لنهي عمر رضي الله عنه:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء!! أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟"7 فالتمتع بالحج حسب قول ابن عمر جائز وهو حكم فقهي شرعي، يدحض القول بعدم جوازه بالاستناد إلى قاعدة أصولية يصرح بها تؤكد أسبقية الدليل من السنة النبوية على أقوال الصحابة – قول الصحابي-وفي مسألة الأصل و الفرع والحكم والاستنباط يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري عندما ولاّه القضاء: "اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور برأيك".8 وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل عندما أرسله واليا على اليمن.
يظهر مما سبق أن التفكير الأصولي بما يتطلّبه من معطيات فطرية مرتبطة بالأصول وبمنهج الاستنباط و بالأحكام و غيرها توافرت لدى الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا أمر طبيعي حيث أن الفكر يسبق التكوين في تكوين العلم وتأسيسه، هو ما أكده ابن خلدون بقوله:"اعلم أن هذا الفنّ- أصول الفقه- من الفنون المستحدثة في الملّة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللّسانية، و أما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام فمنهم أخذ معظمها، لأن ذلك مركوز في طباعهم و مأخوذ من استعمالاتهم ، و أما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إليها لقرب عهد النبي صلى الله عليه وسلم وممارسة النقلة وخبرتهم بهم".9
إنّ مرحلة أتباع الصحابة كانت تشبه مرحلة الصحابة نفسها في غناها عن علم أصول الفقه، لكن المادة العلمية لهذا العلم نمت فيها بفعل توسع مجال الاجتهاد، وتعدد طرق ومناهج الاستنباط، الأمر الذي أدّى إلى ظهور مدارس ومصادر لم تكن موجودة من قبل في أصول الفقه، و بعد أن كانت العربية سليقة، صارت علما يتعلّمه، وقواعد تُوضع، الأمر الذي دفع علماء الأصول إلى تحديد أسسه و قواعده و إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها، وفي هذا يقول ابن خلدون:"فلما انقرض السلف وانقلبت العلوم صناعة وضعفت الملكات نتيجة لاختلاط العرب بغيرهم احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنّا قائما برأسه سمّوه أصول الفقه".10
ارتبط ظهور علم أصول الفقه كعلم قائم بذاته بفجر التشريع، بعد أن اشتدّ الجدل بين أهل الرأي و أهل الحديث، وراح البعض يحتجّون بما لا يُحتجّ به، وينكرون ما يُحتجّ به من ذوي الأهواء، كل هذا دعا إلى وضع قواعد و مباحث في الأدلة، هذه القواعد والمباحث و المناهج في الاستدلال كانت مشتتة متناثرة في أحكام الفقه، لأن أيّ مجتهد كان يبيّن دليل حكمه وطريقة الاستدلال به و كل معارض أن يبرهن على معارضته بأوجه من الاستدلال، وهذا الاستدلال ينطوي على ضوابط المنهج الأصولي.
يرى بعض المؤرخين و الباحثين أن أول من جمع شتات الضوابط الأصولية الاستدلالية المتناثرة في أحكام الفقه ولدى المجتهدين قبل الشافعي "مجموعة مستقلة في سفر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكره ابن النديم في الفهرست، ولكن لم يصل إلينا ما كتبه".11 ورغم الاختلاف بين العلماء فيمن هو المتصدر لهذا العلم نتيجة الآثار والأخبار الكثيرة عنه و عن أصحابه، إلاّ أنّ "أول من دوّن هذا العلم و بحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان ووجهة النظر فيه الإمام محمد ابن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة، فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدوّن في هذا العلم وصل إلينا فيما نعلم و لهذا اشتهر على ألسنة العلماء أن واضع أصول علم الفقه الإمام الشافعي وتتابع العلماء على التأليف في هذا العلم بين إسهاب وإيجاز".12
ويؤكد ابن خلدون ظهور علم أصول الفقه مرتبطا بكتاب الرسالة للشافعي في قوله: "وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه: أملى فيه رسالته المشهورة، تكلّم فيما في الأوامر و النواهي و البيان و الخبر والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها".13
ونسب البعض علم أصول الفقه إلى الشافعي كنسبة العروض إلى الخليل بن أحمد وكنسبة علم المنطق إلى أرسطو طاليس. حيث كان أهل الشعر يكتبون بالسليقة دون دراية أو علم بقواعد اللّغة العربية، فجاء الخليل ووضع لهم علم العروض بموازينه الأمر الذي جعله المتصدر لقيام هذا العلم بغير منافس، و كان قبله أرسطو طاليس الذي وضع قواعد علم المنطق بعد أن رأى الناس لغتهم مهزوزة وكلماتهم مضطربة فوضع بذلك معيارا عاما للناس جميعا يرجع إليه في معرفة الحدود و البراهين و ضبطها، و نسبة الشافعي لعلم أصول الفقه كنسبة أرسطو طاليس لعلم المنطق.
و كان الناس قبل الشافعي قد خاضوا في مادة أصول الفقه ومناهجه، فاستدلوا واعترضوا بغير الاعتماد على قانون عام تتم العودة إليه في الإلمام بدلائل الشريعة. أيّد هذا الرأي العديد من العلماء منهم جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الأسنوي حيث يقول:«وكان إمامنا الشافعي – رضي الله عنه- هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع وأوّل من صنف فيه بالإجماع، وتصنيفه المذكور فيه موجود بحمد الله تعالى، و هو الكتاب الجليل المشهور المسموع عليه باتصال سنده الصحيح إلى زماننا المعروف بـ (الرسالة) إلى أن قال: على أنّه قد قيل إنّ بعض من تقدّم على الشافعي نقل عنه إلمام ببعض مسائله أثناء كلامه عن بعض الفروع و جوابا عن سؤال السائل لا يسمن ولا يغني من جوع وهل تعارض مقالة قيلت في بعض المسائل تصنيفا موجودا مسموعا مستوعبا لأبواب العلم".14
و كان ممن أيّدوا نسبة أصول الفقه إلى الشافعي "محمد الخضري" في قوله:«وكان أول من نبّه إلى ذلك (فيما نعلم) الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلّبي الذي توفي بمصر سنة 204 هجرية فأملى في ذلك رسالته التي جعلت كمقدمة لما أملاه في الفقه في كتابه الموسوم بالأم. افتتح ما أملاه بالبيان ما هو؟ ثم شعّبه إلى بيان القرآن و بيان السنة للقرآن والبيان بالاجتهاد و هو القياس. ثم أوضح أن من القرآن عامّا يراد به العام، وعام يدخله الخصوص، وعام ظاهر وهو يجمع العام و الخاص، وعام الظاهر ويراد به الخاص، ثمّ بيّن أن السنة مفروضة الإتباع بأمر الكتاب، ثمّ تكلّم عن الناسخ والمنسوخ، وعن علل الأحاديث، و الاحتجاج بخبر الواحد، والإجماع، والقياس، والاستحسان واختلاف العلماء".15
إنّ الشافعي بنى علم أصول الفقه انطلاقا ممّا توصل إليه السابقون من الصحابة والتابعين في مجال الاجتهاد، و التفقه في الدين و أساليب الاستنباط، واعتمد على دور فقهاء المالكية و علماء الحنفية في استخراج القواعد لكل باب ومناقشتها فجاءت النظرة واضحة وبانت المسالك و كان من وراء ذلك الجدل المحتدم الذي قام بين فقهاء تلك الفترة، الأمر الذي أكّد دور البيئة الفقهية في تمكين الشافعي من الانتباه إلى القوانين التي يلتزم بها من أراد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. و هذا الرأي توصل إليه "السيوطي" من قبل إذ يقول:«الإجماع على أن الشافعي أول واضع لعلم الأصول، إذ هو أول من تكلّم فيه و أفرده بالتأليف، وكان مالك في موطئه قد أشار إلى بعض قواعده و كذلك غيره من أهل عصره كأبي يوسف ومحمد بن الحسن".16
و بعدما اجتمعت عوامل نشأة علم أصول الفقه تأسس و كان العلم الذي قدّم أصول أساليب استنباط الأحكام الشرعية، فكان المستند الذي يستند إليه الفقهاء في عملية التشريع فيما جدّ واستجدّ من وقائع و أحداث و ما أكثرها في زمن لا يعرف سوى التغيّر المستمر و التطور الدائم في جميع مجالات الحياة. فكان العلم الذي أثرى الثقافة الإسلامية والعالمية، ووضع حدّا للجدل بين الفقهاء، وشكّل معيار العملية الفقـهية التشريعية، ووضـع حدا للزيف و التحريف المقصود و غير المقصود الذي عرفه التشريع الإسلامي من قبل وميّز الاجتهاد الصحيح عن الاجتهاد الزائف، الأمر الذي أوجب تعلّمه واستثماره.
الهوامش:
1- محمد مصطفى شلبي: أصول الفقه الإسلامي، دار النهضة العربية، ط2 ،1983، ص3.
2- محمد محدة : مختصر علم أصول الفقه، دار الشهاب، باتنة، الجزائر، بدون طبعة و بدون سنة ،ص 13- 14.
3- رواه أبو داود والترمذي.
4- عبد الوهاب خلاّف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر و التوزيع، الجزائر، ط1، 1990، ص 15.
5- عبد الوهاب خلاّف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر و التوزيع، الجزائر، ط 1، 1990، ص 15.
6- موسى إبراهيم الإبراهيمي:المدخل إلى أصول الفقه و تاريخ التشريع الإسلامي، شركة الشهاب، الجزائر، بدون طبعة و بدون سنة، ص 19.
7- د. محمد سليمان عبد الله الأشقر: الواضح في أصول الفقه، دار النفائس للنشر و التوزيع، الأردن، ط 5، 1998، ص 13.
8- المرجع نفسه ،ص13.
9- ابن خلدون: المقدمة، ضبط و شرح و تقديم د. محمد الاسكندارني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان ، سنة 2005، ص 420.
10- المرجع السابق: ص 420.
11- عبد الوهاب حلاّف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر و التوزيع، الجزائر، ط، 1، 1990، ص 15.
12- المرجع السابق:ص 18.
13- ابن خلدون: المقدمة، ضبط وشرح و تقديم، محمد الاسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان ،سنة ،2005 ص 420.
14- عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان :الفكر الأصولي، دار الشروق ،ط 1 سنة 1983، ص 52 و ما يعدها.
15- محمد الخضري: أصول الفقه، دار الفكر، ط 06، 1981، ص 5.
16- الثعالبي محمد بن الحسن الحجوي: الفكر السياسي في تاريخ الفقه الإسلامي ،الجز 2، المكتبة العلمية ،المدينة المنورة ،ط 1، ص 404.
الدكتور جيلالي بوبكر
يكاد يتفق أغلب المشتغلين بعلم علم أصول الفقه أو أصول التشريع الإسلامي على أن النشأة الأولى لهذا العلم لم تكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، على غرار أحكام الفقه التي نشأت مع ظهور الإسلام، بما أن الإسلام تعاليم و أخلاق و أحكام عملية، وكانت الأحكام العملية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تأتي مما ورد في القرآن الكريم و مما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعرض له من أسئلة أو وقائع أو أقضية أو خصومات، فجاء مجموع الأحكام الفقهية في مرحلتها الأولى صادر من القرآن و السنّة.
فالعقائد والأخلاق والأحكام العملية، كل هذا كان مصدره الوحي، وطلب معرفته من السماء أولى من أيّ عمل اجتهادي للوصول إلى الأحكام ومن ثم لا حاجة لاستخدام أصول الفقه ولتقنينها من أجل استنباط الأحكام في العبادة أو في المعاملة. واجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم امتداد للوحي، وفي هذا يقول السرخسي: "وأما ما يشبه الوحي في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو استنباط الأحكام بالرأي والاجتهاد، فما يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق فهو بمنزلة الثابت بالوحي لقيام الدليل على أنّه يكون صوابا لا محالة لأنّه ما كان يُقرّ على خطأ، فكان ذلك منه حجة قاطعة، ومثل هذا من الأمة لا يُجعل بمنزلة الوحي لأن المجتهد يخطأ ويصيب".1
استمرت الحياة في عصر النبوة تسترشد بالكتاب و تستنير بالسنّة، وبعد انقضاء عصر النبوة وانقطاع الوحي وجد المسلمون أنفسهم أمام مستجدات وطوارئ اقتضت التدخل لمعالجتها، الأمر الذي دفعهم إلى الكشف عن قدراتهم في الاجتهاد و"إلحاق الأشباه والنظائر ببعضها البعض إن لم يجدونها في كتاب الله أو سنة نبيّه، مستلهمين في عملهم هذا روح الشريعة وما ترشد إليه قواعدها العامة وأغراضها التي تهدف إليها".2 واعتمد في ذلك على حديث معاذ بن جبل، لمّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: "قال له بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: اجتهد رأيي، فقال النبيٍ صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يُحبّه الله ورسوله".3
اجتهد أهل الاجتهاد في عصر الصحابة فيما استجد و طرأ في حياتهم، ولم يحدث في عهد الرسول، و لم يواجه المسلمين من قبل فاستنبطوا الأحكام باجتهادهم و زادوا على الأحكام التي لديهم و مصدرها الوحي، الكتاب و السنة، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في مرحلتها الثانية مؤلفة من أحكام الله و رسوله و فتاوى و أقضية وتشريع الصحابة ومصادر الأحكام، القرآن و السنة و اجتهاد الصحابة. وفي هذيـن المرحلتين "لم تدون هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية، بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلا من الواقع وما وقع من الحوادث. ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية، ولم تعرف هذه المجموعة بعلم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة فقهاء".4
لما جاء عهد التابعين و تابعي التابعين في القرنين الثاني و الثالث الهجري، وجد المسلمون أنفسهم في دولة ذات رقعة واسعة جغرافيا وثقافيا وفكريا ، وأمام مستجدات عديدة هي بمثابة مشاكل اجتماعية ومشكلات فكرية و أمام حركة عمرانية و عقلية لم يشهدها عهد النبوة، أو عهد الصحابة الأمر الذي حمل المجتهدين على توسيع مجال الاجتهاد ونطاق التشريع للعديد من الوقائع، فكان ذلك و شرعّت أحكام كثيرة لوقائع افتراضية، فكان أن أضيف إلى أحكام عهد النبوة وأحكام الصحابة مجموعة من الأحكام الفقهية في مرحلتها الثالثة تتكون من أحكام الله ومن أحكام رسوله ومن أقضية الصحابة وفتاوى المجتهدين من التابعين وتابعي التابعين، ومصادر الأحكام في مرحلتها الثالثة القرآن والسنة واجتهاد الصحابة والتابعين.
كثر الاجتهاد و استخدم الاستنباط لكثرة الوقائع، و تفرّغ البعض للعلم والإفتاء كسعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، واشتغل هؤلاء بمناهج واضحة « يسيرون عليها من الأقييسة واعتبار المصالح وغير ذلك عند عدم النص الصريح في المسألة المعروضة عليهم لبيان حكم الله تعالى فيها".5 كما حصل تطور كبير في الفعل الاجتهادي لدى الأئمة المجتهدين في القرن الثاني الهجري، و ظهر ذلك في المناهج المتبعة والقواعد المستخدمة والأحكام المستنبطة عن ذلك، و هو ما نجده عند أبي حنيفة و الإمام مالك وغيرهما من العلماء.
في هذا العهد بدأ تدوين الأحكام الفقهية مع البدء في تدوين السنة، وجاءت الأحكام مطبوعة بطابع علمي لأنها جاءت مرتبطة بأدلتها و عللها وأصولها العامة التي تتفرع عنها، و سمي أصحابها فقهاء و سمي العلم بها علم الفقه «وأول ما دُوّن فيها فيما في وصل إلينا موطأ الإمام مالك بن أنس فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان كتاب حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين".6 وبعده تمّ تدوين عدة كتب منها: كتاب الأم للشافعي و هو عماد فقه المذهب الشافعي، كما نجد كتب الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة التي دوّنها وصارت أساس فقه العراقيين.
أما علم أصول الفقه فقد نشأ في القرن الثاني الهجري، لأنه في القرن الأول الهجري لم تدع الحاجة إليه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالوحي أو بالسنة أو باجتهاده الفطري من غير احتياج إلى أصول أو قواعد استنباطية اجتهادية، وأصحابه اجتهدوا في إطار النصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية ومن غير حاجة إلى قواعد لغوية يفهمون بها النصوص. واستنبطوا النصوص فيما لا نص فيه بملكتهم الحالّة في نفوسهم من معاشرتهم الرسول، ووقوفهم على أسباب النزول وورود الأحاديث و فهم مقاصد الشارع و مبادئ التشريع. إلا أنه لما اتسعت الفتوحات و اختلط العرب بغيرهم و دخلت اللّغة العربية مفردات وأساليب غير عربية فلم يعد اللسان على ما كان عليه، فكثر المشتبه في فهم النصوص مما أدى إلى وضع قواعد و شروط لغوية و غيرها تمكن من فهم النصوص و زاد في الحاجة إلى قواعد وبحوث في الأدلة الشرعية و في شروط و طريقة الاستدلال هو ما أدى إلى انفجار التشريع والجدل بين أهل الحديث وأهل الرأي، فتلك القواعد و البحوث و الشروط و الكيفية المتعلقة بالأحكام والأدلة والاستدلال كل ذلك يسمى علم أصول الفقه.
بدأ علم أصول الفقه مولودا صغيرا ثم نما و نضج حتى كبر، بدأ متفرقا في أحكام الفقه لأن كل مجتهد من الأئمة الأربعة و غيرهم كان يشير إلى حكمه من خلال دليل ما ووجه الاستدلال به، و أول من دوّن قواعد هذا العلم و بحوثه مستقلة مرتبة هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في كتابه 'الرسالة'.
ب- الشافعي مؤسس علم أصول الفقه:
لقد اعتمد أهل الاجتهاد من الصحابة و التابعين على أسس و معايير محددة ومضبوطة في استنباط الأحكام الشرعية و في تطبيقها على الوقائع الجديدة، كانت هذه الأسس و المعايير راسخة في ذواتهم، مصدرها النص الشرعي القرآن، وما عايشوه وشاهدوه وسمعوه من أقوال وتصرفات وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم و أقواله و تقاريره.
يوجد من الصحابة من صرّح بوضوح في مسائل تتعلّق بالأحكام وبعلاقتها بالأصول التي تمّ الاستناد إليها في عملية استنباط الأحكام الشرعية الفقهية، فقول ابن عمر لأحد سمعه ينهى عن التمتع بالحج إتباعا لنهي عمر رضي الله عنه:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء!! أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟"7 فالتمتع بالحج حسب قول ابن عمر جائز وهو حكم فقهي شرعي، يدحض القول بعدم جوازه بالاستناد إلى قاعدة أصولية يصرح بها تؤكد أسبقية الدليل من السنة النبوية على أقوال الصحابة – قول الصحابي-وفي مسألة الأصل و الفرع والحكم والاستنباط يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري عندما ولاّه القضاء: "اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور برأيك".8 وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل عندما أرسله واليا على اليمن.
يظهر مما سبق أن التفكير الأصولي بما يتطلّبه من معطيات فطرية مرتبطة بالأصول وبمنهج الاستنباط و بالأحكام و غيرها توافرت لدى الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا أمر طبيعي حيث أن الفكر يسبق التكوين في تكوين العلم وتأسيسه، هو ما أكده ابن خلدون بقوله:"اعلم أن هذا الفنّ- أصول الفقه- من الفنون المستحدثة في الملّة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللّسانية، و أما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام فمنهم أخذ معظمها، لأن ذلك مركوز في طباعهم و مأخوذ من استعمالاتهم ، و أما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إليها لقرب عهد النبي صلى الله عليه وسلم وممارسة النقلة وخبرتهم بهم".9
إنّ مرحلة أتباع الصحابة كانت تشبه مرحلة الصحابة نفسها في غناها عن علم أصول الفقه، لكن المادة العلمية لهذا العلم نمت فيها بفعل توسع مجال الاجتهاد، وتعدد طرق ومناهج الاستنباط، الأمر الذي أدّى إلى ظهور مدارس ومصادر لم تكن موجودة من قبل في أصول الفقه، و بعد أن كانت العربية سليقة، صارت علما يتعلّمه، وقواعد تُوضع، الأمر الذي دفع علماء الأصول إلى تحديد أسسه و قواعده و إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها، وفي هذا يقول ابن خلدون:"فلما انقرض السلف وانقلبت العلوم صناعة وضعفت الملكات نتيجة لاختلاط العرب بغيرهم احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنّا قائما برأسه سمّوه أصول الفقه".10
ارتبط ظهور علم أصول الفقه كعلم قائم بذاته بفجر التشريع، بعد أن اشتدّ الجدل بين أهل الرأي و أهل الحديث، وراح البعض يحتجّون بما لا يُحتجّ به، وينكرون ما يُحتجّ به من ذوي الأهواء، كل هذا دعا إلى وضع قواعد و مباحث في الأدلة، هذه القواعد والمباحث و المناهج في الاستدلال كانت مشتتة متناثرة في أحكام الفقه، لأن أيّ مجتهد كان يبيّن دليل حكمه وطريقة الاستدلال به و كل معارض أن يبرهن على معارضته بأوجه من الاستدلال، وهذا الاستدلال ينطوي على ضوابط المنهج الأصولي.
يرى بعض المؤرخين و الباحثين أن أول من جمع شتات الضوابط الأصولية الاستدلالية المتناثرة في أحكام الفقه ولدى المجتهدين قبل الشافعي "مجموعة مستقلة في سفر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكره ابن النديم في الفهرست، ولكن لم يصل إلينا ما كتبه".11 ورغم الاختلاف بين العلماء فيمن هو المتصدر لهذا العلم نتيجة الآثار والأخبار الكثيرة عنه و عن أصحابه، إلاّ أنّ "أول من دوّن هذا العلم و بحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان ووجهة النظر فيه الإمام محمد ابن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة، فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدوّن في هذا العلم وصل إلينا فيما نعلم و لهذا اشتهر على ألسنة العلماء أن واضع أصول علم الفقه الإمام الشافعي وتتابع العلماء على التأليف في هذا العلم بين إسهاب وإيجاز".12
ويؤكد ابن خلدون ظهور علم أصول الفقه مرتبطا بكتاب الرسالة للشافعي في قوله: "وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه: أملى فيه رسالته المشهورة، تكلّم فيما في الأوامر و النواهي و البيان و الخبر والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها".13
ونسب البعض علم أصول الفقه إلى الشافعي كنسبة العروض إلى الخليل بن أحمد وكنسبة علم المنطق إلى أرسطو طاليس. حيث كان أهل الشعر يكتبون بالسليقة دون دراية أو علم بقواعد اللّغة العربية، فجاء الخليل ووضع لهم علم العروض بموازينه الأمر الذي جعله المتصدر لقيام هذا العلم بغير منافس، و كان قبله أرسطو طاليس الذي وضع قواعد علم المنطق بعد أن رأى الناس لغتهم مهزوزة وكلماتهم مضطربة فوضع بذلك معيارا عاما للناس جميعا يرجع إليه في معرفة الحدود و البراهين و ضبطها، و نسبة الشافعي لعلم أصول الفقه كنسبة أرسطو طاليس لعلم المنطق.
و كان الناس قبل الشافعي قد خاضوا في مادة أصول الفقه ومناهجه، فاستدلوا واعترضوا بغير الاعتماد على قانون عام تتم العودة إليه في الإلمام بدلائل الشريعة. أيّد هذا الرأي العديد من العلماء منهم جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الأسنوي حيث يقول:«وكان إمامنا الشافعي – رضي الله عنه- هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع وأوّل من صنف فيه بالإجماع، وتصنيفه المذكور فيه موجود بحمد الله تعالى، و هو الكتاب الجليل المشهور المسموع عليه باتصال سنده الصحيح إلى زماننا المعروف بـ (الرسالة) إلى أن قال: على أنّه قد قيل إنّ بعض من تقدّم على الشافعي نقل عنه إلمام ببعض مسائله أثناء كلامه عن بعض الفروع و جوابا عن سؤال السائل لا يسمن ولا يغني من جوع وهل تعارض مقالة قيلت في بعض المسائل تصنيفا موجودا مسموعا مستوعبا لأبواب العلم".14
و كان ممن أيّدوا نسبة أصول الفقه إلى الشافعي "محمد الخضري" في قوله:«وكان أول من نبّه إلى ذلك (فيما نعلم) الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلّبي الذي توفي بمصر سنة 204 هجرية فأملى في ذلك رسالته التي جعلت كمقدمة لما أملاه في الفقه في كتابه الموسوم بالأم. افتتح ما أملاه بالبيان ما هو؟ ثم شعّبه إلى بيان القرآن و بيان السنة للقرآن والبيان بالاجتهاد و هو القياس. ثم أوضح أن من القرآن عامّا يراد به العام، وعام يدخله الخصوص، وعام ظاهر وهو يجمع العام و الخاص، وعام الظاهر ويراد به الخاص، ثمّ بيّن أن السنة مفروضة الإتباع بأمر الكتاب، ثمّ تكلّم عن الناسخ والمنسوخ، وعن علل الأحاديث، و الاحتجاج بخبر الواحد، والإجماع، والقياس، والاستحسان واختلاف العلماء".15
إنّ الشافعي بنى علم أصول الفقه انطلاقا ممّا توصل إليه السابقون من الصحابة والتابعين في مجال الاجتهاد، و التفقه في الدين و أساليب الاستنباط، واعتمد على دور فقهاء المالكية و علماء الحنفية في استخراج القواعد لكل باب ومناقشتها فجاءت النظرة واضحة وبانت المسالك و كان من وراء ذلك الجدل المحتدم الذي قام بين فقهاء تلك الفترة، الأمر الذي أكّد دور البيئة الفقهية في تمكين الشافعي من الانتباه إلى القوانين التي يلتزم بها من أراد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. و هذا الرأي توصل إليه "السيوطي" من قبل إذ يقول:«الإجماع على أن الشافعي أول واضع لعلم الأصول، إذ هو أول من تكلّم فيه و أفرده بالتأليف، وكان مالك في موطئه قد أشار إلى بعض قواعده و كذلك غيره من أهل عصره كأبي يوسف ومحمد بن الحسن".16
و بعدما اجتمعت عوامل نشأة علم أصول الفقه تأسس و كان العلم الذي قدّم أصول أساليب استنباط الأحكام الشرعية، فكان المستند الذي يستند إليه الفقهاء في عملية التشريع فيما جدّ واستجدّ من وقائع و أحداث و ما أكثرها في زمن لا يعرف سوى التغيّر المستمر و التطور الدائم في جميع مجالات الحياة. فكان العلم الذي أثرى الثقافة الإسلامية والعالمية، ووضع حدّا للجدل بين الفقهاء، وشكّل معيار العملية الفقـهية التشريعية، ووضـع حدا للزيف و التحريف المقصود و غير المقصود الذي عرفه التشريع الإسلامي من قبل وميّز الاجتهاد الصحيح عن الاجتهاد الزائف، الأمر الذي أوجب تعلّمه واستثماره.
الهوامش:
1- محمد مصطفى شلبي: أصول الفقه الإسلامي، دار النهضة العربية، ط2 ،1983، ص3.
2- محمد محدة : مختصر علم أصول الفقه، دار الشهاب، باتنة، الجزائر، بدون طبعة و بدون سنة ،ص 13- 14.
3- رواه أبو داود والترمذي.
4- عبد الوهاب خلاّف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر و التوزيع، الجزائر، ط1، 1990، ص 15.
5- عبد الوهاب خلاّف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر و التوزيع، الجزائر، ط 1، 1990، ص 15.
6- موسى إبراهيم الإبراهيمي:المدخل إلى أصول الفقه و تاريخ التشريع الإسلامي، شركة الشهاب، الجزائر، بدون طبعة و بدون سنة، ص 19.
7- د. محمد سليمان عبد الله الأشقر: الواضح في أصول الفقه، دار النفائس للنشر و التوزيع، الأردن، ط 5، 1998، ص 13.
8- المرجع نفسه ،ص13.
9- ابن خلدون: المقدمة، ضبط و شرح و تقديم د. محمد الاسكندارني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان ، سنة 2005، ص 420.
10- المرجع السابق: ص 420.
11- عبد الوهاب حلاّف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر و التوزيع، الجزائر، ط، 1، 1990، ص 15.
12- المرجع السابق:ص 18.
13- ابن خلدون: المقدمة، ضبط وشرح و تقديم، محمد الاسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان ،سنة ،2005 ص 420.
14- عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان :الفكر الأصولي، دار الشروق ،ط 1 سنة 1983، ص 52 و ما يعدها.
15- محمد الخضري: أصول الفقه، دار الفكر، ط 06، 1981، ص 5.
16- الثعالبي محمد بن الحسن الحجوي: الفكر السياسي في تاريخ الفقه الإسلامي ،الجز 2، المكتبة العلمية ،المدينة المنورة ،ط 1، ص 404.