مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/09/01 06:33
هل ستكون انتخابات تونس حقا انتخابات؟
هل ستكون انتخابات تونس حقا انتخابات؟ الجمعة, 29 أغسطس 2014 23:35 محمد الحمّار     لقد ثبتت صحة رأي المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله حين قال: "فكل مسلم مقتنع بدينه منذ أن نزلت الآية الأولى في غار حراء. ومن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتناعهم بدينهم فإنما يضيع وقته وربما يضيع وقت المسلمين أنفسهم" (في كتيب "دور المسلم ورسالته"، دار الفكر، دمشق، 1989 ص 51). لو كان بن نبي حيا اليوم لأضاف: إنّ اقتناع المسلمين بالإسلام متوقف، معطل، معوّم، مهمش، مدجن، لا لشيء سوى لأنّ عقول المسلمين مكبلة بفرضية أنهم لا يفهمون الإسلام، ما جعلهم عاجزين على صياغة الرسالة الأخلاقية والعلمية للمسلمين. بل إن هؤلاء صاروا عرضة، نتيجة لهذا التهاون في الاضطلاع بما يعلمونه من قرآن وسنة، لآفات فتاكة بالإنسان في العصر الحديث مثل تلك التي سميت ﺑ"العبودية العقلية" من طرف أيقونة موسيقى الريغي بوب مارلي ثم وافقه على هذه التسمية العلامة نعوم تشومسكي. إنّ أمة المسلمين المعاصرة لا توظف علمها واقتناعها بالقرآن والسنة في القضاء على "العبودية العقلية" - وعلى الرق الأبيض والرأسمالية الفردانية والتبشير بثقافة الوفرة وتكريسها وغيرها من الآفات المعاصرة- بل توظفهما في ترسيخ هذا الصنف من العبودية، مما انعكس سلبا على حياة المسلمين في بروز ما يسمى بالإسلام السياسي وما رافقه من اضطراب وفوضى في كافة المجالات. فتجاهل المسلمين المعاصرين لما يعلمونه من الإسلام إنما هو جريمة نكراء في حق الإسلام. ذلك لأنّ بروز الورم المتمثل في الإسلام السياسي (حركة "النهضة" وسائر السلفيات) كإفراز لهذا التجاهل صار مؤثرا سلبيا على عملية التديّن بالإسلام في كل جوانبه، العاطفية والعقلية والسلوكية والمعرفية والعلمية وغيرها. وعلى وجه الخصوص يتمثل تأثر التديّن بالجهالة في ما يلي: تحويل ما في الدين الحنيف من آليات لا شعورية إلى آليات شعورية. فلنضرب مثالا على ذلك: الشخص الذي يعطش لا يفكر في كيفية إطفاء الظمأ وإنما يتناول للتوّ ماءً أو سائلا آخر، لأنه لو فكر طويلا في ما لا ينبغي التفكير فيه لمات عطشا. وبالموازاة ترى المسلمين اليوم يفكرون في كيفية أن يكونوا مسلمين أكفاء عوضا عن أن "يسلموا" لله ليؤكدوا جدارتهم بهذا الدين، مما يتسبب في موتهم دينيا وإنسانيا وبقائهم كآلات منقبة عن المستحيل، فاقدين لكلّ أهليّة للعمل الشعوري الحق مثل الإنجاز العلمي والتطوّر الأخلاقي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي. بينما المجال الذي يستدعي التفكير من طرف المسلمين اليوم هو مجال تفكيك المغالطات الذاتية المختلفة والمتعددة التي انجرّت عن المغالطة الأصلية والمتمثلة في نكران المسلمين أنّ لديهم اقتناع بدينيهم. أما أُمّ المغالطات فهي اعتبار حركة "النهضة" المشاركة في الانتخابات والفائزة بها (في 23 أكتوبر 2011) والتي ستشارك في الانتخابات القادمة، اعتبارها حزبا عاديا له مواصفات الأحزاب التقليدية المتعارفة ضمن المنظومة الهيكلية الديمقراطية المعاصرة. ليست "النهضة" حزبا ولو سميت حزبا. إنها سحابة تتنقّل من بوتقة إلى بوتقة. وحسب هذه القاعدة بإمكان كل شخص أن يصبح نهضويا بصرف النظر عن انتمائه إلى حزب سياسي بعينه، وبإمكان المؤمن وغير المؤمن، والمتديّن وغير المتديّن، والليبرالي والاشتراكي، أن ينتمي وبصفة فجئية إلى "النهضة" دونما إخلال بمبادئه التي تربطه بحزبه الأصلي. ومن الأدلة على صحة هذا التشخيص انتقال شخصيات غير نهضوية إلى "حزب" النهضة بين عشية وضحاها في هذه الفترة التحضيرية للانتخابات لتصبح مترئسة لقائمة نهضوية. من هذا المنظور يتبين أنه من الخطأ اعتبار "النهضة" عدوّا أو منافسا أو صديقا. فهي ظاهرة تستوجب التعامل معها حسب قانون الظواهر. فالظاهرة زائلة (بينما الحزب دائم)، والظاهرة لا تُكرَه ولا تُنافَس ولا تحَبّ ولا يُنتمي إليها. الظاهرة تدرَس وتُفهَم وتعالَج. في هذا الصدد إذا لم يفهم المجتمع التونسي أنّ "النهضة" إفراز لخطأ المسلمين، مجتمعين وأجمعين، في تنكرهم لاقتناعهم بالإسلام وبالتالي في تربية أنفسهم على سلسلة من القناعات الحديثة كانوا قد حكموا عليها بأن لا تكون موصولة بالقناعة الأصلية ألا وهي القناعة الدينية، فستؤول الانتخابات القادمة إلى فشل ذريع. في ضوء هذا، أخشى أن تكون الانتخابات القادمة في غير محلها. ومن المؤشرات على ذلك أنّ التونسيين وهم المعروفون بأنهم لا يحترمون القانون سيجابهون تحديا حقيقيا: كيف للانتخابات، بصفتها إفرازا للقانون، أن تنجح؟ وإن نجحت فهل التونسيون هم الفاعلون أم النفوذ الفارض للقانون هو الفاعل؟ في المقابل، فإنّ الاعتراف بالقناعة الدينية لا يعني أسلمة المجتمع ولا المطالبة بتطبيق الشريعة ولا تطبيق الحدود ولا فرض ارتداء الخمار على المرأة ولا حظر بيع وشرب الخمر. فهذه ومثيلاتها ذرائع فرضت نفسها كبدائل عن شرائع كان من المفترض أن يصوغها ويسنها المسلم المعاصر لكنها استعصت عليه بسبب غياب اعترافه بالقناعة الدينية. بكلام أخر، إن دلت هذه الذرائع على شيء فإنما تدل على غياب الاضطلاع الذاتي بالهوية الدينية أكثر منه على رغبة "النهضة" أو أيّ كيان ظواهري مماثل في فرض الحكم الديني اللاهوتي. حين ندرك مدى الانزلاق الذي يعاني منه العقل المجتمعي، نفهم إلى أين نحن ذاهبون لو تمادينا في التهيئة للانتخابات – ولأيّ استحقاق عمومي آخر- دون أن نفعل شيئا لتصحيح المسار العقدي والفكري. ففي فلسفة الانحراف، لن تكون الانتخابات المقبلة سوى فرصة لتكرار سيناريو انتخابات 2011 بكل تبعاتها الخطيرة: لا برامج تنموية ولا إصلاحا للمدرسة وللجباية وللأمن وللقضاء. إنّ المشاركة في انتخابات تتضمن أحزابا تتبارى مع "ظاهرة" ليست مشاركة في انتخابات وإنما مشاركة في تكريس الخطأ وفي تزكية قرار غير مضطلع به.   وحين ندرك أنّ التفكير في مستقبل البلاد والعباد محتقن بسبب الانزلاق، سنتيقن أنّ "السلفيين" و"داعش" و"الإرهاب" و"بوكو حرام"، مثل "النصرة" و"جهاد النكاح" من قبلها، ما هي إلا حقائق مضللة بما أنها غير إرادية، تسببَ في صناعتها احتقان عقلنا المجتمعي الذي أصبح عاجزا عن التمييز بين الحقيقة الإرادية والحقيقة المفتعلة، بل عاجزا عن فرض التركيز على مسار الحقيقة الإرادية دون سواها وبالتالي عن الإبداع في مجال التصورات الإصلاحية الضرورية بشأن المدرسة والجباية والأمن والقضاء ومنوال التنمية. إنّ المراد من تصحيح المسار العقدي والفكري – تحسبا للانتخابات في أسوأ الحالات- هو اضطلاع المسلم بإسلامه، مما يعني أنه مطالب بالكف عن التمادي في التساؤل إن كانت هنالك طريقة دون أخرى لكي يكون مسلما، وبالتالي فالأجدى أن يعمل بصفته مسلما، ولا يهم إن كانت هذه الصفة مبنية على الإيمان والتقى والورع أم على الانتماء الثقافي أم على التطور التاريخي أم على الاندماج الاجتماعي أم على التشارك اللغوي. يعني هذا بلغة الاستحقاق المقبل أنّ تغيير تونس سوف لن يأتي كنتيجة للانتخابات، إنما الانتخابات هي التي ينبغي أن تأتي كنتيجة لتغيير عقلية التونسيين، من أناس انطلت عليهم المغالطات الذاتية إلى مواطنين فاعلين على كافة الواجهات. بالنهاية لا تسألني هل سأنتخب، بل اسألني ماذا ينبغي أن أفعله لتغيير البلاد والعباد.
*التجدبد
أضافة تعليق