مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عام بعد الانقلاب العسكري...حصاد الثورة المصرية
د. رفيق حبيب
بعد عام على الانقلاب العسكري، تتكرر الأسئلة حول مصير المواجهة مع الانقلاب العسكري، وهل يمكن للحراك الثوري الانتصار على السلطة العسكرية، أم إن الانقلاب العسكري أصبح أمرا واقعا ومستقرا؟ ولأن المواجهة مستمرة، فإن تحديد صورة الواقع ليس أمرا سهلا.

ولكن النظر للحظة مرور عام على الانقلاب العسكري، يمكن أن تعطي تصورا عن مسار المواجهة، طبقا لهذه اللحظة الخاصة، رغم أن المواجهة متغيرة ومستمرة.

ففي لحظة مرور عام على الانقلاب، اتضح أن الانقلاب العسكري أسس سلطة عسكرية مباشرة، ولم يتمكن أصلا من بناء نظام سياسي بأي صورة من الصور.

فالسلطة العسكرية الحاكمة، لم تتمكن من بناء نظام سياسي، بل استدعت منظومة السلطة المستبدة الفاسدة من نظام ما قبل الثورة، فأصبح بحق جزءا من الماضي.

لم يصبح الانقلاب العسكري أمرا واقعا، رضي به أغلب الناس وتقبله كلهم، ولا أصبح سلطة بحكم الأمر الواقع، تحظى بالرضى والصمت معا، بل ظل لمدة عام كامل سلطة ينازعها شرعيتها حراك ثوري مستمر.

لم تتمكن السلطة العسكرية من جعل لخارطة الطريق أي معنى، إلا لدى أنصار السلطة العسكرية فقط، فكل مرحلة من مراحل خارطة الطريق لم تغير أي شيء على أرض الواقع، بل كانت مجرد خطوات بلا معنى حقيقي، ولو المعنى الشكلي.

بدأ الانقلاب العسكري بغطاء شعبي، وإذا به يفقد جزءا وراء الآخر من هذا الغطاء الشعبي، دون أن يتمكن من توسيع قاعدته الجماهيرية، مما يعني أن غطاءه الشعبي في تقلص مستمر، وفي المقابل، فإن الحراك الثوري لا يزال في توسع مستمر.

في عام واحد فقط، انقلبت السلطة العسكرية على حديد من حلفاء الانقلاب العسكري بسرعة واضحة لا تحدث في أغلب حالات الانقلاب العسكري بهذه الصورة، مما جعل تحالف الانقلاب العسكري يتقلص سريعا.

استخدم الانقلاب العسكري حشدا جماهيريا غاضبا يطالب بحياة أفضل، فإذا به وخلال عام واحد فقط يعرض هذه الكتلة الجماهيرية لظروف حياة صعبة، بل ويعرضها لما هو أسوأ، وكأنه يجعلها تدفع ثمن بقائه في السلطة. فالسلطة العسكرية تضحي بالبسطاء من عامة الناس بعد أن استخدمتهم.

* عام على الحراك:

استمر الحراك الثوري عاما دون أن يتراجع أو يتقلص، وظل مستمرا بدرجات متفاوتة، واستمرار الحراك الثوري هو القاعدة الأساسية لنجاحه، لأن استمراره يعني بقاء السلطة العسكرية في مربع البحث عن الشرعية، وبقاؤها في معركتها الأولى، أي معركة فرض الأمر الواقع.

وإبقاء السلطة العسكرية في مرحلة فرض الأمر الواقع دون أن تنجح في ذلك، يستنزف مواردها وطاقتها في معركة باتت من دون نهاية، مما يجعلها سلطة مستنزفة تبحث عن شرعية الأمر الواقع، دون أن تتمكن من تحقيق الاستقرار الهادئ لها كسلطة.

بينما تمكن الحراك الثوري في التحكم في مستويات الحشد، فلم يلزم نفسه بمستوى معين من الحشد، مما جعل الحراك قادرا على تحمل معركة النفس الطويل دون أن يُستنزف. وبعد أن ضيق الحراك على نفسه بالمناسبات والمواعيد، عاد ووسع مجال حركته حتى لا يُستنزف.

تعددت وسائل الحراك الثوري وتوسع في الاحتجاج الرمزي، مما مكنه من توسيع مستوى حضوره دون أن يستنزف طاقته البشرية، وهو ما يوفر له طاقة بشرية مستمرة تمكنه من البقاء في قلب المعركة وبصورة مؤثرة.

تمدد الحراك الثوري جغرافيا، مما يجعله حاضرا في أغلب المناطق، حتى أصبح حضوره جزءا من المشهد العام للمجتمع. والتمدد الجغرافي المستمر، مع التمدد الزمني المستمر، يجعل للحراك الثوري حضور واسع، وهو ما يجعله أمرا واقعا.

حصل الحراك الثوري على شهادة من السلطة العسكرية، ولم يمنحها أي شهادة في المقابل، فقد تصرفت السلطة العسكرية بصورة تجعلها أول من يشهد أن الحراك الثوري أمر واقع لا يمكن تجاهله، بل إن تجاهله خطر.

في المقابل، فإن الحراك الثوري لم يعط للسلطة أي شهادة اعتراف بها كسلطة، بل جعلها دائما في مربع القوة الأمنية المغتصبة للسلطة، والتي تحميها بقوة سلاح الدولة، مما جعلها في حالة دفاع عن السلطة التي اغتصبتها دون أن تتمكن من ممارسة تلك السلطة بصورة هادئة.

ودفع الحراك الثوري السلطة لتشديد قبضتها الأمنية بشكل مستمر، وعبر الزمان والمكان، وأصبحت لا تستطيع تخفيف قبضتها، حتى لا يفاجئها الحراك بصورة لا تتمكن من السيطرة عليها، فأصبحت السلطة العسكرية نفسها تقدم شهادة بأن الحراك الثوري قادر على إسقاطها.

حاصرت السلطة العسكري ميادين الحرية والثورة حتى لا يصل إليها الحراك الثوري، فظل الحراك الثوري الشبابي يدور حول تلك الميادين، ويدخلها عندما يقرر ذلك، ويتركها عندما يقرر ذلك. ولكن السلطة ما عادت صاحبة قرار في ترك الميادين، فقد أصبحت محاصرة في تلك الميادين.

ظل حصار ميدان التحرير شهادة من السلطة بأنها قد تسقط إذا تركت ميدان التحرير للحراك الثوري، وهي شهادة تؤكد أن الحراك الثوري يمثل قطاعا واسعا ومؤثرا، كما أنها شهادة بأن السلطة نفسها تدرك أن هناك رفضا شعبيا لها كفيل بإسقاطها.

وتخلص الحراك الثوري تدريجيا من المواعيد والأماكن، بل جعلها منها سلاحا في يده، بدلا من أن تكون عبئا عليه، فأصبح لا يربط نفسه بموعد ولا بمكان، مما مكنه أن يتحرك بصورة أوسع، وبما يناسب الظروف على الأرض، وظلت السلطة مسكونة بالخوف من الموعد والمكان، فكل المناسبات تخيفها وتربكها، وكل الأماكن تشتتها وتستنزفها.

فكل معارك النفس الطويل تمر بمراحل تبدو فيها الأمور ساكنة أو عادية، ولا يتغير فيها شيء، وعامل الزمن سلاح ذو حدين، فقد يكون مصدرا لقوة الحراك الثوري، وهو كذلك بالفعل، وقد يكون سببا في انكسار أي حراك ثوري.

وقد واجه الحراك الثوري مشكلة الزمن، فالمعركة هي معركة النفس الطويل، وفي مثل هذه المعارك لا يمكن أن يتم تحقيق شيء جديد كل يوم، رغم أن الاستمرار مهم. وإذا أصاب الحراك الثوري أي إحباط وتوقف مؤقتا، يمكن أن تتحول الثورة إلى معركة مؤجلة.

والملاحظ أن الحراك الثوري اتجه إلى تنويع الحراك، وأيضا تنويع القضايا التي يتبناها، وتنويع المعارك أيضا، بحيث ظل الحراك الثوري له أجندة عمل يومية، مما مكنه من الاستمرار دون انقطاع، فأصبح استمرار الحراك أداته المركزية التي تثبت حضوره المستمر.

* 3 يوليو:

بعد مرور عام، كان مشهد 3 يوليو له العديد من الدلالات التي تمكن الحراك الثوري من تحقيقها وإنجازها، لذا كان 3 يوليو 2014 بمثابة كشف حساب عما تمض في عام من المواجهة بين الحراك الثوري والسلطة العسكرية التي أسسها انقلاب عسكري.

قبل 3 يوليو، حاولت السلطة التأثير في هذا اليوم بأدوات القمع التي لا تملك غيرها، فاتضح أنها استنزفت بنك الأهداف التي كانت بحوزتها، وما عاد لديها بنك أهداف آخر، تؤثر به في الحراك الثوري، سواء معنويا أو واقعيا.

واتضح أن السلطة العسكرية ما عادت تملك مواردا للتأثير في الحراك الثوري، فأصبح الحراك يؤثر فيها، دون أن يكون لديها ما تفعله للتأثير فيه، وهو ما يعني أن السلطة العسكرية استنزفت موارد القمع المتاح لها، بحيث أصبحت أداة قمع غير فاعلة.

وظهر الارتباط جليا على السلطة العسكرية قبل 3 يوليو، كما بدت عليه آثار الإجهاد، مما جعلها تبدو في صورة أضعف بكثير من الصورة التي ظهرت عليها في يوم الانقلاب العسكري، مما يؤكد على أن طاقة القمع تُستنزف، خاصة وأن من يمارس القمع يتوقع أن ينجح سريعا ويفرض سطوته.

جاء الحرام الثوري في 3 يوليو معتمدا على التنوع الحركي الواضح، وتعدد الوسائل والأماكن والأزمنة، بحيث تمكن الحراك من أن يكون حاضرا على كل خريطة الوطن، وكل خريطة الزمن في هذا اليوم، ليتأكد أن الحراك الثوري أصبح أمرا واقعا مستمرا ومستقرا وثابتا.

مع انتشار الحراك في الشوارع والميادين، بات مسيطرا عمليا على مختلف أنحاء البلاد، في حين أن السلطة باتت غائبة ومحاصرة في توقعاتها حول الزمان والمكان، فبات الحراك منطلقا والسلطة العسكرية محاصرة.

وتأكد عبر يوم كامل أن الحراك قادر على التأثير في مختلف الأماكن، فأصبح حضوه في الشارع فاعلا ومؤثرا أكثر من حضور السلطة العسكرية في الشارع، وكأن الحراك الثوري في 3 يوليو قد قال بالفعل لا بالقول: الشارع لنا.

غياب الغطاء الشعبي للانقلاب العسكري عن مشهد 3 يوليو، وحضور الحراك الثوري المؤثر، أكد أن مسار الحراك الثوري صاعد، أما مسار الانقلاب العسكري فهابط، مما يعني أن معركة النفس الطويل يحقق فيها الحراك الثوري مكاسب على حساب السلطة العسكرية الحاكمة.

* طبيعة المعركة:

تأكد بعد مرور عام على الانقلاب العسكري، أكثر من أي وقت مضى، أن المعركة هي معركة النفس الطويل، أي معركة القدرة على الاستمرار والبقاء، فهي معركة بين حراك ثوري عليه أن يثبت قدرته على الاستمرار والتجديد والتنويع والتأثير عبر الزمان والمكان وبين سلطة عسكري تواجه تحدي الاستمرار والبقاء مؤثرة وفاعلة وقادرة على التأثير في مجريات الأمور.

وكلما أصبحت السلطة عاجزة عن التأثير بفاعلية، أصبحت أقل قدرة على الاستمرار في معركة النفس الطويل.

وهي معركة إرادة، فالطرف الذي يملك إرادة الاستمرار في التأثير بفاعلية مهما واجه من عقبات ينتصر في المعركة في نهاية الأمر.

وهي معركة إجهاد، أي معركة لها علاقة مباشرة بالموارد المتاحة لكل طرف، فمن يجهد وتنضب موارد قوته أولا ينهزم، ومن يستطيع تجديد موارد قوته وإنعاشها وإبرازها، تتاح له فرص الانتصار في تلك المعركة المصيرية.

هي إذن معركة استنزاف موارد القوة والقدرة والإرادة، فمن يتمكن من تجديد موارده والمحافظة عليها دون استنزاف، يتمكن من الاستمرار حتى خط النهاية، ومن يستنزف موارده سريعا بحثا عن نصر حاسم وسريع، يُستنزف أولا، ولا يتمكن من الوصول إلى خط النهاية.

والحراك الثوري يعتمد أساسا على مورده البشري، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه يملك إرادة بشرية لا تنضب، وأنه قادر على تجديدها والحفاظ عليها وتحريكها، بصورة تجعله يملك رصيدا وفيرا ومستمرا لا ينقطع.

والسلطة العسكرية، منذ اليوم الأول، راهنت على النجاح السريع حتى يتحقق لها فرض الأمر الواقع، وتصبح سلطة بحكم الأمر الواقع، لذا استنزفت مواردها سريعا بإستراتيجية الصدمة والرعب، بينما استمر الحراك الثوري بفاعلية، فأصبحت تفقد تدريجيا مواردها، وتفقد أيضا رصيدها من الإرادة والتصميم...

(*) ملاحظة: نشرنا أكثر المقال وليس كله
&العصر
أضافة تعليق