الإسلاميون وتحديات العمل السياسي
د. رفيق حبيب
على الإسلاميين التقدم تدريجيا في السياسة
على الإسلاميين التقدم تدريجيا في السياسة
كان تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد الإمام حسن البنا عام 1928، هو بداية حقبة جديدة، تميزت بظهور حركات وتيارات إسلامية متعددة، هدفت في مجملها لاستعادة المرجعية الإسلامية في المجال العام، بعد سقوط هذه المرجعية أو انحصارها بفعل النظم السياسية ذات الأساس العلماني، التي سادت في البلاد العربية والإسلامية.
وأصبحت هذه الحركات، تمثل واحدة من أهم الفاعلين في الساحة الاجتماعية والسياسية، ولكن ظل دور الحركة الإسلامية في المجال السياسي، مثارا للعديد من الجدل، والكثير من المواجهات مع أنظمة الحكم؛ مما جعل موقف الحركة الإسلامية من العمل السياسي مصدرا لاختلاف الرأي وتعدد المواقف، وربما يكون الموقف من العمل السياسي، أي قضية إصلاح النظم السياسية أو تغييرها، هو العامل الأول الذي شكل التباينات والاختلافات بين الحركات الإسلامية، وداخل الحركة الإسلامية الواحدة، حتى أصبحت معضلة العمل السياسي هي القضية التي تستحوذ على جانب مهم من المساجلات بين الإسلاميين.
وللوصول إلى مقاربة تفسر الوضع الراهن لقضية العلاقة بين الإسلاميين والعمل السياسي، وتسمح بالوصول إلى تصورات لمستقبل الدور السياسي للإسلاميين، نحتاج لتحديد العناصر الأساسية للقضية، وهي في الواقع ليست قضية موقف الإسلاميين فقط، بل هي قبل هذا قضية تتعلق بالأوضاع السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
الواقع السياسي
الوضع السياسي في البلاد العربية والإسلامية منذ القرن العشرين تميز بمرحلة للنضال الوطني للدول الواقعة تحت الاستعمار العسكري الغربي، تلتها مرحلة الاستقلال وخروج الجيوش المحتلة، ثم قيام أنظمة حكم أقامتها القيادات التي تزعمت عملية التحرر الوطني.
وأولى المشكلات التي تواجهنا، تمثلت في كيفية تحقيق التحرر الوطني؛ لأن حركات التحرر ركزت على إجلاء الجيوش المحتلة، ولم تحمل معها رؤية خاصة لكيفية بناء نظام سياسي جديد، كما لم تشغل نفسها بقضية النهضة الحضارية، وبالتالي لم تكن منشغلة بقضية الخصوصية الحضارية والثقافية للبلاد العربية والإسلامية.
وهكذا نستطيع القول إن المحتل ترك الأرض، ولكنه ترك نموذجه في الحكم، أي دولة الاستعمار، وقام الثوار بالسيطرة على هذه الدولة وإدارتها، ولكنهم لم يقوموا بعملية بناء دولة جديدة، فمعظم قيادات التحرر الوطني كانت منشغلة بفكرة بناء دولة قوية على النموذج الغربي، مما جعلها ترث دولة الاستعمار، وتحاول أن تحاكي نموذجها في الحكم، ونعتقد أن الكثير من الاستبداد بل الفساد المستشري في العديد من نظم الحكم العربية والإسلامية، نابع أساسا من استمرار الدولة الاستعمارية، التي تركها المحتل.
لذلك فالسؤال الذي شغل الإمام حسن البنا، وجعله يؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والمتعلق بكيفية استعادة المرجعية الحضارية للأمة، والتي هدمها الاستعمار، لم يكن يشغل قيادات التحرر الوطني، وفيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو الذي انتمى لجماعة الإخوان المسلمين وكان عضوا في جناحها العسكري، وقام بانقلاب الجيش بمساندة جماعة الإخوان المسلمين، ومع كل هذا لم تكن القضايا التي تشغل الجماعة، ضمن اهتماماته أو أولوياته في الحكم، ولا حتى ضمن جدول أعماله.
لذا ظلت قضية استعادة المرجعية الحضارية الإسلامية، هي الدافع وراء عمل الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها، ولكن هذه الحركات واجهت في البداية استعمارا أجنبيا، ثم واجهت في النهاية أنظمة حكم محلية لا تعمل وفق المرجعية العليا للأمة، بل تتبنى المرجعية السياسية الغربية، وترتكز على موقف علماني، كما أن معظم أنظمة الحكم العربية والإسلامية، تحالفت مع الدول الغربية، سواء الاتحاد السوفيتي أو أمريكا، ثم تجمعت في النهاية في تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا لم يتحقق الاستقلال الحضاري، بل ظل العنوان الأبرز لمرحلة الاستعمار العسكري ومرحلة ما بعد التحرر هو التبعية الحضارية للغرب، والتي أدت في النهاية إلى السقوط في التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضا.
والمثال الأبرز لتلك الحالة يتجسد في أرض فلسطين المحتلة، فالنظام السياسي الحاكم في البلاد العربية والإسلامية، لم يستطع تحرير فلسطين، بل قبل بالتنازل عن أراضي فلسطين المحتلة عام 1948، ويتفاوض على الأراضي المحتلة عام 1967، ويمثل الاحتلال الصهيوني لفلسطين العنوان الأبرز لفشل عملية التحرر الوطني، مما أدى إلى وقوع المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية والسيطرة الإسرائيلية.
هذا الواقع في مجمله، يقول بأننا نعيش تحت نوع من الاستعمار الجديد، وإن قضية الاستقلال لم تتحقق، لا في المجال السياسي ولا في المجال الاقتصادي أو العسكري، وبالتالي فإن قضية الاستقلال الحضاري ظلت غائبة تماما، وأصبحنا أمام أنظمة حاكمة تسيطر على مقاليد الأمور، وتلجأ للاستبداد السياسي بدرجات مختلفة، ولكنها في النهاية تمثل نخبا حاكمة تسيطر على الحكم، وتلقى دعما خارجيا، وترفض فكرة التداول السلمي للسلطة.
مشروع الحركة الإسلامية
إن أفضل تعريف للحركة الإسلامية، وحركة الإحياء الإسلامي عمومًا، أنها حركة اجتماعية، تمثل تيارا داخل المجتمع، يعمل أساسا على إصلاح المجتمع، بغرض إصلاح أحوال الأمة.
وجل الحركات الإسلامية تعمل من أجل توحيد الأمة وتحقيق نهضتها الحضارية، وهي تقوم بذلك من خلال التزامها بالمرجعية الحضارية الإسلامية، وتعمل كلها من أجل استعادة هذه المرجعية بوصفها المرجعية العليا للمجال العام والنظام السياسي.
وفي مواجهة هذه الحركات تقف الأنظمة الحاكمة والدول الغربية الداعمة لها، ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ لأن مشروع تأسيس النظام السياسي الإسلامي، وتحقيق وحدة ونهضة الأمة الإسلامية يمثل خطرا على كل هذه الأطراف؛ لأنه يعني إنهاء حكم النخب الحاكمة الحالية، ويعني توحيد الأمة من أجل تحرير فلسطين، وإخراج الأمة كلها من أي شكل من أشكال الهيمنة الغربية.
ومنذ بداية ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين وهذه المواجهة قائمة ومرصودة لدى كل الأطراف، ومع مرحلة الإحياء الديني الواسع التي شهدتها المنطقة في سبعينيات القرن العشرين، ومع سقوط مشاريع التحرر الوطني في هزيمة 1967، أصبحت الحالة الإسلامية برمتها ومختلف تنويعاتها تمثل بديلا جديدا، في مواجهة النخب الحاكمة المتحالفة مع الغرب، وفي مواجهة مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة، والذي تبلور في صورة مشروع الهيمنة الأمريكي الصهيوني.
لذلك فإذا عرّفنا النظم السياسية القائمة بأنها نظم سياسية مستبدة تنفرد بالحكم وتستند إلى مرجعية النظام السياسي الغربي وتقلده، وتستند إلى الموقف العلماني الداعي لفصل الدين عن مرجعية المجال العام، كما تستند إلى الدعم الغربي، وتتحالف مع القوى العظمى المهيمنة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وتتوافق مع المشروع الصهيوني، وتتخلى تماما عن قضية تحرير فلسطين، إذا كان هذا هو تعريف النخب الحاكمة، فإن تعريف كل الحركات الإسلامية، الوسطية والمتطرفة، هو على النقيض من ذلك؛ لهذا يصبح عمل الحركات الإسلامية في المجال السياسي، بل أيضا عملها في المجال الاجتماعي يمثل مشكلة نابعة من وجود تعارض بين مشروع تلك الحركات، وبين النظم السياسية القائمة.
خيارات الحركة الإسلامية
هذا الموقف أدى إلى ظهور التباين الشديد بين الحركات الإسلامية، فهناك حركات رفضت الواقع برمته، وحاولت تغييره جملة واحدة، فلجأت في النهاية للسلاح لإسقاط النظم الحاكم والسيطرة على الحكم، وهناك من حاول الانعزال عن المجتمع، وبناء مجتمع مثالي، حتى إذا قويت شوكت هذا المجتمع البديل، استطاع أن يفرض نموذجه على المجتمعات القائمة، وهناك من رأى أن العمل السياسي يمثل مشاركة في أوضاع ظالمة وتجميلا لاستبداد قائم، ومن رأى أنه مشاركة في أنظمة كافرة، وهناك من رأى أن المشاركة في العمل السياسي هي وسيلة لتغيير وإصلاح النظم السياسية القائمة.
وهناك من أراد حل مشكلة المواجهة بين النظم السياسية والحركات الإسلامية بترك العمل في المجال السياسي، ومنهم من نادى بطاعة ولي الأمر، ومنهم من قال بأن الحركة الإسلامية لم تصل بعد لمرحلة التمكين؛ لذا عليها ترك العمل السياسي، وتأجيل مسألة تغيير النظم السياسية القائمة للمستقبل، ومنهم من حاول التكيف مع الأوضاع السياسية القائمة، على أساس التوصل إلى صورة تقبلها النظم السياسية القائمة، أو الدول الغربية الداعمة لها، بما ينهي مسألة التعارض الحادث بين الوضع القائم والتصورات السياسية للحركة الإسلامية.
وكل هذه البدائل والمواقف، نتجت في الواقع من التعارض بين الأوضاع السياسية القائمة، وبين المشروع السياسي للحركة الإسلامية، ومن عدم وجود مناخ من الحرية يسمح بنقل الخلاف بين الحركة الإسلامية والنظم الحاكمة إلى المجال السياسي الحر، حتى يكون الشعب هو الحكم في النهاية، كما نتج هذا الوضع من إصرار النظم الحاكمة والدول الغربية الداعمة لها على عدم المرونة مع المشروع الإسلامي، وعدم محاولة التعايش معه أو دمجه في حياة سياسية ديمقراطية، أو التوصل إلى أي نوع من التفاهمات مع الحركة الإسلامية، في حين أن الحركة الإسلامية جربت كل البدائل الممكنة، بدءا من البدائل التي تقوم على الصدام المسلح مع أنظمة الحكم، إلى القبول بالمشاركة السياسية داخل إطار الأوضاع السياسية القائمة، إلى حصر العمل الإسلامي في المجال الاجتماعي.
فهل على الحركة الإسلامية ترك المجال السياسي؟ أم تقديم التنازلات حتى تقبل في المنظومة السياسية القائمة؟ هنا نحتاج للتأكيد على خلاصة مهمة من تجربة الحركات الإسلامية:
1. أكدت التجارب أن العمل المقاوم ضد الاحتلال الأجنبي للأراضي العربية والإسلامية، هو من أهم أولويات الحركة الإسلامية، ويجب أن يكون عنوانها الرئيسي.
2. تأكد من تجارب الماضي أن تحرير فلسطين هو القضية المحورية الأولى، والتي تمثل عصب تحرير الأمة.
3. إن الدور الأول للحركة الإسلامية هو إصلاح الأمة؛ لأن الوحدة لا تتحقق بدونها والنهضة كذلك، بل إن استعادة المرجعية الحضارية للأمة في المجال العام لا بد أن يتحقق أولا في وعي الأمة حتى تطالب باستعادة مرجعيتها.
4. إن كل الأفكار المتشددة، والتي أصدرت أحكامًا شديدة على المجتمعات باعدت بين الحركة الإسلامية وبين جمهورها المستهدف، أي جمهور الأمة، كما أن اتجاهات الإفراط مثلت حالة خاصة؛ لأنها تتشدد على الفرد والمجتمع، لذا تظهر وتستمر، ولكنها لا تتحول إلى حالة عامة.
5. لهذا نرى أن إصلاح حالة الأمة، يعد مقدمة لإصلاح النظم السياسية الحاكمة، والمقصود بذلك هو أن يكون لدى الأمة الوعي والرغبة والإرادة لتحقيق النهضة والوحدة، من ثم يصبح إصلاح الأنظمة السياسية القائمة أمرا حتميا، حتى تبدأ الأمة طريقها من أجل الوحدة والنهضة.
نخلص من هذا، أن مشروع النهضة الحضارية يبدأ بإصلاح القاعدة الأساسية له، وهي الأمة، ولكنه لا يستكمل طريقه إلا بإصلاح النظم السياسية الحاكمة، ومن ثم يمكن استكمال مشروع التحرر والنهضة للأمة، فلا يمكن تحقيق وحدة الأمة بدون دولة ترعى تلك الوحدة، ولا يمكن تحقيق نهضة الأمة بدون دولة تعمل على تحقيق شروط النهضة؛ لذا تمثل عملية الإصلاح السياسي المرحلة الوسطى بين مرحلة التأسيس، وهي المرحلة الاجتماعية، ومرحلة تحقيق الغاية وهي مرحلة النهضة؛ لهذا يصبح ولوج الحركة الإسلامية للمجال السياسي شرطا ضروريا لاستكمال مشروعها، كما يضاف لذلك أمر آخر مهم، وهو ما تقوم به النظم الحاكمة والدول الغربية الداعمة لها، من عملية هدم متواصل لكل ما تحاول الحركات الإسلامية تحقيقه في المجال الاجتماعي، مما يجعل إصلاح النظام السياسي أمرا ضروريا لحماية ما حققته الحركة الإسلامية، وحتى تستطيع استكمال مشروع النهضة.
خيارات العمل السياسي
تحتاج الحركة الإسلامية لتكوين تصور سياسي ورؤية تحدد كيفية إصلاح الأوضاع السياسية القائمة، وهنا يأتي عدد من القضايا المثارة، مثل قضية الديمقراطية والمواطنة وغيرها، والحقيقة أن النظر إلى هذه القضايا باعتبارها شروطا لدخول الحركة الإسلامية المجال السياسي، كان خطأ، كما أن اعتبار النموذج السياسي الغربي هو معيار العمل السياسي فيصبح على الحركة الإسلامية تكييف أوضاعها مع هذا المعيار يمثل أيضا خطأ كبيرا.
ولكن في المقابل، هناك مهام ضرورية على الحركة الإسلامية القيام بها، حتى تشكل نموذجها السياسي، ومن أهمها التعلم من النموذج السياسي الغربي، لاقتباس ما يصلح منه، ومن هنا تأتي أهمية الأخذ بالديمقراطية بوصفها الآلية المناسبة لتحقيق اختيار الأمة لحكامها ومحاسبتهم، والأخذ بالمواطنة باعتبارها قاعدة قانونية لعلاقة الفرد بالدولة، وفي هذا المستوى يتم اقتباس العديد من الأدوات والآليات التي حقق فيها الغرب تقدما من خلال تجربته التاريخية، حتى يمكن الاستفادة منها، ولكن تلك الآليات تؤخذ من أجل تحقيق قيمنا الحضارية، لا القيم الغربية، مما يجعل التمييز بين الأداة وبين القيمة المرتبطة بها في الغرب أمرا مهما، كما يجعل القدرة على تحقيق قيمنا من خلال تلك الآليات ليس نوعا من التقليد، بل نوعا من التعلم.
بجانب هذا، يجب أن يكون لدى الحركة الإسلامية القدرة الكافية، والمرونة اللازمة، للتعامل مع أوضاع لا توافق عليها، حتى تستطيع تغييرها، وهنا لا تقبل الحركة الإسلامية ما يتعارض مع رؤيتها، ولكن تتعامل مع الوضع القائم لتغييره، بدون الخروج عليه، وهنا يجب التفرقة بين آلية يمكن دمجها في المشروع الإسلامي مثل الديمقراطية، وبين آلية أو نموذج آخر لا يمكن دمجه في المشروع الإسلامي، مثل الرأسمالية الغربية، ولكن مع سيادة النموذج الرأسمالي الغربي، ستجد الحركة الإسلامية أن عليها التعامل مع هذا الوضع القائم من أجل إصلاحه.
وهنا نصل لفكرة مهمة، وهي فكرة الإصلاح من الداخل، أي إصلاح النظام السياسي القائم من داخله، وذلك بالدخول فيه والمشاركة فيه، ثم تغييره من الداخل، وفي هذه العملية تمارس الحركة الإسلامية قاعدة مهمة، وهي أهمية العمل من خلال الدستور والقوانين القائمة، ولكن مع حق كل حركة في المطالبة بتغيير القانون أو الدستور، وهذا المعنى يجسد فكرة الإصلاح؛ لأنه عملية تدريجية تحدث من داخل الأوضاع القائمة، وصولا إلى وضع جديد، وهو عملية بناء أكثر من كونه عملية هدم، فهو إحلال لوضع قائم ببناء جديد.
السؤال الأخير
قصدنا من هذا، أن على الحركة الإسلامية التي تنتهج المنهج الوسطي فكرا وممارسة، أن تقدم رؤيتها السياسية، وتتعلم من التجربة الغربية السياسية، وتأخذ ما ينفعها من آليات للعمل السياسي، مثل الديمقراطية والمؤسسية، ولكن عليها بعد ذلك أن تفرق بين ما تأخذه لتحقيق قيمها الحضارية، وما تقبل التعامل معه؛ لأنه وضع قائم تريد تغييره، وتلك التفرقة مهمة، وتخرج الحركة الإسلامية من سجال يؤدي إلى تشويش رؤيتها السياسية.
وبهذا يكون على الحركة الإسلامية الوسطية أن تعمل في المجال السياسي لإصلاحه، وعندما تنجز مستوى مرضيا من إصلاح الأمة، سيكون عليها القيام بالإصلاح السياسي الذي ستأتي لحظة يستحيل فيها تأجيل عملية الإصلاح السياسي، وعندها سوف يصبح مطلب الوصول للسلطة بالنسبة للحركة الإسلامية أو أي طرف فيها مطلبا أساسيا.
وقبل هذا، سيكون على الحركة الإسلامية العمل من أجل فك قيود الاستبداد، وتأسيس أوضاع ديمقراطية، من خلال مرحلة انتقالية؛ لأن شرعية الحركة الإسلامية في الحكم، لن تتحقق إلا في مناخ سياسي حر يسمح للشعب بأن يختارها بحرية، ويكلفها بإصلاح النظام السياسي وتحقيق رؤيتها الحضارية؛ لذا يصبح الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية شرطا مهما، حتى يصبح وصول الحركة الإسلامية للحكم نتاجا لما تحقق لمشروعها من قاعدة جماهيرية واسعة.
إذن، يصبح على الحركات الإسلامية أن تتقدم تدريجيا في المجال السياسي، وعلى كل حركة أن تختار لنفسها قدر ومدى التدرج، وهي تدخل المجال السياسي برؤيتها الخاصة، وتقبل التعامل مع الأمر الواقع، ولا تعمل على حدوث انقلاب جذري؛ لأن مشروعها هو بناء نهضة الأمة، وهو مشروع إصلاحي، وليس انقلابيا، وفي النهاية سوف يتصاعد الدور السياسي للحركات الإسلامية، وهو ما يحدث بالفعل، مما قد يترتب عليه اضطرار الأنظمة الحاكمة للتعامل مع الحركة الإسلامية، أو قد ينتج عنه استمرار الأنظمة الحاكمة في فرض قبضة الاستبداد بدعم خارجي، وهنا سيكون على الحركات الإسلامية الاستمرار في دورها السياسي لتحريك الجماهير المؤيدة لها، وبقدر ما تحققه الحركة الإسلامية في عملية الإصلاح الاجتماعي، بقدر ما سينتج عن ذلك من رأي عام قادر على الضغط لتحقيق مطالبه.
باحث مصري
.الإسلاميون
د. رفيق حبيب
على الإسلاميين التقدم تدريجيا في السياسة
على الإسلاميين التقدم تدريجيا في السياسة
كان تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد الإمام حسن البنا عام 1928، هو بداية حقبة جديدة، تميزت بظهور حركات وتيارات إسلامية متعددة، هدفت في مجملها لاستعادة المرجعية الإسلامية في المجال العام، بعد سقوط هذه المرجعية أو انحصارها بفعل النظم السياسية ذات الأساس العلماني، التي سادت في البلاد العربية والإسلامية.
وأصبحت هذه الحركات، تمثل واحدة من أهم الفاعلين في الساحة الاجتماعية والسياسية، ولكن ظل دور الحركة الإسلامية في المجال السياسي، مثارا للعديد من الجدل، والكثير من المواجهات مع أنظمة الحكم؛ مما جعل موقف الحركة الإسلامية من العمل السياسي مصدرا لاختلاف الرأي وتعدد المواقف، وربما يكون الموقف من العمل السياسي، أي قضية إصلاح النظم السياسية أو تغييرها، هو العامل الأول الذي شكل التباينات والاختلافات بين الحركات الإسلامية، وداخل الحركة الإسلامية الواحدة، حتى أصبحت معضلة العمل السياسي هي القضية التي تستحوذ على جانب مهم من المساجلات بين الإسلاميين.
وللوصول إلى مقاربة تفسر الوضع الراهن لقضية العلاقة بين الإسلاميين والعمل السياسي، وتسمح بالوصول إلى تصورات لمستقبل الدور السياسي للإسلاميين، نحتاج لتحديد العناصر الأساسية للقضية، وهي في الواقع ليست قضية موقف الإسلاميين فقط، بل هي قبل هذا قضية تتعلق بالأوضاع السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
الواقع السياسي
الوضع السياسي في البلاد العربية والإسلامية منذ القرن العشرين تميز بمرحلة للنضال الوطني للدول الواقعة تحت الاستعمار العسكري الغربي، تلتها مرحلة الاستقلال وخروج الجيوش المحتلة، ثم قيام أنظمة حكم أقامتها القيادات التي تزعمت عملية التحرر الوطني.
وأولى المشكلات التي تواجهنا، تمثلت في كيفية تحقيق التحرر الوطني؛ لأن حركات التحرر ركزت على إجلاء الجيوش المحتلة، ولم تحمل معها رؤية خاصة لكيفية بناء نظام سياسي جديد، كما لم تشغل نفسها بقضية النهضة الحضارية، وبالتالي لم تكن منشغلة بقضية الخصوصية الحضارية والثقافية للبلاد العربية والإسلامية.
وهكذا نستطيع القول إن المحتل ترك الأرض، ولكنه ترك نموذجه في الحكم، أي دولة الاستعمار، وقام الثوار بالسيطرة على هذه الدولة وإدارتها، ولكنهم لم يقوموا بعملية بناء دولة جديدة، فمعظم قيادات التحرر الوطني كانت منشغلة بفكرة بناء دولة قوية على النموذج الغربي، مما جعلها ترث دولة الاستعمار، وتحاول أن تحاكي نموذجها في الحكم، ونعتقد أن الكثير من الاستبداد بل الفساد المستشري في العديد من نظم الحكم العربية والإسلامية، نابع أساسا من استمرار الدولة الاستعمارية، التي تركها المحتل.
لذلك فالسؤال الذي شغل الإمام حسن البنا، وجعله يؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والمتعلق بكيفية استعادة المرجعية الحضارية للأمة، والتي هدمها الاستعمار، لم يكن يشغل قيادات التحرر الوطني، وفيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو الذي انتمى لجماعة الإخوان المسلمين وكان عضوا في جناحها العسكري، وقام بانقلاب الجيش بمساندة جماعة الإخوان المسلمين، ومع كل هذا لم تكن القضايا التي تشغل الجماعة، ضمن اهتماماته أو أولوياته في الحكم، ولا حتى ضمن جدول أعماله.
لذا ظلت قضية استعادة المرجعية الحضارية الإسلامية، هي الدافع وراء عمل الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها، ولكن هذه الحركات واجهت في البداية استعمارا أجنبيا، ثم واجهت في النهاية أنظمة حكم محلية لا تعمل وفق المرجعية العليا للأمة، بل تتبنى المرجعية السياسية الغربية، وترتكز على موقف علماني، كما أن معظم أنظمة الحكم العربية والإسلامية، تحالفت مع الدول الغربية، سواء الاتحاد السوفيتي أو أمريكا، ثم تجمعت في النهاية في تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا لم يتحقق الاستقلال الحضاري، بل ظل العنوان الأبرز لمرحلة الاستعمار العسكري ومرحلة ما بعد التحرر هو التبعية الحضارية للغرب، والتي أدت في النهاية إلى السقوط في التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضا.
والمثال الأبرز لتلك الحالة يتجسد في أرض فلسطين المحتلة، فالنظام السياسي الحاكم في البلاد العربية والإسلامية، لم يستطع تحرير فلسطين، بل قبل بالتنازل عن أراضي فلسطين المحتلة عام 1948، ويتفاوض على الأراضي المحتلة عام 1967، ويمثل الاحتلال الصهيوني لفلسطين العنوان الأبرز لفشل عملية التحرر الوطني، مما أدى إلى وقوع المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية والسيطرة الإسرائيلية.
هذا الواقع في مجمله، يقول بأننا نعيش تحت نوع من الاستعمار الجديد، وإن قضية الاستقلال لم تتحقق، لا في المجال السياسي ولا في المجال الاقتصادي أو العسكري، وبالتالي فإن قضية الاستقلال الحضاري ظلت غائبة تماما، وأصبحنا أمام أنظمة حاكمة تسيطر على مقاليد الأمور، وتلجأ للاستبداد السياسي بدرجات مختلفة، ولكنها في النهاية تمثل نخبا حاكمة تسيطر على الحكم، وتلقى دعما خارجيا، وترفض فكرة التداول السلمي للسلطة.
مشروع الحركة الإسلامية
إن أفضل تعريف للحركة الإسلامية، وحركة الإحياء الإسلامي عمومًا، أنها حركة اجتماعية، تمثل تيارا داخل المجتمع، يعمل أساسا على إصلاح المجتمع، بغرض إصلاح أحوال الأمة.
وجل الحركات الإسلامية تعمل من أجل توحيد الأمة وتحقيق نهضتها الحضارية، وهي تقوم بذلك من خلال التزامها بالمرجعية الحضارية الإسلامية، وتعمل كلها من أجل استعادة هذه المرجعية بوصفها المرجعية العليا للمجال العام والنظام السياسي.
وفي مواجهة هذه الحركات تقف الأنظمة الحاكمة والدول الغربية الداعمة لها، ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ لأن مشروع تأسيس النظام السياسي الإسلامي، وتحقيق وحدة ونهضة الأمة الإسلامية يمثل خطرا على كل هذه الأطراف؛ لأنه يعني إنهاء حكم النخب الحاكمة الحالية، ويعني توحيد الأمة من أجل تحرير فلسطين، وإخراج الأمة كلها من أي شكل من أشكال الهيمنة الغربية.
ومنذ بداية ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين وهذه المواجهة قائمة ومرصودة لدى كل الأطراف، ومع مرحلة الإحياء الديني الواسع التي شهدتها المنطقة في سبعينيات القرن العشرين، ومع سقوط مشاريع التحرر الوطني في هزيمة 1967، أصبحت الحالة الإسلامية برمتها ومختلف تنويعاتها تمثل بديلا جديدا، في مواجهة النخب الحاكمة المتحالفة مع الغرب، وفي مواجهة مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة، والذي تبلور في صورة مشروع الهيمنة الأمريكي الصهيوني.
لذلك فإذا عرّفنا النظم السياسية القائمة بأنها نظم سياسية مستبدة تنفرد بالحكم وتستند إلى مرجعية النظام السياسي الغربي وتقلده، وتستند إلى الموقف العلماني الداعي لفصل الدين عن مرجعية المجال العام، كما تستند إلى الدعم الغربي، وتتحالف مع القوى العظمى المهيمنة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وتتوافق مع المشروع الصهيوني، وتتخلى تماما عن قضية تحرير فلسطين، إذا كان هذا هو تعريف النخب الحاكمة، فإن تعريف كل الحركات الإسلامية، الوسطية والمتطرفة، هو على النقيض من ذلك؛ لهذا يصبح عمل الحركات الإسلامية في المجال السياسي، بل أيضا عملها في المجال الاجتماعي يمثل مشكلة نابعة من وجود تعارض بين مشروع تلك الحركات، وبين النظم السياسية القائمة.
خيارات الحركة الإسلامية
هذا الموقف أدى إلى ظهور التباين الشديد بين الحركات الإسلامية، فهناك حركات رفضت الواقع برمته، وحاولت تغييره جملة واحدة، فلجأت في النهاية للسلاح لإسقاط النظم الحاكم والسيطرة على الحكم، وهناك من حاول الانعزال عن المجتمع، وبناء مجتمع مثالي، حتى إذا قويت شوكت هذا المجتمع البديل، استطاع أن يفرض نموذجه على المجتمعات القائمة، وهناك من رأى أن العمل السياسي يمثل مشاركة في أوضاع ظالمة وتجميلا لاستبداد قائم، ومن رأى أنه مشاركة في أنظمة كافرة، وهناك من رأى أن المشاركة في العمل السياسي هي وسيلة لتغيير وإصلاح النظم السياسية القائمة.
وهناك من أراد حل مشكلة المواجهة بين النظم السياسية والحركات الإسلامية بترك العمل في المجال السياسي، ومنهم من نادى بطاعة ولي الأمر، ومنهم من قال بأن الحركة الإسلامية لم تصل بعد لمرحلة التمكين؛ لذا عليها ترك العمل السياسي، وتأجيل مسألة تغيير النظم السياسية القائمة للمستقبل، ومنهم من حاول التكيف مع الأوضاع السياسية القائمة، على أساس التوصل إلى صورة تقبلها النظم السياسية القائمة، أو الدول الغربية الداعمة لها، بما ينهي مسألة التعارض الحادث بين الوضع القائم والتصورات السياسية للحركة الإسلامية.
وكل هذه البدائل والمواقف، نتجت في الواقع من التعارض بين الأوضاع السياسية القائمة، وبين المشروع السياسي للحركة الإسلامية، ومن عدم وجود مناخ من الحرية يسمح بنقل الخلاف بين الحركة الإسلامية والنظم الحاكمة إلى المجال السياسي الحر، حتى يكون الشعب هو الحكم في النهاية، كما نتج هذا الوضع من إصرار النظم الحاكمة والدول الغربية الداعمة لها على عدم المرونة مع المشروع الإسلامي، وعدم محاولة التعايش معه أو دمجه في حياة سياسية ديمقراطية، أو التوصل إلى أي نوع من التفاهمات مع الحركة الإسلامية، في حين أن الحركة الإسلامية جربت كل البدائل الممكنة، بدءا من البدائل التي تقوم على الصدام المسلح مع أنظمة الحكم، إلى القبول بالمشاركة السياسية داخل إطار الأوضاع السياسية القائمة، إلى حصر العمل الإسلامي في المجال الاجتماعي.
فهل على الحركة الإسلامية ترك المجال السياسي؟ أم تقديم التنازلات حتى تقبل في المنظومة السياسية القائمة؟ هنا نحتاج للتأكيد على خلاصة مهمة من تجربة الحركات الإسلامية:
1. أكدت التجارب أن العمل المقاوم ضد الاحتلال الأجنبي للأراضي العربية والإسلامية، هو من أهم أولويات الحركة الإسلامية، ويجب أن يكون عنوانها الرئيسي.
2. تأكد من تجارب الماضي أن تحرير فلسطين هو القضية المحورية الأولى، والتي تمثل عصب تحرير الأمة.
3. إن الدور الأول للحركة الإسلامية هو إصلاح الأمة؛ لأن الوحدة لا تتحقق بدونها والنهضة كذلك، بل إن استعادة المرجعية الحضارية للأمة في المجال العام لا بد أن يتحقق أولا في وعي الأمة حتى تطالب باستعادة مرجعيتها.
4. إن كل الأفكار المتشددة، والتي أصدرت أحكامًا شديدة على المجتمعات باعدت بين الحركة الإسلامية وبين جمهورها المستهدف، أي جمهور الأمة، كما أن اتجاهات الإفراط مثلت حالة خاصة؛ لأنها تتشدد على الفرد والمجتمع، لذا تظهر وتستمر، ولكنها لا تتحول إلى حالة عامة.
5. لهذا نرى أن إصلاح حالة الأمة، يعد مقدمة لإصلاح النظم السياسية الحاكمة، والمقصود بذلك هو أن يكون لدى الأمة الوعي والرغبة والإرادة لتحقيق النهضة والوحدة، من ثم يصبح إصلاح الأنظمة السياسية القائمة أمرا حتميا، حتى تبدأ الأمة طريقها من أجل الوحدة والنهضة.
نخلص من هذا، أن مشروع النهضة الحضارية يبدأ بإصلاح القاعدة الأساسية له، وهي الأمة، ولكنه لا يستكمل طريقه إلا بإصلاح النظم السياسية الحاكمة، ومن ثم يمكن استكمال مشروع التحرر والنهضة للأمة، فلا يمكن تحقيق وحدة الأمة بدون دولة ترعى تلك الوحدة، ولا يمكن تحقيق نهضة الأمة بدون دولة تعمل على تحقيق شروط النهضة؛ لذا تمثل عملية الإصلاح السياسي المرحلة الوسطى بين مرحلة التأسيس، وهي المرحلة الاجتماعية، ومرحلة تحقيق الغاية وهي مرحلة النهضة؛ لهذا يصبح ولوج الحركة الإسلامية للمجال السياسي شرطا ضروريا لاستكمال مشروعها، كما يضاف لذلك أمر آخر مهم، وهو ما تقوم به النظم الحاكمة والدول الغربية الداعمة لها، من عملية هدم متواصل لكل ما تحاول الحركات الإسلامية تحقيقه في المجال الاجتماعي، مما يجعل إصلاح النظام السياسي أمرا ضروريا لحماية ما حققته الحركة الإسلامية، وحتى تستطيع استكمال مشروع النهضة.
خيارات العمل السياسي
تحتاج الحركة الإسلامية لتكوين تصور سياسي ورؤية تحدد كيفية إصلاح الأوضاع السياسية القائمة، وهنا يأتي عدد من القضايا المثارة، مثل قضية الديمقراطية والمواطنة وغيرها، والحقيقة أن النظر إلى هذه القضايا باعتبارها شروطا لدخول الحركة الإسلامية المجال السياسي، كان خطأ، كما أن اعتبار النموذج السياسي الغربي هو معيار العمل السياسي فيصبح على الحركة الإسلامية تكييف أوضاعها مع هذا المعيار يمثل أيضا خطأ كبيرا.
ولكن في المقابل، هناك مهام ضرورية على الحركة الإسلامية القيام بها، حتى تشكل نموذجها السياسي، ومن أهمها التعلم من النموذج السياسي الغربي، لاقتباس ما يصلح منه، ومن هنا تأتي أهمية الأخذ بالديمقراطية بوصفها الآلية المناسبة لتحقيق اختيار الأمة لحكامها ومحاسبتهم، والأخذ بالمواطنة باعتبارها قاعدة قانونية لعلاقة الفرد بالدولة، وفي هذا المستوى يتم اقتباس العديد من الأدوات والآليات التي حقق فيها الغرب تقدما من خلال تجربته التاريخية، حتى يمكن الاستفادة منها، ولكن تلك الآليات تؤخذ من أجل تحقيق قيمنا الحضارية، لا القيم الغربية، مما يجعل التمييز بين الأداة وبين القيمة المرتبطة بها في الغرب أمرا مهما، كما يجعل القدرة على تحقيق قيمنا من خلال تلك الآليات ليس نوعا من التقليد، بل نوعا من التعلم.
بجانب هذا، يجب أن يكون لدى الحركة الإسلامية القدرة الكافية، والمرونة اللازمة، للتعامل مع أوضاع لا توافق عليها، حتى تستطيع تغييرها، وهنا لا تقبل الحركة الإسلامية ما يتعارض مع رؤيتها، ولكن تتعامل مع الوضع القائم لتغييره، بدون الخروج عليه، وهنا يجب التفرقة بين آلية يمكن دمجها في المشروع الإسلامي مثل الديمقراطية، وبين آلية أو نموذج آخر لا يمكن دمجه في المشروع الإسلامي، مثل الرأسمالية الغربية، ولكن مع سيادة النموذج الرأسمالي الغربي، ستجد الحركة الإسلامية أن عليها التعامل مع هذا الوضع القائم من أجل إصلاحه.
وهنا نصل لفكرة مهمة، وهي فكرة الإصلاح من الداخل، أي إصلاح النظام السياسي القائم من داخله، وذلك بالدخول فيه والمشاركة فيه، ثم تغييره من الداخل، وفي هذه العملية تمارس الحركة الإسلامية قاعدة مهمة، وهي أهمية العمل من خلال الدستور والقوانين القائمة، ولكن مع حق كل حركة في المطالبة بتغيير القانون أو الدستور، وهذا المعنى يجسد فكرة الإصلاح؛ لأنه عملية تدريجية تحدث من داخل الأوضاع القائمة، وصولا إلى وضع جديد، وهو عملية بناء أكثر من كونه عملية هدم، فهو إحلال لوضع قائم ببناء جديد.
السؤال الأخير
قصدنا من هذا، أن على الحركة الإسلامية التي تنتهج المنهج الوسطي فكرا وممارسة، أن تقدم رؤيتها السياسية، وتتعلم من التجربة الغربية السياسية، وتأخذ ما ينفعها من آليات للعمل السياسي، مثل الديمقراطية والمؤسسية، ولكن عليها بعد ذلك أن تفرق بين ما تأخذه لتحقيق قيمها الحضارية، وما تقبل التعامل معه؛ لأنه وضع قائم تريد تغييره، وتلك التفرقة مهمة، وتخرج الحركة الإسلامية من سجال يؤدي إلى تشويش رؤيتها السياسية.
وبهذا يكون على الحركة الإسلامية الوسطية أن تعمل في المجال السياسي لإصلاحه، وعندما تنجز مستوى مرضيا من إصلاح الأمة، سيكون عليها القيام بالإصلاح السياسي الذي ستأتي لحظة يستحيل فيها تأجيل عملية الإصلاح السياسي، وعندها سوف يصبح مطلب الوصول للسلطة بالنسبة للحركة الإسلامية أو أي طرف فيها مطلبا أساسيا.
وقبل هذا، سيكون على الحركة الإسلامية العمل من أجل فك قيود الاستبداد، وتأسيس أوضاع ديمقراطية، من خلال مرحلة انتقالية؛ لأن شرعية الحركة الإسلامية في الحكم، لن تتحقق إلا في مناخ سياسي حر يسمح للشعب بأن يختارها بحرية، ويكلفها بإصلاح النظام السياسي وتحقيق رؤيتها الحضارية؛ لذا يصبح الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية شرطا مهما، حتى يصبح وصول الحركة الإسلامية للحكم نتاجا لما تحقق لمشروعها من قاعدة جماهيرية واسعة.
إذن، يصبح على الحركات الإسلامية أن تتقدم تدريجيا في المجال السياسي، وعلى كل حركة أن تختار لنفسها قدر ومدى التدرج، وهي تدخل المجال السياسي برؤيتها الخاصة، وتقبل التعامل مع الأمر الواقع، ولا تعمل على حدوث انقلاب جذري؛ لأن مشروعها هو بناء نهضة الأمة، وهو مشروع إصلاحي، وليس انقلابيا، وفي النهاية سوف يتصاعد الدور السياسي للحركات الإسلامية، وهو ما يحدث بالفعل، مما قد يترتب عليه اضطرار الأنظمة الحاكمة للتعامل مع الحركة الإسلامية، أو قد ينتج عنه استمرار الأنظمة الحاكمة في فرض قبضة الاستبداد بدعم خارجي، وهنا سيكون على الحركات الإسلامية الاستمرار في دورها السياسي لتحريك الجماهير المؤيدة لها، وبقدر ما تحققه الحركة الإسلامية في عملية الإصلاح الاجتماعي، بقدر ما سينتج عن ذلك من رأي عام قادر على الضغط لتحقيق مطالبه.
باحث مصري
.الإسلاميون