مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الإنسان بين الثبات والتغير
الإنسان بين الثبات والتغير
د.يوسف القرضاوي
للرد على مقولة محامي العلمانية (د. فؤاد زكريا): ’’أن الإنسان متغير، والشريعة ثابتة’’ وهو ما قلت: إنه أخطأ الصواب فيه في القضيتين معا.
أما الإنسان فليس صحيحا أن جوهره التغير، ويؤسفني أن يصدر هذا من أستاذ فلسفة! إن من يقول ذلك ينظر إلى الإنسان نظرة العوام، الذين يكتفون من الأمور بما يطفو على السطح، ولا تنفذ بصائرهم إلى الأعماق، وتتركز أعينهم على الأعراض، ولا يخلصون إلى الجوهر.
قد ينظر هؤلاء إلى إنسان اليوم، وقد قرب البعيد، وانطق الحديد، وحطم الذرة، ووصل إلى القمر، وزرع القلوب التي في الصدور، والأعين التي في الرؤوس، وأحدث ثورة في البيولوجيا، وصنع العقل الإلكتروني ’’الكمبيوتر’’ ويوازنون بينه وبين الإنسان، الذي لم يكن يملك غير رجليه يمشي عليهما، أو دابة يركبها، أو مركبا شراعيا يستوي عليه، تتقاذفه الرياح والأمواج، ولم يكن يستطيع علاج نفسه، إلا بالأعشاب والكي بالنار.
أجل، قد ينظر هؤلاء إلى إنسان الأمس وإنسان اليوم، ويقولون: ما أعظم ما تغير الإنسان!
ولكن بالرغم من هذا التغير الهائل، الذي حدث في دنيا الإنسان، هل تغيرت ماهيته؟ هل تبدلت حقيقته؟ هل استحال جوهر إنسان العصر الذري عن جوهر إنسان العصر الحجري؟ هل يختلف إنسان أواخر القرن العشرين الميلادي عن إنسان ما قبل التاريخ؟
أسأل عن جوهر الإنسان، لا عما يأكله الإنسان، أو عما يلبسه الإنسان، أو عما يسكنه الإنسان، أو عما يركبه الإنسان، أو عما يستخدمه الإنسان، أو عما يعرفه الإنسان من الكون من حوله، أو عما يقدر عليه من تسخير طاقاته لمنفعته.
لقد تغير ـ بالفعل ـ أكبر التغير مأكل الإنسان، وملبسه، ومسكنه، ومركبه، وآلاته، وسلاحه، كما تغيرت معرفته للطبيعة، وإمكاناته لتسخيرها، ولكن الواقع أن الإنسان في جوهره وحقيقته بقي هو الإنسان، منذ عهد أبي البشر آدم إلى اليوم، لم تتبدل فطرته، ولم تتغير دوافعه الأصلية، ولم تبطل حاجاته الأساسية، التي كانت مكفولة له في الجنة، وأصبح عليه بعد هبوطه منها أن يسعى لإشباعها، وهي التي أشار إليها القرآن في قصة آدم: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (سورة طه:119).
إن إنسان القرن العشرين أو الحادي والعشرين، أو ما بعد ذلك، لا يستغنى عن هداية الله المتمثلة في وصاياه وأحكامه، التي تضبط سيره، وتحفظ عليه خصائصه، وتحميه من نفسه وأهوائها.
سيظل الإنسان في حاجة إلى العقيدة، التي تعرفه بسر وجوده، وإلى العبادات، التي تغذي روحه، وتصله بربه، وإلى الأخلاق والفضائل التي تزكي نفسه، وتقوم سلوكه، وإلى الشرائع العملية التي تقيم الموازين القسط بينه وبين غيره.
سيظل الإنسان ـ وإن صعد إلى القمر، أو ارتقى إلى المريخ ـ في حاجة إلى قواعد ربانية تضبط مسيرته، وتحكم علاقته، تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وتحل له الطيبات، وتحرم عليه الخبائث، تلزمه بعمل ما ينفعه، وتجنب ما يضره، تأمره بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر والبغي.
سيظل الإنسان في حاجة إلى تحريم الربا، وتحريم الخمر والميسر، وتحريم الزنى والشذوذ، وتحريم السرقة والرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الظلم بكل صوره وأنواعه.
سيظل الإنسان في حاجة إلى توثيق صلته بربه بإقام الصلاة، وصلته بالناس من حوله، وإيتاء الزكاة، وصلته بالكون بالبحث، والعمارة للأرض.
سيظل الإنسان في حاجة إلى رادع يردعه، إن هو تعدى حدود الله، أو عدا على حقوق الناس، في أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم، وصعود الإنسان إلى الكواكب، وغزوه للفضاء، لا يعفيه من العقوبة، بل ربما يؤكدها، لأن النعم التي تغمره من قرنه إلى قدمه، والإمكانات المسخرة له بأمره ربه، لا تجعل له عذرا، بل توجب عليه مزيدا من الشكر لربه، والإحسان إلى خلقه.
إذا ثبت هذا، فلا معنى لقول الكاتب: ’’إن العقل، الذي توصل إلى أن الإنسان كائن، جوهره التغير، ليس من صنع الشيطان، وعلى القائلين بصلاحية النصوص لكل زمان ومكان، أن يعترفوا بأن العقل الذي خلقه الله للبشر، والعلم الذي حضهم عليه، ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة التغير الأساسية، التي لا تفلت منها أية ظاهرة بشرية’’. زين الكاتب غلاف كتابه بهذه العبارة مزهوا بها، وكأنه اكتشف حقيقة كانت غائبة.
والحق أن الكاتب ـ على عادته ـ دائما ـ لا يستدل بشيء يتوهمه حجة دامغة، إلا انقلب في النهاية عليه، لأن حجته كلها ـ إذا تساهلنا في تسميتها حججا ـ أو هي من بيت العنكبوت (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون) (سورة العنكبوت:41).
ونحن هنا نقلب على الكاتب حجته لتصدق وتوافق الواقع، فنقول:
إن العقل الذي توصل إلى أن الإنسان كائن جوهره الثبات، ليس من صنع الشيطان، فالذي يتغير في الإنسان هو العرض لا الجوهر، هو الصورة لا الحقيقة، وعلى هذا الأساس تتعامل معه نصوص الشريعة الخالدة، تشرع له وتفصل في الثابت، الذي لا يتغير من حياته، وتسكت أو تجمل فيما شأنه التغير، وعلى المشككين في صلاحية نصوص شريعة الله لكل زمان ومكان، أن يعترفوا بأن العقل الذي خلقه الله للبشر، والعلم الذي حضهم عليه، ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة الثبات في جوهر الإنسان، إلى جوار ظاهرة التغير، التي تتصل بالجانب العرضي من حياته.
ـموقع يابيع تربويه
أضافة تعليق