د. عبدالاله بلقزيز
ربما كان “حزب حركة النهضة” في تونس أكثر تشبعاً بالواقعية السياسية، وأبعد فهماً واستيعاباً للسياسة أو لضروراتها وموجباتها، من “جماعة الإخوان المسلمين” وحزبها (حزب الحرية والعدالة) في مصر . ذلك، على الأقل، ما يَحْمل
على الظن به إعلان رئيس الحزب، راشد الغنوشي، عن قبول مشروع الرباعية بحل حكومة عليّ العريّض التي تسيطر عليها “النهضة”، وتشكيل حكومة كفاءات، والذهاب في حوار وطني شامل لوضع “خريطة طريق” للمستقبل . وهذا ما لم تَهْتَد إلى اختياره جماعة “الإخوان”، في عهد محمد مرسي، حين دعتْها الظروف السياسية إلى ذلك في شتاء وربيع العام ،2013 أي حين اشتدت الضغوط السياسية والشعبية عليها، وضاقت عليها فُرص المناورة والتسويف وتضاءلت أمامها إمكانات استيعاب تلك الضغوط من دون تقديم تنازلات اضطرارية .
لجأت “النهضة” إلى ما لم يكن ثمَّة مهربٌ من اللجوء إليه حتى تتفادى المصير عينه الذي آلت إليه سلطة “الإخوان المسلمين” في مصر، بعد الثورة الشعبية العارمة في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 . ليس مهمّاً إن كانت “حركة النهضة” مضطرة، في ما فعلت، لا مختارة، فالسياسة ليست شيئاً آخر غير قراءة الواقع وموازين القوى على نحو صائب، وإكراه النفس والمصالح الذاتية على التأقلم مع ذلك الواقع ومقتضيات تلك الموازين، قصد حفظ ما يمكن حفظه من قوى مادية وموارد معنوية، لجولات من التنافس مقبلة، ففقدان سلطة ليست نهاية العالم بالنسبة إلى حزب سياسي يثق بنفسه وجمهوره، ويحترم إرادة شعبه حين يثور عليه أو يعترض . وهو لا يكون كذلك، أي نهايةً للعالم، إلا حين يكون الحزب هذا كَلِفاً بالسلطة تلك، شغوفاً بها، إلى حدّ استصغاره اعتراضات الشعب، واستسهاله الرد عليها بالتجاهل، والإنكار، والعجرفة، والتحدي: مثلما فَعَل نظام محمد مرسي في مصر، غير آبهٍ بعواقب ذلك عليه وعلى الجماعة والحزب .
ومن نوافل القول إن الفوارق بين المسلكين ليست تُفَسَّر، دائماً، بوضعيات الضغط هنا وهناك، وبحجم الاعتراض السياسي والشعبي الذي تلقاه هذه السلطة أو تلك من معارضتها وشارعها، وإلا فإن حجمه في مصر كان أعلى- وأشد وطأة - بما لا يقاس مما هو في تونس، وإنما يفسّرها (أي الفوارق) - في المقام الأول - مستوى الوعي والتقدير والحنكة السياسية لدى القيادة في الحزب الحاكم، في هذا البلد أو ذاك، ومدى حُسن قراءتها الواقع أو إساءتها قراءته . وفي هذا تتفوق “النهضة” على “إخوان” مصر، وعلى سائر جماعات الإسلام الحزبي في البلاد العربية، بوجود قيادة ذات اقتدار سياسي على رأسها (راشد الغنوشي، عبدالفتاح مورو، حمادي الجبالي . .) . ومع أن “النهضة” خرجت من رحم “الإخوان المسلمين”، وما زالت تدين للجماعة بالولاء (رغم تأثر زعيمها - الغنوشي - بأفكار حسن الترابي: المتمرد على الجماعة)، إلا أنها نأت بنفسها عن سلوك التعنت السياسي، واحتقار المعارضة، وتجاهل مطالب الشعب، واختارت سياسة واقعية وبراغماتية فرضتها عليها الأوضاع والتطورات، ولم تضع عقيدتها السياسية فوق الواقع، بل كيَّفتها مع ضروراته الموضوعية القهرية .
لا معنى بعد هذا الموقف، إذاً، للتساؤل عما إذا كان وراء تباطؤ “النهضة” في التجاوب مع مطالب المعارضة والشارع، ومع مبادرات “الاتحاد العام التونسي للشغل” وباقي شركائه، رغبة منها في كسب المزيد من الوقت، أو استدراج خصومها إلى تقديم تنازلات سياسية قبل الحوار، أو الحصول على ضمانات (من الوسيطين الفرنسي والجزائري خاصة) بعدم تعرض مسؤوليها الحكوميين لمساءلات قانونية بعد حل الحكومة، أو ما شابه ذلك مما تناولته الأقلام والألسن، في الفترة الأخيرة، تفسيراً للتردد في حسم موقفها الذي تأخر حسمه منذ شهر يوليو/تموز الماضي . المهم أن قيادتها أدركت، في النهاية، أن موقف رئيس الحكومة السابق، والأمين العام ل”النهضة”، حمادي الجبالي بوجوب تأليف حكومة كفاءات، والذهاب إلى حوار وطني، كان الموقف السليم الذي ينبغي أن تذهب إليه البلاد بعد الأزمة السياسية التي فجَّرها اغتيال الشهيد شكري بلعيد، فهي وإن كانت أخطأت في إضاعة كل هذا الوقت الثمين، أصابت مرتين: مرة حين التقط أمينها العام الجواب المناسب عن المأزق، وهو على رأس الحكومة معتزماً الاستقالة، وأخرى حين حسمت أمرها بالموافقة على حل الحكومة، والذهاب إلى حوار وطني عميق حول مستقبل البلاد والنظام السياسي بعد المرحلة الانتقالية .
سيقول قائل إن “حركة النهضة” أضاعت على نفسها - بهذا التسويف والتأخير - فرصة تحصين شرعيتها وحفظ هيبتها لدى جمهورها الشعبي، في المجتمع التونسي، وأضاعت على هذا المجتمع فرصاً للخروج المبكّر من الأزمة السياسية التي عصفت به منذ منتصف العام 2012 . .، وهذا صحيح من غير أدنى شك، غير أن استدراك الخطأ بصواب متأخر خير، ألف مرة، من الإمعان في الخطأ، وركوب الرأس بسياسة الاستعلاء والمكابرة، إذ مصير ذلك إلى الاصطدام بحائط الواقع، وتلك، في السياسة، هي المصيبة التي لا برء من الإصابة بها .
*التجديد
ربما كان “حزب حركة النهضة” في تونس أكثر تشبعاً بالواقعية السياسية، وأبعد فهماً واستيعاباً للسياسة أو لضروراتها وموجباتها، من “جماعة الإخوان المسلمين” وحزبها (حزب الحرية والعدالة) في مصر . ذلك، على الأقل، ما يَحْمل
على الظن به إعلان رئيس الحزب، راشد الغنوشي، عن قبول مشروع الرباعية بحل حكومة عليّ العريّض التي تسيطر عليها “النهضة”، وتشكيل حكومة كفاءات، والذهاب في حوار وطني شامل لوضع “خريطة طريق” للمستقبل . وهذا ما لم تَهْتَد إلى اختياره جماعة “الإخوان”، في عهد محمد مرسي، حين دعتْها الظروف السياسية إلى ذلك في شتاء وربيع العام ،2013 أي حين اشتدت الضغوط السياسية والشعبية عليها، وضاقت عليها فُرص المناورة والتسويف وتضاءلت أمامها إمكانات استيعاب تلك الضغوط من دون تقديم تنازلات اضطرارية .
لجأت “النهضة” إلى ما لم يكن ثمَّة مهربٌ من اللجوء إليه حتى تتفادى المصير عينه الذي آلت إليه سلطة “الإخوان المسلمين” في مصر، بعد الثورة الشعبية العارمة في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 . ليس مهمّاً إن كانت “حركة النهضة” مضطرة، في ما فعلت، لا مختارة، فالسياسة ليست شيئاً آخر غير قراءة الواقع وموازين القوى على نحو صائب، وإكراه النفس والمصالح الذاتية على التأقلم مع ذلك الواقع ومقتضيات تلك الموازين، قصد حفظ ما يمكن حفظه من قوى مادية وموارد معنوية، لجولات من التنافس مقبلة، ففقدان سلطة ليست نهاية العالم بالنسبة إلى حزب سياسي يثق بنفسه وجمهوره، ويحترم إرادة شعبه حين يثور عليه أو يعترض . وهو لا يكون كذلك، أي نهايةً للعالم، إلا حين يكون الحزب هذا كَلِفاً بالسلطة تلك، شغوفاً بها، إلى حدّ استصغاره اعتراضات الشعب، واستسهاله الرد عليها بالتجاهل، والإنكار، والعجرفة، والتحدي: مثلما فَعَل نظام محمد مرسي في مصر، غير آبهٍ بعواقب ذلك عليه وعلى الجماعة والحزب .
ومن نوافل القول إن الفوارق بين المسلكين ليست تُفَسَّر، دائماً، بوضعيات الضغط هنا وهناك، وبحجم الاعتراض السياسي والشعبي الذي تلقاه هذه السلطة أو تلك من معارضتها وشارعها، وإلا فإن حجمه في مصر كان أعلى- وأشد وطأة - بما لا يقاس مما هو في تونس، وإنما يفسّرها (أي الفوارق) - في المقام الأول - مستوى الوعي والتقدير والحنكة السياسية لدى القيادة في الحزب الحاكم، في هذا البلد أو ذاك، ومدى حُسن قراءتها الواقع أو إساءتها قراءته . وفي هذا تتفوق “النهضة” على “إخوان” مصر، وعلى سائر جماعات الإسلام الحزبي في البلاد العربية، بوجود قيادة ذات اقتدار سياسي على رأسها (راشد الغنوشي، عبدالفتاح مورو، حمادي الجبالي . .) . ومع أن “النهضة” خرجت من رحم “الإخوان المسلمين”، وما زالت تدين للجماعة بالولاء (رغم تأثر زعيمها - الغنوشي - بأفكار حسن الترابي: المتمرد على الجماعة)، إلا أنها نأت بنفسها عن سلوك التعنت السياسي، واحتقار المعارضة، وتجاهل مطالب الشعب، واختارت سياسة واقعية وبراغماتية فرضتها عليها الأوضاع والتطورات، ولم تضع عقيدتها السياسية فوق الواقع، بل كيَّفتها مع ضروراته الموضوعية القهرية .
لا معنى بعد هذا الموقف، إذاً، للتساؤل عما إذا كان وراء تباطؤ “النهضة” في التجاوب مع مطالب المعارضة والشارع، ومع مبادرات “الاتحاد العام التونسي للشغل” وباقي شركائه، رغبة منها في كسب المزيد من الوقت، أو استدراج خصومها إلى تقديم تنازلات سياسية قبل الحوار، أو الحصول على ضمانات (من الوسيطين الفرنسي والجزائري خاصة) بعدم تعرض مسؤوليها الحكوميين لمساءلات قانونية بعد حل الحكومة، أو ما شابه ذلك مما تناولته الأقلام والألسن، في الفترة الأخيرة، تفسيراً للتردد في حسم موقفها الذي تأخر حسمه منذ شهر يوليو/تموز الماضي . المهم أن قيادتها أدركت، في النهاية، أن موقف رئيس الحكومة السابق، والأمين العام ل”النهضة”، حمادي الجبالي بوجوب تأليف حكومة كفاءات، والذهاب إلى حوار وطني، كان الموقف السليم الذي ينبغي أن تذهب إليه البلاد بعد الأزمة السياسية التي فجَّرها اغتيال الشهيد شكري بلعيد، فهي وإن كانت أخطأت في إضاعة كل هذا الوقت الثمين، أصابت مرتين: مرة حين التقط أمينها العام الجواب المناسب عن المأزق، وهو على رأس الحكومة معتزماً الاستقالة، وأخرى حين حسمت أمرها بالموافقة على حل الحكومة، والذهاب إلى حوار وطني عميق حول مستقبل البلاد والنظام السياسي بعد المرحلة الانتقالية .
سيقول قائل إن “حركة النهضة” أضاعت على نفسها - بهذا التسويف والتأخير - فرصة تحصين شرعيتها وحفظ هيبتها لدى جمهورها الشعبي، في المجتمع التونسي، وأضاعت على هذا المجتمع فرصاً للخروج المبكّر من الأزمة السياسية التي عصفت به منذ منتصف العام 2012 . .، وهذا صحيح من غير أدنى شك، غير أن استدراك الخطأ بصواب متأخر خير، ألف مرة، من الإمعان في الخطأ، وركوب الرأس بسياسة الاستعلاء والمكابرة، إذ مصير ذلك إلى الاصطدام بحائط الواقع، وتلك، في السياسة، هي المصيبة التي لا برء من الإصابة بها .
*التجديد