د.محمد بن إبراهيم بن حسن السعيدي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
مقدمة :
وجدْتُني وأنا أفكرُ في كل ما حولي من شؤون اليوم والليلة والتاريخ والواقع والمستقبل في حاجة ماسة لضبط إيقاع عقلي وتحري الحكمةِ التي هي وضع الشيء في موضعه والعدل الذي هو إعطاء كلِ ذي حق حقه ، ووجدتُ أن هذا العدل وذلك التحري يعسر أن يكون مالم أدَّخر في بصيرتي قواعد أُدرب ذهني على محاكمة ما يطرأُ عليه من قضايا إليها ، فوجدتُ أن منهج التفكير أو طرائق التفكير أو مهارات التفكير ، موضوعاً كتب فيه الكثيرون من علماء المنطق القديم والحديث وعلماء النفس وخبراء التدريب وغيرهم .
بل قد أُقِيمت للتدريب عليه ولا تزال تُقام دوراتٌ مهمة وبعض حقائبها منشورة في المواقع الإلكترونية المُتَخَصِّصَة .
كما وجدتُ أن ما اطَّلعتُ عليه منها في كثيرٍ منه يقصِدُ إلى تقسيم قُدُرات الناس في إعمال الذهن وتقسيم النشاطات التي يقوم بها العقل ، وبيان السبل التي يكون بها عقل الإنسان أنشط وأدق في مجال التفكير .
وكلها باستثناء عِلْمُ المنطق لا تُقدم قواعدَ يعمل عليها الذهن في طريقه للحُكم .
أما علم المنطق فقواعده لا تُخاطِب سائر الناس بل هي موجهة لمن يتعمد دراسته ، وربما عجز دارسوه عن تطبيق قواعده في حياتهم العلمية أو حياتهم الاجتماعية والعملية .
كما أنه علمٌ يغيب عنه الوجدان واعتبار الوحي لذلك عسُر أو تعذر تطبيقه على حياة الناس وتاريخهم واستشراف مستقبلهم.
لذلك شعرتُ أنني في حاجة إلى الرجوع إلى نفسي وتنظيم ما أحتاجه من قواعد أستعين بها في مهمة التفكير،أوقل:مسؤولية التفكير ، مستعيناً في ذلك بالله تعالى ، ثم بما مرَّ عليَّ من تجارب وما قرأته من علوم .
ورأيتُ أن تدوين أفكاري في هذا الصدد وإخراجها من عملية عقلية محضة ، إلى مُسوَّدةٍ مكتوبةٍ يعين العقل على الانتظام والترتيب في استجلاء هذه القواعد وتمحيصها .
ولما استكملتُ هذا العمل قدر الوسع في بضع ليال رأيت المشاركة به وتقديمه للقراء ، وأسميتُه خواطر في العدل الفكري .
أسأل الله تعالى أن ينفعني به ويجعله من العمل الخالص الذي ينفع الله به كاتبه وقارئه.
صناعة التفكير
منهجك هو طريقك المُحَدِدُ لمسارك والمُوصِل لغايتك ، ولا ينبغي أن ننشغل كثيراً برسمه وتعريفه فمعهوده في العقول واحد وإن تفاوتت طرائق الكاتبين في تعريفه .
والفكر هو ما ينتهي إليه التفكير .
والتفكير هو ذلك العمل التلقائي الذي يقوم به الذهن ليهتدي به إلى الصواب.
-التفكير وتفاوت البشر فيه
ويتفاوت البشر فيه كما يتفاوتون في سائر ما تنشط إليه قُوَاهُم الظاهرة والباطنة
وينشأُ هذا التفاوت عن أمور : منها : ما يتعلق بمدى غزارة المواد التي يشتغل العقل بالتفكير فيها ، فمن الناس من ينحصر تفكيره في أمور يومه وليلته من معاش وأهلٍ وأبناء ، ومنهم من يتسع نطاق ما يفكر فيه حتى تراه مهتماً بكل ما يبلغه علمه مما يدور في هذا الكون ، وبين هذين الذهنين درجات كثيرة ومتفاوتة من أنحاء التفكير ونطاقاته وعناصره .
ومنها: ما يتعلق بطريق الذهن إلى اشتغاله بالمادة التي يفكر فيها مابين مقتصرٍ على نظر ما تباشره حواسه منها لأول وهلة ، وبين معتنٍ بالإحاطة بكل أجزائها الظاهرة وغائصٍ في أعماقها محسوسة كانت أو مغيبة ، وبين هذين الطرفين أيضا مساحة واسعة متنوعة .
ومما ينشأُ عنه التفاوت أيضا ما يتعلق بآلة الذهن في معالجة ما يُفكر فيه ، ما بين ذهن فاقد لملكة التمييز بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسبَبات والتصورات والتصديقات والعلوم والظنون والأوهام وبين ذهن مُعتنٍ في كل ما يتناوله بتمحيص المقدمات وسبر الأسباب وجمع التصورات مع دقة تامة في الحكم على نتائج ما ينتهي إليه تفكيره ، وبين هذين الطرفين أيضا وسط ليس بقليل العدد والتنوع .
-احتياجاتنا والتفكير
وحينما ننشد الطريقة المُثلى للتفكير فعلينا أولاً أن نحدد احتياجاتنا التي نريد من هذه الطريقة أن توصلنا إليها .
ولا شك أن احتياجاتنا كفئات متنوعة لن تكون واحدة ، إذ إن ما يريده التاجر يختلف كلياً عمَا يريده العالم ، وما يريده الكادح ليس هو ما يريده الناعم الراغد ، بل إن احتياجات الفرد الواحد تختلف كثيراً باختلاف أحواله أو مواهبه أو تقلبات أيامه ، فقد يجتمع في رجلٍ العلم والتجارة ، وفي آخر العلم والكدح وفي ثالث فد تجتمع الثلاثة وهكذا ، فالفرد في كل حال من أحواله يحتاج طريقاً للتفكير يختلف عن طريقه في حاله الأخرى .
وهذه المسألة تُوقِفُنا عند الإشكال الأول من إشكالات التفكير ، وهو غلبة نمط من أنماطه على الذهن بحيث يكون آلته للوصول إلى القرار أو الحكم في كل القضايا التي تمر به مما يحتم وقوعه في الخطأ نتيجة استخدام بعض الأنماط في قضايا لا توائمها.
فتفكير الأب في الأسلوب الأمثل لمتابعة ابنه أو إشعاره بالخطأ لا ينبغي أن يستصحبه معه في عمله فيفكر بالأسلوب الأمثل لإشعار مرؤوسه بالتقصير بالطريقة نفسها التي يفكر فيها مع ولده ، والعكس صحيح فليس من الصواب أن يُفكر رئيس العمل بطريقته التي يُقَيَم فيها مرؤوسيه حين يتعامل مع أولاده .
وكذلك العالم الذي يعتمد كثيراً على قواعد أغلبية أو كلية في تفكيره التخصصي لا ينبغي أن يستصحب هذه الطريقة في التفكير حين يكون تاجراً في حاجة إلى روح المغامرة وسرعة اتخاذ القرار واستقراء حالتي العرض والطلب ، والعكس صحيح ، فلا يُقبل من العالم الهجوم على القرار ولا أن يعتَبِر بمدى قبول رأيه بين الناس من عدمه في حين يُطلب ذلك من التاجر بشكل لا يمكن أن يسمى تاجراً دونه .
إذاً فمعرفة احتياجنا هو الخطوة الأولى لنعرف كيف نفكر ، فمن يخطط لمستقبله أو مستقبل أبنائه يجب أن يختلف في طريقة تفكيره عمن يخطط لمستقبل الأمة ، ومن يحلل أخبار السوق ليستشرف المستقبل التجاري يختلف كثيراً عمن يحلل الأخبار الدولية ليستشرف المستقبل الأمني والسياسي للأمة .
ومع كل ذلك فهناك مشتركات من المطالب ومشتركات من الأخطاء يحتاج الجميع إلى معرفتها إما لاقتناصها أو الحذر منها.
وأخطرها في تقديري عدم تمييز مراتب المعرفة بعضها من بعض ويظهر ذلك في وضع المعارف في غير مراتبها الصحيحة ، وبيانه أن المعارف على مراتب.
-التفكير ومراتب المعرفة
أولها العلم وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازما، وثانيها الظن وهو الإدراك الراجح مع احتمال مرجوح وثالثها الشك وهو الإدراك مع الاحتمال المساوي ورابعها الوهم وهو الإدراك المرجوح وخامسها الجهل وهو إدراك مناف للحقيقة .
والعلم وهو اليقين تحققه في النفس أمور منها الحس والتواتر وخبر الصادق صلى الله عليه وسلم وتكاثر الأدلة التي يثبت باختبارها عدم تطرق الاحتمال إليها.
والظن يحصل بكل طريق يثبت عند اختبارها تطرق الاحتمال إليه كأخبار آحاد الثقات أو الجمع الذي يمكن عقلاً تواطؤه على الكذب
والشك يحصل حين تتساوى طرق المعرفة فتمتنع غلبة الظن بأحد الرأيين وذلك كأن ينقل ثقتان خبراً مختلفاً عن أمرٍ ما ، فيخبرنا زيد بهطول المطر في بلدٍ معين ، ويخبرنا عمرو بأن تلك البلد لم تُمطَر ، ولم يمكن الجمع بين الخبرين ، كأن يثبت لدينا أن زيداً زارها عشية وعمرا زارها صباحاً فحكى كلٌ ما رأى .
والوهم يحصل بخبر غير الموثوق أو من لا يستحيل عادة وعقلاً تواطؤهم على الكذب.
-الاوهام والخلل في التفكير
ويحصل الخلل في الفكر حين لا يفرق الإنسان بين الوهم واليقين أو بين الوهم والشك أو بين الشك واليقين وهكذا ، فيعطي الأوهام حكم المعلومات ويتعامل معها على هذا الأساس فيجعل الأوهام أو الشكوك أو الظنون مقدمات يقينية في زعمه ويبني عليها نتائج جازمة.
ومن حيث التنظير قد نستبعد أن يقع العقلاء في مثل هذا الخطأ، لكن سبراً يسيراً لأخطاء الناس في آرائهم وتعاملاتهم وعلاقاتهم يعطينا نتيجةً هي أن معظم أخطاء الناس في ذلك مبنية على هذا الإشكال .
وقد نبه القرآن الكريم على خطورة هذا الخلل في التفكير ، وأنه سبب رئيس من أسباب الكفر ، وحذر عباده من الوقوع فيه .
فمن ذلك قوله تعالى( مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا)
فهؤلاء اتبعوا الظن وبنوا عليه حكماً جعلوه يقينياً.
وقوله:{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }
فهؤلاء ارتكبوا خطأين ، الأول أنهم اتبعوا الظن فيما حقه اليقين وهو العبادة ، والثانية أنهم عارضوا اليقين بالظن .
وقوله:{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 35- 36].
وهذه الآية نص في أن ما حقه اليقين لا ينبغي أن تتبع فيه الأدلة المفيدة للظن.
وكثير من قضايا العلوم بأنواعها يُكتفى فيها بغلبة الظن مثل كثير من قضايا الفقه الاجتهادية وكذلك قضايا الجرح والتعديل للرواة في علم الحديث والأحكام التاريخية وأمثالها ، فهذه يحصل الخطأ فيها غالباً من إنزال الأدلة التي لا توصل سوى إلى الوهم او الشك منزلة الأدلة الظنية وربما منزلة الأدلة القطعية ،
وربما حملهم على ذلك أمور منها:كثرة دوران المعلومة وتناقلها بين الخاصة والعامة حتى التبست بالعلوم المستفيضة أو المتواترة ، مما يؤدي إلى جزم المتلقي بها أو غلبة أمر صحتها على ظنه فيجعلها مقدمة صحيحة ويبني عليها نتائج يجزم بصحتها مع أنها باطلة في حقيقة الأمر .
ويزداد الأمر سوءاً حين يتورط بعض أهل العلم والفضل في تزكية تلك المعلومة الدائرة فيظن المتابع أن هذه التزكية جاءت عن تدبر ودراسة والحق أن هذا الفاضل نفسه وقع في شَرَكِ تقدير المعلومة على غير ما هي عليه .
ويكفينا أن نتذكر أن كثيراً من البدع في الدين يستدل لها أصحابها بأحاديث ضعيفة أدى رواجها إلى اعتقاد الناس صحتها بل توهم صحتها بعض أهل العلم لكثرة ما كان من رواجها.
وكذلك المعلومات التاريخية نجد أن كثيراً من الأحداث المكذوبة لها دوران في الكتب حتى ليكاد يجمع المؤرخون على نقلها ، مع أن أساسها الكذب ولم تتم دراستها متناً وسنداً ، وحين نبني حكماً تاريخياً على معلومة مستندها الوحيد هو الرواج فإننا بذلك نقع في الحكم الجائر الذي يزداد خطره حينما يبنى عليه ما يتعلق بالدين أو التقدير الحضاري للأمة .
ويصدق ذلك أيضا على المعلومات التي يقوم الإعلام بتدويرها سواء أكان إعلاماً مؤسسياً أو إعلاماً شعبياً .
بل إن الإعلام الشعبي المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب ونحوها بات أكثر خطراً في قضية إحداث القناعة بالمعلومة المنتحلة ، وذلك لأن له من النفاذ وكثرة الطَّرْقِ على الذهن ما يعزز مكانته في النفوس .
وهذا ما يجعل مهمة الخلوص من الاستئسار له في حاجة إلى قوةٍ في شخصية المفكر وقدرةٍ على الصمود أمام تأثيره .
ومن الأمور المعزٍّزَة لإنزال الوهم منزلة الظن الراجح أو العلم القطعي الانطلاق في فهم أقوال الآخرين وأفعالهم من الأفكار المُكوَّنَةِ عنهم سلفاً ، ومَرَدُ ذلك إلى إحسان الظن أو إساءته ، ولا شك أن الفكرة الصائبة أو التصرف الصحيح قد يأتي من أناس لا نُحسِن فيهم الظن ، والعكس صحيح أيضاً، فعرض أقوال الناس وأفعالهم على ظننا بهم خيراً أو شراً ليس ميزاناً صحيحاً فضلاً عن أن يكون دقيقاً.
نعم : يصلح حسنُ الظن أو سوؤه ليكون مُرَجِّحاً أو مُسوِّغاً لحمل كلام البعض أو فعلهم على غير المتبادر منه لكن ذلك شريطة أن ينظم إليه أمور أخر تكفي في مجموعها لإحداث الشك أو تغليب الظن في كون المراد غيرِ المتبادر .
وقد تكون أفكارُنا التي كوَّنَّاها عن هؤلاء الأشخاص -سلباً أو إيجاباً- خاطئة أو مبالغاً فيها، وهنا لابد من إعادة التحقق من صحة تقييمنا لهم حتى قبل أن نعتمد هذا التقييم واحداً من المرجحات.
-دوائر الانتماء والفكر
ويُعَدُّ عاملاً مهماً في إنزال الأوهام منزلة الظنون أو المقطوعات : صعوبةُ الانعتاقِ من التأثيرِ الإقليمي أو الحزبي أو القبلي أو المذهبي في تقييمِ المعلومة.
ومثلُه تأثيرُ الدائرةِ والمحيط الفكري الذي ينتمي إليه الفردُ ، وذلك لأن تلك الدوائر تعد محضناً مناسباً يتقبل العقل من خلاله وبتلقائية شديدة كل ما يخدم تلك الدائرة من معلومات دون البحث في أدلة صحتها عقلية كانت أم شرعية .
وكذلك فإن دوائر الانتماء هذه تشكل جهازاً مناعياً يُحصِّنُ العقل ضد كل ما يضر بالدائرة التي ينتمي إليها الإنسان من معلومات وآراء دون تكلف عرضها على موازين الصدقية.
ولهذا تجد المعلومات الوهمية قد تُبنى عليها أحكام ظنية أو قطعية لا لشيء سوى أنها لم تُقَيَم تقييماً منعزلاً عن كونها جاءت في خدمة الدائرة التي ينتمي إليها الفرد.
وفي المقابل نجد المعلومة الصحيحة تُطَّرحُ فوراً دون بذل جهد كافٍ لوزنها وتقييمها ، وليس ذلك إلا بفعل الجهاز المناعي الذي تُغَلِّفُ العقلَ به دائرتُه الانتمائية.
وحالُ المفكرِ الحق أنه يبذل جهداً عظيماً في محاولة انتزاع نفسه من دائرة انتمائه حال قراءته للمعلومة وتقييمها .
والمُشَاهَدُ أن انتزاع النفس من المحيط حال تقييم الأفكار والمعلومات يُعَدُ لصعوبته معياراً دقيقاً لوزن المفكرين أنفسهم ، لكنه أيضا معيارٌ ثقيل يصعب حمله فضلاً عن استخدامه بشكل مطَّرد لوزن أفكار الناس وتقييمها ، ذلك أن من يدَّعي استخدام هذا المعيار لا بُد أن يختبر نفسه أولاً : هل هو في هذه الحال بعيد هو أيضا عن تأثير انتمائه إلى دائرةٍ ما؟ .
وينبغي أن لا يكون انتزاع الإنسان نفسه من دائرته الانتمائية تحت وطأة مؤثر سوى إرادةِ الحق ، لأن النفس الإنسانية يعتريها مؤثرات تحملها على مغادرةِ محيطها الفكري كالغضب من موقفٍ ما أو الشعور بوقوع المخالفين لتوجهه تحت وطأة الظلم، فتدفعه همَّتُه لنصرةِ المظلوم ، ومن ثَمَّ الانحياز إليه ، أو كمساندة الآخرين في قضية يراها عادلة ، أو غير ذلك من الأسباب التي كما قدمتُ قد تساهم في انتزاع البعض من تأثير محيطهم ، لكنها بالتأكيد لن تُساهِم في حيادية تفكيرهم ، والسببُ في ذلك أنهم انتقلوا عن النظر من خلال ثُقبِ انتمائهم إلى ثُقبٍ آخر والمطلوب إجالة بصرك بعيداً عن حدود الثقوب.
-التفكير وردات الفعل
وقريبٌ من هذا: التفكيرُ المتأثر بما يلحق الإنسانَ من أزمات وشدائد ، أو أفراحٍ ومسراتٍ ، أو انبهارِ إعجابٍ أو سُخْط ، المصاحبُ لما يُسمى بردات الفعل التي هي بلاشك ذاتُ تأثيرٍ كبيرٍ على عواطفِ الإنسانِ وطريقته في التفكير.
فسخطك على واقع ما سوف يدفع تفكيرك نحو حصر نفوذه في زاوية سلبيات هذا الواقع حين تريد مثلاً جمع المادة الاستقرائية التي هي إحدى أدوات العقل للوصول إلى نتيجة التفكير ، ولا شك أن استقراءك حينئذٍ يُعَدُ قاصراً ، ولو افترضنا أنك وصلت إلى نتيجة صحيحة من خلال هذا التفكير القاصر فقد وقعت عليها اتفاقاً وليس لأن منهجك في التفكير كان صائباً ، هذا مع أن الغالب عدمُ وصولك إلى نتيجةٍ صحيحةٍ من خلالِ استقراءٍ قاصرٍ ، وذلك فيما أداته الاستقراء من أنماط التفكير .
ولو استطعت التغلب على حالة السخط التي تمتلكك حال جمعك المادة الاستقرائية فإن نفوذ تفكيرك سوف يغطي كل هذا الواقع بسلبياته وإيجابياته، وبذلك ففرص الوصول إلى الصواب ستكون أكثر بكثير من الحال الأولى .
والأمر هو هو لو أنك فكرت في واقع مرضِي عندك ، فأنت حين لا تستطيع في حال التفكير الانفكاك من حالة الرضى هذه فسوف تجد عقلك متوقفاً عند محاسن ذلك الواقع غير قادر على استقراء سلبياته ، وبذلك تجد نتيجتك في غالب أحوالها خاطئة بسبب قصور استقرائك.
والأمر في القضايا الجزئية التي لا تحتاج إلى استقراء لا يختلف عمَّا قدمناه من ضرورة انتزاع العقل من تأثير ردات الأفعال الفرحة أو الغاضبة ، المحبة أو الكارهة .
ويمكننا القول : إن ما قدَّمناه من تأثير الدوائر الانتمائية أو ردات الأفعال ، أو سوى ذلك من العواطف المؤثرة ، جميعِها هي ما أسماه القرآن الكريم : الهوى ، وأخبر عز وجل أن اتِّباعه يُوقِعُ الفِكرَ في هُوَّاتٍ سحيقةٍ جداً وذلك في غيرما موضع من كتاب الله تعالى ، والهوى هو ما تميل إليه النفس ، وهو محبوبها ومرضيُّها من الأقوال والأفعال والاعتقادات وغيرها ، وكلها قد يرتضيها الإنسان لتعبيرها عن انتمائه أو لموافقتها لعاطفته الراضية أو الساخطة ، وكل ذلك سقوط بالتفكير إلى مضايق الأخطاء ومستنقعاتها .
أخلاقيات التفكير
نعم إن للتفكير أخلاقاً ، لكن إفرادها بعنوان ليس سوى التماسٍ لراحة القارئ ، وإلا فإن أخلاق التفكير وأدواته ليس أحدهما بمعزل عن الآخر ، فإن ما سأذكره مما أراه أخلاقاً للتفكير هو أيضا أدوات له بل ربما تقول إنها أركان يقوم عليها أو شروط لا يتم إلا بها .
-العلم والتفكير
وأولها العلم ، وأعني به تحديداً إحاطةُ المفكرِ بكلِ ما تلزمه الإحاطةُ به بخصوصِ ما يفكر فيه .
وقد يكون الأمر الذي هو موضوع التفكير من المدركات القريبة التي لا يستلزم التفكير فيها كبير بحث واستقصاء بل تكفي فيه المشاهدة الواضحة أو الأخبار الصادقة ، وفي الطرف الآخر هناك أمور يقتضي التفكيرُ فيها إحاطة المفكر بفن من العلم أو عددٍ من الفنون ، وهنا يُصبح التفكير باباً من أبواب البحث العلمي أو مرادفاً له في وصفه ومعناه وبين هذين الطرفين درجات شتى.
وتكمن المشكلة هنا حين تُعَامَلُ القضايا العلمية أي التي تقتضي الإحاطة بفنون المعرفة معاملة المدركات القريبة ، فتجد المسائل العويصة لاسيما في مجالات العقيدة والفقه والسياسة والتاريخ السياسي يتصدى لها وبكل ثقة وعنفوان من لا يمتلكون المادة العلمية والقدرة البحثية المفترض توفرها قبل البدء في عملية الدراسة أو التفكير .
وهنا نقف على مُشْكِلةٍ من مشكلات التفكير ، وهي عدم التمييز بين القضايا ذات المدرك القريب والأخرى ذات المدرك العويص أو لنقل المدرك العميق .
-التفكير والغرور المعرفي
وهذا نوعٌ مما يُطلِق عليه البعضُ : الغرور المعرفي ، وهو تجاسرُ الإنسانِ على تسور ما لا يمتلك أدوات التفكير فيه ، وكما يوجد هذا النوع من الغرور عند الكثيرين من العوام ، يوجد أيضاً عند أهل العلم ، بل إن أخطر حالاته أن يبدوَ على أهل العلم في كتاباتهم وندواتهم.
ومظاهر وجوده عند العلماء شتى ، منها :
أن يتحدث العالم أو طالب العلم في غير فنه ، وكما قال الأولون:من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب .
أو يتحدث فيما لم يستكمل بحثه من المسائل ، أو يتحدث في مسألة غلبه عليها هواه ، أو يتحدث في مسألة داهن بها الجماهير ، أو داهن بها السلاطين ، ولم يحمله فيها رأيه الذي أداه إليه البحث بل تَصَنُّعُه لإحدى هاتين الفئتين .
وضرر العالم المصاب بالغرور المعرفي أو لنقل النفاق المعرفي ربما كان في كثير من الحالات أشد ضرراً من غرور العامة وإنصاف المتعلمين.
وكل ذلك مما يدخل في قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)
وقد لخص القرطبي أقوال المفسرين في قوله (ولا تقف) فقال :الأول : لا تسمع ولا تر ما لا يحل سماعه ولا رؤيته . الثاني : قال ابن عباس : لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك . الثالث : قال قتادة : لا تقل رأيت ما لم أر ، ولا سمعت ما لم أسمع . الرابع : قال محمد بن الحنفية : هو شهادة الزور . الخامس : قيل عن ابن عباس : معناه لا تقف لا تقل .
ثم قال بعد ذلك : هذه الأقوال كلها صحيحة ; وبعضها أقوى من بعض ، وإن كانت مرتبطة ; لأن الإنسان لا يحل له أن يسمع ما لا يحل ، ولا يقول باطلا ، فكيف أعْظمُه وهو الزور.
-التفكير ونقد مصادرالمعرفة
وكما يؤدي الغرورُ المعرفيُ إلى عدم استكمال أدوات البحث والقول بغير علم ، فإنه يؤدي إلى رفض جملة من مصادر المعرفة ، يتصور المغرور أنها قد توصِل إلى نتائج غير التي هو مندفع إليها، وهنا يتجلى لك أن المغرور غير مولع بالحقيقة بقدر ما هو مولع بإظهار رأيه .
وسوف تجد أن هذا الرفض لمصادر المعرفة ربما يظهر على هيئة طعن في المصدر المخالف ، ونقد المصادر أسلوب ضروري في البحث العلمي من حيث الأصل ، لكن هذا النقد لابد أن يكون وفق منهج يعمد إلى تخليص المصادر مما يحجب الحقيقة أو يوردها على غير صورتها ، وحين يكون الطعن في المصادر مبنياً على مثل هذا المنهج فهو مؤشر نجاح للباحث ، لكن حديثنا عن الطعن الذي لا يراد منه سوى الاستبقاء على النتيجة المُشْتَهَاة .
ومصادر المعرفة ليست نوعاً واحداً حتى يمكننا إجمال القواعد الصحيحة لنقدها او الطعن فيها ، فمنها الحس وأخبار الناس والكتب ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة ، وكل نوع يختلف عن الآخر في المنهج النقدي الملائم له ، لكن من أهم ما ينبغي تجنبه في نقد المصادر أن لا نخلط بينها في مناهج النقد.
فمثلاً نجد أن اعتبار الديانة والأمانة مهم جداً في الأخبار التي ينبني عليها تقييمنا لمواقف بعض الشخصيات العلمية والعامة ، وفي المقابل لا يصلح أن نرد خبراً أوردته وسيلة إعلام مشهورة بمهنيتها لكونها غير ملتزمة دينياً أو غير متفقة مع توجهنا سياسياً ، فأخبار وسائل الإعلام تنتقد من خلال كفاءتها في الوصول إلى مصدر الخير ، وملاءمة ذلك الخبر لسياق أخبار أخرى ، كما تنتقد من خلال تحليل الخبر ذاته من حيث الصياغة ومدلولها وإيحاءاتها ، أما التدين والتوجه السياسي فهما عاملان مهمان من عوامل تحليل أخبار الوسيلة وليسا شرطين لقبول الخبر أو رده .
وكذلك فإن ثقتنا في مؤرخ ما مثل ابن كثير أو الذهبي لا يعني قبول كل ما أورداه من أخبار في كتابيهما بل يجب عرض تلك الأخبار على معايير النقد التاريخي .
ومنهج نقد الرواة عند المحدثين لن يكون صالحاً بشكل مطلق للتطبيق على جميع الحقب التاريخية ، بل ربما نقول إن تطبيقه على جميع الحقب التاريخية يعني نفي تاريخها بالكلية .
المهم كما قلت قبل قليل عدم الخلط بين المناهج في نقد مصادر المعرفة لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى خلل كبير في الفكر المبتنى على المعلومة .
-التفكير والعدل
ويُمكننا أن نعتبر العدل أساساً أخلاقياً لكثير من نشاطات الإنسان كالحكم والتجارة والتربية والإدارة وعموم الأقوال والأفعال ، وهو كذلك أيضا أساسٌ في التفكير ، ولعل أكثر ما تقدم حديثنا عنه من قواعد في التفكير يمكن إرجاعها إلى العدل بمعناه الأوسع والذي عبر عنه الجاحظ بقوله : استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير .
وعلى هذا التعريف لا يُمكن أن يُتصور جُهدٌ إنساني بدني أو عقلي أو عاطفي إلا والعدل مطلب مهم فيه ، وكل ما تقدم من حديثنا عن التفكير هو من السعي لاستعماله فيما ذكره الجاحظ رحمه الله .
ويبدو لي زيادةً على ما ذكره الجاحظ : أن العدلَ قوةٌ عقلية منجذبةٌ إلى الحقِ ، يستطيع بها الذهنُ التغلبَ على أنواع الأهواء وسائرِ العواطف ، ويظهرُ أثرُها على تفكير الإنسان وأقواله وأفعاله ، بل إن الأقوال والأفعال العادلة ثمرةٌ للتفكير العادل .
وقد يكون باعثُ هذه القوة في الإنسان فطرياً محضاً ، وهي المَلَكَةُ الراسخة في الخِلْقَةٍ للبحث عن الحقيقة ، وهذه الملكة الفطرية قد تتغلب عليها الأهواء والعواطف فتغمُرُها وتضعفُ أثرَها على النفس ، وقد تتغلب هي على تلك المشاعر فتصبحُ هي الحاكمة على العقل كُلِّيَاً أو جُزئيا.
وهذا الباعثُ يستوي البشرُ فيه مؤمنهم وكافرهم ، عالمهم وجاهلهم ، وبه يعدِلُ من يعدل من كتَّاب غيرِ المسلمين ومفكريهم وقادتهم .
وقد يكون باعثُ هذه القوة إيمانياً: طاعةً العبد لله تعالى وخوفاً من معصيته ومحبةً لما يحبه ربه عز وجل من عباده من قهر الهوى وعدم الجنوح في الأحكام إلى مرامات النفوس واندفاعاتها، فهذا العدل الإيماني هو أكمل أنواع العدل في التفكير ، لأنه تعبيدٌ لهذه الجارحة الخطيرة -وهي العقل- لله سبحانه وتعالى، تَوَافَقَ مع الملكة الفطرية التي أشرتُ إليها آنفا ، فكان أكمل للبصيرة وأقوى في تذليل العقبات الحائلة دون الحقيقة .
-التفكير المنهجي
وهناك أمرٌ يقتضيه العدل غير ما ذكرنا من التغلب على الأهواء والعواطف وهو استخدام قسطاسٍ دقيق لوزن الأمور واعتبار بعضها ببعض ، وهو ما يحلو للكثيرين تسميته بالمنهج، لأن العقل دون ذلك الميزان يقع في تضارب الرؤى وتناقض الأحكام وعدم تمييز المقدمات من النتائج.
ويُعَدُ التفكيرُ التبعي حائلاً دون التفكير المنهجي ، وهو المُنْطَلِق من التسليم بصحة النتيجة التي توصل إليها المتبوع سواء أكان قدوة أم مجتمعاً ، وذلك لأن هذا النوع من التفكير إنما يجعل همه وهمته منصبين في اتجاه إثبات أو تسويق تلك النتيجة التي سلَّم بها العقلُ التابعُ ابتداء ، وربما كانت تلك النتيجة مبنيةً على مقدماتٍ باطلة أو ناقصة ، أو منتزعة من مجموع تصورات وتصديقات وهمية ، ومأزقُ العقلِ حينئذٍ أنه مرغمٌ على إثباتها وليس التحققَ منها .
وهنا يؤمر العاقل بالانعزال عن المتبوع أو عن المجموع ، ثم يقوم بالتفكر الحقيقي وفق المنهج والقسطاس .
ولعل الآيات العديدة التي قللت من القيمة المصداقية لرأي أكثر الناس تنبه إلى ضرورة عدم الاعتداد برأي المجموع في تقييم المعارف ، فالله عز وجل يقول في مواضع عديدة( ولكن أكثر الناس لا يشكرون) ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
وربما كانت الآية ٤٦من سورة سبأ أصرح في الدلالة فيما نحن بصدده وهو التفكير ، فنص الآية ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) .
قال الطبري في تفسيرها :( وقيل : إنما قيل : إنما أعظكم بواحدة ، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى .{مثنى}يقول : يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة : هل علمتم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جنونا قط؟ ثم ينفرد كل واحد منكم ، فيتفكر ويعتبر فرداً هل كان ذلك به؟ فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم )
فقد أمرهم الله بالخلوص إلى أنفسهم مثنى وفرادى لينفكوا من سطوة رأي المجموع .
وقد أطال جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير الحديث عن الأثر السيئ الذي يتركه المجموع على عقل الفرد وقدراته على التفكير ، كما دون الباحث إريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق الكثير من الملاحظات الدقيقة حول هذا الأمر ، ويُمكن الخلوص مما قدماه إلى أن قدرات العقل مهما كانت قوية ومتميزة فإن الانحباس في المجموع يحد كثيراً من استطاعة التحليل والاستقراء والتقييم لديه .
-قواعد منهجية لضبط التفكير
ولعلي هنا أقف عند بعض الأمور التي يمكن أن تعتبر قواعد منهجية يمكن من خلالها ضبط التفكير.
فأولها : ما يُسميه المناطقة والأصوليين : السبر والتقسيم ، ويمكن تيسير توضيحه بأن المسائل التي تواجه العقل سواء أكانت في حياته اليومية أم في القضايا الاجتماعية العامة أم الخاصة ، وكذلك ما يمر بالمثقف من قضايا تاريخية أو سياسية ، غالبُ تلك المسائل إن لم نقل كلها مكونة من أجزاء، يقتضي كلٌ منها نظراً خاصاً به أولاً ،لأن النظر المستقل لكل جزء على حدة سيؤدي إلى فهمٍ أعمق للقضية محل الدراسة ، فيقوم المُفَكِّرِ بفرز تلك الأجزاء وتمييزها عن بعضها ومن ثَمَّ النظر والتدبر في كل واحدٍ منها على حدة ، وبعد ذلك جمعُ المتشابه منها وإعطاؤه ما يليق به من أحكام ، ومن ثم إلحاق كل جزء منها بما يشبهه ليخرج من ذلك بحكمٍ عام مفصلٍ وليس مجملا.
ولنضرب لذلك مثلاً بالثورة الفرنسية ، فإن الحكم السائد عليها بين المثقفين أنها حسنة ، لكونها أسقطت الاستبداد وأعطت الحقوق للشعب ، وهذا الحكم إجمالي لا سبر فيه ولا تقسيم ، إذ هو يجعل الثورة الفرنسية بمقدماتها وأحداثها وما نتج عنها قضية واحدة لا تفاصيل فيها ويُسقط عليها حُكماً كُلياً واحداً.
والذي ينبغي هو دراسة ما يُقال إنه مقدمات تلك الثورة ومُسبباتها ، وتأمل كل واحدٍ منها على حدة والنظر فيما يصلح منها ليكون حقاً سبباً لتلك الثورة أم لا ، ولعلك بعد اختيارك لتلك المقدمات تستبعد أن تكون هي ما دفع الجماهير حقيقة إلى تلك الثورة ، ثم تنظر إلى أحداث العشر سنوات التي هي مدة الثورة ، ما بين عامي ١٧٨٩و ١٧٩٩ واختبر تلك الأحداث كل على حدة وهل كانت هذه الأحداث كلها ثورة شعبية نتجت عن أسبابها أم انصرفت لتكون سلاحاً لطبقة ما أو أفرادٍ ما ، ولعلك تصل إلى استبعاد كثير من تلك الأحداث من قائمة أحداث الثورة ، ثم تنظر النتائج التي زعموا أنها للثورة وتفحص كل واحدة منها على حدة لتتحقق من أيها كان حقاً ناتجاً عن الثورة ، وأيها كان ناتجاً عن عوامل أخر .
ثم لتفعل ذلك في كل ما يعرض لك .
ولك أن تقول : إن هذه مهمة صعبة وجهد يطول ، ولو أردنا أن نصنع ذلك في كل ما يعرض لنا لما كان لنا أن نصل في شيء إلى قرار ، ولما حَقَّ لنا أن نقول في شيء رأيا !؟
وجواب هذا التساؤل : أن القضايا التي تمر بنا يومياً ليست بحجم الثورة الفرنسية التي جعلناها مثالاً ، بل كثيرُ قضايانا لا يُكلفنا السبرُ والتقسيم فيها سوى دقائق قليلة ، إما لقلة تفاصيلها ، وإما لكون تلك التفاصيل لا تقتضي سوى مراجعةٍ للذاكرة قليلا ، فالقول إن السبر والتقسيم يحول بيننا وبين اتخاذ الآراء في كل شيء قول غير مستقيم.
أما القضايا التي هي في حجم الثورة الفرنسية كسائر القضايا التاريخية ، أو القضايا العلمية ، أو القضايا السياسية التي يغلب عليها تعدد الأطراف ومخالفة البواطن للظواهر ، ففي مثل تلك القضايا أقول : نعم من لا يُحسِن مثل ذلك السبر والتقسيم فيَحْسُن منه أن لا يقول في شيء ما لم يستكمل أدوات الحكم فيه .
والثاني من الأمور التي تعين على ضبط التفكير :
-تجنب التعميم والإطلاق فيما حقه التخصيص والتقييد ، وكذلك تجنب التخصيص والتقييد فيما حقه التعميم والإطلاق .
وقد يُقال : إن التعميم والإطلاق صفات للأحكام ، وههنا نحن نراجع الطريقة المُثلى التي تُوصِلُنا إلى حُكْمٍ عادل ، فالنصيحة بالتعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد محلها حين نتحدثُ عن أوصافِ الأحكام وليس الطرق المُوصِلَةَ إليها .
والحقُ :أن الحكم في قضية كبرى لابد أن يُبنى على أحكام أجزائها ، وهو ما يُسَمِيه المناطِقَة بناء النتائج على المقدمات ، فالمقدِّمات الصغرى ينبغي على المُفَكِّرِ حمايتها من العموم في موضع الخصوص والعكس وكذا الإطلاق في موضع التقييد والعكس ، لأنه إن فَعَلَ فسدت نتائجه وكانت في هذه الخصلة على منوال مُقدِّماتها .
فحين تقول :الشباب ُ في بلد كذا كسولٌ ومهملٌ وخنوع ، فتخرج بنتيجة ِ أن الشباب في هذا البلد لا يمكن الاعتماد عليه ، فهذه المقدمات المطلقة أدت إلى نتيجة مطلقة ، وهي من الإطلاق في موضع التقييد ، لأن الكسل من المستحيل أن يكون صفة ملازمة لشباب عشيرة واحدة فكيف ببلدٍ كامل.
لكن حين نقول إن المترفين من شباب تلك البلدة يكسلون ويخملون ويخنعون حين لا تعتمد عليهم أو حين لا تعطيهم أجره ، فتخرج بنتيجةٍ هي : أن الشباب المترف يجب الاعتماد عليهم.
فهذا من التقييد في موضع الإطلاق ، وذلك لأن الغالب على البشر أنهم حين لا يُعتمد عليهم يخملون ويكسلون ، فتقييد ذلك بالمترفين أدى إلى نتيجة مقيدة لكنها غير صحيحة .
ومن حيث التنظير المحض ، فإن الكثيرين يبتعدون عن التعميم في أحكامهم ، فتجد أحدهم حين يُعْطِي حكماً سلبياً على طائفة بعينها يُتبع ذلك بقوله ( أنا لا أقول كلهم لكنني أقول أكثرهم أو كثير منهم ) يقول هذا مع أن المستقر في ذهنه هو الحكم الكلي ، لكنه يأتي بهذا الاستدراك خشية النقد أو المساءلة .
وحين نتحدث عن التفكير الصائب فإننا لا نريد أن نُصَوِّر أنفسنا على أننا أصحاب ُ فكرٍ متروٍ منصفٍ ونحن لسنا في حقيقة الأمر كذلك ، بل نريد أن يكون القول معبِّراً عن عمليةٍ فكرية حدثت في الذهن فعلاً ، لأننا حين نخدع الناس ونُظهر لهم بقولنا أننا فكَّرْنا بطريقة عادلة وحقيقة الأمر عكس ذلك فإننا لا نزور الحقيقة وحسب بل نجني على سمعة التفكير المنهجي برمته .
وهذا في الحقيقة ما يفعله كثيرون ممن يوهمون الناس أنهم مفكرون ، حيث يقدِّمون تحليلات يتقبلها الناس على أنها صادرة من أصحاب مهارة ودرية وأمانة ، وحقيقة الأمر أن ذلك التحليل لم يستغرق من أذهانهم سوى وقت صياغة عباراته .
والثالث : من الأمور التي تعين على ضبط التفكير والعدل فيه:الصدق في تقييم الرأي المخالف :
وبيانه أنك حين تتبنى موقفاً مقطوعاً به لا بد أن توضح أن موقف مخالفك جهل لأن الأحكام المخالفة للقطعيات هي من الجهل .
مثال ذلك : حين تقطع بوجود حاتم الطائي تاريخياً فلا بد أن تصف نفي وجوده بالجهل .
وكذلك حين يغلب على ظنك وجود أشعب ، فلا بد أن تصف نفي وجوده بالوهم .
وحين يستوي عندك احتمالُ وجودِ شخصيةٍ مثلِ جحا واحتمالِ عدمها فلابد أن تصفَ تصورَ وجودِها بالشك .
وترجعُ أهميةُ تقييمك للفكرة المخالفة لك إلى كون ذلك يحددُ مدى احتياجِك لمراجعةِ نفسك ، وأيضا تحديدِ القوة التي ينبغي أن تطرحَ فيها رأيَك ، وكذلك هو الذي يحدد موقفك من مخالفك وأسلوبِك في الرد على فكرته .
فمن كان رأيه في مسألةٍ ما قطعياً لكنه تعامل معه معاملة الظنيات ، فجعله عرضة للمراجعة وإعادة النظر وتقبل فيه وجهات الآخرين وتعامل معها معاملة الآراء السائغة ، فإنه حين ذاك يُعَدُ جائراً على القطعيات التي لا يصحُ عقلاً أن تحتمل رأياً آخر ، ورُبما جنى على نفسه بتعريض عقله للتشكيك في القطعي ، وجنى على غيره بجعله القطعي مجالاً للسجال وتبادل الآراء .
مثاله محكمات الدين القطعية في ثبوتها والقطعية أيضا في دلالتها ، كآيات القصاصِ وقطعِ السارقين حينَ يُناقِش البعضُ في دلالتها على ما لا شك في دلالتها عليه ، ويُعرضون قلوبهم للشبهات ويُتِيحُون إمكانية نشر ذلك في مجتمعهم .
والتشكيك في القطعيات سواء أكانت ثابتة بالنص أو بالتواتر أو بالحس من أعظم الجنايات على العقل البشري بأسره ، لأنه يعني عدمَ وجودِ شيء مُسَلَّمٍ به في هذه الحياة أبدا، والمُسَلَّمات هي الأساس الذي يبتنى عليه الفكرُ كله ، وحين يتحطمُ الأساس يسقط الفكر ويضيع العقل ويضيع الإنسان معه .
وحينما يُقَيِّم المرءُ حُكْماً ظنياً توصل إليه على أنه قطعي ويُقَيِّمُ كلَّ فكرةٍ مُخالفةٍ لما توصل إليه على أنها جهلٌ ، فإنه يتورطُ كثيراً وذلك بحبس نفسه عن معاودة التفكير فيما توصل إليه ، ويَحرمُ نفسه من الاستماع لأي وجهةٍ أخرى مخالفةٍ مع أن الحق قد يكون معها، وإن لم يثبت الآن فقد يثبُتُ غداً.
وأخطرُ منه من قيَّم الأفكار الظنية المخالفة له على أنها وهمية أو قيم الشكوك المساوية في أدلتها لما توصل إليه على أنها وهمية أو باطلة .
ويزداد الأمرُ سوءاً حين يصدرُ هذا الخطأُ الشنيعُ في تقويمِ الفكرِ المخالفِ من مسموعِ الكلمةِ أو متبوعِ الرأي ، حينها تصبحُ المغالطاتُ هي الحاكمة فيما يشيع بين الناسِ من رأي في أيٍ من القضايا .
الرابع من الأمور التي تعين على ضبط التفكير والعدل فيه:الصدقُ في تقييم النفسِ في مقابل ما هي مُقْدِمَةٌ على التفكير فيه من القضايا :
وعدم الصدق في تقييم النفس إما أن يكون غروراً واغتراراً ، وإما أن يكون إفراطاً في التواضع والزهد بما عند النفس.
فالطائفة الثانية لا يظهرون فكرهم ولا يبرزون آراءهم ، وربما كانوا لا يتصدون للتفكير أصلاً مع قدرتهم وتمام أهليتهم ، ويعبر عنهم قول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمامِ
ولعل للحديث عنهم موضع آخر .
أما الطائفة الأولى ، فهم الذين يتصدون إلى ما ليسوا أهلاً للتصدي له .
ويظهر ذلك في صورٍ شتى أبرزها تلك القضايا التي يحتاجُ الرأيُ فيها إلى رصيدٍ من علمٍ من العلومِ لا يصحُ لمن لا يملكُ هذا الرصيدَ الإقدامُ على تقريرِ الرأي فيه ، ولنضرب لذلك مثالاً بالأدب ، فتقييم نصٍ شعريٍ ما ، يقع على مرتبتين : إحداهما التذوق الشخصي لهذا النص حسب ما يقع في نفس قارئه من الانبساط له وملام سته وجدانه أو حاسته الموسيقية ، فهذا لا يُعَدُ حكماً فكرياً ، بل هو ذوقيٌ محض وهو لجارحةِ العقل ِمثلُ الطعامِ والشرابِ لجارحةِ اللسان ، ومن حق كلِ أحدٍ أن يقول في هذا النص ما يُدلي به ذوقه من مدحٍ أو ذم .
المرتبة الأخرى : مرتبة التقييم النقدي المبني على قواعد علوم العربية من علم اللغة والنحو والصرف والبلاغة بأبوابها الثلاثة ، البيان والمعاني والبديع، وإن كان النصُ شعرياً لزم المعرفة لعلمي العروض والقافية ، وكذلك يستلزم هذا النوع من النقد علو المقام في الذائقة الأدبية التي لا يستحصلها الإنسان إلا بعد عيشٍ غير قصير مع النصوص الأدبية بأنواعها .
فهذه المرتبة لا ينبغي أن يعمل عليها إلا من حاز من تلك العلوم ما يصلح أن يكون آلة لهذا العمل النقدي .
وحين يقتحمُ العملَ النقديَّ من لا يملك تلك الأدوات فإنه يُحْسَبُ مغرُوراً ولا شك أن الغرور ضربٌ من السفه .
وقد ضربتُ المثل بالنقدِ الأدبي الذي ميدانُه نصوصٌ بشريةٌ لا يترتب على خوضِ من لا يُحسِنُها فيها أثرٌ في معاش الناس أو معادهم ، لأنبه إلى أن كل ما يستلزم الحكمُ به إحاطةً بالتفسير والفقه والحديث والأصول يبدو اقتحامه لمن لم يملك أدواته أشدَّ خطراً وأعظمَ ضرراً لكونه متعلقاً بمعاش الناس ومعادهم.
-الصدق والغرور المعرفي
ومما يدخل في الصدق في تقويم النفس من جهة الغرور والاغترار : معرفةُ القدر الكافي من التصورات لتحصيل التصديق.
مثال ذلك حين نريد الوصول إلى رأي في إمكان استصدار تشريع يمنع تزويج القاصرات ، فذلك يستلزم معرفةً دقيقةً بعدد القاصرات اللواتي تعرضن للتزويج، ونسبتهن إلى أخواتهن من الكبيرات ، ثم نعرفُ نسبةَ من تضررنَ بهذا التزويج إلى مجموعهن الكلي ، ثم نعرف عن هذا الضرر الذي لحق بهن هل كان سببُه التبكير في زواجهن أم أمرٌ آخر ، عند ذلك يمكننا الوصولُ إلى رأي في هذه القضية .
أما حين نقررُ وجوبَ استصدارِ نظامٍ يمنعُ من هذا التزويج مع أن الأصل في حكمه الإباحة لسماعنا عن حادثتين فشلتا ، أو ثلاث أو أربع تجلت أخبارُهن للأنام لسببٍ أو لآخرَ ، في حين لم تبرز حالاتٌ كثيرة ناجحة ، فهذا من جنس ما تحدثنا عنه من الغرور المعرفي الذي يصور لصاحبه نصفَ الحقيقة وكأنها الحقيقةُ كاملة .
وقد نهى الكتابُ الحكيم عن ذلك بضربه المثلَ بواقعةٍ مصغَّرةٍ ظهر فيها الاغترارُ بنصفِ الحقيقةِ على أحد أنبياء الله ليكون ذلك أبلغ في زجر الناس عن الوقوع فيه ، لأن ما فُتِنَ فيه نبيُ عظيم كان حذرُ سائرِ الناسِ من الفتنة فيه من باب أولى .
يقول عز وجل :( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب)
فهذه الآية تُنبِّه إلى ضرورة استكمال العناصر المُكَوِّنَة للحقيقة قبل الإقدام على الحكم ، والمعنى المُسْتَنبطُ منها أعمُّ من الحكم القضائي كما يبدو لي ، إذ هي تمنع المجازفة في الحكم أياً كان نوعه ، والمجازفة الواردة في الآية هي من اعتقاد داود عليه السلام أن ظاهر الخصمين وما أدلى به أحدهما كافٍ في القطع بالحكم قبل سؤال الطرف الآخر ، قال القرطبي رحمه الله تعالى ( أخبر الله - عز وجل - عن داود - عليه السلام - : أنه سمع قول المتظلم من الخصمين ، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر ، إنما حكى أنه ظلمه ، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول ، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم ، فقال له مستعجلا : لقد ظلمك)
والقضية التي نبه القرآن عليها من أمر داود عليه السلام خاصة في شأن اثنين ، وهو تنبيه على أن ما كان أعظم أثراً كان أولى بالاعتبار .
ويدخل في الصدق في تقويم النفس من جهة الغرور والاغترار: معرفة القدر المعجوز عن تحصيله من التصورات المُعِينَةِ على الوصول إلى الحكم.
فهناك قضايا يعجز الإنسان عن تحصيل أجزائها ، إما لقدمها وذهاب مصادرها كالكثير من القضايا التاريخية ، وإما لخفائها إلا على طبقة معينة من الناس كالكثير من قضايا السياسية المعاصرة .
والحق أن العجز عن تحصيل كثير من أجزاء التاريخ أو الخفايا السياسية لا يمنع في رأيي من إبداء رأيٍ فيها لاسيما للمشتغلين في هذين الفنين ، لكنه يمنع من الجزم برأي معين ، وهو يدخل فيما قدمناه من تجنب القطع في موضع الظن أو الشك .
خاصة وأن الجزم في هذه القضايا يستلزم أموراً خطيرة جداً من إيقاد العداوات وإثارة النعرات ، لهذا كان الإقرار بالعجز عن تحصيل خفايا يُرِيحُ المُفَكِّرَ كثيراً من التبعات الخطيرة التي ربما تستلزمها آراؤه لو كان مجزوماً بها .
وحين يعجز المرؤ عن تحصيل بعض التصورات اللازمة للوصول إلى قرار أو رأي في أمر معين ، فالصمت عن التعبير عن رأيه يسعُه بل هو أولى به ، فإن لم يكن ولابد فعليه التنبيه إلى ما عجز عنه من تصورات لازمة للحزم في القضية التي هو بصددها ، أما حين يغلبه الغرور فيجزم بما لم يحط بعلمه فقد اتبع السبيل التي ذمَّها القرآن الكريم وأخبر أنها وراء موقف الكفار من كتاب الله عز وجل ، قال تعالى :( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).
تمت هذه الخواطر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
مقدمة :
وجدْتُني وأنا أفكرُ في كل ما حولي من شؤون اليوم والليلة والتاريخ والواقع والمستقبل في حاجة ماسة لضبط إيقاع عقلي وتحري الحكمةِ التي هي وضع الشيء في موضعه والعدل الذي هو إعطاء كلِ ذي حق حقه ، ووجدتُ أن هذا العدل وذلك التحري يعسر أن يكون مالم أدَّخر في بصيرتي قواعد أُدرب ذهني على محاكمة ما يطرأُ عليه من قضايا إليها ، فوجدتُ أن منهج التفكير أو طرائق التفكير أو مهارات التفكير ، موضوعاً كتب فيه الكثيرون من علماء المنطق القديم والحديث وعلماء النفس وخبراء التدريب وغيرهم .
بل قد أُقِيمت للتدريب عليه ولا تزال تُقام دوراتٌ مهمة وبعض حقائبها منشورة في المواقع الإلكترونية المُتَخَصِّصَة .
كما وجدتُ أن ما اطَّلعتُ عليه منها في كثيرٍ منه يقصِدُ إلى تقسيم قُدُرات الناس في إعمال الذهن وتقسيم النشاطات التي يقوم بها العقل ، وبيان السبل التي يكون بها عقل الإنسان أنشط وأدق في مجال التفكير .
وكلها باستثناء عِلْمُ المنطق لا تُقدم قواعدَ يعمل عليها الذهن في طريقه للحُكم .
أما علم المنطق فقواعده لا تُخاطِب سائر الناس بل هي موجهة لمن يتعمد دراسته ، وربما عجز دارسوه عن تطبيق قواعده في حياتهم العلمية أو حياتهم الاجتماعية والعملية .
كما أنه علمٌ يغيب عنه الوجدان واعتبار الوحي لذلك عسُر أو تعذر تطبيقه على حياة الناس وتاريخهم واستشراف مستقبلهم.
لذلك شعرتُ أنني في حاجة إلى الرجوع إلى نفسي وتنظيم ما أحتاجه من قواعد أستعين بها في مهمة التفكير،أوقل:مسؤولية التفكير ، مستعيناً في ذلك بالله تعالى ، ثم بما مرَّ عليَّ من تجارب وما قرأته من علوم .
ورأيتُ أن تدوين أفكاري في هذا الصدد وإخراجها من عملية عقلية محضة ، إلى مُسوَّدةٍ مكتوبةٍ يعين العقل على الانتظام والترتيب في استجلاء هذه القواعد وتمحيصها .
ولما استكملتُ هذا العمل قدر الوسع في بضع ليال رأيت المشاركة به وتقديمه للقراء ، وأسميتُه خواطر في العدل الفكري .
أسأل الله تعالى أن ينفعني به ويجعله من العمل الخالص الذي ينفع الله به كاتبه وقارئه.
صناعة التفكير
منهجك هو طريقك المُحَدِدُ لمسارك والمُوصِل لغايتك ، ولا ينبغي أن ننشغل كثيراً برسمه وتعريفه فمعهوده في العقول واحد وإن تفاوتت طرائق الكاتبين في تعريفه .
والفكر هو ما ينتهي إليه التفكير .
والتفكير هو ذلك العمل التلقائي الذي يقوم به الذهن ليهتدي به إلى الصواب.
-التفكير وتفاوت البشر فيه
ويتفاوت البشر فيه كما يتفاوتون في سائر ما تنشط إليه قُوَاهُم الظاهرة والباطنة
وينشأُ هذا التفاوت عن أمور : منها : ما يتعلق بمدى غزارة المواد التي يشتغل العقل بالتفكير فيها ، فمن الناس من ينحصر تفكيره في أمور يومه وليلته من معاش وأهلٍ وأبناء ، ومنهم من يتسع نطاق ما يفكر فيه حتى تراه مهتماً بكل ما يبلغه علمه مما يدور في هذا الكون ، وبين هذين الذهنين درجات كثيرة ومتفاوتة من أنحاء التفكير ونطاقاته وعناصره .
ومنها: ما يتعلق بطريق الذهن إلى اشتغاله بالمادة التي يفكر فيها مابين مقتصرٍ على نظر ما تباشره حواسه منها لأول وهلة ، وبين معتنٍ بالإحاطة بكل أجزائها الظاهرة وغائصٍ في أعماقها محسوسة كانت أو مغيبة ، وبين هذين الطرفين أيضا مساحة واسعة متنوعة .
ومما ينشأُ عنه التفاوت أيضا ما يتعلق بآلة الذهن في معالجة ما يُفكر فيه ، ما بين ذهن فاقد لملكة التمييز بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسبَبات والتصورات والتصديقات والعلوم والظنون والأوهام وبين ذهن مُعتنٍ في كل ما يتناوله بتمحيص المقدمات وسبر الأسباب وجمع التصورات مع دقة تامة في الحكم على نتائج ما ينتهي إليه تفكيره ، وبين هذين الطرفين أيضا وسط ليس بقليل العدد والتنوع .
-احتياجاتنا والتفكير
وحينما ننشد الطريقة المُثلى للتفكير فعلينا أولاً أن نحدد احتياجاتنا التي نريد من هذه الطريقة أن توصلنا إليها .
ولا شك أن احتياجاتنا كفئات متنوعة لن تكون واحدة ، إذ إن ما يريده التاجر يختلف كلياً عمَا يريده العالم ، وما يريده الكادح ليس هو ما يريده الناعم الراغد ، بل إن احتياجات الفرد الواحد تختلف كثيراً باختلاف أحواله أو مواهبه أو تقلبات أيامه ، فقد يجتمع في رجلٍ العلم والتجارة ، وفي آخر العلم والكدح وفي ثالث فد تجتمع الثلاثة وهكذا ، فالفرد في كل حال من أحواله يحتاج طريقاً للتفكير يختلف عن طريقه في حاله الأخرى .
وهذه المسألة تُوقِفُنا عند الإشكال الأول من إشكالات التفكير ، وهو غلبة نمط من أنماطه على الذهن بحيث يكون آلته للوصول إلى القرار أو الحكم في كل القضايا التي تمر به مما يحتم وقوعه في الخطأ نتيجة استخدام بعض الأنماط في قضايا لا توائمها.
فتفكير الأب في الأسلوب الأمثل لمتابعة ابنه أو إشعاره بالخطأ لا ينبغي أن يستصحبه معه في عمله فيفكر بالأسلوب الأمثل لإشعار مرؤوسه بالتقصير بالطريقة نفسها التي يفكر فيها مع ولده ، والعكس صحيح فليس من الصواب أن يُفكر رئيس العمل بطريقته التي يُقَيَم فيها مرؤوسيه حين يتعامل مع أولاده .
وكذلك العالم الذي يعتمد كثيراً على قواعد أغلبية أو كلية في تفكيره التخصصي لا ينبغي أن يستصحب هذه الطريقة في التفكير حين يكون تاجراً في حاجة إلى روح المغامرة وسرعة اتخاذ القرار واستقراء حالتي العرض والطلب ، والعكس صحيح ، فلا يُقبل من العالم الهجوم على القرار ولا أن يعتَبِر بمدى قبول رأيه بين الناس من عدمه في حين يُطلب ذلك من التاجر بشكل لا يمكن أن يسمى تاجراً دونه .
إذاً فمعرفة احتياجنا هو الخطوة الأولى لنعرف كيف نفكر ، فمن يخطط لمستقبله أو مستقبل أبنائه يجب أن يختلف في طريقة تفكيره عمن يخطط لمستقبل الأمة ، ومن يحلل أخبار السوق ليستشرف المستقبل التجاري يختلف كثيراً عمن يحلل الأخبار الدولية ليستشرف المستقبل الأمني والسياسي للأمة .
ومع كل ذلك فهناك مشتركات من المطالب ومشتركات من الأخطاء يحتاج الجميع إلى معرفتها إما لاقتناصها أو الحذر منها.
وأخطرها في تقديري عدم تمييز مراتب المعرفة بعضها من بعض ويظهر ذلك في وضع المعارف في غير مراتبها الصحيحة ، وبيانه أن المعارف على مراتب.
-التفكير ومراتب المعرفة
أولها العلم وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازما، وثانيها الظن وهو الإدراك الراجح مع احتمال مرجوح وثالثها الشك وهو الإدراك مع الاحتمال المساوي ورابعها الوهم وهو الإدراك المرجوح وخامسها الجهل وهو إدراك مناف للحقيقة .
والعلم وهو اليقين تحققه في النفس أمور منها الحس والتواتر وخبر الصادق صلى الله عليه وسلم وتكاثر الأدلة التي يثبت باختبارها عدم تطرق الاحتمال إليها.
والظن يحصل بكل طريق يثبت عند اختبارها تطرق الاحتمال إليه كأخبار آحاد الثقات أو الجمع الذي يمكن عقلاً تواطؤه على الكذب
والشك يحصل حين تتساوى طرق المعرفة فتمتنع غلبة الظن بأحد الرأيين وذلك كأن ينقل ثقتان خبراً مختلفاً عن أمرٍ ما ، فيخبرنا زيد بهطول المطر في بلدٍ معين ، ويخبرنا عمرو بأن تلك البلد لم تُمطَر ، ولم يمكن الجمع بين الخبرين ، كأن يثبت لدينا أن زيداً زارها عشية وعمرا زارها صباحاً فحكى كلٌ ما رأى .
والوهم يحصل بخبر غير الموثوق أو من لا يستحيل عادة وعقلاً تواطؤهم على الكذب.
-الاوهام والخلل في التفكير
ويحصل الخلل في الفكر حين لا يفرق الإنسان بين الوهم واليقين أو بين الوهم والشك أو بين الشك واليقين وهكذا ، فيعطي الأوهام حكم المعلومات ويتعامل معها على هذا الأساس فيجعل الأوهام أو الشكوك أو الظنون مقدمات يقينية في زعمه ويبني عليها نتائج جازمة.
ومن حيث التنظير قد نستبعد أن يقع العقلاء في مثل هذا الخطأ، لكن سبراً يسيراً لأخطاء الناس في آرائهم وتعاملاتهم وعلاقاتهم يعطينا نتيجةً هي أن معظم أخطاء الناس في ذلك مبنية على هذا الإشكال .
وقد نبه القرآن الكريم على خطورة هذا الخلل في التفكير ، وأنه سبب رئيس من أسباب الكفر ، وحذر عباده من الوقوع فيه .
فمن ذلك قوله تعالى( مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا)
فهؤلاء اتبعوا الظن وبنوا عليه حكماً جعلوه يقينياً.
وقوله:{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }
فهؤلاء ارتكبوا خطأين ، الأول أنهم اتبعوا الظن فيما حقه اليقين وهو العبادة ، والثانية أنهم عارضوا اليقين بالظن .
وقوله:{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 35- 36].
وهذه الآية نص في أن ما حقه اليقين لا ينبغي أن تتبع فيه الأدلة المفيدة للظن.
وكثير من قضايا العلوم بأنواعها يُكتفى فيها بغلبة الظن مثل كثير من قضايا الفقه الاجتهادية وكذلك قضايا الجرح والتعديل للرواة في علم الحديث والأحكام التاريخية وأمثالها ، فهذه يحصل الخطأ فيها غالباً من إنزال الأدلة التي لا توصل سوى إلى الوهم او الشك منزلة الأدلة الظنية وربما منزلة الأدلة القطعية ،
وربما حملهم على ذلك أمور منها:كثرة دوران المعلومة وتناقلها بين الخاصة والعامة حتى التبست بالعلوم المستفيضة أو المتواترة ، مما يؤدي إلى جزم المتلقي بها أو غلبة أمر صحتها على ظنه فيجعلها مقدمة صحيحة ويبني عليها نتائج يجزم بصحتها مع أنها باطلة في حقيقة الأمر .
ويزداد الأمر سوءاً حين يتورط بعض أهل العلم والفضل في تزكية تلك المعلومة الدائرة فيظن المتابع أن هذه التزكية جاءت عن تدبر ودراسة والحق أن هذا الفاضل نفسه وقع في شَرَكِ تقدير المعلومة على غير ما هي عليه .
ويكفينا أن نتذكر أن كثيراً من البدع في الدين يستدل لها أصحابها بأحاديث ضعيفة أدى رواجها إلى اعتقاد الناس صحتها بل توهم صحتها بعض أهل العلم لكثرة ما كان من رواجها.
وكذلك المعلومات التاريخية نجد أن كثيراً من الأحداث المكذوبة لها دوران في الكتب حتى ليكاد يجمع المؤرخون على نقلها ، مع أن أساسها الكذب ولم تتم دراستها متناً وسنداً ، وحين نبني حكماً تاريخياً على معلومة مستندها الوحيد هو الرواج فإننا بذلك نقع في الحكم الجائر الذي يزداد خطره حينما يبنى عليه ما يتعلق بالدين أو التقدير الحضاري للأمة .
ويصدق ذلك أيضا على المعلومات التي يقوم الإعلام بتدويرها سواء أكان إعلاماً مؤسسياً أو إعلاماً شعبياً .
بل إن الإعلام الشعبي المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب ونحوها بات أكثر خطراً في قضية إحداث القناعة بالمعلومة المنتحلة ، وذلك لأن له من النفاذ وكثرة الطَّرْقِ على الذهن ما يعزز مكانته في النفوس .
وهذا ما يجعل مهمة الخلوص من الاستئسار له في حاجة إلى قوةٍ في شخصية المفكر وقدرةٍ على الصمود أمام تأثيره .
ومن الأمور المعزٍّزَة لإنزال الوهم منزلة الظن الراجح أو العلم القطعي الانطلاق في فهم أقوال الآخرين وأفعالهم من الأفكار المُكوَّنَةِ عنهم سلفاً ، ومَرَدُ ذلك إلى إحسان الظن أو إساءته ، ولا شك أن الفكرة الصائبة أو التصرف الصحيح قد يأتي من أناس لا نُحسِن فيهم الظن ، والعكس صحيح أيضاً، فعرض أقوال الناس وأفعالهم على ظننا بهم خيراً أو شراً ليس ميزاناً صحيحاً فضلاً عن أن يكون دقيقاً.
نعم : يصلح حسنُ الظن أو سوؤه ليكون مُرَجِّحاً أو مُسوِّغاً لحمل كلام البعض أو فعلهم على غير المتبادر منه لكن ذلك شريطة أن ينظم إليه أمور أخر تكفي في مجموعها لإحداث الشك أو تغليب الظن في كون المراد غيرِ المتبادر .
وقد تكون أفكارُنا التي كوَّنَّاها عن هؤلاء الأشخاص -سلباً أو إيجاباً- خاطئة أو مبالغاً فيها، وهنا لابد من إعادة التحقق من صحة تقييمنا لهم حتى قبل أن نعتمد هذا التقييم واحداً من المرجحات.
-دوائر الانتماء والفكر
ويُعَدُّ عاملاً مهماً في إنزال الأوهام منزلة الظنون أو المقطوعات : صعوبةُ الانعتاقِ من التأثيرِ الإقليمي أو الحزبي أو القبلي أو المذهبي في تقييمِ المعلومة.
ومثلُه تأثيرُ الدائرةِ والمحيط الفكري الذي ينتمي إليه الفردُ ، وذلك لأن تلك الدوائر تعد محضناً مناسباً يتقبل العقل من خلاله وبتلقائية شديدة كل ما يخدم تلك الدائرة من معلومات دون البحث في أدلة صحتها عقلية كانت أم شرعية .
وكذلك فإن دوائر الانتماء هذه تشكل جهازاً مناعياً يُحصِّنُ العقل ضد كل ما يضر بالدائرة التي ينتمي إليها الإنسان من معلومات وآراء دون تكلف عرضها على موازين الصدقية.
ولهذا تجد المعلومات الوهمية قد تُبنى عليها أحكام ظنية أو قطعية لا لشيء سوى أنها لم تُقَيَم تقييماً منعزلاً عن كونها جاءت في خدمة الدائرة التي ينتمي إليها الفرد.
وفي المقابل نجد المعلومة الصحيحة تُطَّرحُ فوراً دون بذل جهد كافٍ لوزنها وتقييمها ، وليس ذلك إلا بفعل الجهاز المناعي الذي تُغَلِّفُ العقلَ به دائرتُه الانتمائية.
وحالُ المفكرِ الحق أنه يبذل جهداً عظيماً في محاولة انتزاع نفسه من دائرة انتمائه حال قراءته للمعلومة وتقييمها .
والمُشَاهَدُ أن انتزاع النفس من المحيط حال تقييم الأفكار والمعلومات يُعَدُ لصعوبته معياراً دقيقاً لوزن المفكرين أنفسهم ، لكنه أيضا معيارٌ ثقيل يصعب حمله فضلاً عن استخدامه بشكل مطَّرد لوزن أفكار الناس وتقييمها ، ذلك أن من يدَّعي استخدام هذا المعيار لا بُد أن يختبر نفسه أولاً : هل هو في هذه الحال بعيد هو أيضا عن تأثير انتمائه إلى دائرةٍ ما؟ .
وينبغي أن لا يكون انتزاع الإنسان نفسه من دائرته الانتمائية تحت وطأة مؤثر سوى إرادةِ الحق ، لأن النفس الإنسانية يعتريها مؤثرات تحملها على مغادرةِ محيطها الفكري كالغضب من موقفٍ ما أو الشعور بوقوع المخالفين لتوجهه تحت وطأة الظلم، فتدفعه همَّتُه لنصرةِ المظلوم ، ومن ثَمَّ الانحياز إليه ، أو كمساندة الآخرين في قضية يراها عادلة ، أو غير ذلك من الأسباب التي كما قدمتُ قد تساهم في انتزاع البعض من تأثير محيطهم ، لكنها بالتأكيد لن تُساهِم في حيادية تفكيرهم ، والسببُ في ذلك أنهم انتقلوا عن النظر من خلال ثُقبِ انتمائهم إلى ثُقبٍ آخر والمطلوب إجالة بصرك بعيداً عن حدود الثقوب.
-التفكير وردات الفعل
وقريبٌ من هذا: التفكيرُ المتأثر بما يلحق الإنسانَ من أزمات وشدائد ، أو أفراحٍ ومسراتٍ ، أو انبهارِ إعجابٍ أو سُخْط ، المصاحبُ لما يُسمى بردات الفعل التي هي بلاشك ذاتُ تأثيرٍ كبيرٍ على عواطفِ الإنسانِ وطريقته في التفكير.
فسخطك على واقع ما سوف يدفع تفكيرك نحو حصر نفوذه في زاوية سلبيات هذا الواقع حين تريد مثلاً جمع المادة الاستقرائية التي هي إحدى أدوات العقل للوصول إلى نتيجة التفكير ، ولا شك أن استقراءك حينئذٍ يُعَدُ قاصراً ، ولو افترضنا أنك وصلت إلى نتيجة صحيحة من خلال هذا التفكير القاصر فقد وقعت عليها اتفاقاً وليس لأن منهجك في التفكير كان صائباً ، هذا مع أن الغالب عدمُ وصولك إلى نتيجةٍ صحيحةٍ من خلالِ استقراءٍ قاصرٍ ، وذلك فيما أداته الاستقراء من أنماط التفكير .
ولو استطعت التغلب على حالة السخط التي تمتلكك حال جمعك المادة الاستقرائية فإن نفوذ تفكيرك سوف يغطي كل هذا الواقع بسلبياته وإيجابياته، وبذلك ففرص الوصول إلى الصواب ستكون أكثر بكثير من الحال الأولى .
والأمر هو هو لو أنك فكرت في واقع مرضِي عندك ، فأنت حين لا تستطيع في حال التفكير الانفكاك من حالة الرضى هذه فسوف تجد عقلك متوقفاً عند محاسن ذلك الواقع غير قادر على استقراء سلبياته ، وبذلك تجد نتيجتك في غالب أحوالها خاطئة بسبب قصور استقرائك.
والأمر في القضايا الجزئية التي لا تحتاج إلى استقراء لا يختلف عمَّا قدمناه من ضرورة انتزاع العقل من تأثير ردات الأفعال الفرحة أو الغاضبة ، المحبة أو الكارهة .
ويمكننا القول : إن ما قدَّمناه من تأثير الدوائر الانتمائية أو ردات الأفعال ، أو سوى ذلك من العواطف المؤثرة ، جميعِها هي ما أسماه القرآن الكريم : الهوى ، وأخبر عز وجل أن اتِّباعه يُوقِعُ الفِكرَ في هُوَّاتٍ سحيقةٍ جداً وذلك في غيرما موضع من كتاب الله تعالى ، والهوى هو ما تميل إليه النفس ، وهو محبوبها ومرضيُّها من الأقوال والأفعال والاعتقادات وغيرها ، وكلها قد يرتضيها الإنسان لتعبيرها عن انتمائه أو لموافقتها لعاطفته الراضية أو الساخطة ، وكل ذلك سقوط بالتفكير إلى مضايق الأخطاء ومستنقعاتها .
أخلاقيات التفكير
نعم إن للتفكير أخلاقاً ، لكن إفرادها بعنوان ليس سوى التماسٍ لراحة القارئ ، وإلا فإن أخلاق التفكير وأدواته ليس أحدهما بمعزل عن الآخر ، فإن ما سأذكره مما أراه أخلاقاً للتفكير هو أيضا أدوات له بل ربما تقول إنها أركان يقوم عليها أو شروط لا يتم إلا بها .
-العلم والتفكير
وأولها العلم ، وأعني به تحديداً إحاطةُ المفكرِ بكلِ ما تلزمه الإحاطةُ به بخصوصِ ما يفكر فيه .
وقد يكون الأمر الذي هو موضوع التفكير من المدركات القريبة التي لا يستلزم التفكير فيها كبير بحث واستقصاء بل تكفي فيه المشاهدة الواضحة أو الأخبار الصادقة ، وفي الطرف الآخر هناك أمور يقتضي التفكيرُ فيها إحاطة المفكر بفن من العلم أو عددٍ من الفنون ، وهنا يُصبح التفكير باباً من أبواب البحث العلمي أو مرادفاً له في وصفه ومعناه وبين هذين الطرفين درجات شتى.
وتكمن المشكلة هنا حين تُعَامَلُ القضايا العلمية أي التي تقتضي الإحاطة بفنون المعرفة معاملة المدركات القريبة ، فتجد المسائل العويصة لاسيما في مجالات العقيدة والفقه والسياسة والتاريخ السياسي يتصدى لها وبكل ثقة وعنفوان من لا يمتلكون المادة العلمية والقدرة البحثية المفترض توفرها قبل البدء في عملية الدراسة أو التفكير .
وهنا نقف على مُشْكِلةٍ من مشكلات التفكير ، وهي عدم التمييز بين القضايا ذات المدرك القريب والأخرى ذات المدرك العويص أو لنقل المدرك العميق .
-التفكير والغرور المعرفي
وهذا نوعٌ مما يُطلِق عليه البعضُ : الغرور المعرفي ، وهو تجاسرُ الإنسانِ على تسور ما لا يمتلك أدوات التفكير فيه ، وكما يوجد هذا النوع من الغرور عند الكثيرين من العوام ، يوجد أيضاً عند أهل العلم ، بل إن أخطر حالاته أن يبدوَ على أهل العلم في كتاباتهم وندواتهم.
ومظاهر وجوده عند العلماء شتى ، منها :
أن يتحدث العالم أو طالب العلم في غير فنه ، وكما قال الأولون:من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب .
أو يتحدث فيما لم يستكمل بحثه من المسائل ، أو يتحدث في مسألة غلبه عليها هواه ، أو يتحدث في مسألة داهن بها الجماهير ، أو داهن بها السلاطين ، ولم يحمله فيها رأيه الذي أداه إليه البحث بل تَصَنُّعُه لإحدى هاتين الفئتين .
وضرر العالم المصاب بالغرور المعرفي أو لنقل النفاق المعرفي ربما كان في كثير من الحالات أشد ضرراً من غرور العامة وإنصاف المتعلمين.
وكل ذلك مما يدخل في قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)
وقد لخص القرطبي أقوال المفسرين في قوله (ولا تقف) فقال :الأول : لا تسمع ولا تر ما لا يحل سماعه ولا رؤيته . الثاني : قال ابن عباس : لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك . الثالث : قال قتادة : لا تقل رأيت ما لم أر ، ولا سمعت ما لم أسمع . الرابع : قال محمد بن الحنفية : هو شهادة الزور . الخامس : قيل عن ابن عباس : معناه لا تقف لا تقل .
ثم قال بعد ذلك : هذه الأقوال كلها صحيحة ; وبعضها أقوى من بعض ، وإن كانت مرتبطة ; لأن الإنسان لا يحل له أن يسمع ما لا يحل ، ولا يقول باطلا ، فكيف أعْظمُه وهو الزور.
-التفكير ونقد مصادرالمعرفة
وكما يؤدي الغرورُ المعرفيُ إلى عدم استكمال أدوات البحث والقول بغير علم ، فإنه يؤدي إلى رفض جملة من مصادر المعرفة ، يتصور المغرور أنها قد توصِل إلى نتائج غير التي هو مندفع إليها، وهنا يتجلى لك أن المغرور غير مولع بالحقيقة بقدر ما هو مولع بإظهار رأيه .
وسوف تجد أن هذا الرفض لمصادر المعرفة ربما يظهر على هيئة طعن في المصدر المخالف ، ونقد المصادر أسلوب ضروري في البحث العلمي من حيث الأصل ، لكن هذا النقد لابد أن يكون وفق منهج يعمد إلى تخليص المصادر مما يحجب الحقيقة أو يوردها على غير صورتها ، وحين يكون الطعن في المصادر مبنياً على مثل هذا المنهج فهو مؤشر نجاح للباحث ، لكن حديثنا عن الطعن الذي لا يراد منه سوى الاستبقاء على النتيجة المُشْتَهَاة .
ومصادر المعرفة ليست نوعاً واحداً حتى يمكننا إجمال القواعد الصحيحة لنقدها او الطعن فيها ، فمنها الحس وأخبار الناس والكتب ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة ، وكل نوع يختلف عن الآخر في المنهج النقدي الملائم له ، لكن من أهم ما ينبغي تجنبه في نقد المصادر أن لا نخلط بينها في مناهج النقد.
فمثلاً نجد أن اعتبار الديانة والأمانة مهم جداً في الأخبار التي ينبني عليها تقييمنا لمواقف بعض الشخصيات العلمية والعامة ، وفي المقابل لا يصلح أن نرد خبراً أوردته وسيلة إعلام مشهورة بمهنيتها لكونها غير ملتزمة دينياً أو غير متفقة مع توجهنا سياسياً ، فأخبار وسائل الإعلام تنتقد من خلال كفاءتها في الوصول إلى مصدر الخير ، وملاءمة ذلك الخبر لسياق أخبار أخرى ، كما تنتقد من خلال تحليل الخبر ذاته من حيث الصياغة ومدلولها وإيحاءاتها ، أما التدين والتوجه السياسي فهما عاملان مهمان من عوامل تحليل أخبار الوسيلة وليسا شرطين لقبول الخبر أو رده .
وكذلك فإن ثقتنا في مؤرخ ما مثل ابن كثير أو الذهبي لا يعني قبول كل ما أورداه من أخبار في كتابيهما بل يجب عرض تلك الأخبار على معايير النقد التاريخي .
ومنهج نقد الرواة عند المحدثين لن يكون صالحاً بشكل مطلق للتطبيق على جميع الحقب التاريخية ، بل ربما نقول إن تطبيقه على جميع الحقب التاريخية يعني نفي تاريخها بالكلية .
المهم كما قلت قبل قليل عدم الخلط بين المناهج في نقد مصادر المعرفة لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى خلل كبير في الفكر المبتنى على المعلومة .
-التفكير والعدل
ويُمكننا أن نعتبر العدل أساساً أخلاقياً لكثير من نشاطات الإنسان كالحكم والتجارة والتربية والإدارة وعموم الأقوال والأفعال ، وهو كذلك أيضا أساسٌ في التفكير ، ولعل أكثر ما تقدم حديثنا عنه من قواعد في التفكير يمكن إرجاعها إلى العدل بمعناه الأوسع والذي عبر عنه الجاحظ بقوله : استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير .
وعلى هذا التعريف لا يُمكن أن يُتصور جُهدٌ إنساني بدني أو عقلي أو عاطفي إلا والعدل مطلب مهم فيه ، وكل ما تقدم من حديثنا عن التفكير هو من السعي لاستعماله فيما ذكره الجاحظ رحمه الله .
ويبدو لي زيادةً على ما ذكره الجاحظ : أن العدلَ قوةٌ عقلية منجذبةٌ إلى الحقِ ، يستطيع بها الذهنُ التغلبَ على أنواع الأهواء وسائرِ العواطف ، ويظهرُ أثرُها على تفكير الإنسان وأقواله وأفعاله ، بل إن الأقوال والأفعال العادلة ثمرةٌ للتفكير العادل .
وقد يكون باعثُ هذه القوة في الإنسان فطرياً محضاً ، وهي المَلَكَةُ الراسخة في الخِلْقَةٍ للبحث عن الحقيقة ، وهذه الملكة الفطرية قد تتغلب عليها الأهواء والعواطف فتغمُرُها وتضعفُ أثرَها على النفس ، وقد تتغلب هي على تلك المشاعر فتصبحُ هي الحاكمة على العقل كُلِّيَاً أو جُزئيا.
وهذا الباعثُ يستوي البشرُ فيه مؤمنهم وكافرهم ، عالمهم وجاهلهم ، وبه يعدِلُ من يعدل من كتَّاب غيرِ المسلمين ومفكريهم وقادتهم .
وقد يكون باعثُ هذه القوة إيمانياً: طاعةً العبد لله تعالى وخوفاً من معصيته ومحبةً لما يحبه ربه عز وجل من عباده من قهر الهوى وعدم الجنوح في الأحكام إلى مرامات النفوس واندفاعاتها، فهذا العدل الإيماني هو أكمل أنواع العدل في التفكير ، لأنه تعبيدٌ لهذه الجارحة الخطيرة -وهي العقل- لله سبحانه وتعالى، تَوَافَقَ مع الملكة الفطرية التي أشرتُ إليها آنفا ، فكان أكمل للبصيرة وأقوى في تذليل العقبات الحائلة دون الحقيقة .
-التفكير المنهجي
وهناك أمرٌ يقتضيه العدل غير ما ذكرنا من التغلب على الأهواء والعواطف وهو استخدام قسطاسٍ دقيق لوزن الأمور واعتبار بعضها ببعض ، وهو ما يحلو للكثيرين تسميته بالمنهج، لأن العقل دون ذلك الميزان يقع في تضارب الرؤى وتناقض الأحكام وعدم تمييز المقدمات من النتائج.
ويُعَدُ التفكيرُ التبعي حائلاً دون التفكير المنهجي ، وهو المُنْطَلِق من التسليم بصحة النتيجة التي توصل إليها المتبوع سواء أكان قدوة أم مجتمعاً ، وذلك لأن هذا النوع من التفكير إنما يجعل همه وهمته منصبين في اتجاه إثبات أو تسويق تلك النتيجة التي سلَّم بها العقلُ التابعُ ابتداء ، وربما كانت تلك النتيجة مبنيةً على مقدماتٍ باطلة أو ناقصة ، أو منتزعة من مجموع تصورات وتصديقات وهمية ، ومأزقُ العقلِ حينئذٍ أنه مرغمٌ على إثباتها وليس التحققَ منها .
وهنا يؤمر العاقل بالانعزال عن المتبوع أو عن المجموع ، ثم يقوم بالتفكر الحقيقي وفق المنهج والقسطاس .
ولعل الآيات العديدة التي قللت من القيمة المصداقية لرأي أكثر الناس تنبه إلى ضرورة عدم الاعتداد برأي المجموع في تقييم المعارف ، فالله عز وجل يقول في مواضع عديدة( ولكن أكثر الناس لا يشكرون) ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .
وربما كانت الآية ٤٦من سورة سبأ أصرح في الدلالة فيما نحن بصدده وهو التفكير ، فنص الآية ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) .
قال الطبري في تفسيرها :( وقيل : إنما قيل : إنما أعظكم بواحدة ، وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى .{مثنى}يقول : يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة : هل علمتم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جنونا قط؟ ثم ينفرد كل واحد منكم ، فيتفكر ويعتبر فرداً هل كان ذلك به؟ فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم )
فقد أمرهم الله بالخلوص إلى أنفسهم مثنى وفرادى لينفكوا من سطوة رأي المجموع .
وقد أطال جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير الحديث عن الأثر السيئ الذي يتركه المجموع على عقل الفرد وقدراته على التفكير ، كما دون الباحث إريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق الكثير من الملاحظات الدقيقة حول هذا الأمر ، ويُمكن الخلوص مما قدماه إلى أن قدرات العقل مهما كانت قوية ومتميزة فإن الانحباس في المجموع يحد كثيراً من استطاعة التحليل والاستقراء والتقييم لديه .
-قواعد منهجية لضبط التفكير
ولعلي هنا أقف عند بعض الأمور التي يمكن أن تعتبر قواعد منهجية يمكن من خلالها ضبط التفكير.
فأولها : ما يُسميه المناطقة والأصوليين : السبر والتقسيم ، ويمكن تيسير توضيحه بأن المسائل التي تواجه العقل سواء أكانت في حياته اليومية أم في القضايا الاجتماعية العامة أم الخاصة ، وكذلك ما يمر بالمثقف من قضايا تاريخية أو سياسية ، غالبُ تلك المسائل إن لم نقل كلها مكونة من أجزاء، يقتضي كلٌ منها نظراً خاصاً به أولاً ،لأن النظر المستقل لكل جزء على حدة سيؤدي إلى فهمٍ أعمق للقضية محل الدراسة ، فيقوم المُفَكِّرِ بفرز تلك الأجزاء وتمييزها عن بعضها ومن ثَمَّ النظر والتدبر في كل واحدٍ منها على حدة ، وبعد ذلك جمعُ المتشابه منها وإعطاؤه ما يليق به من أحكام ، ومن ثم إلحاق كل جزء منها بما يشبهه ليخرج من ذلك بحكمٍ عام مفصلٍ وليس مجملا.
ولنضرب لذلك مثلاً بالثورة الفرنسية ، فإن الحكم السائد عليها بين المثقفين أنها حسنة ، لكونها أسقطت الاستبداد وأعطت الحقوق للشعب ، وهذا الحكم إجمالي لا سبر فيه ولا تقسيم ، إذ هو يجعل الثورة الفرنسية بمقدماتها وأحداثها وما نتج عنها قضية واحدة لا تفاصيل فيها ويُسقط عليها حُكماً كُلياً واحداً.
والذي ينبغي هو دراسة ما يُقال إنه مقدمات تلك الثورة ومُسبباتها ، وتأمل كل واحدٍ منها على حدة والنظر فيما يصلح منها ليكون حقاً سبباً لتلك الثورة أم لا ، ولعلك بعد اختيارك لتلك المقدمات تستبعد أن تكون هي ما دفع الجماهير حقيقة إلى تلك الثورة ، ثم تنظر إلى أحداث العشر سنوات التي هي مدة الثورة ، ما بين عامي ١٧٨٩و ١٧٩٩ واختبر تلك الأحداث كل على حدة وهل كانت هذه الأحداث كلها ثورة شعبية نتجت عن أسبابها أم انصرفت لتكون سلاحاً لطبقة ما أو أفرادٍ ما ، ولعلك تصل إلى استبعاد كثير من تلك الأحداث من قائمة أحداث الثورة ، ثم تنظر النتائج التي زعموا أنها للثورة وتفحص كل واحدة منها على حدة لتتحقق من أيها كان حقاً ناتجاً عن الثورة ، وأيها كان ناتجاً عن عوامل أخر .
ثم لتفعل ذلك في كل ما يعرض لك .
ولك أن تقول : إن هذه مهمة صعبة وجهد يطول ، ولو أردنا أن نصنع ذلك في كل ما يعرض لنا لما كان لنا أن نصل في شيء إلى قرار ، ولما حَقَّ لنا أن نقول في شيء رأيا !؟
وجواب هذا التساؤل : أن القضايا التي تمر بنا يومياً ليست بحجم الثورة الفرنسية التي جعلناها مثالاً ، بل كثيرُ قضايانا لا يُكلفنا السبرُ والتقسيم فيها سوى دقائق قليلة ، إما لقلة تفاصيلها ، وإما لكون تلك التفاصيل لا تقتضي سوى مراجعةٍ للذاكرة قليلا ، فالقول إن السبر والتقسيم يحول بيننا وبين اتخاذ الآراء في كل شيء قول غير مستقيم.
أما القضايا التي هي في حجم الثورة الفرنسية كسائر القضايا التاريخية ، أو القضايا العلمية ، أو القضايا السياسية التي يغلب عليها تعدد الأطراف ومخالفة البواطن للظواهر ، ففي مثل تلك القضايا أقول : نعم من لا يُحسِن مثل ذلك السبر والتقسيم فيَحْسُن منه أن لا يقول في شيء ما لم يستكمل أدوات الحكم فيه .
والثاني من الأمور التي تعين على ضبط التفكير :
-تجنب التعميم والإطلاق فيما حقه التخصيص والتقييد ، وكذلك تجنب التخصيص والتقييد فيما حقه التعميم والإطلاق .
وقد يُقال : إن التعميم والإطلاق صفات للأحكام ، وههنا نحن نراجع الطريقة المُثلى التي تُوصِلُنا إلى حُكْمٍ عادل ، فالنصيحة بالتعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد محلها حين نتحدثُ عن أوصافِ الأحكام وليس الطرق المُوصِلَةَ إليها .
والحقُ :أن الحكم في قضية كبرى لابد أن يُبنى على أحكام أجزائها ، وهو ما يُسَمِيه المناطِقَة بناء النتائج على المقدمات ، فالمقدِّمات الصغرى ينبغي على المُفَكِّرِ حمايتها من العموم في موضع الخصوص والعكس وكذا الإطلاق في موضع التقييد والعكس ، لأنه إن فَعَلَ فسدت نتائجه وكانت في هذه الخصلة على منوال مُقدِّماتها .
فحين تقول :الشباب ُ في بلد كذا كسولٌ ومهملٌ وخنوع ، فتخرج بنتيجة ِ أن الشباب في هذا البلد لا يمكن الاعتماد عليه ، فهذه المقدمات المطلقة أدت إلى نتيجة مطلقة ، وهي من الإطلاق في موضع التقييد ، لأن الكسل من المستحيل أن يكون صفة ملازمة لشباب عشيرة واحدة فكيف ببلدٍ كامل.
لكن حين نقول إن المترفين من شباب تلك البلدة يكسلون ويخملون ويخنعون حين لا تعتمد عليهم أو حين لا تعطيهم أجره ، فتخرج بنتيجةٍ هي : أن الشباب المترف يجب الاعتماد عليهم.
فهذا من التقييد في موضع الإطلاق ، وذلك لأن الغالب على البشر أنهم حين لا يُعتمد عليهم يخملون ويكسلون ، فتقييد ذلك بالمترفين أدى إلى نتيجة مقيدة لكنها غير صحيحة .
ومن حيث التنظير المحض ، فإن الكثيرين يبتعدون عن التعميم في أحكامهم ، فتجد أحدهم حين يُعْطِي حكماً سلبياً على طائفة بعينها يُتبع ذلك بقوله ( أنا لا أقول كلهم لكنني أقول أكثرهم أو كثير منهم ) يقول هذا مع أن المستقر في ذهنه هو الحكم الكلي ، لكنه يأتي بهذا الاستدراك خشية النقد أو المساءلة .
وحين نتحدث عن التفكير الصائب فإننا لا نريد أن نُصَوِّر أنفسنا على أننا أصحاب ُ فكرٍ متروٍ منصفٍ ونحن لسنا في حقيقة الأمر كذلك ، بل نريد أن يكون القول معبِّراً عن عمليةٍ فكرية حدثت في الذهن فعلاً ، لأننا حين نخدع الناس ونُظهر لهم بقولنا أننا فكَّرْنا بطريقة عادلة وحقيقة الأمر عكس ذلك فإننا لا نزور الحقيقة وحسب بل نجني على سمعة التفكير المنهجي برمته .
وهذا في الحقيقة ما يفعله كثيرون ممن يوهمون الناس أنهم مفكرون ، حيث يقدِّمون تحليلات يتقبلها الناس على أنها صادرة من أصحاب مهارة ودرية وأمانة ، وحقيقة الأمر أن ذلك التحليل لم يستغرق من أذهانهم سوى وقت صياغة عباراته .
والثالث : من الأمور التي تعين على ضبط التفكير والعدل فيه:الصدق في تقييم الرأي المخالف :
وبيانه أنك حين تتبنى موقفاً مقطوعاً به لا بد أن توضح أن موقف مخالفك جهل لأن الأحكام المخالفة للقطعيات هي من الجهل .
مثال ذلك : حين تقطع بوجود حاتم الطائي تاريخياً فلا بد أن تصف نفي وجوده بالجهل .
وكذلك حين يغلب على ظنك وجود أشعب ، فلا بد أن تصف نفي وجوده بالوهم .
وحين يستوي عندك احتمالُ وجودِ شخصيةٍ مثلِ جحا واحتمالِ عدمها فلابد أن تصفَ تصورَ وجودِها بالشك .
وترجعُ أهميةُ تقييمك للفكرة المخالفة لك إلى كون ذلك يحددُ مدى احتياجِك لمراجعةِ نفسك ، وأيضا تحديدِ القوة التي ينبغي أن تطرحَ فيها رأيَك ، وكذلك هو الذي يحدد موقفك من مخالفك وأسلوبِك في الرد على فكرته .
فمن كان رأيه في مسألةٍ ما قطعياً لكنه تعامل معه معاملة الظنيات ، فجعله عرضة للمراجعة وإعادة النظر وتقبل فيه وجهات الآخرين وتعامل معها معاملة الآراء السائغة ، فإنه حين ذاك يُعَدُ جائراً على القطعيات التي لا يصحُ عقلاً أن تحتمل رأياً آخر ، ورُبما جنى على نفسه بتعريض عقله للتشكيك في القطعي ، وجنى على غيره بجعله القطعي مجالاً للسجال وتبادل الآراء .
مثاله محكمات الدين القطعية في ثبوتها والقطعية أيضا في دلالتها ، كآيات القصاصِ وقطعِ السارقين حينَ يُناقِش البعضُ في دلالتها على ما لا شك في دلالتها عليه ، ويُعرضون قلوبهم للشبهات ويُتِيحُون إمكانية نشر ذلك في مجتمعهم .
والتشكيك في القطعيات سواء أكانت ثابتة بالنص أو بالتواتر أو بالحس من أعظم الجنايات على العقل البشري بأسره ، لأنه يعني عدمَ وجودِ شيء مُسَلَّمٍ به في هذه الحياة أبدا، والمُسَلَّمات هي الأساس الذي يبتنى عليه الفكرُ كله ، وحين يتحطمُ الأساس يسقط الفكر ويضيع العقل ويضيع الإنسان معه .
وحينما يُقَيِّم المرءُ حُكْماً ظنياً توصل إليه على أنه قطعي ويُقَيِّمُ كلَّ فكرةٍ مُخالفةٍ لما توصل إليه على أنها جهلٌ ، فإنه يتورطُ كثيراً وذلك بحبس نفسه عن معاودة التفكير فيما توصل إليه ، ويَحرمُ نفسه من الاستماع لأي وجهةٍ أخرى مخالفةٍ مع أن الحق قد يكون معها، وإن لم يثبت الآن فقد يثبُتُ غداً.
وأخطرُ منه من قيَّم الأفكار الظنية المخالفة له على أنها وهمية أو قيم الشكوك المساوية في أدلتها لما توصل إليه على أنها وهمية أو باطلة .
ويزداد الأمرُ سوءاً حين يصدرُ هذا الخطأُ الشنيعُ في تقويمِ الفكرِ المخالفِ من مسموعِ الكلمةِ أو متبوعِ الرأي ، حينها تصبحُ المغالطاتُ هي الحاكمة فيما يشيع بين الناسِ من رأي في أيٍ من القضايا .
الرابع من الأمور التي تعين على ضبط التفكير والعدل فيه:الصدقُ في تقييم النفسِ في مقابل ما هي مُقْدِمَةٌ على التفكير فيه من القضايا :
وعدم الصدق في تقييم النفس إما أن يكون غروراً واغتراراً ، وإما أن يكون إفراطاً في التواضع والزهد بما عند النفس.
فالطائفة الثانية لا يظهرون فكرهم ولا يبرزون آراءهم ، وربما كانوا لا يتصدون للتفكير أصلاً مع قدرتهم وتمام أهليتهم ، ويعبر عنهم قول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمامِ
ولعل للحديث عنهم موضع آخر .
أما الطائفة الأولى ، فهم الذين يتصدون إلى ما ليسوا أهلاً للتصدي له .
ويظهر ذلك في صورٍ شتى أبرزها تلك القضايا التي يحتاجُ الرأيُ فيها إلى رصيدٍ من علمٍ من العلومِ لا يصحُ لمن لا يملكُ هذا الرصيدَ الإقدامُ على تقريرِ الرأي فيه ، ولنضرب لذلك مثالاً بالأدب ، فتقييم نصٍ شعريٍ ما ، يقع على مرتبتين : إحداهما التذوق الشخصي لهذا النص حسب ما يقع في نفس قارئه من الانبساط له وملام سته وجدانه أو حاسته الموسيقية ، فهذا لا يُعَدُ حكماً فكرياً ، بل هو ذوقيٌ محض وهو لجارحةِ العقل ِمثلُ الطعامِ والشرابِ لجارحةِ اللسان ، ومن حق كلِ أحدٍ أن يقول في هذا النص ما يُدلي به ذوقه من مدحٍ أو ذم .
المرتبة الأخرى : مرتبة التقييم النقدي المبني على قواعد علوم العربية من علم اللغة والنحو والصرف والبلاغة بأبوابها الثلاثة ، البيان والمعاني والبديع، وإن كان النصُ شعرياً لزم المعرفة لعلمي العروض والقافية ، وكذلك يستلزم هذا النوع من النقد علو المقام في الذائقة الأدبية التي لا يستحصلها الإنسان إلا بعد عيشٍ غير قصير مع النصوص الأدبية بأنواعها .
فهذه المرتبة لا ينبغي أن يعمل عليها إلا من حاز من تلك العلوم ما يصلح أن يكون آلة لهذا العمل النقدي .
وحين يقتحمُ العملَ النقديَّ من لا يملك تلك الأدوات فإنه يُحْسَبُ مغرُوراً ولا شك أن الغرور ضربٌ من السفه .
وقد ضربتُ المثل بالنقدِ الأدبي الذي ميدانُه نصوصٌ بشريةٌ لا يترتب على خوضِ من لا يُحسِنُها فيها أثرٌ في معاش الناس أو معادهم ، لأنبه إلى أن كل ما يستلزم الحكمُ به إحاطةً بالتفسير والفقه والحديث والأصول يبدو اقتحامه لمن لم يملك أدواته أشدَّ خطراً وأعظمَ ضرراً لكونه متعلقاً بمعاش الناس ومعادهم.
-الصدق والغرور المعرفي
ومما يدخل في الصدق في تقويم النفس من جهة الغرور والاغترار : معرفةُ القدر الكافي من التصورات لتحصيل التصديق.
مثال ذلك حين نريد الوصول إلى رأي في إمكان استصدار تشريع يمنع تزويج القاصرات ، فذلك يستلزم معرفةً دقيقةً بعدد القاصرات اللواتي تعرضن للتزويج، ونسبتهن إلى أخواتهن من الكبيرات ، ثم نعرفُ نسبةَ من تضررنَ بهذا التزويج إلى مجموعهن الكلي ، ثم نعرف عن هذا الضرر الذي لحق بهن هل كان سببُه التبكير في زواجهن أم أمرٌ آخر ، عند ذلك يمكننا الوصولُ إلى رأي في هذه القضية .
أما حين نقررُ وجوبَ استصدارِ نظامٍ يمنعُ من هذا التزويج مع أن الأصل في حكمه الإباحة لسماعنا عن حادثتين فشلتا ، أو ثلاث أو أربع تجلت أخبارُهن للأنام لسببٍ أو لآخرَ ، في حين لم تبرز حالاتٌ كثيرة ناجحة ، فهذا من جنس ما تحدثنا عنه من الغرور المعرفي الذي يصور لصاحبه نصفَ الحقيقة وكأنها الحقيقةُ كاملة .
وقد نهى الكتابُ الحكيم عن ذلك بضربه المثلَ بواقعةٍ مصغَّرةٍ ظهر فيها الاغترارُ بنصفِ الحقيقةِ على أحد أنبياء الله ليكون ذلك أبلغ في زجر الناس عن الوقوع فيه ، لأن ما فُتِنَ فيه نبيُ عظيم كان حذرُ سائرِ الناسِ من الفتنة فيه من باب أولى .
يقول عز وجل :( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب)
فهذه الآية تُنبِّه إلى ضرورة استكمال العناصر المُكَوِّنَة للحقيقة قبل الإقدام على الحكم ، والمعنى المُسْتَنبطُ منها أعمُّ من الحكم القضائي كما يبدو لي ، إذ هي تمنع المجازفة في الحكم أياً كان نوعه ، والمجازفة الواردة في الآية هي من اعتقاد داود عليه السلام أن ظاهر الخصمين وما أدلى به أحدهما كافٍ في القطع بالحكم قبل سؤال الطرف الآخر ، قال القرطبي رحمه الله تعالى ( أخبر الله - عز وجل - عن داود - عليه السلام - : أنه سمع قول المتظلم من الخصمين ، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر ، إنما حكى أنه ظلمه ، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول ، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم ، فقال له مستعجلا : لقد ظلمك)
والقضية التي نبه القرآن عليها من أمر داود عليه السلام خاصة في شأن اثنين ، وهو تنبيه على أن ما كان أعظم أثراً كان أولى بالاعتبار .
ويدخل في الصدق في تقويم النفس من جهة الغرور والاغترار: معرفة القدر المعجوز عن تحصيله من التصورات المُعِينَةِ على الوصول إلى الحكم.
فهناك قضايا يعجز الإنسان عن تحصيل أجزائها ، إما لقدمها وذهاب مصادرها كالكثير من القضايا التاريخية ، وإما لخفائها إلا على طبقة معينة من الناس كالكثير من قضايا السياسية المعاصرة .
والحق أن العجز عن تحصيل كثير من أجزاء التاريخ أو الخفايا السياسية لا يمنع في رأيي من إبداء رأيٍ فيها لاسيما للمشتغلين في هذين الفنين ، لكنه يمنع من الجزم برأي معين ، وهو يدخل فيما قدمناه من تجنب القطع في موضع الظن أو الشك .
خاصة وأن الجزم في هذه القضايا يستلزم أموراً خطيرة جداً من إيقاد العداوات وإثارة النعرات ، لهذا كان الإقرار بالعجز عن تحصيل خفايا يُرِيحُ المُفَكِّرَ كثيراً من التبعات الخطيرة التي ربما تستلزمها آراؤه لو كان مجزوماً بها .
وحين يعجز المرؤ عن تحصيل بعض التصورات اللازمة للوصول إلى قرار أو رأي في أمر معين ، فالصمت عن التعبير عن رأيه يسعُه بل هو أولى به ، فإن لم يكن ولابد فعليه التنبيه إلى ما عجز عنه من تصورات لازمة للحزم في القضية التي هو بصددها ، أما حين يغلبه الغرور فيجزم بما لم يحط بعلمه فقد اتبع السبيل التي ذمَّها القرآن الكريم وأخبر أنها وراء موقف الكفار من كتاب الله عز وجل ، قال تعالى :( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).
تمت هذه الخواطر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا