هويدي 6-5-2003
فاجعة الوقت لا تكمن فقط في أن العراق جري احتلاله, ولكن أيضا في أن أصواتا عدة, ارتفعت داعية إلي إشهار إفلاس الأمة العربية كلها واستسلامها, إزاء ذلك فلعلني لا أبالغ اذا قلت إنه اذا كان ما جري للعراق كارثة من العيار الثقيل, انضافت إلي سجل كوارثنا الذي يمثل احتلال فلسطين عنوانا كبيرا له, فإن دعوة الأمة إلي الانبطاح تغدو أم الكوارث بامتياز.
(1)
للمشهد الكارثي وجه آخر, لا نستطيع أن نتجاهله, يتمثل في كم الفضائح التي استصحبته, وهي بدورها من العيار الثقيل, ولأنها كثيرة فإنني سوف أؤجل التفصيل فيها إلي فرصة أخري, لكني سأتوقف لحظة أمام واحدة من تلك الفضائح, تنتمي إلي جنس الكبائر الفكرية والسياسية التي لا تغتفر, ذلك أن ثمة جدلا مدهشا في بعض الصحف العربية حول تكييف ما جري في العراق, وهل هو احتلال أم تحرير؟ وهو السؤال الذي لم يكن متصورا أن يطرح من أساسه, علي الأقل في عالمنا العربي, ولكن لأننا في زمن اللامعقول السياسي, فقد طفا السؤال علي السطح, وتعددت في شأنه الاجتهادات, فمن قائل اننا بصدد تحرير للعراق وشعبه, وبداية لربيع الديمقراطية في البلد الذي خضع للاستبداد طيلة أكثر من ثلاثة عقود, وهناك من اصطنع الحكمة والرصانة, ودعا الناس إلي عدم التعجل في إصدار الأحكام, والانتظار لبعض الوقت مع متابعة السلوك الأمريكي في حكم العراق, للتحقق مما اذا كانوا طامعين, أم مصلحين ومحررين, وقرأنا لمن قال إنه احتلال حقا, ولكنه من نوع خاص أرقي وأرفع, بمعني أنه لا يخلو من إيجابيات( أهمها إسقاط النظام الاستبدادي), أما أغرب ما قرأت في هذا الصدد فعنوان لمقالة نشرتها إحدي الصحف العربية اللندنية, يقول: يجب أن نتعلم أخلاق الأحرار ولو علي حساب الاستقلال, ووجدت للعنوان أصلا في المقاله هذا نصه: حق لنا أن نتعلم أخلاق الأحرار, حتي لو كان ذلك علي حساب استقلال وكرامة وشرف, تبين في النهاية أنها وهم من أوهام كهوفنا الجميلة, منذ أن مرغها أبناء جلدتنا في الوحل والطين, قبل أن يفعلها الآخرون(!).
هذه ليست اجتهادات تشين أصحابها فحسب, إنما هي في الوقت ذاته شهادات فضائحية تكتب تاريخ المرحلة التي نعيشها, والتي اهتز فيها كل شيء والتبس, بما في ذلك القيم التي تمثل ركائز المجتمع وثوابته, حتي تداخلت الحدود بين الخطأ والصواب, والفضيلة والرذيلة, والعقل والجنون.
المذهل في الأمر, أن هذه النقاشات تدور علي صفحات صحفنا, بينما تتصرف الولايات المتحدة في العراق كدولة محتلة, عاتية فقررت أن تقيم في أرجاء البلاد أربع قواعد عسكرية باعتبارها من مستلزمات الإقامة الطويلة, فضلا عن أنها مضت تمارس احتلالها بطريقة مباشرة وفظة, فالرئيس بوش قرر تعيين حاكم مدني لذلك البلد الكبير, هو بمثابه( وال) يمثل سلطان البيت الأبيض( وهو ما لم تفعله الولايات المتحدة في أفغانستان, التي جاءت بأفغاني من رجالها ونصبته علي رأس الدولة), في حين أن السيد رامسفيلد وزير الدفاع أعلن أن واشنطن وهي تعيد تشكيل العراق( الديمقراطي والحر), فإنها لن تسمح بأن يقوم فيه نظام إسلامي, أي أن الديمقراطية الأمريكية المفترضة لها خطوطها الحمراء, التي لن تسمح للشعب العراقي بتجاوزها, حتي اذا قررت الأغلبية ذلك, في ذات الوقت, فإن أصواتا أمريكية بدأت تعلو هناك محذرة من إطالة أمد الاحتلال, وفي عدد مجلة نيوزويك الأخير(5/4) مقالة نقلت ذلك التحذير بوضوح. أما ثالثة الاثافي فهي ما أشار اليه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقالته التي نشرتها الشرق الاوسط امس(5/5) من ان العراق اصبح الولاية الامريكية رقم51.
(2)
ذلك كله يهون إلي جانب سيل الكتابات التفكيكية, والانبطاحية التي ظهرت في مختلف العواصم العربية بعد سقوط بغداد في9 أبريل الماضي, وقد جمعت عددا غير قليل منها, ووجدتها تصب في ثلاثة أوعية رئيسية, فهي من ناحية تحاول هدم فكرة الانتماء العربي, ومن ناحية ثانية فإنها لا تري أملا ولا حلا إلا في الالتحاق بالمركبة الأمريكية, وهي في الوقت ذاته تدعو إلي التعامل مع إسرائيل والقبول بها علي علاتها, وإدخالها ضمن ما سمي بالنظام الإقليمي.
اذا أخذنا الكتابات التي حاولت نسف الانتماء العربي من أساسه, فسنجد أنها ارتكزت علي النقاط التالية:
* إنه لا يوجد شيء اسمه الأمة العربية, التي هي مجرد عنوان رومانسي يدغدغ المشاعر ويخدر عقول الناس, في حين إن الموجود علي الأرض والملموس حقا, هو دول عربية تختلف وتتفق, تبعا لاختلاف مصالحها ومشاربها.
* إن فكرة القومية العربية كانت وبالا علي العرب جميعا, فقد كانت سبيلا إلي مصادرة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, الأمر الذي أثبت أن العنوان خال من أي قيمة عملية وسياسية إيجابية.
* إن العمل العربي المشترك أكذوبة صدقها الجميع, ووهم عاشوا في ظله طويلا, والدليل علي ذلك, أن ذلك العمل العربي المشترك لم يصمد أمام أي تحد واجهته الأمة, كما أنه لم يحقق شيئا ذا بال منذ أكثر من نصف قرن, وأن الجامعة العربية كانت ومازالت عنوانا للخيبة العربية, ولذلك طالب البعض بإلغائها.
الكتابات الأخري التي رفعت شعار أمريكا هي الحل, تبنت أفكارا متعددة, أحدها أن المرجعية الدولية الآن هي أمريكية بالدرجة الأولي( هل تذكر مقولة أن99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا؟), ولا مفر من التعامل مع تلك المرجعية عراقيا وفلسطينيا أيضا, ومن ثم فإن المطالبة بإخراج أمريكا من العراق مثلا, تعد عملا طائشا يتجاهل الواقع ويسبح ضد التيار, البعض الآخر قال إن أمريكا هي الوحيدة القادرة علي إحداث أي تغيير في المنطقة, وما كان ممكنا للشعب العراقي أن يخرج من الظلمات إلي النور إلا لأن أمريكا هي التي عملت علي ذلك, من ثم فأي مراهنة من جانب العرب علي غير واشنطن تصبح مغامرة غير مأمونة العاقبة.
أصوات الفريق الثالث, اتجهت صوب إسرائيل, قائلة إن غزو العراق ينبغي أن يكون نقطة تحول في النظر إلي النظام الإقليمي, والإفاقة من أوهام الماضي ومن ثم التعامل مع أصول اللعبة في المنطقة بأسلوب أكثر واقعية, وهذه الواقعية ينبغي أن يحتكم فيها إلي المصلحة الوطنية وليس إلي القيم الأخلاقية(!), فإسرائيل عنصر شرير حقا, لكنها قوة إقليمية مؤثرة, ليس فقط في رسم خرائط المنطقة كما أثبتت عملية الغزو, لكنها قوة مؤثرة أيضا في القرار السياسي الأمريكي ذاته, بل انها أصبحت بابا يتعين العبور منه للوصول إلي الإدارة الأمريكية, في الوقت ذاته فإن النظام العربي صار حالة ميئوسا منها, لذلك فالحل المقترح هو ضرورة دمج إسرائيل في النظام الإقليمي, والكف عن تجاهلها الذي استمر طيلة نصف القرن المنصرم, وعن طريق ذلك الإدماج المقترح, يمكن حل الكثير من مشكلات المنطقة.
(3)
هذا الخطاب يثير ملاحظات عدة, في مقدمتها ما يلي:
* إنه مسكون باليأس ويعبر عن استعداد مذهل للاستقالة من العروبة, مرة بزعم أن الأمة العربية لم توجد, ومرة ثانية بسبب اليأس من جدواها والفشل الذي منيت به دعوة القومية العربية, والأولون يجهلون أو يتجاهلون الفرق بين الدولة والأمة, والدولة مؤسسة سياسية والأمة حالة اجتماعية, وقد تكون هناك أمة بلا دولة, أو أمة تتوزع علي عدة دول, والمهم في الحالتين أن تتوافر الوشائج التي تربط بين مكونات الأمة, وهذه الوشائج متعددة, وتتراوح بين العيش في بقعة جغرافية واحدة, أو في إطار انتماء عرقي أو ديني, أو في وجود أشواق وأحلام مشتركة, فضلا عن ذلك, فإن الأمة تمثل عمقا حضاريا من ناحية, واستراتيجيا من ناحية ثانية.
إن آلاف الشباب العربي الذين تقاطروا من كل صوب في العالم علي العراق, بعد بدء العدوان, لم يذهبوا دفاعا عن نظامه أو رئيسه كما ادعي البعض, ولكنهم ذهبوا دفاعا عن جزء من الأمة العربية والإسلامية تعرض للغزو والاغتصاب, وأبدوا استعدادا للموت والاستشهاد دفاعا عن شرف وكرامة تلك الأمة, وإخوانهم الذين خاضوا التجربة ذاتها في أفغانستان والشيشان والبوسنة, والذين سبقوهم إلي الجهاد في فلسطين من ثلاثينيات القرن الماضي, انطلقوا من نفس الموقف, وللعلم فإن شيخ المجاهدين عزالدين القسام ـ الذي يحمل اسمه الجناح المسلح في حركة حماس الآن ـ كان سوريا ولم يكن فلسطينيا, ولا أعرف بعد ذلك كيف يمكن أن يقول قائل إن الأمة لم توجد في الماضي ولا في الحاضر, كما أنني أتشكك كثيرا في براءة تلك المقولات التي تستهدف تجريد الأمة من هويتها.
أما النقد الذي وجه إلي القومية العربية, ففيه خلط معيب بين الفكرة وتطبيقاتها, ناهيك عن أنه يتجاهل حقيقة أن زوال الاحتلال عن العالم العربي, واسترداده لاستقلاله لم يتما إلا في أجواء المد القومي, ولا ينكر أحد أن الأنظمة القومية فشلت في إرساء قيم الحرية والديمقراطية, كما يؤخذ عليها أنها همشت الانتماء الإسلامي, لكن ذلك لم يحدث لأنها قومية( بدليل أن أنظمة أخري غير قومية وقعت في ذات المحظور), ولكن لأنها لم توظف الانتماء القومي أو تستثمره في الاتجاه الصحيح, الذي يعزز قيمة الإنسان العربي ويدافع عن حقوقه وكرامته, وهو ما سعي إلي تداركه نفر من عقلاء القوميين في طور لاحق.
* بعد هجاء الانتماء العربي علي ذلك النحو, فإن القطرية ستكون الصيغة الوحيدة المتاحة, والمفضلة, الأمر الذي يحول الأمة في نهاية المطاف إلي بنيان هش بغير قواعد, والي شراذم موزعة علي الشعوب والقبائل والأقطار المتناثرة, وهو ما يرتب نتيجتين حتميتين, الأولي أن الشرذمة توفر فرصة العمر للمتربصين والطامعين, باعتبار أن الذئب يأكل من الغنم القاصية أو الشاردة, والثانية أن الاستقواء بالولايات المتحدة يصبح الحل الوحيد لتبديد المخاوف وإشاعة الشعور بالأمن لدي تلك الشراذم المستضعفة.
* الكلام عن إدماج إسرائيل في منظومة النظام الإقليمي يصبح أمرا مفهوما, بل سياقا طبيعيا بعد هجاء العروبة والارتماء علي أمريكا, ولعلي لا أبالغ اذا قلت إن حكاية إدماج إسرائيل هذه ـ حتي وإن صدرت بحسن نية ـ تعد شكلا من أشكال الارتماء علي الولايات المتحدة, خصوصا في ظل تداخل وظائف الأصيل والوكيل في علاقات الطرفين, ولعلك لاحظت أن من دعا إلي فكرة الإدماج تحدث عن النظام الإقليمي, وتجاهل فكرة النظام العربي والعمق الحضاري الإسلامي, كما أنه تحدث عن إسرائيل المؤثرة والفاعلة التي ارتأي ضرور الإفادة من تأثيرها وفاعليتها, وبعد الدعوة إلي فصل المصالح عن الأخلاق, فإنه غض الطرف عمليا عن إسرائيل المحتلة والغاصبة, التي يتعين مطالبتها بإنهاء الاحتلال, قبل أي كلام عن التفاعل المزعوم, لكن ذلك المطلب الجوهري جري اسقاطه, وتلك نتيجة طبيعية في ظل سيادة منطق الانبطاح والاستسلام.
(4)
في مقالة سابقة نشرت في4/1 الماضي تحت عنوان إسرائيل في قلب الحرب, قلت إن أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يرون أن أهم آثار الانتصار الأمريكي في العراق, تتلخص في أمرين: الأول عبر عنه موشيه يعلون رئيس أركان الجيش, ويتلخص في أن ذلك الانتصار سوف يسرب الشعور بالعجز والهزيمة لدي العرب عامة والفلسطينيين خاصة.. والثاني أورده شفتاي شفيط الرئيس الأسبق للموساد, الذي توقع أن يسود العالم العربي مناخ ثقافي مغاير, يعطي للجناح الداعي إلي التطبيع مع إسرائيل قوة دفع جديدة, تمكنهم من الدعوة إلي مراعاة متغيرات الموقف, والواقعية في التعامل مع الأوضاع المستجدة.
من أسف, أن تلك النبوءات صدقت, وأثبتت الأيام أن قراءة الخبيرين الإسرائيليين كانت صحيحة, وما الأفكار التي عرضنا لها إلا دليل تلك الصحة, وهي الأفكار التي لم تخرج إلا من رحم الشعور بالعجز والهزيمة, الذي أصاب شرائح العاجزين والمهزومين بالاحباط واليأس, فلم يروا من الكأس إلا نصفها الفارغ, ولم يقرأوا من التاريخ إلا أتعس صفحاته, ولم يجدوا في الانتماء إلي الأمة ما يعتزون به, ولا في شعوبها خيرا يمكن المراهنة عليه, ولا في عمقها الحضاري ما يمكن التعويل عليه والاستقواء به, وكان طبيعيا إزاء ذلك أن يسهل عليهم الانخلاع من الذات, والارتماء في أحضان الآخر, والتسليم بالهيمنة الإسرائيلية.
المفجع في ذلك كله, أن الذين صبوا سخطهم علي الانتماء العربي والقومية العربية والعمل العربي المشترك, لم يفكروا لحظة في توظيف تلك العناوين علي نحو إيجابي, واستخلاص عناصر القوة والعزة فيها, لكي تكون رصيدا يستثمر في الدفاع عن كرامة الأمة والنهوض بها, والذين راهنوا علي المخلص الأمريكي, لم يخطر علي بالهم أن يراهنوا علي الشعوب التي ينتمون إليها, أو علي إصلاح الخلل في البيت الذي يقيمون فيه, لقد قلت في البداية ان هذه أم الكوارث وأعلي درجات الانكسار, وهو تشخيص لا مبالغة فيه, لأن هزيمة نكراء من ذلك القبيل الذي نحن بصدده, اذا ما تمت بلا حرب, وأصبحت مجرد صدي للحرب ضد العراق, وحين يتمثل التجلي المباشر لها في الإلحاح علي التفكيك والانبطاح اللذين يرتبان الانتحار السياسي والحضاري, فإن بطن الأرض يصبح خيرا من ظهرها, بالنسبة لكل الشرفاء من أبناء هذه الأمة, لكن عزاءنا أن أصحاب تلك الدعوات, وإن علت أصواتهم أو تعددت منابرهم, يظلون أقلية استثنائية في محيط هذه الأمة, التي مازالت أجيالها الصاعدة مستعدة للموت دفاعا عن عزتها ووجودها, وعلي تلك الأجيال وحدها نراهن, واثقين أنه لن يصح في النهاية غير الصحيح.. وأن الله ناصر لمن استوفي شرائط نصرته وأخذ بأسبابها.
أليست مناقشة تلك الأسباب وتحري مظانها أجدي بالحوار والتحقيق, من اشاعة اليأس واستعراض حيثيات استقالة الأمة من العروبة, ومسوغات انبطاحها في هذا الاتجاه أو ذاك؟
فاجعة الوقت لا تكمن فقط في أن العراق جري احتلاله, ولكن أيضا في أن أصواتا عدة, ارتفعت داعية إلي إشهار إفلاس الأمة العربية كلها واستسلامها, إزاء ذلك فلعلني لا أبالغ اذا قلت إنه اذا كان ما جري للعراق كارثة من العيار الثقيل, انضافت إلي سجل كوارثنا الذي يمثل احتلال فلسطين عنوانا كبيرا له, فإن دعوة الأمة إلي الانبطاح تغدو أم الكوارث بامتياز.
(1)
للمشهد الكارثي وجه آخر, لا نستطيع أن نتجاهله, يتمثل في كم الفضائح التي استصحبته, وهي بدورها من العيار الثقيل, ولأنها كثيرة فإنني سوف أؤجل التفصيل فيها إلي فرصة أخري, لكني سأتوقف لحظة أمام واحدة من تلك الفضائح, تنتمي إلي جنس الكبائر الفكرية والسياسية التي لا تغتفر, ذلك أن ثمة جدلا مدهشا في بعض الصحف العربية حول تكييف ما جري في العراق, وهل هو احتلال أم تحرير؟ وهو السؤال الذي لم يكن متصورا أن يطرح من أساسه, علي الأقل في عالمنا العربي, ولكن لأننا في زمن اللامعقول السياسي, فقد طفا السؤال علي السطح, وتعددت في شأنه الاجتهادات, فمن قائل اننا بصدد تحرير للعراق وشعبه, وبداية لربيع الديمقراطية في البلد الذي خضع للاستبداد طيلة أكثر من ثلاثة عقود, وهناك من اصطنع الحكمة والرصانة, ودعا الناس إلي عدم التعجل في إصدار الأحكام, والانتظار لبعض الوقت مع متابعة السلوك الأمريكي في حكم العراق, للتحقق مما اذا كانوا طامعين, أم مصلحين ومحررين, وقرأنا لمن قال إنه احتلال حقا, ولكنه من نوع خاص أرقي وأرفع, بمعني أنه لا يخلو من إيجابيات( أهمها إسقاط النظام الاستبدادي), أما أغرب ما قرأت في هذا الصدد فعنوان لمقالة نشرتها إحدي الصحف العربية اللندنية, يقول: يجب أن نتعلم أخلاق الأحرار ولو علي حساب الاستقلال, ووجدت للعنوان أصلا في المقاله هذا نصه: حق لنا أن نتعلم أخلاق الأحرار, حتي لو كان ذلك علي حساب استقلال وكرامة وشرف, تبين في النهاية أنها وهم من أوهام كهوفنا الجميلة, منذ أن مرغها أبناء جلدتنا في الوحل والطين, قبل أن يفعلها الآخرون(!).
هذه ليست اجتهادات تشين أصحابها فحسب, إنما هي في الوقت ذاته شهادات فضائحية تكتب تاريخ المرحلة التي نعيشها, والتي اهتز فيها كل شيء والتبس, بما في ذلك القيم التي تمثل ركائز المجتمع وثوابته, حتي تداخلت الحدود بين الخطأ والصواب, والفضيلة والرذيلة, والعقل والجنون.
المذهل في الأمر, أن هذه النقاشات تدور علي صفحات صحفنا, بينما تتصرف الولايات المتحدة في العراق كدولة محتلة, عاتية فقررت أن تقيم في أرجاء البلاد أربع قواعد عسكرية باعتبارها من مستلزمات الإقامة الطويلة, فضلا عن أنها مضت تمارس احتلالها بطريقة مباشرة وفظة, فالرئيس بوش قرر تعيين حاكم مدني لذلك البلد الكبير, هو بمثابه( وال) يمثل سلطان البيت الأبيض( وهو ما لم تفعله الولايات المتحدة في أفغانستان, التي جاءت بأفغاني من رجالها ونصبته علي رأس الدولة), في حين أن السيد رامسفيلد وزير الدفاع أعلن أن واشنطن وهي تعيد تشكيل العراق( الديمقراطي والحر), فإنها لن تسمح بأن يقوم فيه نظام إسلامي, أي أن الديمقراطية الأمريكية المفترضة لها خطوطها الحمراء, التي لن تسمح للشعب العراقي بتجاوزها, حتي اذا قررت الأغلبية ذلك, في ذات الوقت, فإن أصواتا أمريكية بدأت تعلو هناك محذرة من إطالة أمد الاحتلال, وفي عدد مجلة نيوزويك الأخير(5/4) مقالة نقلت ذلك التحذير بوضوح. أما ثالثة الاثافي فهي ما أشار اليه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقالته التي نشرتها الشرق الاوسط امس(5/5) من ان العراق اصبح الولاية الامريكية رقم51.
(2)
ذلك كله يهون إلي جانب سيل الكتابات التفكيكية, والانبطاحية التي ظهرت في مختلف العواصم العربية بعد سقوط بغداد في9 أبريل الماضي, وقد جمعت عددا غير قليل منها, ووجدتها تصب في ثلاثة أوعية رئيسية, فهي من ناحية تحاول هدم فكرة الانتماء العربي, ومن ناحية ثانية فإنها لا تري أملا ولا حلا إلا في الالتحاق بالمركبة الأمريكية, وهي في الوقت ذاته تدعو إلي التعامل مع إسرائيل والقبول بها علي علاتها, وإدخالها ضمن ما سمي بالنظام الإقليمي.
اذا أخذنا الكتابات التي حاولت نسف الانتماء العربي من أساسه, فسنجد أنها ارتكزت علي النقاط التالية:
* إنه لا يوجد شيء اسمه الأمة العربية, التي هي مجرد عنوان رومانسي يدغدغ المشاعر ويخدر عقول الناس, في حين إن الموجود علي الأرض والملموس حقا, هو دول عربية تختلف وتتفق, تبعا لاختلاف مصالحها ومشاربها.
* إن فكرة القومية العربية كانت وبالا علي العرب جميعا, فقد كانت سبيلا إلي مصادرة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, الأمر الذي أثبت أن العنوان خال من أي قيمة عملية وسياسية إيجابية.
* إن العمل العربي المشترك أكذوبة صدقها الجميع, ووهم عاشوا في ظله طويلا, والدليل علي ذلك, أن ذلك العمل العربي المشترك لم يصمد أمام أي تحد واجهته الأمة, كما أنه لم يحقق شيئا ذا بال منذ أكثر من نصف قرن, وأن الجامعة العربية كانت ومازالت عنوانا للخيبة العربية, ولذلك طالب البعض بإلغائها.
الكتابات الأخري التي رفعت شعار أمريكا هي الحل, تبنت أفكارا متعددة, أحدها أن المرجعية الدولية الآن هي أمريكية بالدرجة الأولي( هل تذكر مقولة أن99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا؟), ولا مفر من التعامل مع تلك المرجعية عراقيا وفلسطينيا أيضا, ومن ثم فإن المطالبة بإخراج أمريكا من العراق مثلا, تعد عملا طائشا يتجاهل الواقع ويسبح ضد التيار, البعض الآخر قال إن أمريكا هي الوحيدة القادرة علي إحداث أي تغيير في المنطقة, وما كان ممكنا للشعب العراقي أن يخرج من الظلمات إلي النور إلا لأن أمريكا هي التي عملت علي ذلك, من ثم فأي مراهنة من جانب العرب علي غير واشنطن تصبح مغامرة غير مأمونة العاقبة.
أصوات الفريق الثالث, اتجهت صوب إسرائيل, قائلة إن غزو العراق ينبغي أن يكون نقطة تحول في النظر إلي النظام الإقليمي, والإفاقة من أوهام الماضي ومن ثم التعامل مع أصول اللعبة في المنطقة بأسلوب أكثر واقعية, وهذه الواقعية ينبغي أن يحتكم فيها إلي المصلحة الوطنية وليس إلي القيم الأخلاقية(!), فإسرائيل عنصر شرير حقا, لكنها قوة إقليمية مؤثرة, ليس فقط في رسم خرائط المنطقة كما أثبتت عملية الغزو, لكنها قوة مؤثرة أيضا في القرار السياسي الأمريكي ذاته, بل انها أصبحت بابا يتعين العبور منه للوصول إلي الإدارة الأمريكية, في الوقت ذاته فإن النظام العربي صار حالة ميئوسا منها, لذلك فالحل المقترح هو ضرورة دمج إسرائيل في النظام الإقليمي, والكف عن تجاهلها الذي استمر طيلة نصف القرن المنصرم, وعن طريق ذلك الإدماج المقترح, يمكن حل الكثير من مشكلات المنطقة.
(3)
هذا الخطاب يثير ملاحظات عدة, في مقدمتها ما يلي:
* إنه مسكون باليأس ويعبر عن استعداد مذهل للاستقالة من العروبة, مرة بزعم أن الأمة العربية لم توجد, ومرة ثانية بسبب اليأس من جدواها والفشل الذي منيت به دعوة القومية العربية, والأولون يجهلون أو يتجاهلون الفرق بين الدولة والأمة, والدولة مؤسسة سياسية والأمة حالة اجتماعية, وقد تكون هناك أمة بلا دولة, أو أمة تتوزع علي عدة دول, والمهم في الحالتين أن تتوافر الوشائج التي تربط بين مكونات الأمة, وهذه الوشائج متعددة, وتتراوح بين العيش في بقعة جغرافية واحدة, أو في إطار انتماء عرقي أو ديني, أو في وجود أشواق وأحلام مشتركة, فضلا عن ذلك, فإن الأمة تمثل عمقا حضاريا من ناحية, واستراتيجيا من ناحية ثانية.
إن آلاف الشباب العربي الذين تقاطروا من كل صوب في العالم علي العراق, بعد بدء العدوان, لم يذهبوا دفاعا عن نظامه أو رئيسه كما ادعي البعض, ولكنهم ذهبوا دفاعا عن جزء من الأمة العربية والإسلامية تعرض للغزو والاغتصاب, وأبدوا استعدادا للموت والاستشهاد دفاعا عن شرف وكرامة تلك الأمة, وإخوانهم الذين خاضوا التجربة ذاتها في أفغانستان والشيشان والبوسنة, والذين سبقوهم إلي الجهاد في فلسطين من ثلاثينيات القرن الماضي, انطلقوا من نفس الموقف, وللعلم فإن شيخ المجاهدين عزالدين القسام ـ الذي يحمل اسمه الجناح المسلح في حركة حماس الآن ـ كان سوريا ولم يكن فلسطينيا, ولا أعرف بعد ذلك كيف يمكن أن يقول قائل إن الأمة لم توجد في الماضي ولا في الحاضر, كما أنني أتشكك كثيرا في براءة تلك المقولات التي تستهدف تجريد الأمة من هويتها.
أما النقد الذي وجه إلي القومية العربية, ففيه خلط معيب بين الفكرة وتطبيقاتها, ناهيك عن أنه يتجاهل حقيقة أن زوال الاحتلال عن العالم العربي, واسترداده لاستقلاله لم يتما إلا في أجواء المد القومي, ولا ينكر أحد أن الأنظمة القومية فشلت في إرساء قيم الحرية والديمقراطية, كما يؤخذ عليها أنها همشت الانتماء الإسلامي, لكن ذلك لم يحدث لأنها قومية( بدليل أن أنظمة أخري غير قومية وقعت في ذات المحظور), ولكن لأنها لم توظف الانتماء القومي أو تستثمره في الاتجاه الصحيح, الذي يعزز قيمة الإنسان العربي ويدافع عن حقوقه وكرامته, وهو ما سعي إلي تداركه نفر من عقلاء القوميين في طور لاحق.
* بعد هجاء الانتماء العربي علي ذلك النحو, فإن القطرية ستكون الصيغة الوحيدة المتاحة, والمفضلة, الأمر الذي يحول الأمة في نهاية المطاف إلي بنيان هش بغير قواعد, والي شراذم موزعة علي الشعوب والقبائل والأقطار المتناثرة, وهو ما يرتب نتيجتين حتميتين, الأولي أن الشرذمة توفر فرصة العمر للمتربصين والطامعين, باعتبار أن الذئب يأكل من الغنم القاصية أو الشاردة, والثانية أن الاستقواء بالولايات المتحدة يصبح الحل الوحيد لتبديد المخاوف وإشاعة الشعور بالأمن لدي تلك الشراذم المستضعفة.
* الكلام عن إدماج إسرائيل في منظومة النظام الإقليمي يصبح أمرا مفهوما, بل سياقا طبيعيا بعد هجاء العروبة والارتماء علي أمريكا, ولعلي لا أبالغ اذا قلت إن حكاية إدماج إسرائيل هذه ـ حتي وإن صدرت بحسن نية ـ تعد شكلا من أشكال الارتماء علي الولايات المتحدة, خصوصا في ظل تداخل وظائف الأصيل والوكيل في علاقات الطرفين, ولعلك لاحظت أن من دعا إلي فكرة الإدماج تحدث عن النظام الإقليمي, وتجاهل فكرة النظام العربي والعمق الحضاري الإسلامي, كما أنه تحدث عن إسرائيل المؤثرة والفاعلة التي ارتأي ضرور الإفادة من تأثيرها وفاعليتها, وبعد الدعوة إلي فصل المصالح عن الأخلاق, فإنه غض الطرف عمليا عن إسرائيل المحتلة والغاصبة, التي يتعين مطالبتها بإنهاء الاحتلال, قبل أي كلام عن التفاعل المزعوم, لكن ذلك المطلب الجوهري جري اسقاطه, وتلك نتيجة طبيعية في ظل سيادة منطق الانبطاح والاستسلام.
(4)
في مقالة سابقة نشرت في4/1 الماضي تحت عنوان إسرائيل في قلب الحرب, قلت إن أركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يرون أن أهم آثار الانتصار الأمريكي في العراق, تتلخص في أمرين: الأول عبر عنه موشيه يعلون رئيس أركان الجيش, ويتلخص في أن ذلك الانتصار سوف يسرب الشعور بالعجز والهزيمة لدي العرب عامة والفلسطينيين خاصة.. والثاني أورده شفتاي شفيط الرئيس الأسبق للموساد, الذي توقع أن يسود العالم العربي مناخ ثقافي مغاير, يعطي للجناح الداعي إلي التطبيع مع إسرائيل قوة دفع جديدة, تمكنهم من الدعوة إلي مراعاة متغيرات الموقف, والواقعية في التعامل مع الأوضاع المستجدة.
من أسف, أن تلك النبوءات صدقت, وأثبتت الأيام أن قراءة الخبيرين الإسرائيليين كانت صحيحة, وما الأفكار التي عرضنا لها إلا دليل تلك الصحة, وهي الأفكار التي لم تخرج إلا من رحم الشعور بالعجز والهزيمة, الذي أصاب شرائح العاجزين والمهزومين بالاحباط واليأس, فلم يروا من الكأس إلا نصفها الفارغ, ولم يقرأوا من التاريخ إلا أتعس صفحاته, ولم يجدوا في الانتماء إلي الأمة ما يعتزون به, ولا في شعوبها خيرا يمكن المراهنة عليه, ولا في عمقها الحضاري ما يمكن التعويل عليه والاستقواء به, وكان طبيعيا إزاء ذلك أن يسهل عليهم الانخلاع من الذات, والارتماء في أحضان الآخر, والتسليم بالهيمنة الإسرائيلية.
المفجع في ذلك كله, أن الذين صبوا سخطهم علي الانتماء العربي والقومية العربية والعمل العربي المشترك, لم يفكروا لحظة في توظيف تلك العناوين علي نحو إيجابي, واستخلاص عناصر القوة والعزة فيها, لكي تكون رصيدا يستثمر في الدفاع عن كرامة الأمة والنهوض بها, والذين راهنوا علي المخلص الأمريكي, لم يخطر علي بالهم أن يراهنوا علي الشعوب التي ينتمون إليها, أو علي إصلاح الخلل في البيت الذي يقيمون فيه, لقد قلت في البداية ان هذه أم الكوارث وأعلي درجات الانكسار, وهو تشخيص لا مبالغة فيه, لأن هزيمة نكراء من ذلك القبيل الذي نحن بصدده, اذا ما تمت بلا حرب, وأصبحت مجرد صدي للحرب ضد العراق, وحين يتمثل التجلي المباشر لها في الإلحاح علي التفكيك والانبطاح اللذين يرتبان الانتحار السياسي والحضاري, فإن بطن الأرض يصبح خيرا من ظهرها, بالنسبة لكل الشرفاء من أبناء هذه الأمة, لكن عزاءنا أن أصحاب تلك الدعوات, وإن علت أصواتهم أو تعددت منابرهم, يظلون أقلية استثنائية في محيط هذه الأمة, التي مازالت أجيالها الصاعدة مستعدة للموت دفاعا عن عزتها ووجودها, وعلي تلك الأجيال وحدها نراهن, واثقين أنه لن يصح في النهاية غير الصحيح.. وأن الله ناصر لمن استوفي شرائط نصرته وأخذ بأسبابها.
أليست مناقشة تلك الأسباب وتحري مظانها أجدي بالحوار والتحقيق, من اشاعة اليأس واستعراض حيثيات استقالة الأمة من العروبة, ومسوغات انبطاحها في هذا الاتجاه أو ذاك؟