هويدي 29-4-2003
خلاصة ما جري حتي الآن أن العراق انتقل من كارثة إلي كارثة.
إذ أزعم أنه أطلق من سلطة قاهرة ليخضع لسلطة فاجرة, وغادر زمن العبودية لينخرط في سلك التبعية السياسية. الأمر الذي يدعونا للقول إن ليل بغداد لم ينقشع وان فجرها لم يحن أوانه, وان التحرير المنشود لم يقع بعد. وبلوغه هو التحدي الكبير الذي يواجه الجميع. كل العراقيين وكل العرب.
(1)
ليس عندي اعتذار عن خشونة بعض الأوصاف التي استخدمتها في هذا المنطوق, لأن فجاجة المشهد وعبثيته تفوقان قدرة المرء علي الاستيعاب علي الأقل فأن الصورة التي تلاحقت والخطط والمعلومات التي مابرحت تتسرب حول مايراد أن يفعل في العراق وبه, وضعت الضمير العربي والإسلامي في بؤرة مجموعة من الزلازل, التي لاتتيح لنا فرصة الإفاقة من الذهول والصدمة.
خذ مثلا ذلك الخبر الذي نشرته مختلف الصحف العربية صبيحة الثلاثاء الماضي4/22, والذي أنبأنا بأن الجنرال المتقاعد جاي جارنر رئيس الادارة الأمريكية للعراق وصل إلي بغداد, يصحبه فريق يضم400 من مسئولي الادارة الجديدة. كيف يكون شعور مواطن عربي عادي, حين يستفتح يومه بقراءته, وفي كل كلمة منه نصل حاد ينغرس في قلبه؟.
من ناحيتي اعتبرته خبرا مغشوشا وواجب التصويب. ذلك أن الجنرال المتقاعد هذا, كان إلي شهر يناير الماضي, رئيسا لشركة لإنتاج الصواريخ, التي أسهمت جزئيا في تدمير العراق. ثم إنه ليكودي الهوي, وصفه الصحفي الإسرائيلي يوري افنيري بالجنرال الصهيوني, الذي زكاه شارون لكي يتبوأ منصبه في العراق الحر(!) ـ وهو حين يأتي إلي بغداد, كأي مغتصب مسكون بالرغبة في افتراس ضحيته, لا يعقل أن يقال هكذا ببساطة أنه وصل, لأنه في الحقيقة يكون قد انقض أو اقتحم. وحين يكون مصحوبا بآخرين يشاركونه عملية الاغتصاب, فمن التغليظ والتدليس أن يوصف هؤلاء بأنهم مجرد فريق لأنهم بمثابة تشكيل عصابي جاء مشاركا في الفعل المشين عمدا ومع سبق الاصرار. وكاذب من أضفي البراءة علي مهمتهم ووصفهم بأنهم أركان الادارة المدنية, لأنهم كتيبة أخري تنكرت في ثياب مدنية, من الغزاة الذي فرضوا بقوة السلاح, وداسوا في طريقهم علي جثث وأشلاء آلاف العراقيين الذين قتلتهم صواريخ كروز.
وأكذب منه من تصور أن العراق بكل هيبته وجلاله صار إدارة أمريكية ينصب البنتاجون علي رأسها ممثلا له, لأن العراق وان انهزم أو انكسر, فسوف يظل الشامخ الكبير, الذي تعلو هامته هامات غاصبيه فضلا عن جلاديه.
ثم, كيف يكون شعور المواطن العربي العادي حين يقرأ أن الادارة الأمريكية تعد عميلا فاسدا لكي يكون في المستقبل رئيس العراق المحرر, ووصف العميل الفاسد ليس من عندي, ولكني استعرته مما كتبته مجلة الايكونوميست البريطانية في عددها قبل الأخير, وهي تتحدث عن مستقبل العراق, كأن المطلوب أن يظل العراقيون أذلاء إلي الأبد, مرة باسم الاستبداد البعثي, ومرة ثانية باسم الديمقراطية الأمريكية؟ وكيف يمكن أن يتمالك ذلك المواطن شعوره وهو يري رتلا يضم مئات العملاء الذين دربتهم المخابرات الأمريكية وأطعمتهم, وكستهم حتي ألبستهم ثياب جنودها, وقد أريد لهم أن يصبحوا طليعة النظام الجديد, والنخبة التي ستضمد جراح العراق وتطوي صفحة أحزانه وعذاباته؟.
وأي مهانة يستشعرها المواطن العربي حين يجد أن العراق الكبير تحول بكامله بعد تحريره إلي قاعدة عسكرية أمريكية, في استعادة بائسة لدور إيران الشاهنشاهية إبان سنوات الحرب الباردة, وفي نقلة عبثية غيرت ديكور السجن وإحالته ماخورا! ـ( للعلم: من المواقع التي ستتمركز فيها القوات الأمريكية منطقة الشريط المعزول في غرب العراق بالقرب من خط أنابيب النفط القديم الممتد للأردن, الذي تسعي إسرائيل إلي تشغيله لنقل البترول العراقي إلي حيفا, وعبر الموانيء الإسرائيلية كبديل عن الموانيء السورية).
(2)
كي أقرب إلي الأذهان ماعنيته بالذي سيفعل في العراق وبه, وبالذي عنيته بالأفعال الفاضحة التي سترتكب بحق البلد الكبير علي المستويين السياسي والتاريخي, فأنني أضع بين أيدي الجميع لقطتين من خلفية المشهد.
اللقطة الأولي تتعلق بالفريق الذي يقف وراء مشروع الحرب, والذي تابع كثيرون خلفيات أعضائه الأيديولوجية, الأصولية الإنجيلية والصهيونية, لكن خلفياتهم السياسية ومآربهم الاقتصادية لم تلق ماتستحقه من اهتمام. ليس جديدا القول إن تلك المجموعة هي الأكثر حماسا لفكرة الإمبراطورية الأمريكية, التي صاغها وتبناها في عام1997 أصحاب مشروع القرن الأمريكي الجديد, وهم من يرمز إليهم في الولايات المتحدة باسم بناك. وهؤلاء هم الذين دعموا وشكلوا مجموعة المعارضين العراقيين, الذين عرفوا باسم المؤتمر الوطني العراقي, ووضعوا علي رأسه أحمد جلبي المهاجر مع أسرته إلي الولايات المتحدة منذ عام58, والذي أدانته المحاكم الأردنية لاحقا في ارتكاب جرائم اختلاس وفساد مصرفي( اتهم بأنه حول لحسابه الشخصي300 مليون دولار من أموال البنك), وحكم عليه بالسجن مدة32 عاما. وهو ذات الشخص الذي ترشحه الإدارة الأمريكية لكي يكون رئيس عراق المسقبل(!).
المثير في مشروع القرن الأمريكي ليس فقط فكرته فحسب, ولكن آباءه ومؤسسيه أيضا. إذ في المقدمة منهم ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي, ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع, ونائبه بول وولفويتز, الذي يعد الأب الروحي للمجموعة, بالإضافة إلي أسماء أخري مهمة في الحياة العامة الأمريكية مثل اليوت ابرامز, وجون بولتون, وريتشارد بيرل, الذي أطلق عليه وصف أمير الظلام. والخطوة الأولي في مشروع المجموعة هي الهيمنة علي العراق.
أحد الكتاب الأردنيين المقيمين في الولايات المتحدة, مالك العثامنة, أوضح في تحليل نشرته القدس العربي في4/16. الخلفيات الاقتصادية لتلك المجموعة. وكيف انهم بلا استثناء يمثلون مصالح أخطبوطية عملاقة. فتشيني مثلا وقبل أن يصبح نائبا للرئيس كان يعمل رئيسا لمجلس إدارة مجموعة هاليبرتون العملاقة, في دالاس ـ تكساس. والمفارقة أن هذه الشركة وبرئاسة تشيني قامت وحسب سجلات الأمم المتحدة بإنجاز عقود مع نظام البعث في بغداد بما قيمته730 مليون دولار, وفي أكتوبر عام1995, أي في الشهر ذاته الذي تولي فيه تشيني رئاسة الشركة. أخيرا تم الإعلان عن صفقة لهاليبرتون وضعتها في صفوف أول المنتفعين من أي حرب علي العراق, والصفقة تتلخص بحق هاليبرتون في السيطرة والتحكم بآبار النفط المحترق والعمل علي إخماد حرائقها ومن ثم تجهيزها للعمل مرة أخري!!.
مجموعة هاليبرتون هذه تملك من ضمن ماتملك شركة أخري لها اهتماماتها في العراق, وهي شركة براون اندروت, التي تختص بالانشاءات الضخمة, وقد حصلت أخيرا علي امتياز عقد حكومي باعادة بناء الجسور بعد الحرب, والمثير أنها تعاقدت كذلك مع وزارة الدفاع الأمريكية لبناء مباني القواعد العسكرية الدائمة في العراق كما فعلت الشيء ذاته في كوسوفا, وبكلفة مليارات الدولارات!!.
الأكثر إثارة بين الشركات المنتفعة من مرحلة مابعد الحرب في العراق, هي مجموعة كارلايل الاستثمارية الخاصة والتي تتوزع استثماراتها علي أكثر من194 شركة أمريكية, في مجال الاتصالات وشركات تزويد المعدات العسكرية, والمثير في هذه المجموعة الاستثمارية الضخمة أن مؤسسيها أسماء مهمة ولها تأثيرها ومعظمهم مسئولون كبار سابقون في إدارة ريجان أو بوش الأب, بل أن بوش الأب نفسه يعمل رسميا لهذه المجموعة بالإضافة أنه مساهم بها, ووظيفته الرسمية المستشار الأول, ويساعده في تقديم المشورة, وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر.
بعدما استعرض العثامنة هذه الخلفية تساءل قائلا: هل كانت الحرب تحريرا للعراق, أم تحريرا للعقود في العراق؟!.
(3)
اللقطة الثانية تتعلق بالخبرة الأمريكية في صدد عملية إعادة تأهيل المهزومين, التي طبقت في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية, والتي يجري استنساخها في العراق الآن. وهو ماعرضت له قبل أسابيع من وقوع الحرب, ووجدت أن من المهم استعادة بعض ملامحه الآن. بعدما بدأت التوقعات والمخاوف تتحول إلي حقائق تتحرك علي الأرض.
لقد اعتبرت الولايات المتحدة أنه من المهم للغاية إعادة تشكيل أهم بلدين هزما في الحرب, لما مثلاه من خطورة علي محيطها وعلي النفوذ الغربي بعامة, بسبب تطلعاتها التوسيعة, فنصبت الجنرال ماك آرثر حاكما عسكريا علي اليابان, الذي تولي تقريبا نفس المهمة المكلف بها الجنرال جاي جارنر في العراق الآن. وتضمن برنامجه ثلاثة عناصر هي: نزع سلاح اليابان, والإشراف علي التحول الديمقراطي في البلاد, واستعادة قوتها الاقتصادية. وكان الهدف هو دمج اليابان في منظومة القيم الغربية لأسباب مفهومة, وإنعاشها اقتصاديا, ليس إكراما لها ولا سعيا وراء رفاهيتها ولكن لكيلا تنتشر فيها الشيوعية ومن ثم تنحاز إلي العدو السوفيتي.
تحت الاحتلال أجريت أول انتخابات ديمقراطية في اليابان سنة45, وأشرف الجنرال ماك آرثر علي إصدار أول دستور ياباني اصبح ساري المفعول في عام47, ونص علي ما أراده الأمريكيون من تنازل اليابان عن إعلان الحرب إلي الأبد, وتسريحها لكل قواتها المسلحة, البرية والبحرية والجوية. وكما أرسلت الولايات المتحدة خبراء لوضع الميزانية, وعملت علي المساعدة في حل المشاكل الاقتصادية لليابان, فأنها أوفدت بعثة تعليمية إلي طوكيو تولت تحديد عناصر النظام التعليمي بحيث يركز علي المفاهيم الديمقراطية والواجبات المدنية للمواطنين.. إلي آخر الاصلاحات التي كانت لها نتائجها الايجابية سواء بسبب طبيعة الشعب الياباني, أو نتيجة للتطورات الاقليمية التي عززت من مكانة اليابان وزادت من اعتماد واشنطن عليها كشريك استراتيجي في المنطقة.
ألمانيا التي خضعت لاحتلال رباعي من دول الحلفاء المنتصرة, حوكم قادة النظام النازي, وجري اعتقال ربع مليون من أنصار الحزب, كما حرم أكثر من نصف مليون من تولي أية وظائف حكومية. واجبر كل ألماني علي ملء استمارة توضح تاريخ حياته, لاستئصال كل اثر للنازية. وعمل المحتلون الغربيون علي إعادة تعليم الشعب الألماني لكي يصبح محبا للديمقراطية. في هذا السياق جري إلغاء الجمعيات ذات التوجهات الأيديولوجية. وحظر إصدار الصحف. وتم تشجيع إنشاء الجمعيات والنوادي الشبابية غير السياسية, وإصدار نشرات صحفية تعبر عن القيم الديمقراطية الغربية. وتمت تنقية الكتب المدرسية وأعيدت كتابة أغلبها من جديد.
(4)
في صدد محاولة إعادة تأهيل العراق, من الواضح أن الولايات المتحدة ليست قلقة من الوضع الاقتصادي, لإدراكها أن عائدات النفط قادرة علي تمويل عملية الاعمار وتغطية نفقات الاحتلال, فضلا عن تخصيص قطاع النفط وتسليمه للشركات الأمريكية يعد جائزة كبيرة توفر فرصة معتبرة لإنعاش الاقتصاد الأمريكي. وقد أولت الإدارة الأمريكية التعليم اهتماما خاصا, لأنك بالتعليم تصنع المستقبل علي النحو الذي تريد. فأوكلت إلي بعض الشركات المختصة مهمة تغيير النظام التعليمي, وتم توقيع عقد بقيمة41 مليون دولار مع شركة كرييتيف اسوشيتس لإعداد مقرر دراسي يخلو من مديح النظام السابق وأيديولوجيته ويبشر بالقيم التي يريد الأمريكيون بثها والتعويل عليها في مشروع إعادة التشكيل. وقد نقلت القدس العربي في4/17 عن بعض المسئولين الأمريكيين قولهم انهم يريدون كتبا مدرسية تخلو من العداء لليهود والولايات المتحدة. وتعبر عن رؤية علمانية للحاضر والمستقبل.
الحاصل في التعليم سوف يتكرر في مختلف المجالات الأخري طبقا للسيناريو الذي جري تطبيقه في اليابان وألمانيا. ومن وضع دستور جديد إلي إنشاء إعلام يتبني إلحاق المجتمع بمنظومة القيم الغربية السياسية فضلا عن الاجتماعية, بحيث يوضع العراق الجديد في القالب الذي يريده له الأمريكيون. وهو مايعني في حقيقة الأمر أنه في مقابل إطلاق الحريات السياسية والمدنية التي يتوق لها الشعب العراقي لا ريب, سيتم إخضاع المجتمع العراقي وتغريبه, بحيث تقتلع جذوره ويعاد تركيبه من جديد بالمواصفات الأمريكية. وبذلك يتحول العراق في نظرهم إلي إحدي حلقات الحلم الإمبراطوري, وقاعدة لتغيير الخرائط الثقافية والاجتماعية للمنطقة, جنبا إلي جنب مع تغيير خرائطها السياسية.
مشكلة هذا التصور المفرط في التبسيط والسذاجة. انه يعتبر العراق مختبرا مماثلا لليابان وألمانيا, ويتجاهل علي نحو مذهل مختلف عناصر الخصوصية لدي المجتمع العراقي, وفي المقدمة منها عمق انتمائه العربي والإسلامي. الأمر الذي يعني الاقتلاع وإعادة التشكيل التي تستهدف إحداث التغريب, لن تكون بمثابة استباحة للعراق وهتك عرضه فحسب, وإنما ستكون أيضا عنصر تفجير لمختلف مظاهر المقاومة, التي قد تفتح الباب للعديد من صور العنف والفوضي.
(5)
أما الذي سيفعل بالعراق فهو كثير. وقاريء الصحف الإسرائيلية يرصد العديد من الآمال المعلقة علي عراق مابعد الاحتلال الذي اعتبرته بمثابة ميلاد جديد له, وفجر جديد اطل علي العالم.( موشيه ارينز ـ هاآرتس4/15). وتتراوح الآمال الإسرائيلية بين حلمهم في أن يؤدي تغيير توازنات المنطقة إلي اتساع نطاق التطبيع الذي اعتبروه مفروغا منه مع العراق, ومضاعفة الضغط لإنهاء القضية الفلسطينية, وعقد حلف بغداد جديد يضم العراق والأردن مع إسرائيل بطبيعة الحال( قالت يديعوت احرونوت التي تحمست للفكرة إن الدول الثلاث لها تراث انتدابي بريطاني مشترك). مرورا بتوفير النفط العراقي بسعر أرخص بنسبة25% وتنشيط الركود الاقتصادي المخيم بسبب الانتفاضة. أما ضغوط العراق الأمريكي الجديد علي إيران وسوريا فحدث فيه ولا حرج. ولاتسأل عن التصدعات التي ستحدث في الصف العربي ومنظومة الأمن القومي العربي, ومن ثم علي النظام العربي ككل.
ليس ذلك آخر كلام بطبيعة الحال, لأن كل هذا الذي يرتب ويدبر يمكن أن ينقلب رأسا علي عقب إذا ما راحت السكرة وانتفض الشعب العراقي مدافعا عن كرامته وشرف وطنه الكبير, وإذا ما أفاقت الدول العربية وأدركت أن الطوفان إذا ما استمر فلن يسلم منه أحد, وأن الذين أكلوا الثور الأبيض. لن تتوقف شهيتهم عند حد. وإذا ماحدث ذلك, فربما توافرت لنا الإجابة علي تساؤل الشاعر اليمني ابراهيم الحضراني الذي قال فيه: كل فجر لاح كاذبا, فمتي يجيء الذي لا يكذب؟!
خلاصة ما جري حتي الآن أن العراق انتقل من كارثة إلي كارثة.
إذ أزعم أنه أطلق من سلطة قاهرة ليخضع لسلطة فاجرة, وغادر زمن العبودية لينخرط في سلك التبعية السياسية. الأمر الذي يدعونا للقول إن ليل بغداد لم ينقشع وان فجرها لم يحن أوانه, وان التحرير المنشود لم يقع بعد. وبلوغه هو التحدي الكبير الذي يواجه الجميع. كل العراقيين وكل العرب.
(1)
ليس عندي اعتذار عن خشونة بعض الأوصاف التي استخدمتها في هذا المنطوق, لأن فجاجة المشهد وعبثيته تفوقان قدرة المرء علي الاستيعاب علي الأقل فأن الصورة التي تلاحقت والخطط والمعلومات التي مابرحت تتسرب حول مايراد أن يفعل في العراق وبه, وضعت الضمير العربي والإسلامي في بؤرة مجموعة من الزلازل, التي لاتتيح لنا فرصة الإفاقة من الذهول والصدمة.
خذ مثلا ذلك الخبر الذي نشرته مختلف الصحف العربية صبيحة الثلاثاء الماضي4/22, والذي أنبأنا بأن الجنرال المتقاعد جاي جارنر رئيس الادارة الأمريكية للعراق وصل إلي بغداد, يصحبه فريق يضم400 من مسئولي الادارة الجديدة. كيف يكون شعور مواطن عربي عادي, حين يستفتح يومه بقراءته, وفي كل كلمة منه نصل حاد ينغرس في قلبه؟.
من ناحيتي اعتبرته خبرا مغشوشا وواجب التصويب. ذلك أن الجنرال المتقاعد هذا, كان إلي شهر يناير الماضي, رئيسا لشركة لإنتاج الصواريخ, التي أسهمت جزئيا في تدمير العراق. ثم إنه ليكودي الهوي, وصفه الصحفي الإسرائيلي يوري افنيري بالجنرال الصهيوني, الذي زكاه شارون لكي يتبوأ منصبه في العراق الحر(!) ـ وهو حين يأتي إلي بغداد, كأي مغتصب مسكون بالرغبة في افتراس ضحيته, لا يعقل أن يقال هكذا ببساطة أنه وصل, لأنه في الحقيقة يكون قد انقض أو اقتحم. وحين يكون مصحوبا بآخرين يشاركونه عملية الاغتصاب, فمن التغليظ والتدليس أن يوصف هؤلاء بأنهم مجرد فريق لأنهم بمثابة تشكيل عصابي جاء مشاركا في الفعل المشين عمدا ومع سبق الاصرار. وكاذب من أضفي البراءة علي مهمتهم ووصفهم بأنهم أركان الادارة المدنية, لأنهم كتيبة أخري تنكرت في ثياب مدنية, من الغزاة الذي فرضوا بقوة السلاح, وداسوا في طريقهم علي جثث وأشلاء آلاف العراقيين الذين قتلتهم صواريخ كروز.
وأكذب منه من تصور أن العراق بكل هيبته وجلاله صار إدارة أمريكية ينصب البنتاجون علي رأسها ممثلا له, لأن العراق وان انهزم أو انكسر, فسوف يظل الشامخ الكبير, الذي تعلو هامته هامات غاصبيه فضلا عن جلاديه.
ثم, كيف يكون شعور المواطن العربي العادي حين يقرأ أن الادارة الأمريكية تعد عميلا فاسدا لكي يكون في المستقبل رئيس العراق المحرر, ووصف العميل الفاسد ليس من عندي, ولكني استعرته مما كتبته مجلة الايكونوميست البريطانية في عددها قبل الأخير, وهي تتحدث عن مستقبل العراق, كأن المطلوب أن يظل العراقيون أذلاء إلي الأبد, مرة باسم الاستبداد البعثي, ومرة ثانية باسم الديمقراطية الأمريكية؟ وكيف يمكن أن يتمالك ذلك المواطن شعوره وهو يري رتلا يضم مئات العملاء الذين دربتهم المخابرات الأمريكية وأطعمتهم, وكستهم حتي ألبستهم ثياب جنودها, وقد أريد لهم أن يصبحوا طليعة النظام الجديد, والنخبة التي ستضمد جراح العراق وتطوي صفحة أحزانه وعذاباته؟.
وأي مهانة يستشعرها المواطن العربي حين يجد أن العراق الكبير تحول بكامله بعد تحريره إلي قاعدة عسكرية أمريكية, في استعادة بائسة لدور إيران الشاهنشاهية إبان سنوات الحرب الباردة, وفي نقلة عبثية غيرت ديكور السجن وإحالته ماخورا! ـ( للعلم: من المواقع التي ستتمركز فيها القوات الأمريكية منطقة الشريط المعزول في غرب العراق بالقرب من خط أنابيب النفط القديم الممتد للأردن, الذي تسعي إسرائيل إلي تشغيله لنقل البترول العراقي إلي حيفا, وعبر الموانيء الإسرائيلية كبديل عن الموانيء السورية).
(2)
كي أقرب إلي الأذهان ماعنيته بالذي سيفعل في العراق وبه, وبالذي عنيته بالأفعال الفاضحة التي سترتكب بحق البلد الكبير علي المستويين السياسي والتاريخي, فأنني أضع بين أيدي الجميع لقطتين من خلفية المشهد.
اللقطة الأولي تتعلق بالفريق الذي يقف وراء مشروع الحرب, والذي تابع كثيرون خلفيات أعضائه الأيديولوجية, الأصولية الإنجيلية والصهيونية, لكن خلفياتهم السياسية ومآربهم الاقتصادية لم تلق ماتستحقه من اهتمام. ليس جديدا القول إن تلك المجموعة هي الأكثر حماسا لفكرة الإمبراطورية الأمريكية, التي صاغها وتبناها في عام1997 أصحاب مشروع القرن الأمريكي الجديد, وهم من يرمز إليهم في الولايات المتحدة باسم بناك. وهؤلاء هم الذين دعموا وشكلوا مجموعة المعارضين العراقيين, الذين عرفوا باسم المؤتمر الوطني العراقي, ووضعوا علي رأسه أحمد جلبي المهاجر مع أسرته إلي الولايات المتحدة منذ عام58, والذي أدانته المحاكم الأردنية لاحقا في ارتكاب جرائم اختلاس وفساد مصرفي( اتهم بأنه حول لحسابه الشخصي300 مليون دولار من أموال البنك), وحكم عليه بالسجن مدة32 عاما. وهو ذات الشخص الذي ترشحه الإدارة الأمريكية لكي يكون رئيس عراق المسقبل(!).
المثير في مشروع القرن الأمريكي ليس فقط فكرته فحسب, ولكن آباءه ومؤسسيه أيضا. إذ في المقدمة منهم ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي, ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع, ونائبه بول وولفويتز, الذي يعد الأب الروحي للمجموعة, بالإضافة إلي أسماء أخري مهمة في الحياة العامة الأمريكية مثل اليوت ابرامز, وجون بولتون, وريتشارد بيرل, الذي أطلق عليه وصف أمير الظلام. والخطوة الأولي في مشروع المجموعة هي الهيمنة علي العراق.
أحد الكتاب الأردنيين المقيمين في الولايات المتحدة, مالك العثامنة, أوضح في تحليل نشرته القدس العربي في4/16. الخلفيات الاقتصادية لتلك المجموعة. وكيف انهم بلا استثناء يمثلون مصالح أخطبوطية عملاقة. فتشيني مثلا وقبل أن يصبح نائبا للرئيس كان يعمل رئيسا لمجلس إدارة مجموعة هاليبرتون العملاقة, في دالاس ـ تكساس. والمفارقة أن هذه الشركة وبرئاسة تشيني قامت وحسب سجلات الأمم المتحدة بإنجاز عقود مع نظام البعث في بغداد بما قيمته730 مليون دولار, وفي أكتوبر عام1995, أي في الشهر ذاته الذي تولي فيه تشيني رئاسة الشركة. أخيرا تم الإعلان عن صفقة لهاليبرتون وضعتها في صفوف أول المنتفعين من أي حرب علي العراق, والصفقة تتلخص بحق هاليبرتون في السيطرة والتحكم بآبار النفط المحترق والعمل علي إخماد حرائقها ومن ثم تجهيزها للعمل مرة أخري!!.
مجموعة هاليبرتون هذه تملك من ضمن ماتملك شركة أخري لها اهتماماتها في العراق, وهي شركة براون اندروت, التي تختص بالانشاءات الضخمة, وقد حصلت أخيرا علي امتياز عقد حكومي باعادة بناء الجسور بعد الحرب, والمثير أنها تعاقدت كذلك مع وزارة الدفاع الأمريكية لبناء مباني القواعد العسكرية الدائمة في العراق كما فعلت الشيء ذاته في كوسوفا, وبكلفة مليارات الدولارات!!.
الأكثر إثارة بين الشركات المنتفعة من مرحلة مابعد الحرب في العراق, هي مجموعة كارلايل الاستثمارية الخاصة والتي تتوزع استثماراتها علي أكثر من194 شركة أمريكية, في مجال الاتصالات وشركات تزويد المعدات العسكرية, والمثير في هذه المجموعة الاستثمارية الضخمة أن مؤسسيها أسماء مهمة ولها تأثيرها ومعظمهم مسئولون كبار سابقون في إدارة ريجان أو بوش الأب, بل أن بوش الأب نفسه يعمل رسميا لهذه المجموعة بالإضافة أنه مساهم بها, ووظيفته الرسمية المستشار الأول, ويساعده في تقديم المشورة, وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر.
بعدما استعرض العثامنة هذه الخلفية تساءل قائلا: هل كانت الحرب تحريرا للعراق, أم تحريرا للعقود في العراق؟!.
(3)
اللقطة الثانية تتعلق بالخبرة الأمريكية في صدد عملية إعادة تأهيل المهزومين, التي طبقت في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية, والتي يجري استنساخها في العراق الآن. وهو ماعرضت له قبل أسابيع من وقوع الحرب, ووجدت أن من المهم استعادة بعض ملامحه الآن. بعدما بدأت التوقعات والمخاوف تتحول إلي حقائق تتحرك علي الأرض.
لقد اعتبرت الولايات المتحدة أنه من المهم للغاية إعادة تشكيل أهم بلدين هزما في الحرب, لما مثلاه من خطورة علي محيطها وعلي النفوذ الغربي بعامة, بسبب تطلعاتها التوسيعة, فنصبت الجنرال ماك آرثر حاكما عسكريا علي اليابان, الذي تولي تقريبا نفس المهمة المكلف بها الجنرال جاي جارنر في العراق الآن. وتضمن برنامجه ثلاثة عناصر هي: نزع سلاح اليابان, والإشراف علي التحول الديمقراطي في البلاد, واستعادة قوتها الاقتصادية. وكان الهدف هو دمج اليابان في منظومة القيم الغربية لأسباب مفهومة, وإنعاشها اقتصاديا, ليس إكراما لها ولا سعيا وراء رفاهيتها ولكن لكيلا تنتشر فيها الشيوعية ومن ثم تنحاز إلي العدو السوفيتي.
تحت الاحتلال أجريت أول انتخابات ديمقراطية في اليابان سنة45, وأشرف الجنرال ماك آرثر علي إصدار أول دستور ياباني اصبح ساري المفعول في عام47, ونص علي ما أراده الأمريكيون من تنازل اليابان عن إعلان الحرب إلي الأبد, وتسريحها لكل قواتها المسلحة, البرية والبحرية والجوية. وكما أرسلت الولايات المتحدة خبراء لوضع الميزانية, وعملت علي المساعدة في حل المشاكل الاقتصادية لليابان, فأنها أوفدت بعثة تعليمية إلي طوكيو تولت تحديد عناصر النظام التعليمي بحيث يركز علي المفاهيم الديمقراطية والواجبات المدنية للمواطنين.. إلي آخر الاصلاحات التي كانت لها نتائجها الايجابية سواء بسبب طبيعة الشعب الياباني, أو نتيجة للتطورات الاقليمية التي عززت من مكانة اليابان وزادت من اعتماد واشنطن عليها كشريك استراتيجي في المنطقة.
ألمانيا التي خضعت لاحتلال رباعي من دول الحلفاء المنتصرة, حوكم قادة النظام النازي, وجري اعتقال ربع مليون من أنصار الحزب, كما حرم أكثر من نصف مليون من تولي أية وظائف حكومية. واجبر كل ألماني علي ملء استمارة توضح تاريخ حياته, لاستئصال كل اثر للنازية. وعمل المحتلون الغربيون علي إعادة تعليم الشعب الألماني لكي يصبح محبا للديمقراطية. في هذا السياق جري إلغاء الجمعيات ذات التوجهات الأيديولوجية. وحظر إصدار الصحف. وتم تشجيع إنشاء الجمعيات والنوادي الشبابية غير السياسية, وإصدار نشرات صحفية تعبر عن القيم الديمقراطية الغربية. وتمت تنقية الكتب المدرسية وأعيدت كتابة أغلبها من جديد.
(4)
في صدد محاولة إعادة تأهيل العراق, من الواضح أن الولايات المتحدة ليست قلقة من الوضع الاقتصادي, لإدراكها أن عائدات النفط قادرة علي تمويل عملية الاعمار وتغطية نفقات الاحتلال, فضلا عن تخصيص قطاع النفط وتسليمه للشركات الأمريكية يعد جائزة كبيرة توفر فرصة معتبرة لإنعاش الاقتصاد الأمريكي. وقد أولت الإدارة الأمريكية التعليم اهتماما خاصا, لأنك بالتعليم تصنع المستقبل علي النحو الذي تريد. فأوكلت إلي بعض الشركات المختصة مهمة تغيير النظام التعليمي, وتم توقيع عقد بقيمة41 مليون دولار مع شركة كرييتيف اسوشيتس لإعداد مقرر دراسي يخلو من مديح النظام السابق وأيديولوجيته ويبشر بالقيم التي يريد الأمريكيون بثها والتعويل عليها في مشروع إعادة التشكيل. وقد نقلت القدس العربي في4/17 عن بعض المسئولين الأمريكيين قولهم انهم يريدون كتبا مدرسية تخلو من العداء لليهود والولايات المتحدة. وتعبر عن رؤية علمانية للحاضر والمستقبل.
الحاصل في التعليم سوف يتكرر في مختلف المجالات الأخري طبقا للسيناريو الذي جري تطبيقه في اليابان وألمانيا. ومن وضع دستور جديد إلي إنشاء إعلام يتبني إلحاق المجتمع بمنظومة القيم الغربية السياسية فضلا عن الاجتماعية, بحيث يوضع العراق الجديد في القالب الذي يريده له الأمريكيون. وهو مايعني في حقيقة الأمر أنه في مقابل إطلاق الحريات السياسية والمدنية التي يتوق لها الشعب العراقي لا ريب, سيتم إخضاع المجتمع العراقي وتغريبه, بحيث تقتلع جذوره ويعاد تركيبه من جديد بالمواصفات الأمريكية. وبذلك يتحول العراق في نظرهم إلي إحدي حلقات الحلم الإمبراطوري, وقاعدة لتغيير الخرائط الثقافية والاجتماعية للمنطقة, جنبا إلي جنب مع تغيير خرائطها السياسية.
مشكلة هذا التصور المفرط في التبسيط والسذاجة. انه يعتبر العراق مختبرا مماثلا لليابان وألمانيا, ويتجاهل علي نحو مذهل مختلف عناصر الخصوصية لدي المجتمع العراقي, وفي المقدمة منها عمق انتمائه العربي والإسلامي. الأمر الذي يعني الاقتلاع وإعادة التشكيل التي تستهدف إحداث التغريب, لن تكون بمثابة استباحة للعراق وهتك عرضه فحسب, وإنما ستكون أيضا عنصر تفجير لمختلف مظاهر المقاومة, التي قد تفتح الباب للعديد من صور العنف والفوضي.
(5)
أما الذي سيفعل بالعراق فهو كثير. وقاريء الصحف الإسرائيلية يرصد العديد من الآمال المعلقة علي عراق مابعد الاحتلال الذي اعتبرته بمثابة ميلاد جديد له, وفجر جديد اطل علي العالم.( موشيه ارينز ـ هاآرتس4/15). وتتراوح الآمال الإسرائيلية بين حلمهم في أن يؤدي تغيير توازنات المنطقة إلي اتساع نطاق التطبيع الذي اعتبروه مفروغا منه مع العراق, ومضاعفة الضغط لإنهاء القضية الفلسطينية, وعقد حلف بغداد جديد يضم العراق والأردن مع إسرائيل بطبيعة الحال( قالت يديعوت احرونوت التي تحمست للفكرة إن الدول الثلاث لها تراث انتدابي بريطاني مشترك). مرورا بتوفير النفط العراقي بسعر أرخص بنسبة25% وتنشيط الركود الاقتصادي المخيم بسبب الانتفاضة. أما ضغوط العراق الأمريكي الجديد علي إيران وسوريا فحدث فيه ولا حرج. ولاتسأل عن التصدعات التي ستحدث في الصف العربي ومنظومة الأمن القومي العربي, ومن ثم علي النظام العربي ككل.
ليس ذلك آخر كلام بطبيعة الحال, لأن كل هذا الذي يرتب ويدبر يمكن أن ينقلب رأسا علي عقب إذا ما راحت السكرة وانتفض الشعب العراقي مدافعا عن كرامته وشرف وطنه الكبير, وإذا ما أفاقت الدول العربية وأدركت أن الطوفان إذا ما استمر فلن يسلم منه أحد, وأن الذين أكلوا الثور الأبيض. لن تتوقف شهيتهم عند حد. وإذا ماحدث ذلك, فربما توافرت لنا الإجابة علي تساؤل الشاعر اليمني ابراهيم الحضراني الذي قال فيه: كل فجر لاح كاذبا, فمتي يجيء الذي لا يكذب؟!