مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
مخططات ما بعد السقوط
هويدي 15-4-2003

إذا كان الذي جري في العراق قد شابته مفاجآت وألغاز يستعصي فهمها أو تفسيرها‏,‏ في الوقت الراهن علي الأقل‏,‏ فإن الذي سيجري لم يعد فيه سر‏,‏ وإنما أصبح أكثره واضحا وضوح الشمس‏,‏ بعدما ظهرت علي المسرح شخوصه‏,‏ وأعلنت عناوينه علي الملأ‏,‏ وسربت تفاصيله إلي وسائل الإعلام بقصد أو بغير قصد‏.‏

‏(1)‏
باحتلال بغداد تكون قد سقطت أول عاصمة عربية في القرن الحادي والعشرين‏,‏ وعلي الرغم من أن القرن الماضي شهد سقوط القدس في عام‏48‏ وبيروت عام‏82‏ وكابول في‏2001,‏ فإن ما حدث في حالة بغداد أسوأ بكثير‏,‏ لأن تلك هي المرة الأولي في التاريخ العربي والإسلامي الذي تسقط فيه عاصمة عربية بترتيب وتعاون مع أطراف عربية عدة محيطة بها‏.‏
بعد السقوط تردد السؤال في مختلف الأوساط السياية والإعلامية‏:‏ من بعد؟ البعض ألقي السؤال شامتا أو ساعيا إلي تصفية الحسابات‏,‏ وآخرون طرحوه من قبيل التحذير والقلق والدعوة إلي تجنب المصير البائس للنظام العراقي ورئيسه‏.‏

الإسرائيليون ومن لف لفهم علي رأس الفريق الأول‏,‏ إذ منذ السقوط البائس في‏9‏ أبريل والصحف الإسرائيلية تلح علي أن الحرب لن تحقق هدفها ما لم يتم تأديب سوريا وإيران‏,‏ وهي وجهة النظر التي دعا إليها في عام‏2001‏ بيان مجموعة المحافظين الأمريكيين الجدد‏.(‏ ملف سوريا فتح فيما يبدو من خلال الانتقادات والتهديدات الأمريكية التي وجهت في الأسبوع الماضي إلي دمشق‏).‏
القلقون والمحذرون ترددت أصواتهم في أغلب العواصم العربية‏,‏ وكان لسان حالهم يقول‏:‏ إن التدخل الخارجي بذريعة الدفاع عن الديمقراطية يمكن أن يتكرر في أي بلد آخر‏,‏ لذلك فلابد من المسارعة إلي إحداث إصلاح سياسي حقيقي‏,‏ سواء لإحباط محاولات التدخل‏,‏ أو لامتصاص غضب الجماهير التي خرجت للانتقام من كل رموز السلطة‏,‏ من الأبنية الحكومية إلي بيوت الحكام وصولا إلي صور وتماثيل الزعيم الأوحد‏.‏ وكانت رسالة رئيس الوزراء الجزائري الأسبق سيد أحمد غزالي إلي الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة‏,‏ التي نشرتها الصحف في الأسبوع الماضي‏,‏ تجسيدا لما نقول‏,‏ إذ في الرسالة قال غزالي‏:‏ إنه ما لم تشهد الجزائر إصلاحا سياسيا وديمقراطيا يرد إلي المجتمع اعتباره ويحفظ كرامته‏,‏ فإن دور الجزائر سيأتي في الوقت المناسب‏..‏ تطبيقا للخطة الأمريكية‏,‏ خصوصا أن إعادة تشكيل الخريطة العربية بدأ فعليا بالعراق‏..‏ ومن ثم فإن الاحتلال يتهددنا بصفتنا أعضاء في المجموعة الدولية‏,‏ وبصفتنا عربا ومسلمين‏,‏ ولأن بلدنا الجزائر يملك احتياطيات بترولية مهمة هي محل أطماع كثيرين‏.‏

في الثالث من أبريل الحالي نقلت سي‏.‏ إن‏.‏ إن من لوس أنجلوس أن جيمس وولسي رئيس المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق ألقي محاضرة أمام مجموعة من الدارسين قال فيها‏:‏ إن الولايات المتحدة تخوض الان الحرب العالمية الرابعة‏(‏ بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية‏,‏ وكانت الحرب الباردة هي الثالثة‏),‏ وهذه الحرب قد تستمر لعدة سنوات‏,‏ والأعداء فيها ثلاثة هم‏:‏ الملالي الذين يحكمون إيران‏,‏ والفاشيست في العراق وسوريا‏,‏ والمتطرفون الإسلاميون من أمثال تنظيم القاعدة‏.(‏ لاحظ أن ساحة الحرب هي العالم الإسلامي‏).‏ ثم أضاف أن واشنطن في مسيرتها ستدعم الحركات الديمقراطية في الشرق الأوسط‏.‏
في مقالة للصحفي وداعية السلام الاسرائيلي يوري افنيري نشرت علي الأنترنت في‏4/10‏ الحالي ذكر أن الحرب الراهنة لن تقف عند العراق‏,‏ لكن ستكون لها أبعاد أخري عميقة الأثر في مستقبل العالم‏,‏ من ناحية لأنها فتحت شهية الولايات المتحدة لقصف أي مكان في الكرة الأرضية‏,‏ مهما يبلغ من قوة‏,‏ انطلاقا من فكرة استباق الخطر وإجهاضه‏,‏ التي اتبعتها مع العراق‏,‏ أما الناحية الثانية الأهم والأخطر‏,‏ فإن الحرب مثلت انتصارا لتحالف المحافظين الصهاينة مع الأصوليين الإنجيليين‏,‏ سوف يقوي من شوكتهم‏,‏ ويمكنهم من السيطرة بلا حدود علي القرار السياسي في واشنطن‏,‏ وهو أمر كارثي بكل المقاييس‏,‏ لأن ذلك التحالف معاد للحرب عموما وللفلسطينيين بوجه أخص‏,‏ ومعاد لأية حلول سلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ الأمر الذي لن يمكن إسرائيل من أن تنعم بالهدوء أو السلام مع جيرانها‏,‏ ليس ذلك فحسب‏,‏ وإنما يذهب الأصوليون الإنجيليون إلي أبعد من ذلك بكثير‏,‏ حيث يعتبرون الحرب علي العراق بمثابة حلقة في الصراع بين أبناء النور‏(‏ الأمريكيون والإسرائيليون‏)‏ ضد أبناء الظلمات الذين هم العرب والمسلمون‏.‏

‏(2)‏
علي الرغم من تعدد التكهنات بشأن طبيعة وشكل الشرق الأوسط الجديد‏,‏ فإن حصة إسرائيل منه هي الأكثر وضوحا حتي الآن‏,‏ وكنت قد ذكرت قبلا بعض التفاصيل عن الدور الإسرائيلي في التعبئة للحرب والتخطيط لها وتنفيذها أيضا‏,‏ وأشرت إلي الوعود الأمريكية بإعطاء الأولوية لإسرائيل في الحصول علي النفط العراقي بسعر رخيص‏,‏ ثم نشر لاحقا أن ملف مد خط أنابيب البترول من الموصل إلي حيفا بإسرائيل قد وضع علي الطاولة‏,‏ وبمضي الوقت بدأت بقية التفاصيل تتكشف‏,‏ منها مثلا‏:‏
‏*‏ إن الجنرال المتقاعد جاي جارنر الحاكم العسكري الأمريكي الذي نصبته الإدارة الأمريكية ليمسك بزمام الأمور في بغداد‏,‏ رشحه وزير الدفاع رامسفيلد‏,‏ وزكاه رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون‏(‏ الحياة اللندنية‏4/12),‏ وبسبب علاقته الخاصة مع المتطرفين في تل أبيب فإن افنيري وصفه بأنه جنرال صهيوني‏,‏ وذكرت هاآرتس في‏4/9‏ أنه شارك في نصب شبكات الصواريخ بإسرائيل‏,‏ وفي تطوير صواريخ الحيتس‏,‏ وقالت التليجراف البريطانية‏:‏ إن هذه هي المرحلة الأولي التي يحكم فيها العراق رجل معترف بإسرائيل‏.‏

‏*‏إن من المرشحين لطاقم الإدارة في العراق‏,‏ اثنين من رؤساء المخابرات المركزية الأمريكية السابقين‏,‏ أحدهما جيمس وولسي الذي سيكون وزيرا للإعلام‏(!!)‏ وتيموني كرني الذي سيكون وزيرا للصناعة‏,‏ أما مدير إذاعة صوت أمريكا السابق روبرت رايلي فإنه سيدير الإذاعة والتليفزيون العراقين‏(!!)‏ هاآرتس‏.‏
‏*‏ أن المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة أقامت علاقات جيدة مع كل عناصر المعارضة العراقية الموجودة بأمريكا‏,‏ وقد عقدت لقاءات عدة مع أحمد شلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي‏,‏ المرشح لكي يلعب دورا رئيسيا في المستقبل‏,‏ وكان رئيس مكتب المؤتمر الوطني في واشنطن انتفاض قنبر قد دعي هذا العام بصور غير عادية لحضور مؤتمر إيباك السنوي‏,‏ وهي أهم منظمة متحدثة باسم إسرائيل في واشنطن‏,‏ لكنه لم يحضر لأن الأمريكيين طلبوا منه الذهاب إلي شمال العراق‏,‏ وحضر بدلا منه معارض آخر هو كنعنان مكية‏.‏ صحيفة هاآرتس نشرت هذه المعلومة في عدد‏4/7,‏ وقالت‏:‏ إن دعوة ممثل المؤتمر الوطني إلي اجتماع إيباك قصد به في الظرف الراهن إعلان العلاقة الخاصة بين المعارضة العراقية واللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة‏,‏ بعد أن حرص الجانبان علي إخفائها طيلة السنين السابقة‏.‏

‏*‏ إن بعض الشركات الإسرائيلية بدأت تخطط منذ الآن لتنظيم الرحلات بين تل أبيب وبغداد‏,‏ من خلال مد خط الطيران بين البلدين وتنشيط السياحة علي الجانبين‏(‏ معاريف‏4/9).‏

‏(3)‏
ثمة فرق لابد من الانتباه إليه بين الأمنيات والمخططات‏,‏ وما سيحدث بالفعل ويتحقق علي أرض الواقع‏,‏ وفي الحالة العراقية بوجه أخص‏,‏ فالأمر أعمق وأكثر تعقيدا مما يبدو علي السطح‏,‏ ليس فقط لأن ثمة احتمالا كبيرا لأن يواجه الاحتلال بمقاومة تؤرق راحته‏,‏ وأن يواجه الأمريكيون متاعب من قبيل تلك التي يواجهونها في أفغانستان حتي الآن‏,‏ الأمر الذي لابد أن يعطل ـ إن لم يبدد ـ تلك المخططات‏,‏ وقد قرأنا في الأسبوع الماضي بيانا عن تشكيل الجبهة الوطنية لتحرير العراق‏,‏ دعا إلي الكفاح المسلح ضد المحتلين‏,‏ وعن ظهور تنظيم آخر في الداخل باسم أحرار العراق والذين يعرفون الأسلحة العراقية جيدا يدركون أن ذلك أول الغيث‏.‏
من ناحية أخري فإن الذين يتحدثون عن تطبيع أو اختراق إسرائيلي للعراق يجهلون حقيقة الشعب العراقي‏,‏ وعمق انتمائه العربي والإسلامي‏,‏ وقد ألمح إلي هذا البعد كاتب إسرائيلي هو سامي ميخائيل‏,‏ نشر في معاريف‏(‏ عدد‏4/9)‏ مقالة قال فيها إن سقوط صدام حسين لا يبشر بالضرورة بعهد قرب وود مع إسرائيل‏,‏ ذلك أن القضية الفلسطينية احتلت دائما مكانة خاصة في الوجدان العراقي‏,‏ وليس مصادفة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني وجد ملاذا دافئا حين لجأ إلي العراق في عام‏1939,‏ كما أن الانقلاب المتعاطف مع النازية الذي وقع في بغداد عام‏1940,‏ نشأ علي خلفية التضامن مع الفلسطينيين والكراهية للبريطانيين‏,‏ الذين فتحوا أبواب هجرة اليهود إلي فلسطين‏.‏

ثمة سؤال أخير يتعين الوقوف أمامه طويلا ونحن نرصد ما يخططون ويدبرون‏,‏ هو‏:‏ ماذا نحن فعلون؟
ليست عندي إجابة محددة الآن‏,‏ أو قل إن ثمة إجابات متعددة تحتاج إلي مناقشة وبلورة‏,‏ لكني وقفت عند نقطتين مضيئتين في رسالة السيد غزالي رئيس وزراء الجزائر الأسبق إلي الرئيس بوتفليقة‏,‏ الأولي تمثلت في دعوته إلي تخفيض مستوي التمثيل الدبلوماسي‏,‏ والاكتفاء بالحد الأدني من العلاقات مع حكومات الدول التي شاركت في العدوان‏,‏ حتي ينتهي الاحتلال ويخرج الغزاة من العراق‏.‏

أما النقطة الثانية فكانت تذكيره بما فعله الرئيس الأسبق هواري بومدين بعد حرب عامي‏67‏ و‏73,‏ حين قرر قطع العلاقات مع الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات‏,‏ ومقاطعتها نفطيا‏,‏ كما قرر تأميم المصالح الأمريكية البترولية بالجزائر‏.‏
والنقطتان أسوقهما من باب تنشيط الوعي والذاكرة لا أكثر‏.‏
أضافة تعليق