د.يوسف مكي
انطلقت الحركات الاحتجاجية، في عدد من البلدان العربية، ردا على حالة العجز عن مقابلة استحقاقات الناس، وفشل مشروع الدولة الوطنية، الذي تأسس بعد الحرب الكونية الثانية. وكان الحراك في بداياته، وتحديدا في تونس ومصر، سلميا بامتياز. وقد أذهلت صور الثائرين، في انضباطهم، وثباتهم وحفاظهم على سلمية حراكهم، العالم أجمع.
أمل كثيرون، أن تمثل هذه الحركات، مرحلة، تنقلنا من حالة الانسداد التاريخي، إلى عصر كوني، سماته الاعتراف بحق الإنسان في صنع مستقبله. لكن موسم الفرح لم يستمر طويلا. والحق أنه وئد وهو لما يزل في مهده. فما يطغى على المشهد الآن، في بلدان ’’الربيع العربي’’، بدون استثناء، وإن بنسب متفاوتة، هو مشهد الفوضى وانفلات الأوضاع الأمنية، وضعف سيطرة الدولة وقيادتها لمقدرات البلاد. أما البلدان، التي لم تنجز فيها هذه الحركات أهدافها بعد، فحدث ولا حرج. والأوضاع في جميع هذه البلدان مرشحة لمزيد من الانهيارات.
لسنا هنا في وارد توصيف ما يجري، في هذه البلدان. فما تنقله الفضائيات، ووكالات الأنباء عن الاغتيالات السياسية، في تونس وآخرها اغتيال أحد القيادات السياسية، السيد شكري بلعيد، يغني عن كل توصيف. وطبيعي أن تشهد البلاد بعد كل حالة من هذا النوع، المزيد من الفوضى، وغياب الاستقرار وضياع هيبة الدولة الوطنية.
في أرض الكنانة، لم تكن الأوضاع، أحسن حالات. فمع تثبيت أحكام الإعدام على المتهمين في أحداث بورسعيد، نهاية الأسبوع الماضي، شهدت المدن المصرية الرئيسية بما فيها العاصمة القاهرة، أـحداث عنف غير مسبوقة، في تاريخ مصر المعاصر، لا تزال ماثلة ومستمرة حتى هذه اللحظة. وهناك إعلان من حركة 6 أبريل، بالبدء في عصيان مدني. وهناك فعلا عصيان مدني في بورسعيد والدقهلية، وحوادث تبادل إحراق مقرات الموالاة والمعارضة، بمدن مصر الرئيسية باتت مألوفة. وأعداد القتلى الذين يسقطون يوميا جراء التجاذب والصراع بين الإخوان المسلمين وحلفائهم، وبين جبهة الإنقاذ تتجه للتصاعد.
ورغم دعوة الرئيس مرسي، لمختلف القوى السياسية للجلوس على طاولة الحوار، فإن قوى المعارضة ترفضن ذلك، وتشترط إلغاء الدستور، الذي يعبر في حقيقته، عن الموقف السياسي للإخوان، ولا يمثل إجماعا وطنيا.
تطالب قوى المعارضة، بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وتشكيل لجنة مستقلة، تمثل التوافق الوطني، تشرف على صياغة دستور جديد وانتخابات برلمانية جديدة. وعلى هذا الأساس، تعلن المعارضة رفضها المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، المزمع إجراؤها في الشهر القادم.
في هذه الأجواء، أعلن عن فشل وزير الخارجية، جون كيري، في إقناع أطراف المعارضة، التخلي عن شروطها بالمشاركة بالانتخابات البرلمانية الجديدة. وقد وصم الموقف هذا، بالتحيز للإخوان المسلمين، وإيجاد مخرج سياسي لإنقاذهم. رفض السيد حمدين صباحي، قائد التيار الشعبي، والدكتور محمد البرادعي اللقاء مع كيري، لأنهما وجدا في زيارته لمصر، محاولة لوقف استمرار الثورة، حتى إنجاز التحول الديمقراطي، وسيادة مفهوم التوافق الوطني، بدلا عن نهج الغلبة الذي اعتمدته جماعة الإخوان، لأخونة الدولة والمجتمع.
يتعلل الإخوان المسلمون، أنهم وصلوا للسلطة مؤخرا، عن طريق صناديق الاقتراع، وأن ذلك يمنحهم شرعية لا تنازع. فالاحتكام لصناديق الاقتراع، هو غاية الديمقراطية. ورغم أن هذا القول صحيحا في بعض جوانبه، لكن ذلك هو عنصر واحد فقط من عناصر التحول إلى الدولة المدنية، وليس يكفي وجوده، للتحول نحو النظام الديمقراطي، ومنح نظامه صفة الدولة المدنية.
وتبدو محاذير هذا التوصيف أكثر، حين لا يمثل الاقتراع على الدستور، عبر صناديق الاقتراع، إجماعا وطنيا، بمعنى اتفاق كل مكونات النسيج الاجتماعي عليه. إن ذلك، ليس مجاله صناديق الاقتراع، وإنما التوافق السياسي، بين أبناء الوطن، وفي مقدمتهم الأقليات الدينية والعرقية، الذين لن يتأكد انتماءهم للوطن، وحصولهم على حق المواطنة، من غير تحقيق التوافق معهم على الدستور.
هذه القضايا تقودنا إلى أحد أسباب الصراع الدموي الدائر الآن في بلدان ’’الربيع العربي’’، وبشكل خاص في مصر وتونس وليبيا. فهذه الأسباب تعود ابتداء إلى قصر مرحلة الانتقال السياسي، التي مرت بها هذه البلدان إثر إسقاط حكوماتها السابقة. ويمكن القول أن الاستثناء الوحيد في هذا السياق، هو اليمن، الذي أسهمت المبادرة الخليجية، بالرعاية السعودية في خروجه، حتى هذه اللحظة، من النفق. وكان ما تحقق فعلا على الأرض، هو اللجوء إلى توافق مختلف الأطراف السياسية، موالاة ومعارضة، والوصول إلى تبني حوار وطني لا يستثني أحدا، وتغليب لغة التوافق، على لغة الغلبة.
لقد أسهم التجريف السياسي، الذي مارسته الطبقة الحاكمة في المرحلة التي سبقت الربيع العربي، لعدة عقود، في إيجاد فراغ كبير، لم يكن بالإمكان أن تحل محله سوى حركات الإسلام السياسي، التي أتيحت لها فرصا عديدة لإعادة إنتاج كوادرها. وحين تفجرت الحركة الاحتجاجية، التي قادها شباب، لا يملكون أية خبرة، أو خلفية سياسية، واستثمرت في حراكها مواقع التواصل الاجتماعي، أتيح للإخوان وحلفائهم اختطاف الحراك وتوجيهه، بما يخدم أهدافهم في الاستيلاء على السلطة.
الخروج من المأزق الراهن، لن يتم إلا بإعادة الاعتبار لأدبيات التحول السياسي، وفي مقدمتها، وجود مرحلة انتقال سياسي طويلة، تتكون خلالها مؤسسات المجتمع المدني، وتتيح للقوى السياسية الأخرى، أن تشكل كوادرها وهياكلها، فتكون قادرة على التنافس في مضمار الانتخاب الحر، واللجوء لصناديق الاقتراع. وحتى يتم ذلك، فلا مناص من التوافق بين مختلف القوى السياسية، على تشكيل حكومات وحدة وطنية. وتكون مهمة هذه الحكومات، استكمال الانتقال السياسي، وعلى رأسها إعداد قوانين ولوائح تشكيل الأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، وصياغة دساتير جديدة يتم التوافق عليها بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي في هذه البلدان. دون استئثار. ومن ثم إيجاد مناخات ملائمة لتحقيق انتخابات برلمانية ومجالس للشورى وانتخاب رئاسة الجمهورية.
وما لم يتم الانتصار لعملية التوافق على مفهوم الغلبة والاستئثار، فلن يكون أمام هذه البلدان سوى الفوضى، واحتمالات انهيار الكيانات الوطنية، وضياع الأمل في صناعة مستقبل عربي جديد، أكثر وبهجة.
*التجديد
انطلقت الحركات الاحتجاجية، في عدد من البلدان العربية، ردا على حالة العجز عن مقابلة استحقاقات الناس، وفشل مشروع الدولة الوطنية، الذي تأسس بعد الحرب الكونية الثانية. وكان الحراك في بداياته، وتحديدا في تونس ومصر، سلميا بامتياز. وقد أذهلت صور الثائرين، في انضباطهم، وثباتهم وحفاظهم على سلمية حراكهم، العالم أجمع.
أمل كثيرون، أن تمثل هذه الحركات، مرحلة، تنقلنا من حالة الانسداد التاريخي، إلى عصر كوني، سماته الاعتراف بحق الإنسان في صنع مستقبله. لكن موسم الفرح لم يستمر طويلا. والحق أنه وئد وهو لما يزل في مهده. فما يطغى على المشهد الآن، في بلدان ’’الربيع العربي’’، بدون استثناء، وإن بنسب متفاوتة، هو مشهد الفوضى وانفلات الأوضاع الأمنية، وضعف سيطرة الدولة وقيادتها لمقدرات البلاد. أما البلدان، التي لم تنجز فيها هذه الحركات أهدافها بعد، فحدث ولا حرج. والأوضاع في جميع هذه البلدان مرشحة لمزيد من الانهيارات.
لسنا هنا في وارد توصيف ما يجري، في هذه البلدان. فما تنقله الفضائيات، ووكالات الأنباء عن الاغتيالات السياسية، في تونس وآخرها اغتيال أحد القيادات السياسية، السيد شكري بلعيد، يغني عن كل توصيف. وطبيعي أن تشهد البلاد بعد كل حالة من هذا النوع، المزيد من الفوضى، وغياب الاستقرار وضياع هيبة الدولة الوطنية.
في أرض الكنانة، لم تكن الأوضاع، أحسن حالات. فمع تثبيت أحكام الإعدام على المتهمين في أحداث بورسعيد، نهاية الأسبوع الماضي، شهدت المدن المصرية الرئيسية بما فيها العاصمة القاهرة، أـحداث عنف غير مسبوقة، في تاريخ مصر المعاصر، لا تزال ماثلة ومستمرة حتى هذه اللحظة. وهناك إعلان من حركة 6 أبريل، بالبدء في عصيان مدني. وهناك فعلا عصيان مدني في بورسعيد والدقهلية، وحوادث تبادل إحراق مقرات الموالاة والمعارضة، بمدن مصر الرئيسية باتت مألوفة. وأعداد القتلى الذين يسقطون يوميا جراء التجاذب والصراع بين الإخوان المسلمين وحلفائهم، وبين جبهة الإنقاذ تتجه للتصاعد.
ورغم دعوة الرئيس مرسي، لمختلف القوى السياسية للجلوس على طاولة الحوار، فإن قوى المعارضة ترفضن ذلك، وتشترط إلغاء الدستور، الذي يعبر في حقيقته، عن الموقف السياسي للإخوان، ولا يمثل إجماعا وطنيا.
تطالب قوى المعارضة، بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وتشكيل لجنة مستقلة، تمثل التوافق الوطني، تشرف على صياغة دستور جديد وانتخابات برلمانية جديدة. وعلى هذا الأساس، تعلن المعارضة رفضها المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، المزمع إجراؤها في الشهر القادم.
في هذه الأجواء، أعلن عن فشل وزير الخارجية، جون كيري، في إقناع أطراف المعارضة، التخلي عن شروطها بالمشاركة بالانتخابات البرلمانية الجديدة. وقد وصم الموقف هذا، بالتحيز للإخوان المسلمين، وإيجاد مخرج سياسي لإنقاذهم. رفض السيد حمدين صباحي، قائد التيار الشعبي، والدكتور محمد البرادعي اللقاء مع كيري، لأنهما وجدا في زيارته لمصر، محاولة لوقف استمرار الثورة، حتى إنجاز التحول الديمقراطي، وسيادة مفهوم التوافق الوطني، بدلا عن نهج الغلبة الذي اعتمدته جماعة الإخوان، لأخونة الدولة والمجتمع.
يتعلل الإخوان المسلمون، أنهم وصلوا للسلطة مؤخرا، عن طريق صناديق الاقتراع، وأن ذلك يمنحهم شرعية لا تنازع. فالاحتكام لصناديق الاقتراع، هو غاية الديمقراطية. ورغم أن هذا القول صحيحا في بعض جوانبه، لكن ذلك هو عنصر واحد فقط من عناصر التحول إلى الدولة المدنية، وليس يكفي وجوده، للتحول نحو النظام الديمقراطي، ومنح نظامه صفة الدولة المدنية.
وتبدو محاذير هذا التوصيف أكثر، حين لا يمثل الاقتراع على الدستور، عبر صناديق الاقتراع، إجماعا وطنيا، بمعنى اتفاق كل مكونات النسيج الاجتماعي عليه. إن ذلك، ليس مجاله صناديق الاقتراع، وإنما التوافق السياسي، بين أبناء الوطن، وفي مقدمتهم الأقليات الدينية والعرقية، الذين لن يتأكد انتماءهم للوطن، وحصولهم على حق المواطنة، من غير تحقيق التوافق معهم على الدستور.
هذه القضايا تقودنا إلى أحد أسباب الصراع الدموي الدائر الآن في بلدان ’’الربيع العربي’’، وبشكل خاص في مصر وتونس وليبيا. فهذه الأسباب تعود ابتداء إلى قصر مرحلة الانتقال السياسي، التي مرت بها هذه البلدان إثر إسقاط حكوماتها السابقة. ويمكن القول أن الاستثناء الوحيد في هذا السياق، هو اليمن، الذي أسهمت المبادرة الخليجية، بالرعاية السعودية في خروجه، حتى هذه اللحظة، من النفق. وكان ما تحقق فعلا على الأرض، هو اللجوء إلى توافق مختلف الأطراف السياسية، موالاة ومعارضة، والوصول إلى تبني حوار وطني لا يستثني أحدا، وتغليب لغة التوافق، على لغة الغلبة.
لقد أسهم التجريف السياسي، الذي مارسته الطبقة الحاكمة في المرحلة التي سبقت الربيع العربي، لعدة عقود، في إيجاد فراغ كبير، لم يكن بالإمكان أن تحل محله سوى حركات الإسلام السياسي، التي أتيحت لها فرصا عديدة لإعادة إنتاج كوادرها. وحين تفجرت الحركة الاحتجاجية، التي قادها شباب، لا يملكون أية خبرة، أو خلفية سياسية، واستثمرت في حراكها مواقع التواصل الاجتماعي، أتيح للإخوان وحلفائهم اختطاف الحراك وتوجيهه، بما يخدم أهدافهم في الاستيلاء على السلطة.
الخروج من المأزق الراهن، لن يتم إلا بإعادة الاعتبار لأدبيات التحول السياسي، وفي مقدمتها، وجود مرحلة انتقال سياسي طويلة، تتكون خلالها مؤسسات المجتمع المدني، وتتيح للقوى السياسية الأخرى، أن تشكل كوادرها وهياكلها، فتكون قادرة على التنافس في مضمار الانتخاب الحر، واللجوء لصناديق الاقتراع. وحتى يتم ذلك، فلا مناص من التوافق بين مختلف القوى السياسية، على تشكيل حكومات وحدة وطنية. وتكون مهمة هذه الحكومات، استكمال الانتقال السياسي، وعلى رأسها إعداد قوانين ولوائح تشكيل الأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، وصياغة دساتير جديدة يتم التوافق عليها بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي في هذه البلدان. دون استئثار. ومن ثم إيجاد مناخات ملائمة لتحقيق انتخابات برلمانية ومجالس للشورى وانتخاب رئاسة الجمهورية.
وما لم يتم الانتصار لعملية التوافق على مفهوم الغلبة والاستئثار، فلن يكون أمام هذه البلدان سوى الفوضى، واحتمالات انهيار الكيانات الوطنية، وضياع الأمل في صناعة مستقبل عربي جديد، أكثر وبهجة.
*التجديد