مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عـن النصــر والهــزيمة
هويدي 8-4-2003

مع دخول الحرب أسبوعها الرابع‏,‏ بوسعنا أن نقول إن شعار الصدمة والرعب فقد معناه وتم تجاوزه‏,‏ ولابد أنكم لاحظتم أن الذين حدثونا عن أنها ستكون حربا نظيفة وخاطفة قد ابتلعوا كلماتهم وكفوا عن ترديدها‏.‏ أما حكاية أنها استهدفت تحرير العراق فقد أصبحت نكتة سمجة‏,‏ لا تبعث حتي علي الضحك‏.‏ أهم من هذا وذاك أنه صار بمقدورنا أن نقول ونحن مطمئنون‏:‏ إن العراق لم ينكسر‏,‏ كما أن الولايات المتحدة لم تنتصر‏.‏

‏(1)‏
لا نعرف إلي متي ستستمر الحرب‏,‏ غير أنه إذا لم يكن بمقدورنا أن نخوض فيما سيحدث في تلك الحرب الحافلة بالمفاجآت‏,‏ فإننا نستطيع بغير شك أن نلفت الانتباه إلي ما لم يحدث‏.‏ فقد كانت المراهنة مستقرة في البداية علي أن النصر مضمون بلا حرب حقيقية‏,‏ إن شئت الدقة فقل إنه نصر بالضربة القاضية بعد دقائق قليلة من إطلاق إشارة الجولة الأولي‏.‏ وهذه هي الفكرة الأساسية الكامنة في عنوان الصدمة والرعب الذي جري تسويقه قبل بدء الحرب‏.‏ وهو في الأصل ـ والعهدة علي مجلة نيوزويك ـ عنوان كتاب ألفه ضابط سابق في البحرية الأمريكية اسمه هارلان أولمان‏,‏ أجاب فيه علي السؤال التالي‏:‏ كيف يمكن إعادة خوض معركة عاصفة الصحراء‏(‏ المقصود حملة تحرير الكويت في عام‏1991)‏ وكسبها‏,‏ ليس فقط في ستة أشهر‏,‏ بل في يوم أو أسبوع أو شهر‏,‏ وباستخدام عناصر بشرية أقل‏.‏ ونصح وهو يجيب علي السؤال بأن تحقيق ذلك الهدف يقتضي وضع كل الطاقة التدميرية الأمريكية في المعركة دفعة واحدة‏,‏ وتوجيهها إلي قلب النظام في العاصمة مباشرة‏,‏ بهدف شله‏,‏ علي نحو يؤدي إلي قصم ظهره ومن ثم دفعه إلي الانهيار والاستسلام السريع‏.‏
حين لم يحدث ذلك‏,‏ كما لم تحدث توقعات أخري من قبيل ترحيب الناس بالغزاة وانتفاضهم علي نظامهم وتمرد الجيش‏,‏ بل وحين حدث العكس‏,‏ خصوصا وقوع بعض عمليات المقاومة‏,‏ فإن الصدمة الحقيقية كانت من نصيب واشنطن وليس بغداد‏,‏ كما ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت‏(‏ عدد‏3/30).‏

حسب الصحيفة الإسرائيلية فإن الأمريكيين أدركوا فشل خطتهم بعد يومين من بدء الغزو‏,‏ لذلك فإنهم سارعوا بعد ذلك إلي اعتماد خطة بديلة‏,‏ استبعدت أولوية ضرب القلب‏,‏ وانطلقت مما سمته ثني الخصم من الغلاف‏,‏ بمعني اجتياح الأطراف للوصول إلي القلب في النهاية بدلا من العكس‏,‏ وهو ما أسهم في إطالة أمد الحرب‏,‏ فلم تعد خاطفة ولا نظيفة‏,‏ واقتضي الموقف الاستعانة بقوات إضافية‏,‏ كما أنه فجر بعض الخلاف بين العسكريين والسياسيين في واشنطن علي النحو الذي أصبح يعرفه الجميع‏,‏ بعدما تواترت في صدده التقارير الصحفية‏.‏
لم ينتبه الغزاة الذين خططوا للحرب إلي أن كثافة الضربة الأولي أيقظت الحس الوطني لدي الجماهير‏,‏ التي أدركت أن الوطن في خطر‏,‏ وليس النظام القائم وحده‏,‏ وهو ما أدي علي الفور إلي تراجع أحزان الداخل وعذاباته خطوة إلي الوراء‏,‏ بحيث احتلت المقدمة فكرة الاحتشاد والاستنفار لصد خط الغزو القادم من الخارج‏.‏ وفي اللحظة التي استنفر الضمير الوطني خسر الغزاة رهانهم علي انهيار الداخل‏,‏ ودخلت الحرب منعطفا آخر لم يكن في الحسبان‏.‏

‏(2)‏
الصمود والمقاومة العراقيان أديا إلي تغيير الأساليب وليس الأهداف‏,‏ وكما لاحظنا جميعا فإن مسيرة الغزاة تأخرت وتعثرت فقط ولم تتوقف‏,‏ ولم يعد هناك خلاف الآن علي أن ما حدث علي الأرض اختلف جذريا عن حسابات وتقديرات ما قبل إطلاق الصاروخ الأول من قاعدة أمريكية بحرية في إحدي الدول العربية‏,‏ وهو ما دفع الرئيس الأمريكي الذي كان يتحدث باستخفاف شديد عن المعركة الخاطفة والنظيفة إلي تغيير نبرة حديثه‏,‏ والإشارة إلي معركة صعبة وتكلفة عالية ومخاطر محتملة‏,‏ الأمر الذي فهم منه أنه يهيئ الرأي العام لوقوع أسوأ الفروض‏.‏
حين لم يتحقق النصر الخاطف في الأيام الأولي تحدث عدد من كبار الصحفيين الغربيين بصوت عال عن فشل خطة الولايات المتحدة‏,‏ ومن هؤلاء روبرت فيسك‏,‏ وباتريك سيل‏,‏ وبيتر ارنيت مبعوث محطة إن‏.‏ بي‏.‏ سي الذي أزعجت تقاريره وزير الدفاع دونالد رامسفيلد‏,‏ وسارعت المحطة إلي فصله من العمل‏,‏ فعينته صحيفة ديلي ميرور البريطانية مراسلا لها في اليوم التالي مباشرة‏,‏ وكتبت علي صدر صفحتها الأولي عنوان يقول‏:‏ فصلوه لأنه قال الحقيقة ونحن اخترناه لكي يقول الحقيقة‏.‏

ما جري لم يكن مفاجئا لهم فحسب‏,‏ لكنه كان مفاجئا لنا أيضا‏,‏ نحن الذين توقعنا الأسوأ‏,‏ من جراء التعبئة الإعلامية المكثفة التي هيأتنا لاستقبال الانهيار العراقي السريع‏,‏ لذلك اعتبرنا عدم الانهيار انتصارا أنعش معنويات الجماهير في العالم العربي والإسلامي علي الأقل‏,‏ وكان ذلك تقويما صحيحا لاريب‏,‏ لا يختلف كثيرا عن موقف المحللين الغربيين الواقفين علي الضفة الأخري‏,‏ الذين اعتبروا عدم الانهيار فشلا وهزيمة للأمريكيين‏,‏ وهو ما يدعونا إلي إعادة النظر في مفهوم الانتصار والهزيمة في هذه الحرب الدائرة بين قوي عظمي مدججة بأكثر الأسلحة تقدما وفتكا‏,‏ وبين بلد عربي منهك من حروب سابقة‏,‏ ومحاصر منذ اثني عشر عاما‏,‏ وتم تجريده بصورة تدريجية من أسلحة الدفاع عن النفس‏,‏ ولم يتبق له سوي سلاح محدود وإرادة غير محدودة‏,‏ لذلك فإنني أذهب ـ معتمدا علي دروس التاريخ وخبراته ـ إلي أن هزيمة العراق ستتحقق فعلا إذا انكسرت إرادة مقاومة الاحتلال‏,‏ وليس إذا ما انكسر السلاح أو حتي إذا سقط النظام‏.‏
بكلام آخر فإن مختلف الشواهد تدل علي أنه ما لم تحدث معجزة من السماء‏,‏ فنهاية النظام العراقي قد حانت‏,‏ وفي ظل العقلية الحاكمة في البيت الأبيض فإن الولايات المتحدة ستذهب في القتال إلي أبعد مدي‏,‏ وسوف تستخدم كل الوسائل‏,‏ وستضحي بأي شيء‏(‏ عراقي بطبيعة الحال‏)‏ لكي تسقط نظام الرئيس صدام حسين‏,‏ ولكي تبلغ مرادها فإنها مستعدة لأن تدك بغداد كلها‏,‏ ولن تتردد في إغراق عاصمة الرشيد في دماء آلاف العراقيين‏,‏ وقد ذهبت صحيفة ليبراسيون الفرنسية إلي ما هو أبعد‏,‏ فلم تستبعد في افتتاحية عددها الصادر في أول أبريل أن تلجأ واشنطن إلي استخدام القنابل النووية في العراق‏,‏ ووصفت الحرب بأنها ستكون حربا باترة ومدمرة ومريرة وساحقة‏,‏ وقد تتحول في مراحلها إلي حرب إبادة‏.‏

‏(3)‏
لم نبالغ إذن إذا قلنا اعتمادا علي ما سبق ان صمود العراق حتي الآن يعني أن العراق لم ينهزم أو ينكسر‏,‏ وأن استمرار مقاومة الشعب والجيش العراقي سيعني علي الفور أن الأمريكيين لم ينتصروا‏,‏ نعم لا يزال المستقبل مفتوحا‏,‏ ومعركة بغداد لم تحسم بعد‏.‏
وأرجو ألا أكون مغرقا في التشاؤم إذا قلت إنني استبعد احتمال أن تنزل القوات العراقية نصرا عسكريا علي القوات الغازية‏,‏ حيث أزعم أن ذلك ضد حسابات العقل والمنطق‏,‏ وأقرب إلي الأمنيات منه إلي الواقع‏,‏ لكن الذي يلوح في الأفق هو هزيمة مشرفة‏,‏ يهزم فيها العراق وهو واقف وليس راكعا‏,‏ وسوف تنتصب قامة العراق أكثر وأكثر إذا استمرت مقاومة القوات الغازية‏.‏

وعلي الرغم من أننا لا نستطيع أن تحدث في الوقت الراهن عن مرحلة ما بعد سقوط النظام‏,‏ لأن ذلك مرتبط بعوامل كثيرة وثيقة الصلة بتطورات مسرح العمليات العسكرية‏,‏ فإن هذا الملف مفتوح علي الجانب الآخر‏,‏ ومثار حوله جدل ولغط وصلت أصداؤه إلي وسائل الإعلام‏.‏
لقد تحدثت التقارير الصحفية عن إدارة أمريكية للعراق‏,‏ تحت إمرة الجنرال المتقاعد جاي غارنر وثيق الصلة بالأوساط المتشددة في إسرائيل‏(‏ في أكتوبر عام‏2000‏ أعلن في رسالة مفتوحة وقع عليها‏46‏ جنرالا أمريكيا متقاعدا عن مساندتهم لإسرائيل في كفاحها ضد الفلسطينيين هاآرتس‏3/31),‏ وقيل إن الرجل بدأ العمل في الكويت التي شكل فيها فريقه‏,‏ وسينتقل خلال أيام قليلة إلي ام القصر في تمهيده للقيام بمهمته‏,‏ غير أن هذا الموضوع محل خلاف حاد بين واشنطن ولندن‏,‏ إذ في حين تتحدث الأولي عن سيطرة أمريكية طاغية فإن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يتحدث بقوة عن مؤتمر برعاية الأمم المتحدة تشارك فيه القوي السياسية العراقية لتقرير شكل النظام الجديد‏,‏ علي غرار اللوياجيركا التي عقدت في أفغانستان ومثلت فيها مختلف الفئات الأفغانية‏,‏ وهي التي أنتخبت حامد كرازاي رئيسا للدولة‏.‏

وعلي الرغم من تمسك بلير بموقفه والضغوط القوية التي يمارسها لإشراك الأمم المتحدة في الوضع المستجد‏,‏ فإن الولايات المتحدة ماضية في مخططاتها‏,‏ الأمر الذي يشكل إحراجا شديدا له‏,‏ أقرب إلي الإهانة السياسية‏.‏
وكما أن الخلاف مستحكم بين لندن وواشنطن حول من يدير البلد‏,‏ فإنه مستمر أيضا حول من يعمره‏,‏ خصوصا أن التقديرات الأولية تشير إلي أن تكلفة الإعمار ستصل إلي‏180‏ مليار دولار‏,‏ ولأن البريطانيين لم ينسوا للأمريكيين استئثارهم بمعظم عقود الإعمار في الكويت بعد تحريرها عام‏91,‏ فإن خشيتهم شديدة من أن يكرر الأمريكيون نفس المشهد في إعمار العراق‏,‏ ويبدو أن ذلك هو الحاصل الآن‏,‏ لأن الأمريكيين بدأوا بالفعل في توزيع العطاءات علي شركاتهم‏,‏ ويجري إرساء ثمانية عطاءات منها تخص البنية التحتية للعراق علي شركات أمريكية‏,‏ وهناك كلام عن أن شركة هالبيرتون التي كان يديرها نائب الرئيس ديك تشيني‏,‏ ستحصل علي أول تلك العطاءات وقيمته‏800‏ مليون دولار‏,‏ وذلك أول الغيث‏,‏ لأن الحديث دائر حول خصخصة النفط العراقي‏,‏ وقيام الشركات الأمريكية بإدارة قطاعه‏.‏

لقد ذكرت صحيفة كريستيان سيانس مونيتور أن هناك مشكلة بين الإنجليز والأمريكيين بخصوص عقود الإعمار ورغبة الأمريكيين في الفوز بأكبر حصة منها‏,‏ وقالت‏:‏ إن تليين الخطاب الألماني والفرنسي الموجه إلي واشنطن أخيرا وثيق الصلة برغبة الدولتين في أخذ نصيبهما من كعكة الإعمار وبعض عقوده‏.‏
الملاحظة الأهم في هذا وذاك أن المعارضة العراقية تبدو مهمشة بشكل مهين أيضا في مداولات إدارة بلدهم‏,‏ حيث يبدو أن السياسة الأمريكية اختارت لعناصرها دور المنفذ والتابع وليس الشريك‏.‏ أما ترتيبات الإعمار فقد استبعدت منها المؤسسات العراقية والجهات المعنية في الدول الحليفة عربا كانوا أم أتراكا‏.‏

وهكذا يكون التحرير الأمريكي وإلا فلا‏!‏
أضافة تعليق