هويدي 8-4-2003
مع دخول الحرب أسبوعها الرابع, بوسعنا أن نقول إن شعار الصدمة والرعب فقد معناه وتم تجاوزه, ولابد أنكم لاحظتم أن الذين حدثونا عن أنها ستكون حربا نظيفة وخاطفة قد ابتلعوا كلماتهم وكفوا عن ترديدها. أما حكاية أنها استهدفت تحرير العراق فقد أصبحت نكتة سمجة, لا تبعث حتي علي الضحك. أهم من هذا وذاك أنه صار بمقدورنا أن نقول ونحن مطمئنون: إن العراق لم ينكسر, كما أن الولايات المتحدة لم تنتصر.
(1)
لا نعرف إلي متي ستستمر الحرب, غير أنه إذا لم يكن بمقدورنا أن نخوض فيما سيحدث في تلك الحرب الحافلة بالمفاجآت, فإننا نستطيع بغير شك أن نلفت الانتباه إلي ما لم يحدث. فقد كانت المراهنة مستقرة في البداية علي أن النصر مضمون بلا حرب حقيقية, إن شئت الدقة فقل إنه نصر بالضربة القاضية بعد دقائق قليلة من إطلاق إشارة الجولة الأولي. وهذه هي الفكرة الأساسية الكامنة في عنوان الصدمة والرعب الذي جري تسويقه قبل بدء الحرب. وهو في الأصل ـ والعهدة علي مجلة نيوزويك ـ عنوان كتاب ألفه ضابط سابق في البحرية الأمريكية اسمه هارلان أولمان, أجاب فيه علي السؤال التالي: كيف يمكن إعادة خوض معركة عاصفة الصحراء( المقصود حملة تحرير الكويت في عام1991) وكسبها, ليس فقط في ستة أشهر, بل في يوم أو أسبوع أو شهر, وباستخدام عناصر بشرية أقل. ونصح وهو يجيب علي السؤال بأن تحقيق ذلك الهدف يقتضي وضع كل الطاقة التدميرية الأمريكية في المعركة دفعة واحدة, وتوجيهها إلي قلب النظام في العاصمة مباشرة, بهدف شله, علي نحو يؤدي إلي قصم ظهره ومن ثم دفعه إلي الانهيار والاستسلام السريع.
حين لم يحدث ذلك, كما لم تحدث توقعات أخري من قبيل ترحيب الناس بالغزاة وانتفاضهم علي نظامهم وتمرد الجيش, بل وحين حدث العكس, خصوصا وقوع بعض عمليات المقاومة, فإن الصدمة الحقيقية كانت من نصيب واشنطن وليس بغداد, كما ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت( عدد3/30).
حسب الصحيفة الإسرائيلية فإن الأمريكيين أدركوا فشل خطتهم بعد يومين من بدء الغزو, لذلك فإنهم سارعوا بعد ذلك إلي اعتماد خطة بديلة, استبعدت أولوية ضرب القلب, وانطلقت مما سمته ثني الخصم من الغلاف, بمعني اجتياح الأطراف للوصول إلي القلب في النهاية بدلا من العكس, وهو ما أسهم في إطالة أمد الحرب, فلم تعد خاطفة ولا نظيفة, واقتضي الموقف الاستعانة بقوات إضافية, كما أنه فجر بعض الخلاف بين العسكريين والسياسيين في واشنطن علي النحو الذي أصبح يعرفه الجميع, بعدما تواترت في صدده التقارير الصحفية.
لم ينتبه الغزاة الذين خططوا للحرب إلي أن كثافة الضربة الأولي أيقظت الحس الوطني لدي الجماهير, التي أدركت أن الوطن في خطر, وليس النظام القائم وحده, وهو ما أدي علي الفور إلي تراجع أحزان الداخل وعذاباته خطوة إلي الوراء, بحيث احتلت المقدمة فكرة الاحتشاد والاستنفار لصد خط الغزو القادم من الخارج. وفي اللحظة التي استنفر الضمير الوطني خسر الغزاة رهانهم علي انهيار الداخل, ودخلت الحرب منعطفا آخر لم يكن في الحسبان.
(2)
الصمود والمقاومة العراقيان أديا إلي تغيير الأساليب وليس الأهداف, وكما لاحظنا جميعا فإن مسيرة الغزاة تأخرت وتعثرت فقط ولم تتوقف, ولم يعد هناك خلاف الآن علي أن ما حدث علي الأرض اختلف جذريا عن حسابات وتقديرات ما قبل إطلاق الصاروخ الأول من قاعدة أمريكية بحرية في إحدي الدول العربية, وهو ما دفع الرئيس الأمريكي الذي كان يتحدث باستخفاف شديد عن المعركة الخاطفة والنظيفة إلي تغيير نبرة حديثه, والإشارة إلي معركة صعبة وتكلفة عالية ومخاطر محتملة, الأمر الذي فهم منه أنه يهيئ الرأي العام لوقوع أسوأ الفروض.
حين لم يتحقق النصر الخاطف في الأيام الأولي تحدث عدد من كبار الصحفيين الغربيين بصوت عال عن فشل خطة الولايات المتحدة, ومن هؤلاء روبرت فيسك, وباتريك سيل, وبيتر ارنيت مبعوث محطة إن. بي. سي الذي أزعجت تقاريره وزير الدفاع دونالد رامسفيلد, وسارعت المحطة إلي فصله من العمل, فعينته صحيفة ديلي ميرور البريطانية مراسلا لها في اليوم التالي مباشرة, وكتبت علي صدر صفحتها الأولي عنوان يقول: فصلوه لأنه قال الحقيقة ونحن اخترناه لكي يقول الحقيقة.
ما جري لم يكن مفاجئا لهم فحسب, لكنه كان مفاجئا لنا أيضا, نحن الذين توقعنا الأسوأ, من جراء التعبئة الإعلامية المكثفة التي هيأتنا لاستقبال الانهيار العراقي السريع, لذلك اعتبرنا عدم الانهيار انتصارا أنعش معنويات الجماهير في العالم العربي والإسلامي علي الأقل, وكان ذلك تقويما صحيحا لاريب, لا يختلف كثيرا عن موقف المحللين الغربيين الواقفين علي الضفة الأخري, الذين اعتبروا عدم الانهيار فشلا وهزيمة للأمريكيين, وهو ما يدعونا إلي إعادة النظر في مفهوم الانتصار والهزيمة في هذه الحرب الدائرة بين قوي عظمي مدججة بأكثر الأسلحة تقدما وفتكا, وبين بلد عربي منهك من حروب سابقة, ومحاصر منذ اثني عشر عاما, وتم تجريده بصورة تدريجية من أسلحة الدفاع عن النفس, ولم يتبق له سوي سلاح محدود وإرادة غير محدودة, لذلك فإنني أذهب ـ معتمدا علي دروس التاريخ وخبراته ـ إلي أن هزيمة العراق ستتحقق فعلا إذا انكسرت إرادة مقاومة الاحتلال, وليس إذا ما انكسر السلاح أو حتي إذا سقط النظام.
بكلام آخر فإن مختلف الشواهد تدل علي أنه ما لم تحدث معجزة من السماء, فنهاية النظام العراقي قد حانت, وفي ظل العقلية الحاكمة في البيت الأبيض فإن الولايات المتحدة ستذهب في القتال إلي أبعد مدي, وسوف تستخدم كل الوسائل, وستضحي بأي شيء( عراقي بطبيعة الحال) لكي تسقط نظام الرئيس صدام حسين, ولكي تبلغ مرادها فإنها مستعدة لأن تدك بغداد كلها, ولن تتردد في إغراق عاصمة الرشيد في دماء آلاف العراقيين, وقد ذهبت صحيفة ليبراسيون الفرنسية إلي ما هو أبعد, فلم تستبعد في افتتاحية عددها الصادر في أول أبريل أن تلجأ واشنطن إلي استخدام القنابل النووية في العراق, ووصفت الحرب بأنها ستكون حربا باترة ومدمرة ومريرة وساحقة, وقد تتحول في مراحلها إلي حرب إبادة.
(3)
لم نبالغ إذن إذا قلنا اعتمادا علي ما سبق ان صمود العراق حتي الآن يعني أن العراق لم ينهزم أو ينكسر, وأن استمرار مقاومة الشعب والجيش العراقي سيعني علي الفور أن الأمريكيين لم ينتصروا, نعم لا يزال المستقبل مفتوحا, ومعركة بغداد لم تحسم بعد.
وأرجو ألا أكون مغرقا في التشاؤم إذا قلت إنني استبعد احتمال أن تنزل القوات العراقية نصرا عسكريا علي القوات الغازية, حيث أزعم أن ذلك ضد حسابات العقل والمنطق, وأقرب إلي الأمنيات منه إلي الواقع, لكن الذي يلوح في الأفق هو هزيمة مشرفة, يهزم فيها العراق وهو واقف وليس راكعا, وسوف تنتصب قامة العراق أكثر وأكثر إذا استمرت مقاومة القوات الغازية.
وعلي الرغم من أننا لا نستطيع أن تحدث في الوقت الراهن عن مرحلة ما بعد سقوط النظام, لأن ذلك مرتبط بعوامل كثيرة وثيقة الصلة بتطورات مسرح العمليات العسكرية, فإن هذا الملف مفتوح علي الجانب الآخر, ومثار حوله جدل ولغط وصلت أصداؤه إلي وسائل الإعلام.
لقد تحدثت التقارير الصحفية عن إدارة أمريكية للعراق, تحت إمرة الجنرال المتقاعد جاي غارنر وثيق الصلة بالأوساط المتشددة في إسرائيل( في أكتوبر عام2000 أعلن في رسالة مفتوحة وقع عليها46 جنرالا أمريكيا متقاعدا عن مساندتهم لإسرائيل في كفاحها ضد الفلسطينيين هاآرتس3/31), وقيل إن الرجل بدأ العمل في الكويت التي شكل فيها فريقه, وسينتقل خلال أيام قليلة إلي ام القصر في تمهيده للقيام بمهمته, غير أن هذا الموضوع محل خلاف حاد بين واشنطن ولندن, إذ في حين تتحدث الأولي عن سيطرة أمريكية طاغية فإن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يتحدث بقوة عن مؤتمر برعاية الأمم المتحدة تشارك فيه القوي السياسية العراقية لتقرير شكل النظام الجديد, علي غرار اللوياجيركا التي عقدت في أفغانستان ومثلت فيها مختلف الفئات الأفغانية, وهي التي أنتخبت حامد كرازاي رئيسا للدولة.
وعلي الرغم من تمسك بلير بموقفه والضغوط القوية التي يمارسها لإشراك الأمم المتحدة في الوضع المستجد, فإن الولايات المتحدة ماضية في مخططاتها, الأمر الذي يشكل إحراجا شديدا له, أقرب إلي الإهانة السياسية.
وكما أن الخلاف مستحكم بين لندن وواشنطن حول من يدير البلد, فإنه مستمر أيضا حول من يعمره, خصوصا أن التقديرات الأولية تشير إلي أن تكلفة الإعمار ستصل إلي180 مليار دولار, ولأن البريطانيين لم ينسوا للأمريكيين استئثارهم بمعظم عقود الإعمار في الكويت بعد تحريرها عام91, فإن خشيتهم شديدة من أن يكرر الأمريكيون نفس المشهد في إعمار العراق, ويبدو أن ذلك هو الحاصل الآن, لأن الأمريكيين بدأوا بالفعل في توزيع العطاءات علي شركاتهم, ويجري إرساء ثمانية عطاءات منها تخص البنية التحتية للعراق علي شركات أمريكية, وهناك كلام عن أن شركة هالبيرتون التي كان يديرها نائب الرئيس ديك تشيني, ستحصل علي أول تلك العطاءات وقيمته800 مليون دولار, وذلك أول الغيث, لأن الحديث دائر حول خصخصة النفط العراقي, وقيام الشركات الأمريكية بإدارة قطاعه.
لقد ذكرت صحيفة كريستيان سيانس مونيتور أن هناك مشكلة بين الإنجليز والأمريكيين بخصوص عقود الإعمار ورغبة الأمريكيين في الفوز بأكبر حصة منها, وقالت: إن تليين الخطاب الألماني والفرنسي الموجه إلي واشنطن أخيرا وثيق الصلة برغبة الدولتين في أخذ نصيبهما من كعكة الإعمار وبعض عقوده.
الملاحظة الأهم في هذا وذاك أن المعارضة العراقية تبدو مهمشة بشكل مهين أيضا في مداولات إدارة بلدهم, حيث يبدو أن السياسة الأمريكية اختارت لعناصرها دور المنفذ والتابع وليس الشريك. أما ترتيبات الإعمار فقد استبعدت منها المؤسسات العراقية والجهات المعنية في الدول الحليفة عربا كانوا أم أتراكا.
وهكذا يكون التحرير الأمريكي وإلا فلا!
مع دخول الحرب أسبوعها الرابع, بوسعنا أن نقول إن شعار الصدمة والرعب فقد معناه وتم تجاوزه, ولابد أنكم لاحظتم أن الذين حدثونا عن أنها ستكون حربا نظيفة وخاطفة قد ابتلعوا كلماتهم وكفوا عن ترديدها. أما حكاية أنها استهدفت تحرير العراق فقد أصبحت نكتة سمجة, لا تبعث حتي علي الضحك. أهم من هذا وذاك أنه صار بمقدورنا أن نقول ونحن مطمئنون: إن العراق لم ينكسر, كما أن الولايات المتحدة لم تنتصر.
(1)
لا نعرف إلي متي ستستمر الحرب, غير أنه إذا لم يكن بمقدورنا أن نخوض فيما سيحدث في تلك الحرب الحافلة بالمفاجآت, فإننا نستطيع بغير شك أن نلفت الانتباه إلي ما لم يحدث. فقد كانت المراهنة مستقرة في البداية علي أن النصر مضمون بلا حرب حقيقية, إن شئت الدقة فقل إنه نصر بالضربة القاضية بعد دقائق قليلة من إطلاق إشارة الجولة الأولي. وهذه هي الفكرة الأساسية الكامنة في عنوان الصدمة والرعب الذي جري تسويقه قبل بدء الحرب. وهو في الأصل ـ والعهدة علي مجلة نيوزويك ـ عنوان كتاب ألفه ضابط سابق في البحرية الأمريكية اسمه هارلان أولمان, أجاب فيه علي السؤال التالي: كيف يمكن إعادة خوض معركة عاصفة الصحراء( المقصود حملة تحرير الكويت في عام1991) وكسبها, ليس فقط في ستة أشهر, بل في يوم أو أسبوع أو شهر, وباستخدام عناصر بشرية أقل. ونصح وهو يجيب علي السؤال بأن تحقيق ذلك الهدف يقتضي وضع كل الطاقة التدميرية الأمريكية في المعركة دفعة واحدة, وتوجيهها إلي قلب النظام في العاصمة مباشرة, بهدف شله, علي نحو يؤدي إلي قصم ظهره ومن ثم دفعه إلي الانهيار والاستسلام السريع.
حين لم يحدث ذلك, كما لم تحدث توقعات أخري من قبيل ترحيب الناس بالغزاة وانتفاضهم علي نظامهم وتمرد الجيش, بل وحين حدث العكس, خصوصا وقوع بعض عمليات المقاومة, فإن الصدمة الحقيقية كانت من نصيب واشنطن وليس بغداد, كما ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت( عدد3/30).
حسب الصحيفة الإسرائيلية فإن الأمريكيين أدركوا فشل خطتهم بعد يومين من بدء الغزو, لذلك فإنهم سارعوا بعد ذلك إلي اعتماد خطة بديلة, استبعدت أولوية ضرب القلب, وانطلقت مما سمته ثني الخصم من الغلاف, بمعني اجتياح الأطراف للوصول إلي القلب في النهاية بدلا من العكس, وهو ما أسهم في إطالة أمد الحرب, فلم تعد خاطفة ولا نظيفة, واقتضي الموقف الاستعانة بقوات إضافية, كما أنه فجر بعض الخلاف بين العسكريين والسياسيين في واشنطن علي النحو الذي أصبح يعرفه الجميع, بعدما تواترت في صدده التقارير الصحفية.
لم ينتبه الغزاة الذين خططوا للحرب إلي أن كثافة الضربة الأولي أيقظت الحس الوطني لدي الجماهير, التي أدركت أن الوطن في خطر, وليس النظام القائم وحده, وهو ما أدي علي الفور إلي تراجع أحزان الداخل وعذاباته خطوة إلي الوراء, بحيث احتلت المقدمة فكرة الاحتشاد والاستنفار لصد خط الغزو القادم من الخارج. وفي اللحظة التي استنفر الضمير الوطني خسر الغزاة رهانهم علي انهيار الداخل, ودخلت الحرب منعطفا آخر لم يكن في الحسبان.
(2)
الصمود والمقاومة العراقيان أديا إلي تغيير الأساليب وليس الأهداف, وكما لاحظنا جميعا فإن مسيرة الغزاة تأخرت وتعثرت فقط ولم تتوقف, ولم يعد هناك خلاف الآن علي أن ما حدث علي الأرض اختلف جذريا عن حسابات وتقديرات ما قبل إطلاق الصاروخ الأول من قاعدة أمريكية بحرية في إحدي الدول العربية, وهو ما دفع الرئيس الأمريكي الذي كان يتحدث باستخفاف شديد عن المعركة الخاطفة والنظيفة إلي تغيير نبرة حديثه, والإشارة إلي معركة صعبة وتكلفة عالية ومخاطر محتملة, الأمر الذي فهم منه أنه يهيئ الرأي العام لوقوع أسوأ الفروض.
حين لم يتحقق النصر الخاطف في الأيام الأولي تحدث عدد من كبار الصحفيين الغربيين بصوت عال عن فشل خطة الولايات المتحدة, ومن هؤلاء روبرت فيسك, وباتريك سيل, وبيتر ارنيت مبعوث محطة إن. بي. سي الذي أزعجت تقاريره وزير الدفاع دونالد رامسفيلد, وسارعت المحطة إلي فصله من العمل, فعينته صحيفة ديلي ميرور البريطانية مراسلا لها في اليوم التالي مباشرة, وكتبت علي صدر صفحتها الأولي عنوان يقول: فصلوه لأنه قال الحقيقة ونحن اخترناه لكي يقول الحقيقة.
ما جري لم يكن مفاجئا لهم فحسب, لكنه كان مفاجئا لنا أيضا, نحن الذين توقعنا الأسوأ, من جراء التعبئة الإعلامية المكثفة التي هيأتنا لاستقبال الانهيار العراقي السريع, لذلك اعتبرنا عدم الانهيار انتصارا أنعش معنويات الجماهير في العالم العربي والإسلامي علي الأقل, وكان ذلك تقويما صحيحا لاريب, لا يختلف كثيرا عن موقف المحللين الغربيين الواقفين علي الضفة الأخري, الذين اعتبروا عدم الانهيار فشلا وهزيمة للأمريكيين, وهو ما يدعونا إلي إعادة النظر في مفهوم الانتصار والهزيمة في هذه الحرب الدائرة بين قوي عظمي مدججة بأكثر الأسلحة تقدما وفتكا, وبين بلد عربي منهك من حروب سابقة, ومحاصر منذ اثني عشر عاما, وتم تجريده بصورة تدريجية من أسلحة الدفاع عن النفس, ولم يتبق له سوي سلاح محدود وإرادة غير محدودة, لذلك فإنني أذهب ـ معتمدا علي دروس التاريخ وخبراته ـ إلي أن هزيمة العراق ستتحقق فعلا إذا انكسرت إرادة مقاومة الاحتلال, وليس إذا ما انكسر السلاح أو حتي إذا سقط النظام.
بكلام آخر فإن مختلف الشواهد تدل علي أنه ما لم تحدث معجزة من السماء, فنهاية النظام العراقي قد حانت, وفي ظل العقلية الحاكمة في البيت الأبيض فإن الولايات المتحدة ستذهب في القتال إلي أبعد مدي, وسوف تستخدم كل الوسائل, وستضحي بأي شيء( عراقي بطبيعة الحال) لكي تسقط نظام الرئيس صدام حسين, ولكي تبلغ مرادها فإنها مستعدة لأن تدك بغداد كلها, ولن تتردد في إغراق عاصمة الرشيد في دماء آلاف العراقيين, وقد ذهبت صحيفة ليبراسيون الفرنسية إلي ما هو أبعد, فلم تستبعد في افتتاحية عددها الصادر في أول أبريل أن تلجأ واشنطن إلي استخدام القنابل النووية في العراق, ووصفت الحرب بأنها ستكون حربا باترة ومدمرة ومريرة وساحقة, وقد تتحول في مراحلها إلي حرب إبادة.
(3)
لم نبالغ إذن إذا قلنا اعتمادا علي ما سبق ان صمود العراق حتي الآن يعني أن العراق لم ينهزم أو ينكسر, وأن استمرار مقاومة الشعب والجيش العراقي سيعني علي الفور أن الأمريكيين لم ينتصروا, نعم لا يزال المستقبل مفتوحا, ومعركة بغداد لم تحسم بعد.
وأرجو ألا أكون مغرقا في التشاؤم إذا قلت إنني استبعد احتمال أن تنزل القوات العراقية نصرا عسكريا علي القوات الغازية, حيث أزعم أن ذلك ضد حسابات العقل والمنطق, وأقرب إلي الأمنيات منه إلي الواقع, لكن الذي يلوح في الأفق هو هزيمة مشرفة, يهزم فيها العراق وهو واقف وليس راكعا, وسوف تنتصب قامة العراق أكثر وأكثر إذا استمرت مقاومة القوات الغازية.
وعلي الرغم من أننا لا نستطيع أن تحدث في الوقت الراهن عن مرحلة ما بعد سقوط النظام, لأن ذلك مرتبط بعوامل كثيرة وثيقة الصلة بتطورات مسرح العمليات العسكرية, فإن هذا الملف مفتوح علي الجانب الآخر, ومثار حوله جدل ولغط وصلت أصداؤه إلي وسائل الإعلام.
لقد تحدثت التقارير الصحفية عن إدارة أمريكية للعراق, تحت إمرة الجنرال المتقاعد جاي غارنر وثيق الصلة بالأوساط المتشددة في إسرائيل( في أكتوبر عام2000 أعلن في رسالة مفتوحة وقع عليها46 جنرالا أمريكيا متقاعدا عن مساندتهم لإسرائيل في كفاحها ضد الفلسطينيين هاآرتس3/31), وقيل إن الرجل بدأ العمل في الكويت التي شكل فيها فريقه, وسينتقل خلال أيام قليلة إلي ام القصر في تمهيده للقيام بمهمته, غير أن هذا الموضوع محل خلاف حاد بين واشنطن ولندن, إذ في حين تتحدث الأولي عن سيطرة أمريكية طاغية فإن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يتحدث بقوة عن مؤتمر برعاية الأمم المتحدة تشارك فيه القوي السياسية العراقية لتقرير شكل النظام الجديد, علي غرار اللوياجيركا التي عقدت في أفغانستان ومثلت فيها مختلف الفئات الأفغانية, وهي التي أنتخبت حامد كرازاي رئيسا للدولة.
وعلي الرغم من تمسك بلير بموقفه والضغوط القوية التي يمارسها لإشراك الأمم المتحدة في الوضع المستجد, فإن الولايات المتحدة ماضية في مخططاتها, الأمر الذي يشكل إحراجا شديدا له, أقرب إلي الإهانة السياسية.
وكما أن الخلاف مستحكم بين لندن وواشنطن حول من يدير البلد, فإنه مستمر أيضا حول من يعمره, خصوصا أن التقديرات الأولية تشير إلي أن تكلفة الإعمار ستصل إلي180 مليار دولار, ولأن البريطانيين لم ينسوا للأمريكيين استئثارهم بمعظم عقود الإعمار في الكويت بعد تحريرها عام91, فإن خشيتهم شديدة من أن يكرر الأمريكيون نفس المشهد في إعمار العراق, ويبدو أن ذلك هو الحاصل الآن, لأن الأمريكيين بدأوا بالفعل في توزيع العطاءات علي شركاتهم, ويجري إرساء ثمانية عطاءات منها تخص البنية التحتية للعراق علي شركات أمريكية, وهناك كلام عن أن شركة هالبيرتون التي كان يديرها نائب الرئيس ديك تشيني, ستحصل علي أول تلك العطاءات وقيمته800 مليون دولار, وذلك أول الغيث, لأن الحديث دائر حول خصخصة النفط العراقي, وقيام الشركات الأمريكية بإدارة قطاعه.
لقد ذكرت صحيفة كريستيان سيانس مونيتور أن هناك مشكلة بين الإنجليز والأمريكيين بخصوص عقود الإعمار ورغبة الأمريكيين في الفوز بأكبر حصة منها, وقالت: إن تليين الخطاب الألماني والفرنسي الموجه إلي واشنطن أخيرا وثيق الصلة برغبة الدولتين في أخذ نصيبهما من كعكة الإعمار وبعض عقوده.
الملاحظة الأهم في هذا وذاك أن المعارضة العراقية تبدو مهمشة بشكل مهين أيضا في مداولات إدارة بلدهم, حيث يبدو أن السياسة الأمريكية اختارت لعناصرها دور المنفذ والتابع وليس الشريك. أما ترتيبات الإعمار فقد استبعدت منها المؤسسات العراقية والجهات المعنية في الدول الحليفة عربا كانوا أم أتراكا.
وهكذا يكون التحرير الأمريكي وإلا فلا!