هويدي 11-3-2003
إذا قلت إن مأزق إيران جزء من عموم البلوي - فأنت محق لا ريب - حيث الكل في منطقتنا محشور في الزاوية. لكنك إذا اتفقت معي علي أن المأزق درجات - فإنني وقد عدت لتوي من طهران - أجازف بالقول بأن المأزق الإيراني من العيار الثقيل - علي الأقل لانه مضاعف داخليا وخارجيا في ذات الوقت.
(1)
سأبدأ بالمأزق الذي تهب رياحه من الخارج - ليس فقط لان طبول الحرب التي مابرحت تدق بصوت عال هذه الأيام توحي بأننا بصدد الدخول في الدقيقة الستين التي تسبق ساعة الانفجار - ولكن أيضا لان رياح الخارج لها تأثيراتها القوية علي تفاعلات الداخل.
في حدود علمي - فان القيادة الإيرانية تلقت قبل أشهر قليلة تطمينات من واشنطن - خلاصتها أن إيران ليست مستهدفة من الحرب المحتملة - وان مصالحها في العراق وأمنها القومي لن يمسا بأي سوء ومن ثم فليس هناك مايبرر القلق أو التوجس في طهران.
الرسالة استقبلت في العاصمة الإيرانية بالحذر - فضلا عما أثارته من جدل - أولا: لان الشكوك متجذرة بين البلدين علي نحو اقنع القيادة الإيرانية بأن هدف الرسالة هو تهدئة مسرح العمليات - لكي يحقق الأمريكيون مرادهم في العراق دون معوقات - وثانيا: لان تجربة أفغانستان أكدت للإيرانيين أن واشنطن تريد استخدام الورقة الإيرانية - وليست مستعدة لان تقيم مع طهران علاقة تعاون مشترك - آية ذلك أن إيران برغم الجهد الكبير الذي قدمته لانجاح الحملة العسكرية ضد نظام طالبان - فان الإدارة الأمريكية ادرجتها في النهاية ضمن ماسمي محور الشر.
وإذا جاز لي أن الخص المأزق الإيراني من الزاوية التي نحن بصددها - فقد أقول إن إيران تشعر بأن الولايات المتحدة تحكم الحصار من حولها حينا بعد حين - وإذا ما تم احتلال العراق فان إيران سوف تعاني ضغوطا قوية متعددة المصادر - في الوقت ذاته فثمة إدراك في طهران لحقيقة انه بعد اجتياح بغداد سيحل الدور علي إيران - من ناحية ثانية لان إيران بلد نفطي - يطل علي بحر قزوين الذي يعوم فوق بحيرة من النفط - وطالما أن الهيمنة علي منابع النفط ضمن أهداف الحملة - فان الساحة الإيرانية ـ في الحسابات الأمريكية ـ ينبغي أن تطوع عند الحد الأدني - هذا اذا لم تخضع - ومن ناحية ثالثة لانه بعد ضرب العراق ومع افتراض تحطيم قدرته العسكرية - فان ميزان القوة في المنطقة سيميل لصالح إسرائيل بصورة نسبية كبيرة - لكن الميزان سيميل بشكل مطلق لصالحها اذا ما أضعفت إيران وكسرت شوكتها وضربت أوشلت مفاعلاتها النووية - وبلوغ ذلك الهدف ضروري للغاية لاغلاق الملف الفلسطيني - وفرض الشروط والإرادة الإسرائيلية علي منطقة الشرق الأوسط كلها - ومعروف أن إغلاق ذلك الملف يعد واحدا من أهداف الحملة.
(2)
ذهبت إلي طهران للمشاركة في مؤتمر دولي يعقد سنويا لمناقشة أوضاع منطقة الخليج في ظل المتغيرات المحيطة - دعا إليه مركز الدراسات السياسية والدولية التابع للخارجية الإيرانية - وكان طبيعيا أن تخيم علي المؤتمر طول الوقت اجواء الحرب ضد العراق وتداعياتها المحتملة - وذات يوم ـ في أثناء الغداء ـ قال لي أحد السفراء الإيرانيين السابقين إن الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة علي إيران منذ قيام الثورة - يتحول الآن إلي حصار استراتيجية محكم اشد خطرا - الأمر الذي يهدد البلاد بعزلة استراتيجية قاسية - وبعد الغداء دعاني إلي غرفة جانبية تصدرتها خريطة كبيرة لإيران والدول المحيطة بها - وقال: ثمة قلق يساور إيران مما حدث في شمالها - وهي الجبهة التي كانت مستقرة إلي حد كبير في ظل وجود الاتحاد السوفيتي - الآن تجد إيران نفسها وقد جاورتها دول عدة محيطة ببحر قزوين - وتلك الدول اختلفت أوضاعها وحساباتها - والنفوذ الأمريكي والإسرائيلي يتمدد فيها علي نحو يقلق إيران - وقد اضطرت طهران للتدخل فيما يجري في شمالها دفاعا عن أمنها ومصالحها الوطنية - فوقفت إلي جوار أرمينيا المسيحية في صراعها ضد أذربيجان ذات الأغلبية المسلمة والشيعية - مخافة ظهور أذربيجان كبري تجذب إليها القومية الآذرية في إيران - وبسبب العلاقات ـ الاذربيجانية الأمريكية الوثيقة التي لاتطمئن إليها.
وقد شاءت المقادير أن تظل الحدود الشرقية لإيران مصدرا لقلقها منذ السنوات الأولي للثورة - ففي البداية كانت افغانستان تحت الاحتلال السوفيتي - وهو مالم تسعد به طهران التي خشيت من تطويق الدولة العظمي لها - خصوصا أن الحدود المشتركة بين البلدين تكاد تصل إلي ألف كيلو متر - فعمدت إلي مساعدة ودعم بعض فصائل المجاهدين والشيعة في المقدمة منهم - واستقبلت علي مدي عشر سنوات أكثر من مليون لاجيء أفغاني - كانت لهم مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية - وهذا الشعور بالقلق استمر بعد الانسحاب السوفيتي - فقد اقتتل المجاهدون فيما بينهم - ثم قاتلوا حركة طالبان - التي أنزلت بالشيعة الافغان مظالم كثيرة - وبعد أن أيدت إيران تحالف الشمال - وساعدت علي اسقاط نظام طالبان - فإنها وجدت نفسها في خندق واحد مع الأمريكيين الذين القوا بثقلهم إلي جانب تحالف الشمال وكان لهم دورهم في هزيمة نظام طالبان بعدما جري في11 سبتمبر - وانتهي الأمر بارساء الوجود الأمريكي علي الأراضي الافغانية - بل وبالقرب من الحدود الإيرانية( في ولاية هيرات).
لاتشعر إيران بالراحة أيضا علي جبهتها الغربية - حيث توجد تركيا - وارتباطاتها قوية ومعروفة بالولايات المتحدة وإسرائيل - ولا ينسي الايرانيون أن تركيا سمحت في وقت سابق للطائرات الإسرائيلية بالقيام بطلعات استكشافية فوق مجال الأراضي الحدودية لبلادهم - ليس ذلك فحسب - وإنما هناك اقتناع في طهران بان الولايات المتحدة تدعم تعاونا استراتيجيا بين مثلث يضم تركيا وإسرائيل واذربيجان - يعمل علي منع مد أنابيب النفط والغاز من بحر قزوين إلي العالم الخارجي عبر إيران - والهدف من ذلك هو الضغط علي طهران - وعزلها عن الترتيبات المستقبلية في القوقاز وقزوين وآسيا الوسطي لإحكام الحصار حولها.
علي الحدود الجنوبية لإيران يتركز الاهتمام الدولي والأمريكي بوجه أخص - وهناك تقبع الاساطيل الغربية فضلا عن القواعد الأمريكية - اذ من هناك يصدر النفط عبر البواخر التي تخترق بحر عمان لتنقله إلي مختلف انحاء العالم - وذلك سبب كاف لتمسك الأمريكيين بالبقاء في المنطقة - وفي ظل العلاقات غير الودية القائمة بين واشنطن وطهران - فإن الأخيرة لاتستطيع أن تستشعر الاطمئنان أو الارتياح.
أضاف محدثي: هذا الوجود الأمريكي الذي يضغط علي إيران من الجهات الأربع يشكل مأزقا لإيران لاريب - وإذا انضاف إلي ذلك وجود أمريكي كثيف في العراق - في حالة ما اذا نجحت محاولة اسقاط نظامه فان الجبهة الغربية لإيران ستصبح الأكثر سخونة وخطرا - خصوصا اذا علمنا أن الحدود المشتركة بين البلدين بطول1630 كيلو مترا - وإذا وضعنا في الاعتبار ان للولايات المتحدة طموحات أخري ـ بعضها سبقت الإشارة إليه ـ تتجاوز مسألة اسقاط نظام بغداد واستبداله بآخر.
(3)
ما العمل؟ ـ هذا هو السؤال الكبير الذي يلوح في الأفق الإيراني - ويثير نقاشات واسعة النطاق داخل مختلف التجمعات السياسية تنعكس بوضوح علي صفحات الصحف - لايختلف أحدا حول الموقف من الرئيس صدام حسين ونظامه - لان أحدا لم ينس تجربة حرب الثماني سنوات - التي خلفت ثارات ومرارات مازالت حية في الوجدان العام - وثمة اجماع أيضا علي أن الولايات المتحدة كانت طرفا في تلك الحرب - وان العدوان العراقي علي إيران كان لحساب الولايات المتحدة بالدرجة الأولي - وأنها لذلك باركت العدوان وقدمت إلي نظام العراق مختلف صور العون - من المعلومات والخرائط - إلي السلاح والذخيرة - حتي السلاح الكيمياوي الذي قدم إلي العراق كانت له مصادره الغربية التي رحبت بها وباركتها واشنطن.
بسبب هذه الخلفية فان الجميع يتمنون زوال النظام العراقي ورئيسه - ولكن قلقهم أكبر ازاء احتمال ان يتم ذلك بأيد أمريكية - بحيث يستبدل المر بما هو أشد مرارة منه - وذلك وجه آخر للمأزق الإيراني - والحضور الأمريكي في الجدل الإيراني ليس جديدا - ولكنه مستمر بدرجات متفاوتة منذ قيام الثورة في عام79 - التي كانت الولايات المتحدة في شعاراتها وادبياتها شيطانا أكبر لم يتمن له أحد شيئا سوي الموت والفناء - غير أن صعود الاصلاحيين ووصولهم إلي السلطة في عام1997 وفر أجواء جديدة في إيران فتحت الباب لنقاشات أكثر رصانة وتنوعا - طالت ملفات كثيرة حساسة ودقيقة - من ولاية الفقيه إلي العلاقات مع الولايات المتحدة - ومن إيران أولا والإسلام ثانيا إلي الإسلام أولا وإيران ثانيا - وهذه المناقشات الأخيرة طرحت ترتيب أولويات الأجندة الإيرانية - وهل تغلب المصالح الوطنية علي الالتزامات العقائدية أم العكس( عمليا غلبت إيران مصالحها الوطنية في أكثر من حالة - حين انحازت إلي جانب ارمينيا في صراعها ضد اذربيجان - كما سبقت الاشارة - وحين اعتبرت موضوع الشيشان شأنا داخليا روسيا وامتنعت عن مناصرة المسلمين الشيشانيين).
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - بدا واضحا أن الولايات المتحدة متجهة إلي اسقاط نظام طالبان في أفغانستان - وبرز بقوة السؤال ما العمل - وارتفعت درجة الحرارة والمصارحة في صدد الاجابة عليه - وكان المشهد أقرب إلي الصورة التي نحن بازائها الآن - ففي كابول نظام ينتسب إلي الإسلام ويخاصم إيران - والأمريكيون بسبيلهم إلي إسقاطه وازالته - فهل يدان هذا المسلك أو يرحب به أو يسكت عليه؟!
مرة أخري ثار التساؤل حول المقابلة بين المصالح الوطنية والعلائق العقائدية أو الايديولوجية - وتعالت أصوات مطالبة بترجيح الأولي علي الثانية - وبمحاولة انتهاز الفرصة الذهبية المتاحة لتأييد تغيير النظام الأفغاني - والتفاهم مع الولايات المتحدة في هذا الصدد - من خلال ماسمي الحياد النشيط أوالايجابي وهو يختلف عن المسلك الإيراني ازاء حرب الخليج الثانية التي أدت إلي تحرير الكويت وقد اختارت فيه طهران موقف الحياد السلبي - حيث لم تؤيد الأمريكيين ولا وقفت ضد العراق أو حاولت تصفية الحساب مع نظامه.
ترجم الحياد الإيجابي إلي دخول إيران في اللعبة عبر مساندتها للتحالف الشمالي - واشتراكها في اسقاط نظام طالبان - حتي كانت بعض عناصر الحرس الثوري مع قوات التحالف في أثناء دخولها إلي كابول - وقد كان السيد علي خامنئي مرشد الثورة في مقدمة الذين حاولوا ضبط مفهوم الحياد الايجابي - حيث أعلن في اصفهان في2001/10/30 اننا نشجب الإرهاب بكل أشكاله ونعارض الحملة الأمريكية علي أفغانستان ونرفض الدخول في أي تحالف تقوده أمريكا.
(4)
اختلف الأمر في الحالة العراقية - ففي افغانستان كانت الولايات المتحدة في حاجة إلي دور طهران - لان إيران كانت تدعم التحالف الشمالي منذ تولي حركة طالبان السلطة في عام1996 - ومن ثم كانت موجودة علي الأرض الافغانية بصورة أو أخري - فضلا عن ذلك فإن وصول الطائرات العسكرية الأمريكية إلي شمال أفغانستان كان يقتضي أحيانا مرورا في الأجواء الإيرانية مع بعض التسهيلات الأخري - أما في حالة العراق فان الولايات المتحدة رتبت أمرها مع المعارضة العراقية في الخارج - ولم تكن بحاجة إلي الدور الإيراني في هذا الاتجاه - كما أنها ليست بحاجة إلي تسهيلات عسكرية من إيران - وغاية ما ارادته واشنطن من طهران هو أن يتم تسكين الجبهة الإيرانية - والا تحرك قوات فيلق بدر التابعة للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية بالعراق لدخول جنوب العراق حيث يتمركز الشيعة.
وسواء لأن واشنطن لم تسترح للدور الإيراني في أفغانستان بسبب خشيتها من الحضور الإيراني في العراق حيث الأغلبية شيعية واهم مقدسات المذهب هناك في النجف الاشرف وكربلاء والكاظيمة - أو لان الغنيمة العراقية اثمن وأكثر إغراء من الأفغانية - فان واشنطن حرصت علي تقليص الدور الإيراني عند الحد الأدني - أو إلغائه اذا امكن.
بالمقابل - تصرفت إيران بحذر ملحوظ وبمقتضي سياسة الحياد الإيجابي التي تبنتها فإنها وقد أدانت الحرب وفكرة تغيير الأنظمة بالقوة - قررت ألا تعترض طريق القوات الأمريكية ولاتعرقل عملياتها - ولاتشارك في أي انشطة عسكرية ضد العراق - وبطبيعة الحال فإنها لم تفكر في القتال إلي جانب النظام العراقي - وفي الوقت نفسه فإنها راهنت علي الوقت - وآثرت الانتظار حتي ينقشع غبار المعركة وتري نتائج جولتها الأولي علي الأقل.
نعم تجددت مناقشة موضوع العلاقات مع أمريكا - ودعت بعض الأقلام إلي إجراء حوار غير مشروط مع واشنطن - ولكن سعي الإدارة الأمريكية إلي الضغط لتقليص الدور الإيراني رجح كفة التشدد في الساحة الإيرانية - حتي إن مرشد الثورة السيد علي خامنئي اصدار تصريحا حذر فيه الذين يكتبون أو يتحدثون في مسألة الحوار مع امريكا - سيتعرضون لتوقيع العقوبات عليهم طبقا للقانون - وصدر في هذا الصدد بيان رسمي نشر في2002/5/28 يقول ما نصه: بالنظر إلي القرار الذي اتخذه زعيم الثورة بمنع إجراء أي نوع من المحادثات مع أمريكا - فان محكمة طهران - عملا من جانبها بتنفيذ قرارات الزعيم واحتراما لمساعي جميع الأجهزة الإعلامية والاشخاص الذين يعملون في الساحة الإعلامية والذين يقدمون المصالح القومية علي آية قضايا أخري - تهيب بجميع وسائل الإعلام التليفزيون والصحافة والمنابر الرسمية ألا يقوموا بأية دعاية مؤدية للحوار مع أمريكا حتي لايقعوا تحت طائلة القانون.
(5)
همس في أذني أحد العارفين بما يجري في كواليس طهران ـ وهي بلا حصر ـ قائلا إن وزير الثقافة العراقي في أثناء زيارة قام بها للعاصمة الإيرانية قبل أشهر معدودة - اقترح انشاء قيادة مشتركة بين العراق وإيران لمواجهة العدوان الأمريكي والاعصار الذي يتوقع أن يستصحبه - وهو ما فوجيء به المسئولون في طهران.
وبرغم أن أغلب العناصر المعنية في وزارة الخارجية سارعت إلي رفض الاقتراح - مستحضرة سجل الرئيس العراقي الذي كتبت صفحاته بالدم الإيراني - فإن البعض رحب بالفكرة ووجد فيها وجاهة يمكن ان تدفع الولايات المتحدة إلي مراجعة موقفها وحساباتها - ومن ثم فإنها قد تجنب المنطقة أهوال الحرب وويلاتها - وربما بسبب عمق ازمة الثقة ومن جراء حساسية الرأي العام الشديدة إزاء الرئيس صدام حسين ونظامه - فإن الاقتراح لم ير النور - ولم يشر إليه في وسائل الإعلام من قريب أو بعيد - ومن ثم فانه أحيط بالصمت - ودفن بسرعة في مكتب الخارجية - ولم يغادرها.
سألت محدثي عما إذا كان اقتراح من ذلك القبيل يمكن أن يخرج إيران والعراق من المأزق - فكان رده أنه حقا لايعرف - لكنه أردف قائلا إن قطار انقاذ الموقف قد فات علي كل حال - وإن قطار الحرب هو الذي يتحرك الآن - ومايشغل إيران في الوقت الراهن ليس الخروج من المأزق - وانما الحد من خسائره.
إذا قلت إن مأزق إيران جزء من عموم البلوي - فأنت محق لا ريب - حيث الكل في منطقتنا محشور في الزاوية. لكنك إذا اتفقت معي علي أن المأزق درجات - فإنني وقد عدت لتوي من طهران - أجازف بالقول بأن المأزق الإيراني من العيار الثقيل - علي الأقل لانه مضاعف داخليا وخارجيا في ذات الوقت.
(1)
سأبدأ بالمأزق الذي تهب رياحه من الخارج - ليس فقط لان طبول الحرب التي مابرحت تدق بصوت عال هذه الأيام توحي بأننا بصدد الدخول في الدقيقة الستين التي تسبق ساعة الانفجار - ولكن أيضا لان رياح الخارج لها تأثيراتها القوية علي تفاعلات الداخل.
في حدود علمي - فان القيادة الإيرانية تلقت قبل أشهر قليلة تطمينات من واشنطن - خلاصتها أن إيران ليست مستهدفة من الحرب المحتملة - وان مصالحها في العراق وأمنها القومي لن يمسا بأي سوء ومن ثم فليس هناك مايبرر القلق أو التوجس في طهران.
الرسالة استقبلت في العاصمة الإيرانية بالحذر - فضلا عما أثارته من جدل - أولا: لان الشكوك متجذرة بين البلدين علي نحو اقنع القيادة الإيرانية بأن هدف الرسالة هو تهدئة مسرح العمليات - لكي يحقق الأمريكيون مرادهم في العراق دون معوقات - وثانيا: لان تجربة أفغانستان أكدت للإيرانيين أن واشنطن تريد استخدام الورقة الإيرانية - وليست مستعدة لان تقيم مع طهران علاقة تعاون مشترك - آية ذلك أن إيران برغم الجهد الكبير الذي قدمته لانجاح الحملة العسكرية ضد نظام طالبان - فان الإدارة الأمريكية ادرجتها في النهاية ضمن ماسمي محور الشر.
وإذا جاز لي أن الخص المأزق الإيراني من الزاوية التي نحن بصددها - فقد أقول إن إيران تشعر بأن الولايات المتحدة تحكم الحصار من حولها حينا بعد حين - وإذا ما تم احتلال العراق فان إيران سوف تعاني ضغوطا قوية متعددة المصادر - في الوقت ذاته فثمة إدراك في طهران لحقيقة انه بعد اجتياح بغداد سيحل الدور علي إيران - من ناحية ثانية لان إيران بلد نفطي - يطل علي بحر قزوين الذي يعوم فوق بحيرة من النفط - وطالما أن الهيمنة علي منابع النفط ضمن أهداف الحملة - فان الساحة الإيرانية ـ في الحسابات الأمريكية ـ ينبغي أن تطوع عند الحد الأدني - هذا اذا لم تخضع - ومن ناحية ثالثة لانه بعد ضرب العراق ومع افتراض تحطيم قدرته العسكرية - فان ميزان القوة في المنطقة سيميل لصالح إسرائيل بصورة نسبية كبيرة - لكن الميزان سيميل بشكل مطلق لصالحها اذا ما أضعفت إيران وكسرت شوكتها وضربت أوشلت مفاعلاتها النووية - وبلوغ ذلك الهدف ضروري للغاية لاغلاق الملف الفلسطيني - وفرض الشروط والإرادة الإسرائيلية علي منطقة الشرق الأوسط كلها - ومعروف أن إغلاق ذلك الملف يعد واحدا من أهداف الحملة.
(2)
ذهبت إلي طهران للمشاركة في مؤتمر دولي يعقد سنويا لمناقشة أوضاع منطقة الخليج في ظل المتغيرات المحيطة - دعا إليه مركز الدراسات السياسية والدولية التابع للخارجية الإيرانية - وكان طبيعيا أن تخيم علي المؤتمر طول الوقت اجواء الحرب ضد العراق وتداعياتها المحتملة - وذات يوم ـ في أثناء الغداء ـ قال لي أحد السفراء الإيرانيين السابقين إن الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة علي إيران منذ قيام الثورة - يتحول الآن إلي حصار استراتيجية محكم اشد خطرا - الأمر الذي يهدد البلاد بعزلة استراتيجية قاسية - وبعد الغداء دعاني إلي غرفة جانبية تصدرتها خريطة كبيرة لإيران والدول المحيطة بها - وقال: ثمة قلق يساور إيران مما حدث في شمالها - وهي الجبهة التي كانت مستقرة إلي حد كبير في ظل وجود الاتحاد السوفيتي - الآن تجد إيران نفسها وقد جاورتها دول عدة محيطة ببحر قزوين - وتلك الدول اختلفت أوضاعها وحساباتها - والنفوذ الأمريكي والإسرائيلي يتمدد فيها علي نحو يقلق إيران - وقد اضطرت طهران للتدخل فيما يجري في شمالها دفاعا عن أمنها ومصالحها الوطنية - فوقفت إلي جوار أرمينيا المسيحية في صراعها ضد أذربيجان ذات الأغلبية المسلمة والشيعية - مخافة ظهور أذربيجان كبري تجذب إليها القومية الآذرية في إيران - وبسبب العلاقات ـ الاذربيجانية الأمريكية الوثيقة التي لاتطمئن إليها.
وقد شاءت المقادير أن تظل الحدود الشرقية لإيران مصدرا لقلقها منذ السنوات الأولي للثورة - ففي البداية كانت افغانستان تحت الاحتلال السوفيتي - وهو مالم تسعد به طهران التي خشيت من تطويق الدولة العظمي لها - خصوصا أن الحدود المشتركة بين البلدين تكاد تصل إلي ألف كيلو متر - فعمدت إلي مساعدة ودعم بعض فصائل المجاهدين والشيعة في المقدمة منهم - واستقبلت علي مدي عشر سنوات أكثر من مليون لاجيء أفغاني - كانت لهم مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية - وهذا الشعور بالقلق استمر بعد الانسحاب السوفيتي - فقد اقتتل المجاهدون فيما بينهم - ثم قاتلوا حركة طالبان - التي أنزلت بالشيعة الافغان مظالم كثيرة - وبعد أن أيدت إيران تحالف الشمال - وساعدت علي اسقاط نظام طالبان - فإنها وجدت نفسها في خندق واحد مع الأمريكيين الذين القوا بثقلهم إلي جانب تحالف الشمال وكان لهم دورهم في هزيمة نظام طالبان بعدما جري في11 سبتمبر - وانتهي الأمر بارساء الوجود الأمريكي علي الأراضي الافغانية - بل وبالقرب من الحدود الإيرانية( في ولاية هيرات).
لاتشعر إيران بالراحة أيضا علي جبهتها الغربية - حيث توجد تركيا - وارتباطاتها قوية ومعروفة بالولايات المتحدة وإسرائيل - ولا ينسي الايرانيون أن تركيا سمحت في وقت سابق للطائرات الإسرائيلية بالقيام بطلعات استكشافية فوق مجال الأراضي الحدودية لبلادهم - ليس ذلك فحسب - وإنما هناك اقتناع في طهران بان الولايات المتحدة تدعم تعاونا استراتيجيا بين مثلث يضم تركيا وإسرائيل واذربيجان - يعمل علي منع مد أنابيب النفط والغاز من بحر قزوين إلي العالم الخارجي عبر إيران - والهدف من ذلك هو الضغط علي طهران - وعزلها عن الترتيبات المستقبلية في القوقاز وقزوين وآسيا الوسطي لإحكام الحصار حولها.
علي الحدود الجنوبية لإيران يتركز الاهتمام الدولي والأمريكي بوجه أخص - وهناك تقبع الاساطيل الغربية فضلا عن القواعد الأمريكية - اذ من هناك يصدر النفط عبر البواخر التي تخترق بحر عمان لتنقله إلي مختلف انحاء العالم - وذلك سبب كاف لتمسك الأمريكيين بالبقاء في المنطقة - وفي ظل العلاقات غير الودية القائمة بين واشنطن وطهران - فإن الأخيرة لاتستطيع أن تستشعر الاطمئنان أو الارتياح.
أضاف محدثي: هذا الوجود الأمريكي الذي يضغط علي إيران من الجهات الأربع يشكل مأزقا لإيران لاريب - وإذا انضاف إلي ذلك وجود أمريكي كثيف في العراق - في حالة ما اذا نجحت محاولة اسقاط نظامه فان الجبهة الغربية لإيران ستصبح الأكثر سخونة وخطرا - خصوصا اذا علمنا أن الحدود المشتركة بين البلدين بطول1630 كيلو مترا - وإذا وضعنا في الاعتبار ان للولايات المتحدة طموحات أخري ـ بعضها سبقت الإشارة إليه ـ تتجاوز مسألة اسقاط نظام بغداد واستبداله بآخر.
(3)
ما العمل؟ ـ هذا هو السؤال الكبير الذي يلوح في الأفق الإيراني - ويثير نقاشات واسعة النطاق داخل مختلف التجمعات السياسية تنعكس بوضوح علي صفحات الصحف - لايختلف أحدا حول الموقف من الرئيس صدام حسين ونظامه - لان أحدا لم ينس تجربة حرب الثماني سنوات - التي خلفت ثارات ومرارات مازالت حية في الوجدان العام - وثمة اجماع أيضا علي أن الولايات المتحدة كانت طرفا في تلك الحرب - وان العدوان العراقي علي إيران كان لحساب الولايات المتحدة بالدرجة الأولي - وأنها لذلك باركت العدوان وقدمت إلي نظام العراق مختلف صور العون - من المعلومات والخرائط - إلي السلاح والذخيرة - حتي السلاح الكيمياوي الذي قدم إلي العراق كانت له مصادره الغربية التي رحبت بها وباركتها واشنطن.
بسبب هذه الخلفية فان الجميع يتمنون زوال النظام العراقي ورئيسه - ولكن قلقهم أكبر ازاء احتمال ان يتم ذلك بأيد أمريكية - بحيث يستبدل المر بما هو أشد مرارة منه - وذلك وجه آخر للمأزق الإيراني - والحضور الأمريكي في الجدل الإيراني ليس جديدا - ولكنه مستمر بدرجات متفاوتة منذ قيام الثورة في عام79 - التي كانت الولايات المتحدة في شعاراتها وادبياتها شيطانا أكبر لم يتمن له أحد شيئا سوي الموت والفناء - غير أن صعود الاصلاحيين ووصولهم إلي السلطة في عام1997 وفر أجواء جديدة في إيران فتحت الباب لنقاشات أكثر رصانة وتنوعا - طالت ملفات كثيرة حساسة ودقيقة - من ولاية الفقيه إلي العلاقات مع الولايات المتحدة - ومن إيران أولا والإسلام ثانيا إلي الإسلام أولا وإيران ثانيا - وهذه المناقشات الأخيرة طرحت ترتيب أولويات الأجندة الإيرانية - وهل تغلب المصالح الوطنية علي الالتزامات العقائدية أم العكس( عمليا غلبت إيران مصالحها الوطنية في أكثر من حالة - حين انحازت إلي جانب ارمينيا في صراعها ضد اذربيجان - كما سبقت الاشارة - وحين اعتبرت موضوع الشيشان شأنا داخليا روسيا وامتنعت عن مناصرة المسلمين الشيشانيين).
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - بدا واضحا أن الولايات المتحدة متجهة إلي اسقاط نظام طالبان في أفغانستان - وبرز بقوة السؤال ما العمل - وارتفعت درجة الحرارة والمصارحة في صدد الاجابة عليه - وكان المشهد أقرب إلي الصورة التي نحن بازائها الآن - ففي كابول نظام ينتسب إلي الإسلام ويخاصم إيران - والأمريكيون بسبيلهم إلي إسقاطه وازالته - فهل يدان هذا المسلك أو يرحب به أو يسكت عليه؟!
مرة أخري ثار التساؤل حول المقابلة بين المصالح الوطنية والعلائق العقائدية أو الايديولوجية - وتعالت أصوات مطالبة بترجيح الأولي علي الثانية - وبمحاولة انتهاز الفرصة الذهبية المتاحة لتأييد تغيير النظام الأفغاني - والتفاهم مع الولايات المتحدة في هذا الصدد - من خلال ماسمي الحياد النشيط أوالايجابي وهو يختلف عن المسلك الإيراني ازاء حرب الخليج الثانية التي أدت إلي تحرير الكويت وقد اختارت فيه طهران موقف الحياد السلبي - حيث لم تؤيد الأمريكيين ولا وقفت ضد العراق أو حاولت تصفية الحساب مع نظامه.
ترجم الحياد الإيجابي إلي دخول إيران في اللعبة عبر مساندتها للتحالف الشمالي - واشتراكها في اسقاط نظام طالبان - حتي كانت بعض عناصر الحرس الثوري مع قوات التحالف في أثناء دخولها إلي كابول - وقد كان السيد علي خامنئي مرشد الثورة في مقدمة الذين حاولوا ضبط مفهوم الحياد الايجابي - حيث أعلن في اصفهان في2001/10/30 اننا نشجب الإرهاب بكل أشكاله ونعارض الحملة الأمريكية علي أفغانستان ونرفض الدخول في أي تحالف تقوده أمريكا.
(4)
اختلف الأمر في الحالة العراقية - ففي افغانستان كانت الولايات المتحدة في حاجة إلي دور طهران - لان إيران كانت تدعم التحالف الشمالي منذ تولي حركة طالبان السلطة في عام1996 - ومن ثم كانت موجودة علي الأرض الافغانية بصورة أو أخري - فضلا عن ذلك فإن وصول الطائرات العسكرية الأمريكية إلي شمال أفغانستان كان يقتضي أحيانا مرورا في الأجواء الإيرانية مع بعض التسهيلات الأخري - أما في حالة العراق فان الولايات المتحدة رتبت أمرها مع المعارضة العراقية في الخارج - ولم تكن بحاجة إلي الدور الإيراني في هذا الاتجاه - كما أنها ليست بحاجة إلي تسهيلات عسكرية من إيران - وغاية ما ارادته واشنطن من طهران هو أن يتم تسكين الجبهة الإيرانية - والا تحرك قوات فيلق بدر التابعة للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية بالعراق لدخول جنوب العراق حيث يتمركز الشيعة.
وسواء لأن واشنطن لم تسترح للدور الإيراني في أفغانستان بسبب خشيتها من الحضور الإيراني في العراق حيث الأغلبية شيعية واهم مقدسات المذهب هناك في النجف الاشرف وكربلاء والكاظيمة - أو لان الغنيمة العراقية اثمن وأكثر إغراء من الأفغانية - فان واشنطن حرصت علي تقليص الدور الإيراني عند الحد الأدني - أو إلغائه اذا امكن.
بالمقابل - تصرفت إيران بحذر ملحوظ وبمقتضي سياسة الحياد الإيجابي التي تبنتها فإنها وقد أدانت الحرب وفكرة تغيير الأنظمة بالقوة - قررت ألا تعترض طريق القوات الأمريكية ولاتعرقل عملياتها - ولاتشارك في أي انشطة عسكرية ضد العراق - وبطبيعة الحال فإنها لم تفكر في القتال إلي جانب النظام العراقي - وفي الوقت نفسه فإنها راهنت علي الوقت - وآثرت الانتظار حتي ينقشع غبار المعركة وتري نتائج جولتها الأولي علي الأقل.
نعم تجددت مناقشة موضوع العلاقات مع أمريكا - ودعت بعض الأقلام إلي إجراء حوار غير مشروط مع واشنطن - ولكن سعي الإدارة الأمريكية إلي الضغط لتقليص الدور الإيراني رجح كفة التشدد في الساحة الإيرانية - حتي إن مرشد الثورة السيد علي خامنئي اصدار تصريحا حذر فيه الذين يكتبون أو يتحدثون في مسألة الحوار مع امريكا - سيتعرضون لتوقيع العقوبات عليهم طبقا للقانون - وصدر في هذا الصدد بيان رسمي نشر في2002/5/28 يقول ما نصه: بالنظر إلي القرار الذي اتخذه زعيم الثورة بمنع إجراء أي نوع من المحادثات مع أمريكا - فان محكمة طهران - عملا من جانبها بتنفيذ قرارات الزعيم واحتراما لمساعي جميع الأجهزة الإعلامية والاشخاص الذين يعملون في الساحة الإعلامية والذين يقدمون المصالح القومية علي آية قضايا أخري - تهيب بجميع وسائل الإعلام التليفزيون والصحافة والمنابر الرسمية ألا يقوموا بأية دعاية مؤدية للحوار مع أمريكا حتي لايقعوا تحت طائلة القانون.
(5)
همس في أذني أحد العارفين بما يجري في كواليس طهران ـ وهي بلا حصر ـ قائلا إن وزير الثقافة العراقي في أثناء زيارة قام بها للعاصمة الإيرانية قبل أشهر معدودة - اقترح انشاء قيادة مشتركة بين العراق وإيران لمواجهة العدوان الأمريكي والاعصار الذي يتوقع أن يستصحبه - وهو ما فوجيء به المسئولون في طهران.
وبرغم أن أغلب العناصر المعنية في وزارة الخارجية سارعت إلي رفض الاقتراح - مستحضرة سجل الرئيس العراقي الذي كتبت صفحاته بالدم الإيراني - فإن البعض رحب بالفكرة ووجد فيها وجاهة يمكن ان تدفع الولايات المتحدة إلي مراجعة موقفها وحساباتها - ومن ثم فإنها قد تجنب المنطقة أهوال الحرب وويلاتها - وربما بسبب عمق ازمة الثقة ومن جراء حساسية الرأي العام الشديدة إزاء الرئيس صدام حسين ونظامه - فإن الاقتراح لم ير النور - ولم يشر إليه في وسائل الإعلام من قريب أو بعيد - ومن ثم فانه أحيط بالصمت - ودفن بسرعة في مكتب الخارجية - ولم يغادرها.
سألت محدثي عما إذا كان اقتراح من ذلك القبيل يمكن أن يخرج إيران والعراق من المأزق - فكان رده أنه حقا لايعرف - لكنه أردف قائلا إن قطار انقاذ الموقف قد فات علي كل حال - وإن قطار الحرب هو الذي يتحرك الآن - ومايشغل إيران في الوقت الراهن ليس الخروج من المأزق - وانما الحد من خسائره.