هويدي 25-2-2003
لاتكف الادارة الأمريكية عن إصابتنا بالدهشة, وكنت قد أعربت عن تلك الدهشة فيما كتبت ذات مرة, تعليقا علي الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها بعد11 سبتمبر, وشكلت عدوانا صارخا علي الحريات المدنية, وإذ وجدتها من ذلك القبيل الذي تعرفه بعض أقطارنا, فقد اخترت لما كتبت آنذاك عنوانا هو: مرحبا بهم في منتدي العالم الثالث( نشر في2002/11/7), وقد تضاعفت دهشتي حين وجدت ان تلك الاجراءات تواصلت واستفحلت, الأمر الذي يجعلني لا أستبعد ان يجئ يوم تحتج فيه دول العالم الثالث علي تصنيفها في مربع واحد مع الولايات المتحدة, وتصدر بيانا تتبرأ فيه من سلوكها, بدعوي ان ذلك السلوك يشين تلك الدول ويسيء إلي سمعتها!
(1)
في الاسبوع الماضي حدث مايلي: أعلن وزير العدل جون اشكروفت عن اتهام ثمانية من العرب( أغلبهم فلسطينيون) بالقيام بنشاطات ارهابية مرتبطة بحركة الجهاد الاسلامي, وقال ان تلك المنظمة تنشط ضد إسرائيل, وضد الوجود الغربي في الشرق الأوسط, انها مسئولة عن مقتل مائة شخص في إسرائيل, بينهم اثنان من الأمريكيين, والثمانية المتهمون أربعة منهم يعيشون داخل الولايات المتحدة, أبرزهم الدكتور سامي العريان استاذ الهندسة بجامعة جنوب فلوريدا, الذي يقيم هناك منذ27 عاما, وهو من الناشطين الفلسطينيين الذين دأبت الدوائر الصهيونية علي الكيد لهم ومحاولة الايقاع بهم.
وبرغم تحريضها الأجهزة الامنية ضده, فلم تثبت بحقه تهمة أو مخالفة قانونية واحدة, وجريمته انه ظهر في عام2001 في برنامج تليفزيوني بإحدي القنوات التي اشتهرت بعدائها للعرب( قناة فوكس), واشتبك مع مقدم البرنامج الاعلامي بيل اورالي المعروف بمواقفه اليمينية المتشددة, وفي أثناء المناقشة هاجمه أورالي, واتهمه بمساندة الارهاب, وبعد اذاعة البرنامج أوقفته جامعته عن العمل, وسعت إلي فصله(!)
الثلاثة الآخرون الذين وجه اليهم الاتهام من المقيمين في الولايات المتحدة في مثل حالة الدكتور العريان, أكاديميون ومهنيون جريمتهم انهم فلسطينيون, وعبروا عن آرائهم ومارسوا أنشطتهم بتلك الصفة, ظانين انهم ماداموا يعملون في ظل القانون وحمايته فلا تثريب عليهم ولاخطر يتهددهم.
أما الاربعة الآخرون الذين يقيمون خارج الولايات المتحدة, ففي المقدمة منهم الدكتور رمضان شلح الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي, الذي كان يدرس في الولايات المتحدة وغادرها في عام1995, والدكتور بشير نافع, وهو من أصول فلسطينية, ويحمل الجنسية المصرية, وهو مثقف بارز وأكاديمي يقوم بتدريس التاريخ في احدي الجامعات البريطانية, حيث يقيم هناك منذ عشرين عاما, وبرغم تركيزه علي التاريخ المصري الحديث, فإن له حضوره الاعلامي الذي يعبر فيه عن انحيازه إلي حقوق شعب فلسطين, وعدالة قضيته, أما الفلسطينيان الآخران اللذان وجه إليهما الاتهام فأحدهما يقيم في لبنان, والثاني امام مسجد في غزة.
عرفت بعض هذه الأسماء, خصوصا الدكتور العريان والدكتور بشير نافع( الدكتور رمضان شلح يعرفه الجميع) من خلال مجلة قراءات سياسية وهي فصلية كانا يصدرانها في الولايات المتحدة مع آخرين, من ثم فإن حضورهما لم يكن يتجاوز الساحتين الأكاديمية والاعلامية, ولاقلق علي أمثال الدكتور بشير نافع الذي يعيش في بريطانيا, حيث لايزال للقانون هناك رسوخه واحترامه, ولكن القلق كبير علي أمثال الدكتور العريان, الذي يمكن ان يحتجز لعدة سنوات, أو يحاكم او يسجن, دون ان توجه إليه تهمة محددة, في ظل القانون الذي ابتدع هناك باسم الدليل السري الذي بمقتضاه يعتقل المرء وتتم ادانته او يطرد من البلاد, دون ان يعرف لماذا ولمجرد ان تدعي المباحث الفيدرالية عليه انه يهدد الامن بصرف النظر عن كيف ولماذا؟
(2)
في ذات الاسبوع الفائت, سربت مصادر في وزارة العدل الامريكية إلي منظمات الحقوق المدنية نسخة من مسودة قانون جديد مذهل, جري طبخه في مكتب وزير العدل السيد جون اشكروفت, يضعف أو يمحو الرقابة المفروضة علي تصرفات الحكومة فيما يخص اعتقال ـ او التجسس او التنصت علي ـ المشتبه في ضلوعهم في أنشطة ارهابية, ويذهب المشروع في ذلك إلي حد تقنين تجريد الأمريكيين( بمن في ذلك المولودون في الولايات المتحدة) من جنسيتهم الأمريكية في حالة تقديمهم دعما ماديا لجماعات ارهابية, في الوقت الذي يتوسع فيه القانون في تعريف الجماعات الإرهابية, ومفهوم الدعم المادي لها, ويطلق علي القانون الجديد اسم قانون زيادة الامن الداخلي لـ2003 وسوف يعرف اختصارا باسم باتريوت آكت2 في اشارة إلي قانون باتريوت آكت الذي مرره الكونجرس الأمريكي خلال الأسابيع القليلة التالية لاحداث سبتمبر بغرض منح وزارة العدل الأمريكية سلطة استثنائية كافية لمكافحة الإرهاب.
أثار المشروع ذعر منظمات الحقوق والحريات المدنية, واعد الاتحاد الناطق باسمها(ACLU)) تحليلا لمضمونه, كشف عن خطورته, وبين انه يتمادي ـ اكثر من قانون باتريوت آكت ـ في اضعاف الرقابة المتبادلة بين السلطات التي يفرضها الدستور الأمريكي ويطلق يد سلطات تنفيذ القانون في العديد من القضايا, بما في ذلك الاعتقالات السرية التي تقوم بها وزارة العدل. وسوف يشجع ـ اذ تم اقراره ـ تجسس قوات الشرطة علي النشاطات السياسية والدينية, كما سمح للحكومة بالتنصت بدون الذهاب للمحكمة( لاستصدار تصريح بذلك). كما سيتوسع في أحكام عقوبة الاعدام.
في الاسبوع ذاته, وجه عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في مدينة فريدرك بولاية ميرلاند, دعوة إلي قيادة مسجد المدينة( مسجد المجتمع الاسلامي) للحضور إلي مقرهم, وطلبوا منهم اعداد قائمة بأسماء الذين يترددون علي المسجد, وهو ما أثار انزعاج الجالية المسلمة, التي ما ان ابلغ ممثلوها أجهزة الاعلام وجماعات الحقوق المدنية بالقضية, حتي أعلن مسئولو مكتب التحقيقات انهم لن يضغطوا للحصول علي القائمة!
وكان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد بدأ شهر يناير الماضي في احصاء عدد المساجد بمختلف الولايات تمهيدا لتوزيعها علي56 فرعا له موزعة علي أنحاء البلاد, بحيث يشرف كل فرع علي مجموعة من المساجد من خلال عمليات التفتيش والمراقبة المستمرة.
مجلس العلاقات الاسلامية ـالأمريكية وجه رسالة في2/20 إلي مدير مكتب التحقيقات روبرت مولر, اعتبر فيها ان طلب تقديم قوائم برواد المساجد يعد انتهاكا خطيرا للحقوق والحريات المدنية والدينية.
وقال مدير المجلس نهاد عوض ان سعي عملاء المباحث الفيدرالية للحصول علي اسماء مسلمين لم يخالفوا القانون في شيء لن يؤدي إلا إلي تأكيد أسوأ مخاوف المسلمين في أمريكا, من تعرضهم للتحيز الديني والعرقي بشكل متعمد.
معروف أن تلك الاجراءات تتخذ في الوقت الذي يخضع فيه الاف المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة لاجراءات تفرض عليهم تسجيل أنفسهم لدي مكاتب ادارة الهجرة والتوطين المحلية, وهي الاجراءات التي أدت إلي اعتقال المئات منهم وإلي ترحيل البعض منهم.
(3)
هذه حصيلة اسبوع واحد من الزمن الأمريكي, تعكس إلي حد كبير انزلاق الادارة الأمريكية بصورة تدريجية صوب تقييد الحريات المدنية بشكل عام, فضلا عن قمع المسلمين بوجه أخص, وهو ليس اسبوعا استثنائيا, لان مثل هذه الاجراءات تتوالي حينا بعد حين, منذ أحداث11 سبتمبر, ففي الشهر الماضي أصدرت احدي محاكم الاستئناف في مدينة شيكاغو حكما ايد استخدام قانون الأدلة السرية لمصادرة أموال احدي الهيئات الخيرية, بحيث ترفع القضية ويتم التجميد دون ابراز اي دليل لمحامي الدفاع يتعلق بالمخالفات التي ارتكبتها الهيئة. ويكتفي في الادانة بتقرير الأجهزة الامنية المعنية ان الهيئة تمارس عملا يشكل خطرا علي الامن او ان لها صلة بالانشطة الارهابية, دون اي تحديد! وكان هذا القانون البائس يطبق علي الأفراد ـ المسلمين بطبيعة الحال ـ لكن هذه هي المرة الأولي التي طبق فيها علي الهيئات, وكانت هيئة الاغاثة العالمية( الاسلامية طبعا) هي اول ضحية له. وفي الشهر الماضي ايضا طبق لاول مرة نظام التجسس علي الطلاب والمدرسين الأجانب في جميع الجامعات والمعاهد العليا الأمريكية, وكانت السلطات الأمريكية قد طالبت كل تلك الجهات بان تزودها باسماء الطلاب والأساتذة الاجانب وعناوينهم, وتخصص كل واحد منهم, وقالت التقارير القادمة من واشنطن ان المباحث الفيدرالية بالتعاون مع المئات من أقسام الشرطة الجامعية بدأوا في تنظيم عملية التجسس علي حوالي ربع مليون طالب ومدرس أجنبي, الأمر الذي أثارجدلا حادا لم ينته في الأوساط الجامعية, التي استقبلت الاجراءات بدهشة, وقال بعض الأساتذة ان الجامعات التي هي معمل لتفريخ الأفكار قد تلقت صفعة قوية, بإدخال وسائل التنصت والمراقبة إليها.
لايتسع المقام لاستعراض الاجراءات القمعية التي باتت تتسرب إلي الحياة الأمريكية علي نحو يثير القلق المستمر علي الحريات المدنية, التي كانت إلي عهد قريب, اثمن ما في النموذج الأمريكي لكنني سأتوقف امام نموذجين او قصتين تفوقت بهما الادارة الأمريكية علي ما في دول العالم الثالث من فنون القمع.
* فأمام الكونجرس مشروع جديد باسم نظام الرقابة المعلوماتي الكامل عرض خلاصته كريستوفر بايلي, وهو محاضر في القانون الدستوري, والحريات المدنية, في مقالة نشرتها صحيفة لوس انجلوس تايمز علي النحو التالي: سوف تستخدم قيادة جهاز المخابرات وأمن الجيش, التي تتمركز في فورت بوليفور, بولاية فرجينيا أجهزة كمبيوتر متطورة للغاية, للتدقيق سرا في رسائل البريد الالكتروني, ومشتريات بطاقات الائتمان وسجلات الاتصالات الهاتفية, وكشوفات الحسابات المصرفية, الخاصة بمئات الالاف من الناس, بحثا عما قد يربطهم بارهابيين أو بتعاطفهم معهم, وسيتم ارسال معظم تلك المعلومات للقيادة الشمالية الجديدة للجيش الأمريكي, التي يفترض انها مسئولة عن اجراءات الامن والسيطرة في البلاد, بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر, وقد نشرت الـواشنطن بوست في1/15 أن هذا النظام الالكتروني الفريد قادر علي تقصي معلومات شخصية عن الكثير من الاشخاص المقيمين في شتي أنحاء العالم.
في تعليقه علي المشروع قال الخبير القانوني كريستوفر بايلي ان عمليات البحث عن الارهابيين التي تقوم بها أجهزة فرض القانون لها مايبررها لكن لماذا يتوجب علي الجيش القيام بنفس المهمة؟ ذلك ان الارتباط المباشر لموظف عسكري بعمليات فرض القانون يعد عملا اجراميا!
* القصة الثانية بطلها رجل امريكي اسمه سكوت ريتر, الذي كان رئيسا للجنة التفتيش علي أسلحة الدمار الشامل في العراق في الفترة من1991 إلي1998 وقد استقال من وظيفته احتجاجا علي مسلك حكومته وتعسفها, وتحول بعد ذلك إلي مناهض لسياسة بلاده المتجهة إلي الحرب بذريعة أن العراق يخفي أسلحة الدمار المحظورة, ولان موقفه كان يزعج الادارة الأمريكية ويفسد بدرجة او اخري أجواء التعبئة التي تحشدها, فقد لجأت المباحث الفيدرالية إلي حيلة بسيطة لإسكاته, فقد اتهم بإغواء قاصر عمرها16 سنة عبر الانترنت, حيث حدد لها موعدا وهو يراسلها في غرفة الثرثرة للقاء في أحد مطاعم الوجبات السريعة, ولم تكن تلك القاصر سوي محقق في المكتب الفيدرالي, كان قد تنكر علي هيئة فتاة مراهقة, وحين ذهب إلي المطعم وجد رجال المباحث الفيدرالية في انتظاره, وعندئذ حذروه بألا يكرر فعلته, وظلوا يراقبون نشاطه علي الإنترنت, فضبط وهو يغري قاصرا اخري ويقنعها بلقائه في احد المطاعم, فتتبعوا خطواته ووجدوه في انتظارها هناك, وعندئذ اعتقلوه لعدة ساعات, ثم افرجوا عنه بلا اتهام, واغلق الملف الذي ظل طي الكتمان في حوزة الشرطة, وحين سافر الرجل إلي بغداد في اطار حملته المضادة لسياسة بلاده, جري تسريب الخبر لاحدي الصحف التي أشاعت قصة إغواء القاصرتين, الأمر الذي اضطره إلي قطع رحلته والعودة إلي بلاده لمواجهة القضية التي فتح ملفها فجأة في توقيت يتعذر اعتباره مجرد مصادفة!
(4)
في العام الماضي كتب الأستاذ جميل مطر ـ المحلل السياسي البارز ـ مقالة تحت عنوان أمريكا وما دهاها عبر فيها عن دهشته من التحولات المفجعة التي طالت الحريات المدنية في الولايات المتحدة بعد11 سبتمبر.. وبدا في مقالته( التي نشرتها الحياة اللندنية في2002/8/24) وكأنه ينعي إلينا الحلم الأمريكي حتي ختمها بقوله’ لا أظن ان شيئا من هذا سيعيد أمريكا قدوة ونموذجا, او يصلح ما انكسر في المشروع النهضوي الأمريكي. وفي عدد مجلة وجهات نظر الأخير( الصادر في أول فبراير) مقالة أخري تحت عنوان من يحكم أمريكا كتبتها خبيرة سابقة في الامم المتحدة( الأستاذة سهير السكري) قالت فيها ما خلاصته ان أمريكا الحلم التي يتحدث عنها كثيرون, وهم مبهورون بقيمها ومؤسساتها وقوة مجتمعها تغيرت, وتعرضت للاختطاف من قبل مجموعة من الأصوليين المتعصبين الذين استعرضت الباحثة اسماءهم وتاريخهم, ومدي ارتباطهم وولائهم لإسرائيل. الفكرة ذاتها عالجها باحث اخر مقيم في بريطانيا هو مروان قبلان, الذي كتب في صحيفة القدس العربي( عدد2003/2/19) مقالة تحت عنوان: غلاة اليمين في أمريكا يسيطرون علي الادارة ـ وسلط الضوء علي الشخصيات المؤثرة علي الرئيس بوش, بينهم القس جيري فالويل ابرز رموز الكنيسة المعمدانية الجنوبية, الذي اشتهر بتهجمه البذيء علي الاسلام والمسلمين, وهو القائل بأن معاداة إسرائيل بمثابة اعلان حرب علي الرب, وقد لفت نظري في المقالة ان الكاتب ابرز قائمة المؤسسات ومراكز الابحاث التي تخير منها الرئيس بوش فريقه الوزاري, وجميعها تعد معاقل للغلاة, الذين يمثلون مراكز القوي المتصهينة بأكثر مما يمثلون ماهو نبيل في القيم الأمريكية, لذلك فإنني لم استغرب ما قاله الباحث والأكاديمي الأمريكي المرموق ويليام بولك, في ختام محاضرة ألقاها في جامعة أوكسفورد قبل اقل من شهرين من ان المؤرخين, سينظرون إلي عهد الرئيس بوش علي انه بداية لتراجع امتنا العظيمة.
هل نبالغ اذا قلنا ان أمريكا وهي تسعي لكسب الحرب, خسرت نفسها!
لاتكف الادارة الأمريكية عن إصابتنا بالدهشة, وكنت قد أعربت عن تلك الدهشة فيما كتبت ذات مرة, تعليقا علي الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها بعد11 سبتمبر, وشكلت عدوانا صارخا علي الحريات المدنية, وإذ وجدتها من ذلك القبيل الذي تعرفه بعض أقطارنا, فقد اخترت لما كتبت آنذاك عنوانا هو: مرحبا بهم في منتدي العالم الثالث( نشر في2002/11/7), وقد تضاعفت دهشتي حين وجدت ان تلك الاجراءات تواصلت واستفحلت, الأمر الذي يجعلني لا أستبعد ان يجئ يوم تحتج فيه دول العالم الثالث علي تصنيفها في مربع واحد مع الولايات المتحدة, وتصدر بيانا تتبرأ فيه من سلوكها, بدعوي ان ذلك السلوك يشين تلك الدول ويسيء إلي سمعتها!
(1)
في الاسبوع الماضي حدث مايلي: أعلن وزير العدل جون اشكروفت عن اتهام ثمانية من العرب( أغلبهم فلسطينيون) بالقيام بنشاطات ارهابية مرتبطة بحركة الجهاد الاسلامي, وقال ان تلك المنظمة تنشط ضد إسرائيل, وضد الوجود الغربي في الشرق الأوسط, انها مسئولة عن مقتل مائة شخص في إسرائيل, بينهم اثنان من الأمريكيين, والثمانية المتهمون أربعة منهم يعيشون داخل الولايات المتحدة, أبرزهم الدكتور سامي العريان استاذ الهندسة بجامعة جنوب فلوريدا, الذي يقيم هناك منذ27 عاما, وهو من الناشطين الفلسطينيين الذين دأبت الدوائر الصهيونية علي الكيد لهم ومحاولة الايقاع بهم.
وبرغم تحريضها الأجهزة الامنية ضده, فلم تثبت بحقه تهمة أو مخالفة قانونية واحدة, وجريمته انه ظهر في عام2001 في برنامج تليفزيوني بإحدي القنوات التي اشتهرت بعدائها للعرب( قناة فوكس), واشتبك مع مقدم البرنامج الاعلامي بيل اورالي المعروف بمواقفه اليمينية المتشددة, وفي أثناء المناقشة هاجمه أورالي, واتهمه بمساندة الارهاب, وبعد اذاعة البرنامج أوقفته جامعته عن العمل, وسعت إلي فصله(!)
الثلاثة الآخرون الذين وجه اليهم الاتهام من المقيمين في الولايات المتحدة في مثل حالة الدكتور العريان, أكاديميون ومهنيون جريمتهم انهم فلسطينيون, وعبروا عن آرائهم ومارسوا أنشطتهم بتلك الصفة, ظانين انهم ماداموا يعملون في ظل القانون وحمايته فلا تثريب عليهم ولاخطر يتهددهم.
أما الاربعة الآخرون الذين يقيمون خارج الولايات المتحدة, ففي المقدمة منهم الدكتور رمضان شلح الامين العام لحركة الجهاد الاسلامي, الذي كان يدرس في الولايات المتحدة وغادرها في عام1995, والدكتور بشير نافع, وهو من أصول فلسطينية, ويحمل الجنسية المصرية, وهو مثقف بارز وأكاديمي يقوم بتدريس التاريخ في احدي الجامعات البريطانية, حيث يقيم هناك منذ عشرين عاما, وبرغم تركيزه علي التاريخ المصري الحديث, فإن له حضوره الاعلامي الذي يعبر فيه عن انحيازه إلي حقوق شعب فلسطين, وعدالة قضيته, أما الفلسطينيان الآخران اللذان وجه إليهما الاتهام فأحدهما يقيم في لبنان, والثاني امام مسجد في غزة.
عرفت بعض هذه الأسماء, خصوصا الدكتور العريان والدكتور بشير نافع( الدكتور رمضان شلح يعرفه الجميع) من خلال مجلة قراءات سياسية وهي فصلية كانا يصدرانها في الولايات المتحدة مع آخرين, من ثم فإن حضورهما لم يكن يتجاوز الساحتين الأكاديمية والاعلامية, ولاقلق علي أمثال الدكتور بشير نافع الذي يعيش في بريطانيا, حيث لايزال للقانون هناك رسوخه واحترامه, ولكن القلق كبير علي أمثال الدكتور العريان, الذي يمكن ان يحتجز لعدة سنوات, أو يحاكم او يسجن, دون ان توجه إليه تهمة محددة, في ظل القانون الذي ابتدع هناك باسم الدليل السري الذي بمقتضاه يعتقل المرء وتتم ادانته او يطرد من البلاد, دون ان يعرف لماذا ولمجرد ان تدعي المباحث الفيدرالية عليه انه يهدد الامن بصرف النظر عن كيف ولماذا؟
(2)
في ذات الاسبوع الفائت, سربت مصادر في وزارة العدل الامريكية إلي منظمات الحقوق المدنية نسخة من مسودة قانون جديد مذهل, جري طبخه في مكتب وزير العدل السيد جون اشكروفت, يضعف أو يمحو الرقابة المفروضة علي تصرفات الحكومة فيما يخص اعتقال ـ او التجسس او التنصت علي ـ المشتبه في ضلوعهم في أنشطة ارهابية, ويذهب المشروع في ذلك إلي حد تقنين تجريد الأمريكيين( بمن في ذلك المولودون في الولايات المتحدة) من جنسيتهم الأمريكية في حالة تقديمهم دعما ماديا لجماعات ارهابية, في الوقت الذي يتوسع فيه القانون في تعريف الجماعات الإرهابية, ومفهوم الدعم المادي لها, ويطلق علي القانون الجديد اسم قانون زيادة الامن الداخلي لـ2003 وسوف يعرف اختصارا باسم باتريوت آكت2 في اشارة إلي قانون باتريوت آكت الذي مرره الكونجرس الأمريكي خلال الأسابيع القليلة التالية لاحداث سبتمبر بغرض منح وزارة العدل الأمريكية سلطة استثنائية كافية لمكافحة الإرهاب.
أثار المشروع ذعر منظمات الحقوق والحريات المدنية, واعد الاتحاد الناطق باسمها(ACLU)) تحليلا لمضمونه, كشف عن خطورته, وبين انه يتمادي ـ اكثر من قانون باتريوت آكت ـ في اضعاف الرقابة المتبادلة بين السلطات التي يفرضها الدستور الأمريكي ويطلق يد سلطات تنفيذ القانون في العديد من القضايا, بما في ذلك الاعتقالات السرية التي تقوم بها وزارة العدل. وسوف يشجع ـ اذ تم اقراره ـ تجسس قوات الشرطة علي النشاطات السياسية والدينية, كما سمح للحكومة بالتنصت بدون الذهاب للمحكمة( لاستصدار تصريح بذلك). كما سيتوسع في أحكام عقوبة الاعدام.
في الاسبوع ذاته, وجه عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي في مدينة فريدرك بولاية ميرلاند, دعوة إلي قيادة مسجد المدينة( مسجد المجتمع الاسلامي) للحضور إلي مقرهم, وطلبوا منهم اعداد قائمة بأسماء الذين يترددون علي المسجد, وهو ما أثار انزعاج الجالية المسلمة, التي ما ان ابلغ ممثلوها أجهزة الاعلام وجماعات الحقوق المدنية بالقضية, حتي أعلن مسئولو مكتب التحقيقات انهم لن يضغطوا للحصول علي القائمة!
وكان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد بدأ شهر يناير الماضي في احصاء عدد المساجد بمختلف الولايات تمهيدا لتوزيعها علي56 فرعا له موزعة علي أنحاء البلاد, بحيث يشرف كل فرع علي مجموعة من المساجد من خلال عمليات التفتيش والمراقبة المستمرة.
مجلس العلاقات الاسلامية ـالأمريكية وجه رسالة في2/20 إلي مدير مكتب التحقيقات روبرت مولر, اعتبر فيها ان طلب تقديم قوائم برواد المساجد يعد انتهاكا خطيرا للحقوق والحريات المدنية والدينية.
وقال مدير المجلس نهاد عوض ان سعي عملاء المباحث الفيدرالية للحصول علي اسماء مسلمين لم يخالفوا القانون في شيء لن يؤدي إلا إلي تأكيد أسوأ مخاوف المسلمين في أمريكا, من تعرضهم للتحيز الديني والعرقي بشكل متعمد.
معروف أن تلك الاجراءات تتخذ في الوقت الذي يخضع فيه الاف المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة لاجراءات تفرض عليهم تسجيل أنفسهم لدي مكاتب ادارة الهجرة والتوطين المحلية, وهي الاجراءات التي أدت إلي اعتقال المئات منهم وإلي ترحيل البعض منهم.
(3)
هذه حصيلة اسبوع واحد من الزمن الأمريكي, تعكس إلي حد كبير انزلاق الادارة الأمريكية بصورة تدريجية صوب تقييد الحريات المدنية بشكل عام, فضلا عن قمع المسلمين بوجه أخص, وهو ليس اسبوعا استثنائيا, لان مثل هذه الاجراءات تتوالي حينا بعد حين, منذ أحداث11 سبتمبر, ففي الشهر الماضي أصدرت احدي محاكم الاستئناف في مدينة شيكاغو حكما ايد استخدام قانون الأدلة السرية لمصادرة أموال احدي الهيئات الخيرية, بحيث ترفع القضية ويتم التجميد دون ابراز اي دليل لمحامي الدفاع يتعلق بالمخالفات التي ارتكبتها الهيئة. ويكتفي في الادانة بتقرير الأجهزة الامنية المعنية ان الهيئة تمارس عملا يشكل خطرا علي الامن او ان لها صلة بالانشطة الارهابية, دون اي تحديد! وكان هذا القانون البائس يطبق علي الأفراد ـ المسلمين بطبيعة الحال ـ لكن هذه هي المرة الأولي التي طبق فيها علي الهيئات, وكانت هيئة الاغاثة العالمية( الاسلامية طبعا) هي اول ضحية له. وفي الشهر الماضي ايضا طبق لاول مرة نظام التجسس علي الطلاب والمدرسين الأجانب في جميع الجامعات والمعاهد العليا الأمريكية, وكانت السلطات الأمريكية قد طالبت كل تلك الجهات بان تزودها باسماء الطلاب والأساتذة الاجانب وعناوينهم, وتخصص كل واحد منهم, وقالت التقارير القادمة من واشنطن ان المباحث الفيدرالية بالتعاون مع المئات من أقسام الشرطة الجامعية بدأوا في تنظيم عملية التجسس علي حوالي ربع مليون طالب ومدرس أجنبي, الأمر الذي أثارجدلا حادا لم ينته في الأوساط الجامعية, التي استقبلت الاجراءات بدهشة, وقال بعض الأساتذة ان الجامعات التي هي معمل لتفريخ الأفكار قد تلقت صفعة قوية, بإدخال وسائل التنصت والمراقبة إليها.
لايتسع المقام لاستعراض الاجراءات القمعية التي باتت تتسرب إلي الحياة الأمريكية علي نحو يثير القلق المستمر علي الحريات المدنية, التي كانت إلي عهد قريب, اثمن ما في النموذج الأمريكي لكنني سأتوقف امام نموذجين او قصتين تفوقت بهما الادارة الأمريكية علي ما في دول العالم الثالث من فنون القمع.
* فأمام الكونجرس مشروع جديد باسم نظام الرقابة المعلوماتي الكامل عرض خلاصته كريستوفر بايلي, وهو محاضر في القانون الدستوري, والحريات المدنية, في مقالة نشرتها صحيفة لوس انجلوس تايمز علي النحو التالي: سوف تستخدم قيادة جهاز المخابرات وأمن الجيش, التي تتمركز في فورت بوليفور, بولاية فرجينيا أجهزة كمبيوتر متطورة للغاية, للتدقيق سرا في رسائل البريد الالكتروني, ومشتريات بطاقات الائتمان وسجلات الاتصالات الهاتفية, وكشوفات الحسابات المصرفية, الخاصة بمئات الالاف من الناس, بحثا عما قد يربطهم بارهابيين أو بتعاطفهم معهم, وسيتم ارسال معظم تلك المعلومات للقيادة الشمالية الجديدة للجيش الأمريكي, التي يفترض انها مسئولة عن اجراءات الامن والسيطرة في البلاد, بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر, وقد نشرت الـواشنطن بوست في1/15 أن هذا النظام الالكتروني الفريد قادر علي تقصي معلومات شخصية عن الكثير من الاشخاص المقيمين في شتي أنحاء العالم.
في تعليقه علي المشروع قال الخبير القانوني كريستوفر بايلي ان عمليات البحث عن الارهابيين التي تقوم بها أجهزة فرض القانون لها مايبررها لكن لماذا يتوجب علي الجيش القيام بنفس المهمة؟ ذلك ان الارتباط المباشر لموظف عسكري بعمليات فرض القانون يعد عملا اجراميا!
* القصة الثانية بطلها رجل امريكي اسمه سكوت ريتر, الذي كان رئيسا للجنة التفتيش علي أسلحة الدمار الشامل في العراق في الفترة من1991 إلي1998 وقد استقال من وظيفته احتجاجا علي مسلك حكومته وتعسفها, وتحول بعد ذلك إلي مناهض لسياسة بلاده المتجهة إلي الحرب بذريعة أن العراق يخفي أسلحة الدمار المحظورة, ولان موقفه كان يزعج الادارة الأمريكية ويفسد بدرجة او اخري أجواء التعبئة التي تحشدها, فقد لجأت المباحث الفيدرالية إلي حيلة بسيطة لإسكاته, فقد اتهم بإغواء قاصر عمرها16 سنة عبر الانترنت, حيث حدد لها موعدا وهو يراسلها في غرفة الثرثرة للقاء في أحد مطاعم الوجبات السريعة, ولم تكن تلك القاصر سوي محقق في المكتب الفيدرالي, كان قد تنكر علي هيئة فتاة مراهقة, وحين ذهب إلي المطعم وجد رجال المباحث الفيدرالية في انتظاره, وعندئذ حذروه بألا يكرر فعلته, وظلوا يراقبون نشاطه علي الإنترنت, فضبط وهو يغري قاصرا اخري ويقنعها بلقائه في احد المطاعم, فتتبعوا خطواته ووجدوه في انتظارها هناك, وعندئذ اعتقلوه لعدة ساعات, ثم افرجوا عنه بلا اتهام, واغلق الملف الذي ظل طي الكتمان في حوزة الشرطة, وحين سافر الرجل إلي بغداد في اطار حملته المضادة لسياسة بلاده, جري تسريب الخبر لاحدي الصحف التي أشاعت قصة إغواء القاصرتين, الأمر الذي اضطره إلي قطع رحلته والعودة إلي بلاده لمواجهة القضية التي فتح ملفها فجأة في توقيت يتعذر اعتباره مجرد مصادفة!
(4)
في العام الماضي كتب الأستاذ جميل مطر ـ المحلل السياسي البارز ـ مقالة تحت عنوان أمريكا وما دهاها عبر فيها عن دهشته من التحولات المفجعة التي طالت الحريات المدنية في الولايات المتحدة بعد11 سبتمبر.. وبدا في مقالته( التي نشرتها الحياة اللندنية في2002/8/24) وكأنه ينعي إلينا الحلم الأمريكي حتي ختمها بقوله’ لا أظن ان شيئا من هذا سيعيد أمريكا قدوة ونموذجا, او يصلح ما انكسر في المشروع النهضوي الأمريكي. وفي عدد مجلة وجهات نظر الأخير( الصادر في أول فبراير) مقالة أخري تحت عنوان من يحكم أمريكا كتبتها خبيرة سابقة في الامم المتحدة( الأستاذة سهير السكري) قالت فيها ما خلاصته ان أمريكا الحلم التي يتحدث عنها كثيرون, وهم مبهورون بقيمها ومؤسساتها وقوة مجتمعها تغيرت, وتعرضت للاختطاف من قبل مجموعة من الأصوليين المتعصبين الذين استعرضت الباحثة اسماءهم وتاريخهم, ومدي ارتباطهم وولائهم لإسرائيل. الفكرة ذاتها عالجها باحث اخر مقيم في بريطانيا هو مروان قبلان, الذي كتب في صحيفة القدس العربي( عدد2003/2/19) مقالة تحت عنوان: غلاة اليمين في أمريكا يسيطرون علي الادارة ـ وسلط الضوء علي الشخصيات المؤثرة علي الرئيس بوش, بينهم القس جيري فالويل ابرز رموز الكنيسة المعمدانية الجنوبية, الذي اشتهر بتهجمه البذيء علي الاسلام والمسلمين, وهو القائل بأن معاداة إسرائيل بمثابة اعلان حرب علي الرب, وقد لفت نظري في المقالة ان الكاتب ابرز قائمة المؤسسات ومراكز الابحاث التي تخير منها الرئيس بوش فريقه الوزاري, وجميعها تعد معاقل للغلاة, الذين يمثلون مراكز القوي المتصهينة بأكثر مما يمثلون ماهو نبيل في القيم الأمريكية, لذلك فإنني لم استغرب ما قاله الباحث والأكاديمي الأمريكي المرموق ويليام بولك, في ختام محاضرة ألقاها في جامعة أوكسفورد قبل اقل من شهرين من ان المؤرخين, سينظرون إلي عهد الرئيس بوش علي انه بداية لتراجع امتنا العظيمة.
هل نبالغ اذا قلنا ان أمريكا وهي تسعي لكسب الحرب, خسرت نفسها!