هويدي 18-2-2003
90 مدينة أمريكية أعلنت رفضها الحرب, فمتي يسمع صوت المدن العربية؟
يداهمنا السؤال ونحن نتابع نشرة الأخبار, فينغرز في الخاصرة كسكين, وإذ تتوالي الأخبار بعد ذلك مستصحبة قائمة من التساؤلات المدببة والمقارنات المريرة, التي تتحول الي سهام ترشق الجسم وتعذب الضمير, فإن المرء يخرج منها مثقلا بالهم والحزن, بل مثخنا بجراح نازفة أصابت فيه النخوة والكبرياء, حتي يستحيي من النظر إلي وجهه في المرآة.
(1)
تفضحنا نشرات الأخبار, إذ تبدو إعلانات يومية صارخة, تشير الي غيابنا تارة, وإلي هزيمتنا تارة أخري, فالذين يدقون طبول الحرب, والذين يقودون معسكر الموت, وهم يحشدون حشودهم فوق الأرض العربية, ويوجهون صواريخهم وحاملات طائراتهم صوب أهداف عربية, لا تشغل بالهم ولا تزعجهم الأمة العربية, وإنما تؤرقهم أوروبا والصين وروسيا, والذين يقودون الحملة ضد الحرب ويرسلون الوفود إلي العراق كي تتحول إلي دروع بشرية في مواجهة الحرب, ليسوا من العرب, ولكنهم قادمون من أقطار أخري وراء حدودنا, الأمر الذي يثير أكثر من سؤال حول عدم حضور الجماهير العربية وتفسير غيابها.
سيقول قائل إن بعض العواصم العربية شهدت هذا الأسبوع نماذج من تلك المظاهرات الاحتجاجية, وسيدعي آخر أن قياديا في هذا الحزب أو ذاك صاح قائلا: لا لضرب العراق, وإن كان يشكر ويقدر موقف هؤلاء وهؤلاء, إلا أن الذي يعيش في العالم العربي ويسمع نبضه جيدا, لا تقنعه مثل هذه المظاهر, وبوسعه أن يقول بثقة إن الذي حدث كان من قبيل تلك المظاهرات والأصوات المتواضعة, التي تعد جزءا من الفيلم بأكثر منها تعبيرا عن الحقيقة, ذلك أن أحداثا جساما كتلك التي نشهدها الآن, وأهوالا من قبيل تلك التي تلوح في أفق الغد, لا يمكن أن يكون صداها في الشارع العربي بتلك الدرجة من التهافت, كما أنها لاتتجاوز بكثير كل ما نسمع ونقرأ من كلام ساكت كما يقول السودانيون.
لابد أن يؤرقنا خفوت الصوت العربي, ذلك أن ارتفاع ذلك الصوت علاوة علي أنه يعلن موقفا ويوصل رسالة, إلا أنه وسيلة فعالة للتنفيس وتصريف شحنة الغضب المتراكم, وإذا سلمنا أمرنا لله في الأولي, وقلنا إن الرسالة يمكن توصيلها عبر وسائط أخري, فإن السؤال الذي ينبغي أن نفكر فيه طويلا هو: إذا لم يتم تصريفها فأين تذهب شحنة الغضب التي تعتمل في صدور الناس؟.
القلق يتضاعف حين يلقي علينا السؤال, لأن غضبا من العيار الثقيل الذي نحن بصدده, ذلك الذي تتراكم طبقاته من جراء اجتراح الكرامة والدوس علي الكبرياء, يتعذر ابتلاعه ونسيانه, كما يتعذر حصاره أو كتمانه طويلا, أما الاستخفاف به فهو أم الخطايا في السياق الذي نحن بصدده, ذلك أن الشارع العربي لم يمت, والحاصل في فلسطين دليل صحوته وحيويته.
(2)
في الخامس من فبراير الحالي, عقد مؤتمر مشترك للعديد من الكنائس, صدر عنه بيان قوي رافض للحرب التي اعتبرها غير مبررة أخلاقيا ودينيا, وتضمن البيان تنديدا بمبدأ اللجوء إلي القوة العسكرية, بدلا من المساعي السياسية لحل الخلافات, راجعت قائمة المشاركين في المؤتمر, فوجدته ضم ممثلين عن: مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر الكنائس الأوروبي, والمجلس الوطني لكنائس المسيح في الولايات المتحدة, ومجلس كنائس الشرق الأوسط, وإذ تزامن ذلك مع نداء البابا بولس الثاني في الفاتيكان, فإنني لم أستطع أن أكتم شعورا بالحسرة, عبر عنه سؤال عن موقف المنظمات الإسلامية من الحرب, التي لم يسمع لها بدورها صوت يذكر, وإن سمعنا أصواتا قوية لعدد من العلماء في هذا القطر العربي أو ذاك.
لم أكن وحدي في الشعور بالحسرة, فقد قرأت مقالة لأحد الألمان من أصل عربي, هو جمال قارصلي المنتخب نائبا في برلمان ولاية شمال الراين, ردد فيها ذات السؤال, قائلا: أليس مخجلا أن تعلن الكنائس مجتمعة رفضها للحرب ضد العراق, فيما لا نسمع صوتا مماثلا للمؤسسات الإسلامية الدينية منفردة أو مجتمعة؟ وهل يمكن أن تكون تلك الكنائس أكثر حرصا علي حقن دماء الشعب العراقي( المسلم) من المراجع الإسلامية؟( القدس العربي)2/14.
وجدت في مقالة قارصلي العديد من الأسئلة والملاحظات الأخري الموجعة والمربكة, فقد كان عنوانها: متي يستطيع العرب أن يقفوا موقف الألمان؟, وهو سؤال استنكاري وليس استفهاميا, سمعته بصيغة أخري علي لسان مراسل لإحدي الفضائيات, كان يتابع المظاهرات الحاشدة التي خرجت في روما مناهضة للحرب, حين قال: هل يمكن أن يكون الطليان أكثر عروبة من العرب؟ ـ صحيح أن لكل حساباته ودوافعه الخاصة, التي ليس بينها بالضرورة التضامن مع الشعوب العربية, لكن الحاصل أن تلك المواقف انصبت في نهاية المطاف في وعاء المصلحة العربية.
لقد تساءل صاحبنا الألماني/العربي: ماذا سيكون الموقف الأمريكي لو رفضت دول الجامعة العربية بصوت واحد, الحرب لماذا لا تتبلور سياسات عربية تجاه الدول الداعمة للحرب وتلك الداعية إلي السلم؟ لماذا لا تنهال الاستثمارات العربية علي ألمانيا وفرنسا, اللتين هما أكثر عدالة تجاه القضايا العربية, بغض النظر عن انطلاقهما من مصالحهما الخاصة.
[ملحوظة: ارتفعت في الولايات المتحدة أصوات تنادي بمقاطعة النبيذ والأجبان الفرنسية, للرد علي موقف الحكومة الفرنسية.
أخيرا ذكر قارصلي, أن الكاتب الألماني الكبير جونتر جراس, الحائز علي جائزة نوبل في الآداب, امتلك الشجاعة الأدبية, وأعلن أن الرئيس الأمريكي جورج بوش شخصية مهددة للسلم العالمي, ثم تساءل عن موقف الرموز الأدبية العربية.
(3)
لقد كان علماء السلف يستغربون الأوضاع المقلوبة والمفارقات الشديدة, حتي ذهب بعضهم إلي اعتبارها مقدمة لنهاية العالم, وذهبوا إلي أنها من علامات الساعة الصغري, وقالوا إن من تلك العلامات مثلا أن تلد الأمة ربتها.. وهو ما يغريني ـ ليس بالضرورة من باب التندر ـ بأن أضيف إلي القائمة مفارقات أخري, من قبيل تلك التي تراءت لنا ونحن نتابع مشهد الحرب العبثية التي نحن بصددها, أذكر بتلك القيادات السياسية الأوروبية التي بدت من وجهة نظرنا أكثر عروبة من بعض العرب.
من تلك المفارقات, أن ثلاث دول أوروبية( ألمانيا وفرنسا وبلجيكا) رفضت في اجتماعات حلف الناتو ما اعتبرته مشاركة منها في الحرب ضد دولة عربية مثل العراق, بينما نشرت مجلة نيوزويك في عدد2/4 خريطة بينت انطلاق القوات الأمريكية في تلك الحرب من أكثر من25 قاعدة عسكرية موزعة علي أراضي الأشقاء العرب!
وإذ كان مألوفا ومفهوما أن العرب حين يصادفون أزمة في علاقاتهم مع الولايات المتحدة, فإنهم كانوا يلجأون إلي أوروبا ويستقوون بها, لكننا وجدنا في الآونة الأخيرة أن فرنسا حين اختلفت مع أمريكا في شأن يخص العرب, فأنها هي التي حاولت الاستعانة بالعرب, ودعتهم إلي مساندة الموقف المناهض للحرب ضد العراق.
وفي حين دأبت واشنطن علي إقناع الأمريكيين بأن العراق رمز الشر ومصدر الخطر, فإننا وجدناها في الأسبوع الماضي قد رفعت حالة التأهب داخل الولايات المتحدة إلي الدرجة شبه القصوي, بعدما اكتشفت فجأة أن الخطر الذي يهدد البلاد ليس مصدره العراق, وإنما أتت اشاراته من تنظيم القاعدة وعناصره الناشطة أو النائمة علي الأرض الأمريكية.
لكن ذلك; كله في كفة وموقف الولايات المتحدة من حكاية أسلحة الدمار الشامل في كفة أخري, ذلك أن المرء يكاد ينفجر من الغيظ والمرارة, حين يلاحظ أن المفتشين الدوليين يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل العراقية, في الخرائب المهجورة وأروقة المساجد وغرف النوم وحقائب الطالبات ومصانع الألبان, بينما لا يثير اهتمامهم مفاعل ديمونا الإسرائيلي القابع علي بعد أميال منهم, وفيه تتكدس مئات القنابل النووية, القادرة علي تدمير نصف الكرة الأرضية, أما الأسلحة الكيماوية والجرثومية والبيولوجية, وغير ذلك من وسائل تشويه الحياة الإنسانية وتدميرها, فبدورها تخزن في إسرائيل بعلم الجميع, وبغير حسيب أو رقيب.
يتضاعف الشعور بالغيظ والمرارة حين يقارن المرء موقف الولايات المتحدة من العراق, بموقفها من كوريا الشمالية, فالعراق نفي وجود أسلحة الدمار الشامل علي أرضه, وأكد أنه تخلص مما كان لديه منها, وفتح كل أبوابه للمفتشين الدوليين, الذين زاروا حتي الآن أكثر من600 موقع, وامتثل لكل ما طلب منه, ومع ذلك تصر الولايات المتحدة علي تركيعه وإذلاله, وتحشد الحشود العسكرية لاجتياحه واسقاط نظامه والاستيلاء علي نفطه واخضاعه لحكم عسكري من قبلها, أما كوريا الشمالية فإنها أعلنت علي الملأ ملكيتها لأسلحة الدمار الشامل, وطرردت المفتشين الدوليين, وذكرت صراحة أن لديها مدافع وصواريخ قادرة علي اصابة كاليفورنيا في الولايات المتحدة, فضلا عن القواعد الأمريكية في مختلف أنحاء العالم, مع ذلك, فإن واشنطن التي نصبت من نفسها في الحالة العراقية حارسة لأمن العالم, ومن ثم استجمعت قواها لتأديب العراق وترويضه, هي ذاتها التي تحلت بكل ما تملك من صبر وتسامح, وراحت تربت علي أكتاف الكوريين وتدللهم, متحدثة بصوت ناعم ورخيم عن حلول دبلوماسية للمسألة!
(4)
حتي يكتمل المشهد, فإن العناوين الملتبسة والمخادعة, تنضاف إلي قائمة الأسئلة والمفارقات الموجعة, لكي يقترن الألم بالحيرة والبلبلة.
فقد أصبح عنوان الشرعية الدولية أنشودة الموسم ومضغة في أفواه الجميع, وموضوعا للغيرة والحماس منقطعي النظير, وسمعنا أكثر من مرة صوت الرئيس الأمريكي وأصوات غيره من أركان فريقه, وهم يطالبون مجلس الأمن بالدفاع عن قراراته, وبأن يثبت للعالم أنه جاد فيما يصدر عنه, وأنه حريص علي الدفاع عن صدقيته وكرامته, في الوقت ذاته فإن أولئك الذين يتحدثون عن قدسية قرارات مجلس الأمن, هم الذين لم يترددوا في أن يدوسوا علي الأمم المتحدة بأحذيتهم, وهم يعلنون بين الحين والآخر أنهم سينفذون مخططاتهم سواء أصدر مجلس الأمن قراره أم لم يصدر, وهم الذين تحدوا الشرعية الدولية في معاهدة كيوتو للبيئة, وفي موضوع المحكمة الجنائية الدولية, وانتهكوا الضوابط التي تعارف عليها المجتمع الدولي المتعلقة بمبدأ استخدام القوة وحالات الدفاع الشرعي, وهم الذين استباحوا لأنفسهم قصف أي بلد بحجة الضربات الاستباقية, وإعداد قوائم بأسماء مطلوب قتلها دون محاكمة, ودون التزام بقواعد السيادة ناهيك عن القانون.
تلك الغيرة علي كرامة الأمم المتحدة, وتلك القدسية التي جري اضفاؤها علي قرارات مجلس الأمن, ظهرت فقط في الحالة العراقية, ثم ديست بالنعال في الحالة الإسرائيلية, بل إن الولايات المتحدة أعلنت عن نفسها كفيلا وضامنا لإسرائيل, أكثر من أهان المنظمة الدولية وازدري بقراراتها, حتي صدر بحقها150 قرارا من الأمم المتحدة لم تنفذ واحدا منها, ولم يقل أحد أنها لم تحترم الشرعية الدولية, ولم يحاسبها أحد علي ما مارسته من تحد وازدراء.
في المشهد أيضا لقطة فضحت مدي التلفيق والافتعال في عنوان صدام الحضارات, الذي ما برح البعض يروج له ويحتفي به ويخوفنا منه, خصوصا بعد11 سبتمبر, الذي صوره البعض بأنه من ارهاصات المواجهة بين الإسلام والغرب, ذلك أن المبشرين بالفكرة اعتبروا الغرب كتلة واحدة, ووضعوا الإسلام والمسلمين في كتلة أخري مقابلة, في حين أن ما نراه الآن قلب المعادلة إلي حد كبير, فأنظمة الساحة الإسلامية بدت هي الهادئة والساكنة, بينما المواجهة والتحدي الحقيقي قائم داخل المعسكر الغربي ذاته, بل إن المظاهرات المعادية للحرب هي في العالم المسيحي أقوي منها بكثير في العالم الإسلامي, الأمر الذي قدم برهانا قوض النظرية, وبين لكل ذي عينين أننا بصدد صراع مصالح وارادات وليس صراع حضارات, وأن فكرة ذلك الصراع الأخير تعبر عن أمنيات نفر من الغلاة علي الجانبين, بأكثر مما تعبر عن قراءة منصفة وموضوعية لخرائط الواقع وتضاريسه.
في أثناء الجدل والتراشق الدائر بين الادارة الأمريكية ألمانيا وفرنسا, استخدمت إشارات وعبارات مسكونة بمعاني الغمز واللمز, كان من بينها تورط وزير الدفاع الأمريكي في وصف البلدين بأنهما يمثلان أوروبا القديمة التي عفي عليها الزمن, لكن خبيرا أمريكيا معتبرا هو جراهام فوللر, الذي كان في السابق من كبار ضباط المخابرات المركزية ونائبا لرئيسها, نشر مقالة رد فيها كلام الوزير رامسفيلد, قائلا إن ألمانيا وفرنسا تمثلان أوروبا الجديدة في حقيقة الأمر, بينما الولايات المتحدة هي التي تمثل القوة القديمة.. لماذا؟
في رأيه أن ألمانيا وفرنسا نموذج لبلدين نجحا في تجاوز خمسة قرون من الحروب المتبادلة, والمشاركة في تكوين اتحاد أوروبي يعد نموذجا نادرا في التاريخ, باعتبار أنه قائم علي تنازل دول الاتحاد عن جزء كبير من سيادتها القومية, لإقامة مشروع حضاري كبير يستند إلي ديمقراطية حقيقية وإلي التزام بحقوق الإنسان, ويتطلع لبناء قوة جديدة في العالم ترتكز علي القبول والرغبة المشتركة, بدلا من العنف والغزو, وهذه ظواهر يصعب وصفها بأنها تنتمي إلي أوروبا القديمة.
بالمقابل ـ أضاف فوللر ـ فإن الولايات المتحدة هي التي تمثل العالم القديم, لأنها تمارس الهيمنة وتخاطب الآخرين بلغة القوة, بدلا من الرضا, وعوضا عن القانون, ومنطق القوة هذا هو الذي كان سائدا في العالم القديم, الذي مازالت أمريكا متعلقة به, وعجزت عن أن تخرج من اساره حتي الآن.
إن في الفم ماء كثيرا, ودما أيضا!
90 مدينة أمريكية أعلنت رفضها الحرب, فمتي يسمع صوت المدن العربية؟
يداهمنا السؤال ونحن نتابع نشرة الأخبار, فينغرز في الخاصرة كسكين, وإذ تتوالي الأخبار بعد ذلك مستصحبة قائمة من التساؤلات المدببة والمقارنات المريرة, التي تتحول الي سهام ترشق الجسم وتعذب الضمير, فإن المرء يخرج منها مثقلا بالهم والحزن, بل مثخنا بجراح نازفة أصابت فيه النخوة والكبرياء, حتي يستحيي من النظر إلي وجهه في المرآة.
(1)
تفضحنا نشرات الأخبار, إذ تبدو إعلانات يومية صارخة, تشير الي غيابنا تارة, وإلي هزيمتنا تارة أخري, فالذين يدقون طبول الحرب, والذين يقودون معسكر الموت, وهم يحشدون حشودهم فوق الأرض العربية, ويوجهون صواريخهم وحاملات طائراتهم صوب أهداف عربية, لا تشغل بالهم ولا تزعجهم الأمة العربية, وإنما تؤرقهم أوروبا والصين وروسيا, والذين يقودون الحملة ضد الحرب ويرسلون الوفود إلي العراق كي تتحول إلي دروع بشرية في مواجهة الحرب, ليسوا من العرب, ولكنهم قادمون من أقطار أخري وراء حدودنا, الأمر الذي يثير أكثر من سؤال حول عدم حضور الجماهير العربية وتفسير غيابها.
سيقول قائل إن بعض العواصم العربية شهدت هذا الأسبوع نماذج من تلك المظاهرات الاحتجاجية, وسيدعي آخر أن قياديا في هذا الحزب أو ذاك صاح قائلا: لا لضرب العراق, وإن كان يشكر ويقدر موقف هؤلاء وهؤلاء, إلا أن الذي يعيش في العالم العربي ويسمع نبضه جيدا, لا تقنعه مثل هذه المظاهر, وبوسعه أن يقول بثقة إن الذي حدث كان من قبيل تلك المظاهرات والأصوات المتواضعة, التي تعد جزءا من الفيلم بأكثر منها تعبيرا عن الحقيقة, ذلك أن أحداثا جساما كتلك التي نشهدها الآن, وأهوالا من قبيل تلك التي تلوح في أفق الغد, لا يمكن أن يكون صداها في الشارع العربي بتلك الدرجة من التهافت, كما أنها لاتتجاوز بكثير كل ما نسمع ونقرأ من كلام ساكت كما يقول السودانيون.
لابد أن يؤرقنا خفوت الصوت العربي, ذلك أن ارتفاع ذلك الصوت علاوة علي أنه يعلن موقفا ويوصل رسالة, إلا أنه وسيلة فعالة للتنفيس وتصريف شحنة الغضب المتراكم, وإذا سلمنا أمرنا لله في الأولي, وقلنا إن الرسالة يمكن توصيلها عبر وسائط أخري, فإن السؤال الذي ينبغي أن نفكر فيه طويلا هو: إذا لم يتم تصريفها فأين تذهب شحنة الغضب التي تعتمل في صدور الناس؟.
القلق يتضاعف حين يلقي علينا السؤال, لأن غضبا من العيار الثقيل الذي نحن بصدده, ذلك الذي تتراكم طبقاته من جراء اجتراح الكرامة والدوس علي الكبرياء, يتعذر ابتلاعه ونسيانه, كما يتعذر حصاره أو كتمانه طويلا, أما الاستخفاف به فهو أم الخطايا في السياق الذي نحن بصدده, ذلك أن الشارع العربي لم يمت, والحاصل في فلسطين دليل صحوته وحيويته.
(2)
في الخامس من فبراير الحالي, عقد مؤتمر مشترك للعديد من الكنائس, صدر عنه بيان قوي رافض للحرب التي اعتبرها غير مبررة أخلاقيا ودينيا, وتضمن البيان تنديدا بمبدأ اللجوء إلي القوة العسكرية, بدلا من المساعي السياسية لحل الخلافات, راجعت قائمة المشاركين في المؤتمر, فوجدته ضم ممثلين عن: مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر الكنائس الأوروبي, والمجلس الوطني لكنائس المسيح في الولايات المتحدة, ومجلس كنائس الشرق الأوسط, وإذ تزامن ذلك مع نداء البابا بولس الثاني في الفاتيكان, فإنني لم أستطع أن أكتم شعورا بالحسرة, عبر عنه سؤال عن موقف المنظمات الإسلامية من الحرب, التي لم يسمع لها بدورها صوت يذكر, وإن سمعنا أصواتا قوية لعدد من العلماء في هذا القطر العربي أو ذاك.
لم أكن وحدي في الشعور بالحسرة, فقد قرأت مقالة لأحد الألمان من أصل عربي, هو جمال قارصلي المنتخب نائبا في برلمان ولاية شمال الراين, ردد فيها ذات السؤال, قائلا: أليس مخجلا أن تعلن الكنائس مجتمعة رفضها للحرب ضد العراق, فيما لا نسمع صوتا مماثلا للمؤسسات الإسلامية الدينية منفردة أو مجتمعة؟ وهل يمكن أن تكون تلك الكنائس أكثر حرصا علي حقن دماء الشعب العراقي( المسلم) من المراجع الإسلامية؟( القدس العربي)2/14.
وجدت في مقالة قارصلي العديد من الأسئلة والملاحظات الأخري الموجعة والمربكة, فقد كان عنوانها: متي يستطيع العرب أن يقفوا موقف الألمان؟, وهو سؤال استنكاري وليس استفهاميا, سمعته بصيغة أخري علي لسان مراسل لإحدي الفضائيات, كان يتابع المظاهرات الحاشدة التي خرجت في روما مناهضة للحرب, حين قال: هل يمكن أن يكون الطليان أكثر عروبة من العرب؟ ـ صحيح أن لكل حساباته ودوافعه الخاصة, التي ليس بينها بالضرورة التضامن مع الشعوب العربية, لكن الحاصل أن تلك المواقف انصبت في نهاية المطاف في وعاء المصلحة العربية.
لقد تساءل صاحبنا الألماني/العربي: ماذا سيكون الموقف الأمريكي لو رفضت دول الجامعة العربية بصوت واحد, الحرب لماذا لا تتبلور سياسات عربية تجاه الدول الداعمة للحرب وتلك الداعية إلي السلم؟ لماذا لا تنهال الاستثمارات العربية علي ألمانيا وفرنسا, اللتين هما أكثر عدالة تجاه القضايا العربية, بغض النظر عن انطلاقهما من مصالحهما الخاصة.
[ملحوظة: ارتفعت في الولايات المتحدة أصوات تنادي بمقاطعة النبيذ والأجبان الفرنسية, للرد علي موقف الحكومة الفرنسية.
أخيرا ذكر قارصلي, أن الكاتب الألماني الكبير جونتر جراس, الحائز علي جائزة نوبل في الآداب, امتلك الشجاعة الأدبية, وأعلن أن الرئيس الأمريكي جورج بوش شخصية مهددة للسلم العالمي, ثم تساءل عن موقف الرموز الأدبية العربية.
(3)
لقد كان علماء السلف يستغربون الأوضاع المقلوبة والمفارقات الشديدة, حتي ذهب بعضهم إلي اعتبارها مقدمة لنهاية العالم, وذهبوا إلي أنها من علامات الساعة الصغري, وقالوا إن من تلك العلامات مثلا أن تلد الأمة ربتها.. وهو ما يغريني ـ ليس بالضرورة من باب التندر ـ بأن أضيف إلي القائمة مفارقات أخري, من قبيل تلك التي تراءت لنا ونحن نتابع مشهد الحرب العبثية التي نحن بصددها, أذكر بتلك القيادات السياسية الأوروبية التي بدت من وجهة نظرنا أكثر عروبة من بعض العرب.
من تلك المفارقات, أن ثلاث دول أوروبية( ألمانيا وفرنسا وبلجيكا) رفضت في اجتماعات حلف الناتو ما اعتبرته مشاركة منها في الحرب ضد دولة عربية مثل العراق, بينما نشرت مجلة نيوزويك في عدد2/4 خريطة بينت انطلاق القوات الأمريكية في تلك الحرب من أكثر من25 قاعدة عسكرية موزعة علي أراضي الأشقاء العرب!
وإذ كان مألوفا ومفهوما أن العرب حين يصادفون أزمة في علاقاتهم مع الولايات المتحدة, فإنهم كانوا يلجأون إلي أوروبا ويستقوون بها, لكننا وجدنا في الآونة الأخيرة أن فرنسا حين اختلفت مع أمريكا في شأن يخص العرب, فأنها هي التي حاولت الاستعانة بالعرب, ودعتهم إلي مساندة الموقف المناهض للحرب ضد العراق.
وفي حين دأبت واشنطن علي إقناع الأمريكيين بأن العراق رمز الشر ومصدر الخطر, فإننا وجدناها في الأسبوع الماضي قد رفعت حالة التأهب داخل الولايات المتحدة إلي الدرجة شبه القصوي, بعدما اكتشفت فجأة أن الخطر الذي يهدد البلاد ليس مصدره العراق, وإنما أتت اشاراته من تنظيم القاعدة وعناصره الناشطة أو النائمة علي الأرض الأمريكية.
لكن ذلك; كله في كفة وموقف الولايات المتحدة من حكاية أسلحة الدمار الشامل في كفة أخري, ذلك أن المرء يكاد ينفجر من الغيظ والمرارة, حين يلاحظ أن المفتشين الدوليين يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل العراقية, في الخرائب المهجورة وأروقة المساجد وغرف النوم وحقائب الطالبات ومصانع الألبان, بينما لا يثير اهتمامهم مفاعل ديمونا الإسرائيلي القابع علي بعد أميال منهم, وفيه تتكدس مئات القنابل النووية, القادرة علي تدمير نصف الكرة الأرضية, أما الأسلحة الكيماوية والجرثومية والبيولوجية, وغير ذلك من وسائل تشويه الحياة الإنسانية وتدميرها, فبدورها تخزن في إسرائيل بعلم الجميع, وبغير حسيب أو رقيب.
يتضاعف الشعور بالغيظ والمرارة حين يقارن المرء موقف الولايات المتحدة من العراق, بموقفها من كوريا الشمالية, فالعراق نفي وجود أسلحة الدمار الشامل علي أرضه, وأكد أنه تخلص مما كان لديه منها, وفتح كل أبوابه للمفتشين الدوليين, الذين زاروا حتي الآن أكثر من600 موقع, وامتثل لكل ما طلب منه, ومع ذلك تصر الولايات المتحدة علي تركيعه وإذلاله, وتحشد الحشود العسكرية لاجتياحه واسقاط نظامه والاستيلاء علي نفطه واخضاعه لحكم عسكري من قبلها, أما كوريا الشمالية فإنها أعلنت علي الملأ ملكيتها لأسلحة الدمار الشامل, وطرردت المفتشين الدوليين, وذكرت صراحة أن لديها مدافع وصواريخ قادرة علي اصابة كاليفورنيا في الولايات المتحدة, فضلا عن القواعد الأمريكية في مختلف أنحاء العالم, مع ذلك, فإن واشنطن التي نصبت من نفسها في الحالة العراقية حارسة لأمن العالم, ومن ثم استجمعت قواها لتأديب العراق وترويضه, هي ذاتها التي تحلت بكل ما تملك من صبر وتسامح, وراحت تربت علي أكتاف الكوريين وتدللهم, متحدثة بصوت ناعم ورخيم عن حلول دبلوماسية للمسألة!
(4)
حتي يكتمل المشهد, فإن العناوين الملتبسة والمخادعة, تنضاف إلي قائمة الأسئلة والمفارقات الموجعة, لكي يقترن الألم بالحيرة والبلبلة.
فقد أصبح عنوان الشرعية الدولية أنشودة الموسم ومضغة في أفواه الجميع, وموضوعا للغيرة والحماس منقطعي النظير, وسمعنا أكثر من مرة صوت الرئيس الأمريكي وأصوات غيره من أركان فريقه, وهم يطالبون مجلس الأمن بالدفاع عن قراراته, وبأن يثبت للعالم أنه جاد فيما يصدر عنه, وأنه حريص علي الدفاع عن صدقيته وكرامته, في الوقت ذاته فإن أولئك الذين يتحدثون عن قدسية قرارات مجلس الأمن, هم الذين لم يترددوا في أن يدوسوا علي الأمم المتحدة بأحذيتهم, وهم يعلنون بين الحين والآخر أنهم سينفذون مخططاتهم سواء أصدر مجلس الأمن قراره أم لم يصدر, وهم الذين تحدوا الشرعية الدولية في معاهدة كيوتو للبيئة, وفي موضوع المحكمة الجنائية الدولية, وانتهكوا الضوابط التي تعارف عليها المجتمع الدولي المتعلقة بمبدأ استخدام القوة وحالات الدفاع الشرعي, وهم الذين استباحوا لأنفسهم قصف أي بلد بحجة الضربات الاستباقية, وإعداد قوائم بأسماء مطلوب قتلها دون محاكمة, ودون التزام بقواعد السيادة ناهيك عن القانون.
تلك الغيرة علي كرامة الأمم المتحدة, وتلك القدسية التي جري اضفاؤها علي قرارات مجلس الأمن, ظهرت فقط في الحالة العراقية, ثم ديست بالنعال في الحالة الإسرائيلية, بل إن الولايات المتحدة أعلنت عن نفسها كفيلا وضامنا لإسرائيل, أكثر من أهان المنظمة الدولية وازدري بقراراتها, حتي صدر بحقها150 قرارا من الأمم المتحدة لم تنفذ واحدا منها, ولم يقل أحد أنها لم تحترم الشرعية الدولية, ولم يحاسبها أحد علي ما مارسته من تحد وازدراء.
في المشهد أيضا لقطة فضحت مدي التلفيق والافتعال في عنوان صدام الحضارات, الذي ما برح البعض يروج له ويحتفي به ويخوفنا منه, خصوصا بعد11 سبتمبر, الذي صوره البعض بأنه من ارهاصات المواجهة بين الإسلام والغرب, ذلك أن المبشرين بالفكرة اعتبروا الغرب كتلة واحدة, ووضعوا الإسلام والمسلمين في كتلة أخري مقابلة, في حين أن ما نراه الآن قلب المعادلة إلي حد كبير, فأنظمة الساحة الإسلامية بدت هي الهادئة والساكنة, بينما المواجهة والتحدي الحقيقي قائم داخل المعسكر الغربي ذاته, بل إن المظاهرات المعادية للحرب هي في العالم المسيحي أقوي منها بكثير في العالم الإسلامي, الأمر الذي قدم برهانا قوض النظرية, وبين لكل ذي عينين أننا بصدد صراع مصالح وارادات وليس صراع حضارات, وأن فكرة ذلك الصراع الأخير تعبر عن أمنيات نفر من الغلاة علي الجانبين, بأكثر مما تعبر عن قراءة منصفة وموضوعية لخرائط الواقع وتضاريسه.
في أثناء الجدل والتراشق الدائر بين الادارة الأمريكية ألمانيا وفرنسا, استخدمت إشارات وعبارات مسكونة بمعاني الغمز واللمز, كان من بينها تورط وزير الدفاع الأمريكي في وصف البلدين بأنهما يمثلان أوروبا القديمة التي عفي عليها الزمن, لكن خبيرا أمريكيا معتبرا هو جراهام فوللر, الذي كان في السابق من كبار ضباط المخابرات المركزية ونائبا لرئيسها, نشر مقالة رد فيها كلام الوزير رامسفيلد, قائلا إن ألمانيا وفرنسا تمثلان أوروبا الجديدة في حقيقة الأمر, بينما الولايات المتحدة هي التي تمثل القوة القديمة.. لماذا؟
في رأيه أن ألمانيا وفرنسا نموذج لبلدين نجحا في تجاوز خمسة قرون من الحروب المتبادلة, والمشاركة في تكوين اتحاد أوروبي يعد نموذجا نادرا في التاريخ, باعتبار أنه قائم علي تنازل دول الاتحاد عن جزء كبير من سيادتها القومية, لإقامة مشروع حضاري كبير يستند إلي ديمقراطية حقيقية وإلي التزام بحقوق الإنسان, ويتطلع لبناء قوة جديدة في العالم ترتكز علي القبول والرغبة المشتركة, بدلا من العنف والغزو, وهذه ظواهر يصعب وصفها بأنها تنتمي إلي أوروبا القديمة.
بالمقابل ـ أضاف فوللر ـ فإن الولايات المتحدة هي التي تمثل العالم القديم, لأنها تمارس الهيمنة وتخاطب الآخرين بلغة القوة, بدلا من الرضا, وعوضا عن القانون, ومنطق القوة هذا هو الذي كان سائدا في العالم القديم, الذي مازالت أمريكا متعلقة به, وعجزت عن أن تخرج من اساره حتي الآن.
إن في الفم ماء كثيرا, ودما أيضا!