هويدي 3-12-2002
النكتة أخذت علي محمل الجد وتحولت الي فيلم مثير عنوانه الحرب النووية المقدسة. وطبقا للسيناريو المعد فإن الفيلم يبدأ بوصول المفتشين الدوليين الذين أرسلوا لتحري شأن الاسلحة الشيطانية التي يخفيها النظام في سراديبه, بزعم الإعداد ليوم ينقض فيه علي الولايات المتحدة, ولأن السيناريو معروف سلفا فالمفترض ان يبقي المفتشون هناك بعض الوقت لمشاغلة العراقيين ودغدغة أعصابهم الي ان يستكمل الامريكيون اعدادهم لإجهاض الضربة العراقية واستباقها بحيث يتغدون بنظام بغداد قبل ان يتعشي بهم. أما ما الذي سيحدث بعد ذلك فالله أعلم به لا الأمريكيون ولا العراقيون والمرجح أنه سيكون موضوعا لفيلم آخر!
(1)
إحقاقا للحق فإن النكتة أدخلت عليها بعض التعديلات الجوهرية في مقاصدها فضلا عن وقائعها. ذلك انها أطلقت علي سبيل المزاح والتندر ووصلتنا من باب الكوميديا لكن واضعي السيناريو وظفوها في اتجاه مأساوي معاكس تماما تراجيدي بامتياز. وقد وجدت ان افضل وسيلة لتباين الفرق بينها وبين الفيلم ان أروي النكتة في طبعتها الشعبية الأصلية.
يقول الراوي ان بعضا من اليمنيين اجتمعوا ذات يوم وتطرق حديثهم الي الاوضاع المتردية في البلاد, وكيف ان اغلب الناس اصبحوا عاجزين عن توفير قوت يومهم, كما ان الخدمات تدهورت والمرافق تعطلت, حتي اصبح افق المستقبل مسدودا من الجهات الأربع, وبينما هم كذلك قفز واحد من الجالسين قائلا: وجدتها. وحين سئل عما تفتقت عنه قريحته قال: الحل الوحيد ان نعلن الحرب علي أمريكا فوجم بعض الجالسين, وقال آخرون ان النكتة بايخه غير انه لم يأبه بهم وواصل أحلامه قائلا بصوت غلب عليه الجد: اسمعوني حتي النهاية ارجوكم. امريكا اذا ادركت انا جادون في اعلان الحرب عليها, فإنها ستسارع الي احتلال بلادنا وتعيين حاكم من قبلها عليها وفي هذه الحالة فإن صاحبنا هذا سيشرب المقلب وسيكون مضطرا الي ادارة البلد كما ستصبح امريكا مضطرة لأن تقوم بنا, وبذلك تنفرج الأزمة حيث ستتولي الادارة الجديدة حل مشكلات الكساد والخدمات وغير ذلك, واذ انتهي المتحدث من عرض فكرته فإن الجميع هللوا مشيدين بألمحيته واستلقوا علي اقفيتهم من شدة الضحك( للعلم: لا أعرف بالضبط لماذا وقع الاختيار علي اليمنيين دون غيرهم في النكتة ولكني ارجح انهم وضعوا في هذا الموقف لأنهم في مقدمة ظرفاء العرب)
سواء كان الامر مجرد توارد خواطر او غير ذلك فالشاهد ان واضعي سيناريو ضرب العراق استخدموا ذريعة ان بغداد تهدد الامن القومي الامريكي وقد تستخدم اسلحتها الشيطانية في ضرب مصالحها الحيوية وربما تشن هجوما ضدها. كما انهم تحدثوا ايضا عن تعيين حاكم عسكري امريكي للعراق. لادارة شئونه بعد تحريره! والفكرتان مقتبستان من النكتة التي ما تصور احد يوما انها ستتحول الي حقيقة سياسية تحرك قرارات دولة عظمي وتؤثر علي مجري الأحداث في منطقة الشرق الأوسط بأسرها خصوصا بعد تطوييها في السيناريو المستجد لأن المحتل الأمريكي في النكتة هو الذي سيتولي الانفاق علي الشعب اليمني بينما هو في السيناريو الأخير سيأخذ من نفط العراق لمصلحة الشعب الأمريكي.
(2)
وحدها الادارة الامريكية التي تتحدث عن التهديد العراقي لأمن الولايات المتحدة والرئيس بوش هو الذي اطلق عبارة الحرب النووية المقدسة التي اعتبرتها عنوانا للفيلم الجاري تنفيذه. أما الكتابات التي لم تصدق حكاية التهديد العراقي لامريكا واعتبرتها مجرد نكتة تنتمي الي عالم الخيال والفنتازيا فهي بلا حصر في داخل الولايات المتحدة واوروبا. ووحده الشعب الامريكي الذي صدق الرئيس بوش وصفق له حين تحدث عن خطر التهديد العراقي, ولا غرابة في ذلك فحين يظن أغلبية الأمريكيين أن المملكة المتحدة موجودة في العالم العربي كما ذكر وزير السياحة البريطاني وحين يعجز83% من شبابهم عن العثور علي افغانستان علي خريطة العالم رغم ان آلافا من جنودهم يعسكرون ويحاربون هناك, كما ذكرت دراسة نشرتها مجلة ناشيونال جيوجرافي حين يحدث ذلك فلا غرابة ان يصدق الناس هناك ان العراق تشكل تهديدا لأمن الولايات المتحدة.
أما لماذا صدق الأمريكيون حكاية أن العراق المفترس خطر علي بلادهم فقد كان تفسيري ان السبب الرئيسي هو بساطة الناس وسذاجتهم ومحدودية معرفتهم بالعالم الخارجي. غير ان صحيفة نيويورك تايمز نشرت في2002/7/9 مقالة قصيرة اثارت انتباهي تقدم لنا تفسيرا اضافيا للمسألة اليك حكايتها.
ذكرت المقالة ان سكان نيويورك اصبحوا اكثر تعلقا باقتناء الحيوانات المفترسة وتربيتها كالسمك المعروف باسم رد ديفيل( الشيطان الأحمر) أو جاك ديمبس الذي يمزق ضحاياه وكالأفاعي التي تلتهم فريستها, وهو ما يعني ان الناس اصبحوا يفضلون تلك الحيونات المفترسة البشعة علي الحيونات الاخري الوديعة والجميلة. الأمر الذي استنتج منه كاتب المقالة ان النزعة العدائية اصبحت منتشرة بين سكان المدن, وبقدر ما يزداد حجم المدينة وازدحامها بقدر ما يزداد ذلك النزوع العدائي وهو ما استثمره اصحاب محلات بيع الحيونات حتي اصبحت واجهاتها تعلن توافر انواع جيدة من السمك اللئيم!
تحدثت المقالة عن تراجع تلك النزعة في المدن الصغيرة والضواحي حيث يفضل السكان اقتناء الحيوانات الوديعة علي المفترسة والشرسة في هذا الصدد لاحظ كاتبها ان ثمة اختلافا بين سكان الشقق الصغيرة في الاحياء المزدحمة وبين من يسكنون في بنايات مستقلة. فالأولون يحتاجون الي التعبير عن المشاعر العدائية اكثر من الآخرين. كذلك تزاد تلك النزعة العدائية لدي الموظفين العاجزين الذين لا يتمكنون من مجابهة رؤسائهم الذين يمارسون الظلم او القهر بحقهم.
في سياق المقالة ذكر احد المولعين بتربية الأسماك المفترسة انه يجب ان يراقب كيف تمزق السمكة القوية السمكة الضعيفة. ولإشباع تلك الرغبة فإن اصحاب المحلات التي تبيع تلك الاسماك يتفننون في تدريبها بحيث تصبح اكثر شراسة ودموية. إذ بقدر ما تسيل الدماء وتنهش في لحم الاسماك الضعيفة بقدر ما يزداد الطلب عليها.
في التعليق علي الظاهرة تقول المقالة انه ربما كان سكان مدينة نيويورك يعانون من التأزم والتوتر في نهاية النهار لذلك فإنهم يريدون ان يشاهدوا شيئا يتمزق. ويستخلص كاتبها ذلك الاستنتاج من قول احد باعة الحيوانات المفترسة ان مدينة نيويورك اصبحت مكانا عدائيا والكبار فيه يسحقون الصغار وعليك ان تحارب لكي تعيش فيها لكي تحصل علي ما تريد.
تري هل يصبح ذلك النزوع العدائي لتفسير تاييد الجمهور الامريكي لمحاولة الرئيس بوش افتراس نظام بغداد ومحاولة شارون افتراس السلطة والمقاومة الفلسطينية!
(3)
لست اشك في ان المواطن العربي العادي يتعامل مع التهديد العراقي للولايات المتحدة باعتباره نكتة وان كل ما يصدر عن الادارة الامريكية في هذا الصدد لا يخرج عن كونه استغفالا للشعب الأمريكي وللرأي العام الغربي. وهو استغفال استخدمت في الترويج له شركات العلاقات العامة. التي تولت تضليل الناس وايهامهم بان الخطر علي الابواب وان البيت الابيض لو سكت او صبر اكثر مما سكت وصبر في السابق فإن العراق سوف يوجه اسلحته الشيطانية الذرية والكيماوية والبيولوجية صوب تلك الواحة الوديعة المسماة بالولايات المتحدة التي هي قاطرة الحضارة والتسامح والديمقراطية في العالم!
الولايات المتحدة التي تعرف بئر العراق وغطاه كما يقال وأمراء الحرب الأمريكيون هم اول من يدرك ان ما تسوقه شركات العلاقات العامة بشأن المارد العراقي المرعب وخطره علي البشرية بأسرها تبريرا للضربة العسكرية ليس سوي حزمة من الأكاذيب وأن حكاية المفتشين الدوليين ليست سوي غطاء تمهيدي لتوجيه الضربة التي لواشنطون وتل ابيب فيها مآرب اخري فالأولي تتلهف علي نفط العراق, وتريد ان توجه رسائل تحذيرية عدة الي ايران وغيرها من الدول الاسيوية والثانية تتلهف علي تدمير مصادر العافية ومظانها في العالم العربي وتتطلع لأن تكون لها حصة في نفط العراق.
الولايات المتحدة وهي تستثير المخاوف من اسلحة الدمار الشامل العراقية وتسوق للخطر الذي تمثله تراهن علي ضعف الذاكرة العامة متجاهلة ومتكتمة حقيقة ان واشنطن ظلت طيلة الثمانينات تحتفظ بعلاقات ايجابية مع بغداد. وهي تعلم جيدا ان النظام العراقي يستخدم الغاز السام في حربه ضد ايران وفي قمعه للأكراد الذين أبيد منهم خمسة الاف شخص بذلك الغاز في حلبجة وهو السلاح الكيماوي الذي تريد واشنطون الان اسقاط نظام بغداد بسببه وذهب المفتشون الدوليون لاعدام المخزون منه والتخلص من مصادره.
المفارقة المثيرة في هذاالصدد ان الرئيس دونالد ريجان كان قد اوفد مبعوثا خاصا الي بغداد في ديسمبر عام83 والعراق يمطر الجيش الايراني بالغاز السام لكي يتولي اعادة افتتاح السفارة الامريكية في بغداد من اجل تنشيط العلاقات بين البلدين. اما ذلك المبعوث فلم يكن سوي السيد دونالد رامسفيلد الذي يشغل الان منصب وزير الدفاع ويعد احد المحرضين الرئيسيين علي الاطاحة بالنظام العراقي الشرير الذي كان واسطة خير معه قبل عشرين عاما!
تكتمل حلقات الاثارة حين نعلم ان الرئيس بوش الاب قدم الي حكومة الرئيس صدام حسين مبلغ500 مليون دولار في عام1988 كدعم من واشنطون لكي يشتري بها العراق المنتجات الزراعية الامريكية. وهذه الهدية سلمت الي حكومة بغداد في اعقاب ابادة العراق الاكراد في حلبجة بالغاز السام. وهي الجريمة التي يندد بها الرئيس بوش الابن الآن وهو يبرر مهاجمة العراق متهما صدام حسين بأنه استخدم الغاز ضد شعبه
الأعجب مما سبق ان بوش الاب ضاعف الدعم للرئيس صدام حسين بعد نجاح عملية الابادة حتي اصبح بليون دولار. وليس ذلك فحسب وانما امد نظامه بالبذور الجرثومية المستخدمة في انتاج مادة الانثراكس وطائرات الهليكوبتر والمواد ثنائية الاستخدام السيئة التي تستخدم في صنع الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. وهي المعلومة التي أوردها الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقالة نشرتها صحيفة الاندبندنت في2002/10/9 كان عنوانها ما الذي يريد منا رئيس الولايات المتحدة ان ننساه!
(4)
ليست جديدة لعبة التلويح بالخطر الذي يستنفر ضده ومن اجله الناس للتغطية علي اهداف اخري لا علاقة لها بالخطر المفترض او الموهوم. حيث يبدو انه لا فرق في استخدام اساليب الكذب والتضليل والخداع بين دول العالم الأول او الثالث. فالتاريخ الامريكي البعيد يسجل120 اتفاقا وقعت لمسالمة الهنود الحمر ومصالحتهم ولكنها لم تكن سوي مسلسل من الحيل انتهي بإبادة اغلبيتهم الساحقة وحصار من تبقي منهم في معسكرات ومعازل اقرب الي حظائر الحيوانات.
لكننا لا نستطيع ان نغفل في التاريخ الأمريكي القريب أكذوبتين كبيرتين اخترعتهما الادارة الامريكية للتغطية علي أهداف ومقاصد اخري الأكذوبة الأولي كانت في شهر اغسطس من عام1964. حين ادعي الرئيس جونسون ان مدمرة امريكية في خليج تونكين تعرضت لهجوم فيتنامي شمالي الأمر الذي اعتبره تهديدا خطير للزمن القومي للولايات المتحدة, ولمواجهة هذا التهديد استصدر الرئيس جونسون من الكونجرس قرارا وافقت عليه الأغلبية عرف باسم الخليج المذكور. وبمقتضي القرار اعطي الرئيس صلاحية ارسال الاف من جنود القوات البرية الي فيتنام لصد الخطر المزعوم. وكانت تلك بداية تدفق القوات واستمرار تزايدها حتي بلغ عددها خلال بضعة اشهر اكثر من نصف مليون جندي غرقوا في مستنقع الحرب الفيتنامية علي النحو الذي يعرفه الجميع. غير انه تبين فيما بعد ان قصة الاعتداء علي المدمرة الامريكية في خليج تونكين لم تكن سوي أكذوبة سياسية. وهو ما دفع الكونجرس بعد اكتشافها الي اصدار قانون’ سلطات الحرب’ لتقييد حرية الرئيس في اي تحرك عسكري الا بعد التشاور المسبق مع الكونجرس.
الأكذوبة الثانية اخترعها الثنائي فورد ـ كسينجر في شهر مايو عام1975 وعرفت باسم حادثة سفينة الشحن مايا جويز التي كانت الحكومة الثورية الكمبودية قد احتجزتها في مياهها الاقليمية. وقد وجدت ادارة الرئيس فورد في ذلك الاحتجاز فرصتها الذهبية لكي ترد الاعتبار للولايات المتحدة بعد مهانة هزيمتها في فيتنام التي مرغت كرامتها في الوحل. فماذا فعلت
ادعت الادارة الامريكية ان أمن البلاد اصبح مهددا واعربت عن غضبها الشديد ازاء ما اعتبرته عدوانا علي المصالح الحيوية الامريكية. ولكي ترد العدوان المفترض فإنها شمرت عن سواعدها واستعرضت عضلاتها وانهالت علي الكمبوديين قصفا وضربا بقسوة مبالغ فيها كثيرا وكأنما أرادت ان تبعث الي الجميع برسالة تؤكد لهم ان القوة الامريكية ما زالت تحتفظ بجبروتها( هل يذكرك ذلك بما حدث في افغانستان بعد الهجوم علي مركز التجارة العالمي)
وهي تنتقم وتثأر لكرامتها سيرت القيادة الامريكية قواتها البرية والبحرية والجوية ضد جزيرة صغيرة تعرف باسم تانج لا تكاد تري علي خريطة بحر سيام وانقضت عليها حتي دمرتها. ولاحظت احدي الصحف اليابانية المفارقة فسخرت من العملية كتبت قائلة ان امريكا كانت كمن يريد اصطياد دجاجة بمدفع- ليس ذلك فحسب وانما انتابت القوات الامريكية وهي تنتقم من الكمبوديين ما يشبه اللوثة فقامت بإنزال بعض جنودها علي جزيرة غير تلك التي احتجزت عندها سفينة الشحن وأغارت علي بعض القوارب المتحركة التي كانت تابعة للقوات الامريكية( حدث ذلك ايضا في افغانستان مع قواتهم البرية) واستمرت في الضرب العنيف حتي بعد عودة السفينة الامريكية وبحارتها بطريق الصدفة الي قواعدهم سالمين!
لقد كان استعرض القوة العسكرية الامريكية واسترداد الهيبة المضيعة هو الهدف الحقيقي للعملية ولم يكن فورد ووزير خارجيته كسينجر مشغولين كثيرا بإنقاذ السفينة المحتجزة ولا طاقمها. وهو ما عبر عنه كسينجر لاحقا في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث الأزمة حين قال إن انقاذ السفينة كان امرا ثانويا
(5)
للسينما الأمريكية تاريخ عريق في اصطناع العفاريت والترويج لأنماط الكائنات الشريرة التي كان الهندي الأحمر رمزا لها يوما ثم ظهر بعدها الصيني الغامض وزعيم العصابة الأسود والكائنات الفضائية التي تهبط من الفضاء علي الأرض لتشيع فيها الخراب.. الخ. وهذا الذي فعلوه في السينما في هوليوود تلبسه اهل السياسة في واشنطن. وفيلم الحرب العالمية ضد الارهاب نموذج لما انتجه اولئك الساسة.. وفيلم الحرب النووية المقدسة الذي يجري عرضه في العراق نموذج آخر وما خفي ربما كان اعظم.
ما تنتجه هوليوود في هذا السياق خطر لا ريب لكن ما تنتجه واشنطن اخطر لان مشاهدي افلامها اليوم قد يكونون ضحاياها غدا أو بعد غد
النكتة أخذت علي محمل الجد وتحولت الي فيلم مثير عنوانه الحرب النووية المقدسة. وطبقا للسيناريو المعد فإن الفيلم يبدأ بوصول المفتشين الدوليين الذين أرسلوا لتحري شأن الاسلحة الشيطانية التي يخفيها النظام في سراديبه, بزعم الإعداد ليوم ينقض فيه علي الولايات المتحدة, ولأن السيناريو معروف سلفا فالمفترض ان يبقي المفتشون هناك بعض الوقت لمشاغلة العراقيين ودغدغة أعصابهم الي ان يستكمل الامريكيون اعدادهم لإجهاض الضربة العراقية واستباقها بحيث يتغدون بنظام بغداد قبل ان يتعشي بهم. أما ما الذي سيحدث بعد ذلك فالله أعلم به لا الأمريكيون ولا العراقيون والمرجح أنه سيكون موضوعا لفيلم آخر!
(1)
إحقاقا للحق فإن النكتة أدخلت عليها بعض التعديلات الجوهرية في مقاصدها فضلا عن وقائعها. ذلك انها أطلقت علي سبيل المزاح والتندر ووصلتنا من باب الكوميديا لكن واضعي السيناريو وظفوها في اتجاه مأساوي معاكس تماما تراجيدي بامتياز. وقد وجدت ان افضل وسيلة لتباين الفرق بينها وبين الفيلم ان أروي النكتة في طبعتها الشعبية الأصلية.
يقول الراوي ان بعضا من اليمنيين اجتمعوا ذات يوم وتطرق حديثهم الي الاوضاع المتردية في البلاد, وكيف ان اغلب الناس اصبحوا عاجزين عن توفير قوت يومهم, كما ان الخدمات تدهورت والمرافق تعطلت, حتي اصبح افق المستقبل مسدودا من الجهات الأربع, وبينما هم كذلك قفز واحد من الجالسين قائلا: وجدتها. وحين سئل عما تفتقت عنه قريحته قال: الحل الوحيد ان نعلن الحرب علي أمريكا فوجم بعض الجالسين, وقال آخرون ان النكتة بايخه غير انه لم يأبه بهم وواصل أحلامه قائلا بصوت غلب عليه الجد: اسمعوني حتي النهاية ارجوكم. امريكا اذا ادركت انا جادون في اعلان الحرب عليها, فإنها ستسارع الي احتلال بلادنا وتعيين حاكم من قبلها عليها وفي هذه الحالة فإن صاحبنا هذا سيشرب المقلب وسيكون مضطرا الي ادارة البلد كما ستصبح امريكا مضطرة لأن تقوم بنا, وبذلك تنفرج الأزمة حيث ستتولي الادارة الجديدة حل مشكلات الكساد والخدمات وغير ذلك, واذ انتهي المتحدث من عرض فكرته فإن الجميع هللوا مشيدين بألمحيته واستلقوا علي اقفيتهم من شدة الضحك( للعلم: لا أعرف بالضبط لماذا وقع الاختيار علي اليمنيين دون غيرهم في النكتة ولكني ارجح انهم وضعوا في هذا الموقف لأنهم في مقدمة ظرفاء العرب)
سواء كان الامر مجرد توارد خواطر او غير ذلك فالشاهد ان واضعي سيناريو ضرب العراق استخدموا ذريعة ان بغداد تهدد الامن القومي الامريكي وقد تستخدم اسلحتها الشيطانية في ضرب مصالحها الحيوية وربما تشن هجوما ضدها. كما انهم تحدثوا ايضا عن تعيين حاكم عسكري امريكي للعراق. لادارة شئونه بعد تحريره! والفكرتان مقتبستان من النكتة التي ما تصور احد يوما انها ستتحول الي حقيقة سياسية تحرك قرارات دولة عظمي وتؤثر علي مجري الأحداث في منطقة الشرق الأوسط بأسرها خصوصا بعد تطوييها في السيناريو المستجد لأن المحتل الأمريكي في النكتة هو الذي سيتولي الانفاق علي الشعب اليمني بينما هو في السيناريو الأخير سيأخذ من نفط العراق لمصلحة الشعب الأمريكي.
(2)
وحدها الادارة الامريكية التي تتحدث عن التهديد العراقي لأمن الولايات المتحدة والرئيس بوش هو الذي اطلق عبارة الحرب النووية المقدسة التي اعتبرتها عنوانا للفيلم الجاري تنفيذه. أما الكتابات التي لم تصدق حكاية التهديد العراقي لامريكا واعتبرتها مجرد نكتة تنتمي الي عالم الخيال والفنتازيا فهي بلا حصر في داخل الولايات المتحدة واوروبا. ووحده الشعب الامريكي الذي صدق الرئيس بوش وصفق له حين تحدث عن خطر التهديد العراقي, ولا غرابة في ذلك فحين يظن أغلبية الأمريكيين أن المملكة المتحدة موجودة في العالم العربي كما ذكر وزير السياحة البريطاني وحين يعجز83% من شبابهم عن العثور علي افغانستان علي خريطة العالم رغم ان آلافا من جنودهم يعسكرون ويحاربون هناك, كما ذكرت دراسة نشرتها مجلة ناشيونال جيوجرافي حين يحدث ذلك فلا غرابة ان يصدق الناس هناك ان العراق تشكل تهديدا لأمن الولايات المتحدة.
أما لماذا صدق الأمريكيون حكاية أن العراق المفترس خطر علي بلادهم فقد كان تفسيري ان السبب الرئيسي هو بساطة الناس وسذاجتهم ومحدودية معرفتهم بالعالم الخارجي. غير ان صحيفة نيويورك تايمز نشرت في2002/7/9 مقالة قصيرة اثارت انتباهي تقدم لنا تفسيرا اضافيا للمسألة اليك حكايتها.
ذكرت المقالة ان سكان نيويورك اصبحوا اكثر تعلقا باقتناء الحيوانات المفترسة وتربيتها كالسمك المعروف باسم رد ديفيل( الشيطان الأحمر) أو جاك ديمبس الذي يمزق ضحاياه وكالأفاعي التي تلتهم فريستها, وهو ما يعني ان الناس اصبحوا يفضلون تلك الحيونات المفترسة البشعة علي الحيونات الاخري الوديعة والجميلة. الأمر الذي استنتج منه كاتب المقالة ان النزعة العدائية اصبحت منتشرة بين سكان المدن, وبقدر ما يزداد حجم المدينة وازدحامها بقدر ما يزداد ذلك النزوع العدائي وهو ما استثمره اصحاب محلات بيع الحيونات حتي اصبحت واجهاتها تعلن توافر انواع جيدة من السمك اللئيم!
تحدثت المقالة عن تراجع تلك النزعة في المدن الصغيرة والضواحي حيث يفضل السكان اقتناء الحيوانات الوديعة علي المفترسة والشرسة في هذا الصدد لاحظ كاتبها ان ثمة اختلافا بين سكان الشقق الصغيرة في الاحياء المزدحمة وبين من يسكنون في بنايات مستقلة. فالأولون يحتاجون الي التعبير عن المشاعر العدائية اكثر من الآخرين. كذلك تزاد تلك النزعة العدائية لدي الموظفين العاجزين الذين لا يتمكنون من مجابهة رؤسائهم الذين يمارسون الظلم او القهر بحقهم.
في سياق المقالة ذكر احد المولعين بتربية الأسماك المفترسة انه يجب ان يراقب كيف تمزق السمكة القوية السمكة الضعيفة. ولإشباع تلك الرغبة فإن اصحاب المحلات التي تبيع تلك الاسماك يتفننون في تدريبها بحيث تصبح اكثر شراسة ودموية. إذ بقدر ما تسيل الدماء وتنهش في لحم الاسماك الضعيفة بقدر ما يزداد الطلب عليها.
في التعليق علي الظاهرة تقول المقالة انه ربما كان سكان مدينة نيويورك يعانون من التأزم والتوتر في نهاية النهار لذلك فإنهم يريدون ان يشاهدوا شيئا يتمزق. ويستخلص كاتبها ذلك الاستنتاج من قول احد باعة الحيوانات المفترسة ان مدينة نيويورك اصبحت مكانا عدائيا والكبار فيه يسحقون الصغار وعليك ان تحارب لكي تعيش فيها لكي تحصل علي ما تريد.
تري هل يصبح ذلك النزوع العدائي لتفسير تاييد الجمهور الامريكي لمحاولة الرئيس بوش افتراس نظام بغداد ومحاولة شارون افتراس السلطة والمقاومة الفلسطينية!
(3)
لست اشك في ان المواطن العربي العادي يتعامل مع التهديد العراقي للولايات المتحدة باعتباره نكتة وان كل ما يصدر عن الادارة الامريكية في هذا الصدد لا يخرج عن كونه استغفالا للشعب الأمريكي وللرأي العام الغربي. وهو استغفال استخدمت في الترويج له شركات العلاقات العامة. التي تولت تضليل الناس وايهامهم بان الخطر علي الابواب وان البيت الابيض لو سكت او صبر اكثر مما سكت وصبر في السابق فإن العراق سوف يوجه اسلحته الشيطانية الذرية والكيماوية والبيولوجية صوب تلك الواحة الوديعة المسماة بالولايات المتحدة التي هي قاطرة الحضارة والتسامح والديمقراطية في العالم!
الولايات المتحدة التي تعرف بئر العراق وغطاه كما يقال وأمراء الحرب الأمريكيون هم اول من يدرك ان ما تسوقه شركات العلاقات العامة بشأن المارد العراقي المرعب وخطره علي البشرية بأسرها تبريرا للضربة العسكرية ليس سوي حزمة من الأكاذيب وأن حكاية المفتشين الدوليين ليست سوي غطاء تمهيدي لتوجيه الضربة التي لواشنطون وتل ابيب فيها مآرب اخري فالأولي تتلهف علي نفط العراق, وتريد ان توجه رسائل تحذيرية عدة الي ايران وغيرها من الدول الاسيوية والثانية تتلهف علي تدمير مصادر العافية ومظانها في العالم العربي وتتطلع لأن تكون لها حصة في نفط العراق.
الولايات المتحدة وهي تستثير المخاوف من اسلحة الدمار الشامل العراقية وتسوق للخطر الذي تمثله تراهن علي ضعف الذاكرة العامة متجاهلة ومتكتمة حقيقة ان واشنطن ظلت طيلة الثمانينات تحتفظ بعلاقات ايجابية مع بغداد. وهي تعلم جيدا ان النظام العراقي يستخدم الغاز السام في حربه ضد ايران وفي قمعه للأكراد الذين أبيد منهم خمسة الاف شخص بذلك الغاز في حلبجة وهو السلاح الكيماوي الذي تريد واشنطون الان اسقاط نظام بغداد بسببه وذهب المفتشون الدوليون لاعدام المخزون منه والتخلص من مصادره.
المفارقة المثيرة في هذاالصدد ان الرئيس دونالد ريجان كان قد اوفد مبعوثا خاصا الي بغداد في ديسمبر عام83 والعراق يمطر الجيش الايراني بالغاز السام لكي يتولي اعادة افتتاح السفارة الامريكية في بغداد من اجل تنشيط العلاقات بين البلدين. اما ذلك المبعوث فلم يكن سوي السيد دونالد رامسفيلد الذي يشغل الان منصب وزير الدفاع ويعد احد المحرضين الرئيسيين علي الاطاحة بالنظام العراقي الشرير الذي كان واسطة خير معه قبل عشرين عاما!
تكتمل حلقات الاثارة حين نعلم ان الرئيس بوش الاب قدم الي حكومة الرئيس صدام حسين مبلغ500 مليون دولار في عام1988 كدعم من واشنطون لكي يشتري بها العراق المنتجات الزراعية الامريكية. وهذه الهدية سلمت الي حكومة بغداد في اعقاب ابادة العراق الاكراد في حلبجة بالغاز السام. وهي الجريمة التي يندد بها الرئيس بوش الابن الآن وهو يبرر مهاجمة العراق متهما صدام حسين بأنه استخدم الغاز ضد شعبه
الأعجب مما سبق ان بوش الاب ضاعف الدعم للرئيس صدام حسين بعد نجاح عملية الابادة حتي اصبح بليون دولار. وليس ذلك فحسب وانما امد نظامه بالبذور الجرثومية المستخدمة في انتاج مادة الانثراكس وطائرات الهليكوبتر والمواد ثنائية الاستخدام السيئة التي تستخدم في صنع الاسلحة الكيماوية والبيولوجية. وهي المعلومة التي أوردها الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقالة نشرتها صحيفة الاندبندنت في2002/10/9 كان عنوانها ما الذي يريد منا رئيس الولايات المتحدة ان ننساه!
(4)
ليست جديدة لعبة التلويح بالخطر الذي يستنفر ضده ومن اجله الناس للتغطية علي اهداف اخري لا علاقة لها بالخطر المفترض او الموهوم. حيث يبدو انه لا فرق في استخدام اساليب الكذب والتضليل والخداع بين دول العالم الأول او الثالث. فالتاريخ الامريكي البعيد يسجل120 اتفاقا وقعت لمسالمة الهنود الحمر ومصالحتهم ولكنها لم تكن سوي مسلسل من الحيل انتهي بإبادة اغلبيتهم الساحقة وحصار من تبقي منهم في معسكرات ومعازل اقرب الي حظائر الحيوانات.
لكننا لا نستطيع ان نغفل في التاريخ الأمريكي القريب أكذوبتين كبيرتين اخترعتهما الادارة الامريكية للتغطية علي أهداف ومقاصد اخري الأكذوبة الأولي كانت في شهر اغسطس من عام1964. حين ادعي الرئيس جونسون ان مدمرة امريكية في خليج تونكين تعرضت لهجوم فيتنامي شمالي الأمر الذي اعتبره تهديدا خطير للزمن القومي للولايات المتحدة, ولمواجهة هذا التهديد استصدر الرئيس جونسون من الكونجرس قرارا وافقت عليه الأغلبية عرف باسم الخليج المذكور. وبمقتضي القرار اعطي الرئيس صلاحية ارسال الاف من جنود القوات البرية الي فيتنام لصد الخطر المزعوم. وكانت تلك بداية تدفق القوات واستمرار تزايدها حتي بلغ عددها خلال بضعة اشهر اكثر من نصف مليون جندي غرقوا في مستنقع الحرب الفيتنامية علي النحو الذي يعرفه الجميع. غير انه تبين فيما بعد ان قصة الاعتداء علي المدمرة الامريكية في خليج تونكين لم تكن سوي أكذوبة سياسية. وهو ما دفع الكونجرس بعد اكتشافها الي اصدار قانون’ سلطات الحرب’ لتقييد حرية الرئيس في اي تحرك عسكري الا بعد التشاور المسبق مع الكونجرس.
الأكذوبة الثانية اخترعها الثنائي فورد ـ كسينجر في شهر مايو عام1975 وعرفت باسم حادثة سفينة الشحن مايا جويز التي كانت الحكومة الثورية الكمبودية قد احتجزتها في مياهها الاقليمية. وقد وجدت ادارة الرئيس فورد في ذلك الاحتجاز فرصتها الذهبية لكي ترد الاعتبار للولايات المتحدة بعد مهانة هزيمتها في فيتنام التي مرغت كرامتها في الوحل. فماذا فعلت
ادعت الادارة الامريكية ان أمن البلاد اصبح مهددا واعربت عن غضبها الشديد ازاء ما اعتبرته عدوانا علي المصالح الحيوية الامريكية. ولكي ترد العدوان المفترض فإنها شمرت عن سواعدها واستعرضت عضلاتها وانهالت علي الكمبوديين قصفا وضربا بقسوة مبالغ فيها كثيرا وكأنما أرادت ان تبعث الي الجميع برسالة تؤكد لهم ان القوة الامريكية ما زالت تحتفظ بجبروتها( هل يذكرك ذلك بما حدث في افغانستان بعد الهجوم علي مركز التجارة العالمي)
وهي تنتقم وتثأر لكرامتها سيرت القيادة الامريكية قواتها البرية والبحرية والجوية ضد جزيرة صغيرة تعرف باسم تانج لا تكاد تري علي خريطة بحر سيام وانقضت عليها حتي دمرتها. ولاحظت احدي الصحف اليابانية المفارقة فسخرت من العملية كتبت قائلة ان امريكا كانت كمن يريد اصطياد دجاجة بمدفع- ليس ذلك فحسب وانما انتابت القوات الامريكية وهي تنتقم من الكمبوديين ما يشبه اللوثة فقامت بإنزال بعض جنودها علي جزيرة غير تلك التي احتجزت عندها سفينة الشحن وأغارت علي بعض القوارب المتحركة التي كانت تابعة للقوات الامريكية( حدث ذلك ايضا في افغانستان مع قواتهم البرية) واستمرت في الضرب العنيف حتي بعد عودة السفينة الامريكية وبحارتها بطريق الصدفة الي قواعدهم سالمين!
لقد كان استعرض القوة العسكرية الامريكية واسترداد الهيبة المضيعة هو الهدف الحقيقي للعملية ولم يكن فورد ووزير خارجيته كسينجر مشغولين كثيرا بإنقاذ السفينة المحتجزة ولا طاقمها. وهو ما عبر عنه كسينجر لاحقا في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث الأزمة حين قال إن انقاذ السفينة كان امرا ثانويا
(5)
للسينما الأمريكية تاريخ عريق في اصطناع العفاريت والترويج لأنماط الكائنات الشريرة التي كان الهندي الأحمر رمزا لها يوما ثم ظهر بعدها الصيني الغامض وزعيم العصابة الأسود والكائنات الفضائية التي تهبط من الفضاء علي الأرض لتشيع فيها الخراب.. الخ. وهذا الذي فعلوه في السينما في هوليوود تلبسه اهل السياسة في واشنطن. وفيلم الحرب العالمية ضد الارهاب نموذج لما انتجه اولئك الساسة.. وفيلم الحرب النووية المقدسة الذي يجري عرضه في العراق نموذج آخر وما خفي ربما كان اعظم.
ما تنتجه هوليوود في هذا السياق خطر لا ريب لكن ما تنتجه واشنطن اخطر لان مشاهدي افلامها اليوم قد يكونون ضحاياها غدا أو بعد غد