هويدي 19-11-2002
فرجت أيها السادة, فقد صار مستقبلنا الديمقراطي أكيدا ومضمونا. لم لا وقد دعيت خمسون امرأة عربية ينتمين إلي14 قطرا إلي الولايات المتحدة للتدريب علي الديمقراطية, ضمن برنامج مكثف اعد خصيصا لاصلاح حال العرب المعوج. وهو مايطمئننا إلي أن السيدات العربيات سيعدن إلي بلادنا وقد تحولت كل واحدة منهن إلي طاقة ديمقراطية معتبرة ـ مستوردة من بلادها وليست محلية الصنع من ذلك النوع الذي تعرف ـ وبذلك سنضمن أن تنجب كل واحدة منهن عددا لابأس به من الديمقراطيين الصغار, وهؤلاء اذا ما كبروا وتناسلوا, فإننا نستطيع أن نثق في أن شمس الديمقراطية سوف تسطع علي العالم العربي بأسره يوما ما, بحيث لايكاد يطل علينا القرن الثاني والعشرون إلا وقد تلبست الأمة العربية من المحيط إلي الخليج حالة ديمقراطية من النوع المستورد المتين, الذي لاتشوبه شائبة!
(1)
هذا الكلام ليس من عندي. فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية علي صدر صفحتها الأولي خبرا كبيرا زفت إلينا فيه البشارة. ذكرت فيه أن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول سوف يعقد في يوم النشر(11/6) اجتماعا مغلقا مع العربيات الخمسين, اللاتي دعين إلي واشنطن في إطار برنامج الاصلاح العربي الذي أعدته وزارة الخارجية, وتشرف علي تنفيذه اليزابيث تشيني( ابنة نائب الرئيس الأمريكي). وهذا البرنامج الذي يأتي في إطار الجهود التي تبذلها الولايات التحدة لتعزيز ونشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط, ومساعدة دول المنطقة في خططها التنموية, في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية. وهو البرنامج الذي وضعته الادارة الأمريكية عقب11 سبتمبر, ورصدت لتنفيذه مبلغ25 مليون دولار.
حين نشر الخبر في11/6, كانت النساء العربيات قد امضين ثلاثة أسابيع في الولايات المتحدة. وقد توزعن علي مجموعات عمل صغيرة, وجري اطلاعهن علي الدور الذي تقوم به المرأة الأمريكية في عملية الانتخابات, في الترشيح وتنظيم الحملات الانتخابية وإدارتها. كما عملن بعض الوقت مع المعهد الديمقراطي الوطني, ونظيره المعهد الجمهوري الذي يشرف علي الحملات الانتخابية. في الوقت ذاته نظمت لهن لقاءات مع بعض كبار المسئولين ـ والمسئولات ـ في الادارة الأمريكية.أما النساء العربيات اللاتي اشتركن في هذه الدورة التدريبية فقد توزعن علي العالم العربي علي النحو التالي:4 من الجزائر ـ5 من مصر ـ واحدة من الأردن ـ4 من الكويت ـ5 من لبنان ـ5 من المغرب ـ3 من سوريا ـ3 من الضفة الغربية وواحدة من غزة ـ سيدتان من سلطنة عمان ـ3 من الامارات ـ4 من اليمن ـ سيدتان من السعودية ـ واحدة من قطر ـ3 من تونس.
(2)
رغم أن الخبر صحيح إلا أننا لانستطيع أن نأخذه علي محمل الجد. ولذلك فلم يكن هناك بد من صياغته علي النحو الذي رأيت. مع ذلك فلابد أن يلفت أنظارنا فيه ـ فضلا عن فكرته ومضمونه ـ تلك الاشارة الي أن العملية تمت في أطار برنامج الاصلاح العربيالذي أعدته وزارة الخارجية الأمريكية. ومايهمني في الأمر هو ذلك البرنامج تحديدا, الذي هو حلقة في سلسلة من البرامج والمشروعات الأخري التي تصب في وعاءين أساسيين لم يخف الأمريكيون أمرهما, هما: إعادة تأهيل العالم العربي, وتحسين صورة الولايات التحدة لدي عموم العرب والمسلمين. والسر المعلن المحرك لتلك البرامج والمشروعات هو أنها تستهدف في النهاية التدخل في تشكيل العقل العربي, لكي يفكر بطريقة مختلفة ويري الأمور بمنظار مختلف, اكثر تجاوبا وتوافقا مع الرؤي الأمريكية.لسنا ندعي أن العقل العربي بخير او انه في تمام العافية, لكن لعلنا لانختلف أن صلاح أمره لايتم من خلال التدخل الأمريكي الذي لانستطيع أن نفترض البراءة فيه. وهو في كل أحواله معني بالمصالح والمقاصد الأمريكية. غير أن هذه المهمة أصبحت تحتل موقعا متقدما في أولويات الخارجية الأمريكية. ورغم أن ثمة لجنة للدبلوماسية الشعبية في الوزارة مشكلة منذ الأربعينيات في عهد الرئيس ترومان, إلا أن تقاريرها لم تكن تحظي بالاهتمام, إلي أن وقعت واقعة11 سبتمبر, وتقرر تنشيط مخاطبة المجتمعات العربية والاسلامية للتأثير علي مواقفها ومداركها, فجيء بسيدة اسمها شارلوت بيرس, كانت مديرة لاحدي شركات العلاقات العامة في نيويورك, وتم تعيينها مساعدا لوزير الخارجية لشئون العلاقات الدبلوماسية العامة لتنهض بالمهمة.
الملاحظة الأخري المهمة في هذا التوجه. أن الادارة الأمريكية في سعيها لتحقيق الاصلاح المنشود لم تكن مستعدة لان تري الغلط إلا في الجانب العربي والاسلامي دون غيره. فهي لم تدرك بعد أن شيئا مافي سياستها الخارجية علي الأقل يحتاج إلي مراجعة أو تغيير. وهو ماتنبأ به جورج ارويك في كتابه العالم سنة1984 حين قدم لنا صورة الأخ الأكبر الذي لايخطيء, ولايمكن أن يخضع لأي حساب, وليس امام الآخرين خيار إزاء مشيئته. فما لم يمتثلوا لارادته فالويل لهم والجحيم مصيرهم, وهي الطبعة الأولي المبكرة من محور الشر الذي تحدث عنه الرئيس بوش.
لو أن الأمر اقتصر علي سفر50 سيدة إلي الولايات التحدة للتأهل الديمقراطي لهان, ولكن الأمر اكبر من ذلك بكثير. ذلك أن المتابع للمشهد العربي خلال الأشهر الأخيرة يلاحظ مدي كثافة حملة إعادة تشكيل الادراك العام فيما يمكن اعتباره اختراقا او غزوا توجه إلي المجتمعات العربية, وتنوعت أساليبه وأدواته.
قلت إن الأمريكيين انطلقوا من أن الأغلاط كلها في جانبنا, وأضيف انهم أعطوا لأنفسهم حق التدخل بأنفسهم لاصلاح تلك الأغلاط في المجتمعات العربية, علي اعتبار أن علو شأنهم يعطيهم الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مكان بالكرة الأرضية. وهو ماعبرت عنه تصريحات وتصرفات السفراء الأمريكيين في اكثر من قطر عربي. كا أننا لمسنا, في مماسات أخري عديدة, بدءا بالتدخل في مناهج التعليم, وانتهاء بالتدخل في حلقات المسلسل التليفزيوني فارس بلاجواد.( ريتشارد باوتشر الناطق باسم الخارجية الأمريكية قال في11/3 انه ليس لمحطات التليفزيون الحكومية في العالم العربي عرض أي برامج تراها الولايات المتحدة عنصرية وغير صحية ـ هكذا بمنتهي الجرأة والبساطة).
(3)
هناك جديد في الحملة لاح خلال الأشهر الأخيرة, ويوحي بأن محاولات إعادة تشكيل الادراك العربي ـ غزوه أن شئت الدقة ـ تتم علي مستويات أربعة هي:
* خطاب مباشر تتولاه الحكومة الأمريكية علي نحو صريح وواضح فبعد أن تم تطوير إذاعة صوت أمريكا وإضفاء قدر ملحوظ من الحيوية علي برامجها ونشراتها الاخبارية, أنشئت محطة إذاعة أخري مستقلة تخاطب جيل الشباب العربي بوجه أخص أطلق عليها اسم سوا. وتبث برامجها طيلة24 ساعة يوميا. وفي ماليزيا انشئت محطة تليفزيونية لمخاطبة مسلمي جنوب شرق آسيا. وفي الوقت ذاته تم إعداد أفلام تسجيلية تقدم صورة زاهية لحياة المسلمين في الولايات المتحدة, لاقناع المشاهدين بان الادارة الأمريكية لاتحارب الاسلام وإنما ترحب به, لكن معركتها ضد الارهاب. وهذه الافلام وزعت علي مختلف التليفزيونات العربية.
كما أن موظفي السفارات الأمريكية المختصين اصبحوا يوزعون حقائب علي الشخصيات العامة في كل بلد, احتوت علي نماذج من تلك الأفلام, إضافة إلي تسجيلات ونصوص للفتاوي التي أصدرها بعض العلماء في إدانة عمليات11 سبتمبر, وغير ذلك من المطبوعات والبيانات الأمريكية التي عبرت عن موقف متوازن من العقيدة الاسلامية, وركزت علي التنديد بالارهاب..
بشكل مواز فان الادارة الأمريكية أناطت ببعض المؤسسات, في مقدمتها مجلس العلاقات الخارجية( ايباك) مسئولية إدارات الحوار بين المثقفين والخبراء الأمريكيين وبين نظرائهم في العام العربي والاسلامي, ولأجل ذلك عقد مؤتمر كبير في العاصمة الاندونيسية جاكرتا, ثم مؤتمر آخر في واشنطن, وعقد المؤتمر الثالث في الدوحة, خلال شهر أكتوبر الماضي.
المفارقة اللافتة للنظر في هذه المحاولة الأخيرة ان الذين يشرفون علي برنامج الحوار من الجانب الأمريكي, خصوصا عناصر ايباك, هم جميعا من الشخصيات ذات الميول الصهيونية, إذ المعروف أن ايباك هي أحد المنابر الاسرائيلية المهمة في الولايات المتحدة, وهي المفارقة التي دعت أحد المعلقين العرب البارزين ـ الاستاذ جميل مطر ـ إلي كتابة مقال نقدي للفكرة تساءل فيه عما اذا كان من الممكن لزارعي الكراهية للعرب من صهاينة واشنطن, أن يساعدوا علي إجراء حوار تفاهم أو تقريب مع العرب( الحياة اللندنية ـ11/5).
(4)
* فضلا عن الخطاب الأمريكي المباشر, بوسع المرء أن يلاحظ الحضور القوي للكتاب والسياسيين الأمريكيين, وأحيانا الاسرائيليين, علي نحو غير مسبوق في الصحافة العربية. نعم بعض هؤلاء ينتقدون السياسة الأمريكية في بعض ممارساتها. لكن الاغلبية تسوغها وتدافع عنها. ومن ثم اصبح ما يقوله الامريكيون عن اجتياح أفغانستان وتبرير ضرب العراق, والدعوة الي تغيير القيادة الفلسطينية, ورفض فكرة المحكمة الجنائية الدولية.. الخ, هذا كل اصبح يتوجه به الكتاب الأمريكيون إلي القارئ العربي, من خلال الصحافة العربية ذاتها. ليس ذلك وحسب, وإنما أصبحت بعض الصحف العربية الرئيسية تعتمد في تقاريرها الاخبارية عما يجري في مختلف انحاء العالم علي الخدمات الخاصة التي تقدمها المؤسسات الصحفية الأمريكية( نيويورك تايمز ـ لوس انجيليس تايمز ـ كريستيان سيانس مونيتور.. الخ) وبذلك فا ن القارئ العربي لم يعد يقرأ تحليل الاخبار باقلام امريكية وحسب, وإنما اصبح ايضا يقرأ الاخبار ذاتها بعيون أمريكية. وهذا الشق الأخير ليس جديدا تماما, لان وكالات الانباء الغربية لاتزال هي المصدر الرئيسي لـ85% من الاخبار التي تنشر في الصحافة العربية عن العالم الخارجي. لكن الجديد هو ان الصحف العربية أصبحت تعتمد, فضلا عن الوكالات, علي المراسلين الأجانب ـ أكثرهم أمريكيون ـ في تغطية ما لا تنهض به وكالات الانباء. ثم ان هؤلاء المراسلين اصبحوا يسهمون في محاولة تحسين الصورة الأمريكية واحدث ما قرأته في هذا الصدد تقرير نشرته الشرق الاوسط في11/8, عن حياة المسلمين وازدهار الاسلام في الولايات المتحدة,( للعلم: في تقرير أخير لمنظمة هيومان رايتس ووتش ـ مراقبة حقوق الانسان ـ الامريكية ان الاعتداءات علي المسلمين في أمريكا زادت في عام2001 بنسبة1700%) وهو ماعبر عنه ثلاثة من المهاجرين المسلمين, بينهم احد الفلسطينيين العاملين في المباحث الفيدزالية(!!) منذ ثلاث سنوات, الذي قال انه ينوي ان يختم القرآن خلال شهر رمضان. وهو ما لم يقم به منذ سنوات. حدثنا التقرير عن مسلم آخر وصل الي مطار ريجان الدولي, واراد أن يصلي الصبح فاستأذن أحد الحراس لكي يختلي بركن في المطار. فآذن له ولم يعترض. وكأنه اراد بذلك ان يغير من الانطباع السائد عن سوء معاملة المسلمين بالمطارات.
غير هذا وذاك فهناك الاخبار التي تنشر تسريبا من واشنطن لتزييف الادراك وتشكيل انطباعات الرأي العام, دون أن يشار إلي مصادرها. وكانت وزارة الدفاع قد أنشأت بعد11 سبتمبر جهازا لهذا الغرض باسم مكتب التأثير الاستراتيجيوظيفته أحكام تضليل الرأي العام عن طريق نشر اخبار مزيفة أو محرفة. ولكن افتضاح أمر المكتب دفع الادارة الأمريكية إلي إلغائه والاكتفاء بما تقوم به المخابرات المركزبة أو الوكالات الأخري المتخصصة في إشاعة الاخبار والتقارير الكاذبة المطلوبة, من قبيل تلك التي نشرت عن وجود علاقات بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة, أو ايواء إيران لعناصر إرهابية مطلوبة, أو عقد اجتماع بين الفلسطينيين والايرانيين في موسكو, أو وجود خلايا إرهابية نائمة في ألمانيا وإيطاليا. مثل هذه الاخبار الكاذبة يفترض أنها تعبئ الرأي العام في اتجاهات معينة, بحيث تجعله متقبلا لفكرة ضرب العراق مثلا او الضغط علي إيران أو تغيير ياسر عرفات, استنادا إلي أنهم يحتفظون بعلاقات مع الارهابيين.
(5)
* ذلك كله يمكن اعتباره من قبيل الاختراقات القادمة من الخارج التي تستهدف التأثير علي العقل العربي. الاسوأ والاشد خطرا من المستويات الثلاثة السابقة هو الاختراقات الحاصلة من الداخل. عن الدور الذي يقوم به نفر من المثقفين الذين ظهروا في بعض العواصم العربية, وتحولوا الي محامين للسياسة الامريكية في المنطقة, ومنهم من أصبح يزايد علي الجميع في تبرير وتجميل ما يفعله الأمريكيون, الي جانب إلحاحهم المستمر علي التهوين من شأن الروابط العربية فضلا عن الاسلامية, وتأكيد ضرورة التحاق العرب بأوروبا والغرب, وان ينصرف كل قطر إلي شئونه ومصالحه الخاصة, بحيث ينفض يديه من تبعات الانتماء العربي ومسئوليات الدفاع عن الأمن القومي, وذلك إعمالا لشعار أنا أولا, أو أنا وبعدي الطوفان.
بعض هؤلاء دافعوا عن اجتياح العراق, بدعوي أن ذلك سيفتح الباب لاقامة نظام تعددي ديمقراطي يطوي صفحة الاحزان التي عششت طويلا في ذلك البلد المبتلي. ومنهم من هلل لما فعله الأمريكيون في افغانستان بزعم انه حرر النساء من محبسهن وحرر الرجال من اللحي المفروضة. وقرأنا لمن دافع عن القصف الأمريكي لسيارة اليمنيين الستة في مأرب( الذي انتقدته وزيرة خارجية السويد واعتبرته قتلا خارج العدالة) بزعم انه من متطلبات الحملة ضذ الارهاب, وان التنسيق مستمر بين الدول العربية والمخابرات المركزية الأمريكية, وهو مالاتعلنه تلك الدول, بينما صنعاء اعترفت به علنا. وحين نجح الاسلاميون في الانتخابات النيابية التركية كتب أحدهم يقول أن ذلك دليل علي أن الولايات المتحدة ليست لها معركة ضد الاسلام وأنها تحارب الارهاب فقط.
* كأنك تقرأ فصول كتاب الحرب الباردة الثقافية لمؤلفته البريطانية فرانسيس سوندرز. ذلك أن ما يحدث الآن, وما قدمنا بعضه وليس كله, ليس اكثر من استعادة لذات الاساليب التي استخدمتها الولايات المتحدة الامريكية, والمخابرات المركزية بوجه أخص ضد السوفييت, اثناء سنوات الحرب الباردة, حيث كانت مجالات الاعلام والثقافة والفنون هي أحدي ساحات الصراع بين القطبين الكبيرين. الفرق الوحيد بين التجربتين ان الولايات المتحدة كانت اثناء الحرب الباردة تواجه دولة كبري محددة الكيان والمعالم هي الاتحاد السوفيتي, لكنها هذه المرة تواجه عفريتا اسمه الارهاب لايعرف له مكان أو كيان أو معالم, بل لايعرف حجم الحقيقة فيه او الوهم. والأولي معركة كانت لها نهاية اما المعركة الثانية فهي بغير نهاية, وممتدة بطول الزمان وعرض المكان!
فرجت أيها السادة, فقد صار مستقبلنا الديمقراطي أكيدا ومضمونا. لم لا وقد دعيت خمسون امرأة عربية ينتمين إلي14 قطرا إلي الولايات المتحدة للتدريب علي الديمقراطية, ضمن برنامج مكثف اعد خصيصا لاصلاح حال العرب المعوج. وهو مايطمئننا إلي أن السيدات العربيات سيعدن إلي بلادنا وقد تحولت كل واحدة منهن إلي طاقة ديمقراطية معتبرة ـ مستوردة من بلادها وليست محلية الصنع من ذلك النوع الذي تعرف ـ وبذلك سنضمن أن تنجب كل واحدة منهن عددا لابأس به من الديمقراطيين الصغار, وهؤلاء اذا ما كبروا وتناسلوا, فإننا نستطيع أن نثق في أن شمس الديمقراطية سوف تسطع علي العالم العربي بأسره يوما ما, بحيث لايكاد يطل علينا القرن الثاني والعشرون إلا وقد تلبست الأمة العربية من المحيط إلي الخليج حالة ديمقراطية من النوع المستورد المتين, الذي لاتشوبه شائبة!
(1)
هذا الكلام ليس من عندي. فقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية علي صدر صفحتها الأولي خبرا كبيرا زفت إلينا فيه البشارة. ذكرت فيه أن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول سوف يعقد في يوم النشر(11/6) اجتماعا مغلقا مع العربيات الخمسين, اللاتي دعين إلي واشنطن في إطار برنامج الاصلاح العربي الذي أعدته وزارة الخارجية, وتشرف علي تنفيذه اليزابيث تشيني( ابنة نائب الرئيس الأمريكي). وهذا البرنامج الذي يأتي في إطار الجهود التي تبذلها الولايات التحدة لتعزيز ونشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط, ومساعدة دول المنطقة في خططها التنموية, في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية. وهو البرنامج الذي وضعته الادارة الأمريكية عقب11 سبتمبر, ورصدت لتنفيذه مبلغ25 مليون دولار.
حين نشر الخبر في11/6, كانت النساء العربيات قد امضين ثلاثة أسابيع في الولايات المتحدة. وقد توزعن علي مجموعات عمل صغيرة, وجري اطلاعهن علي الدور الذي تقوم به المرأة الأمريكية في عملية الانتخابات, في الترشيح وتنظيم الحملات الانتخابية وإدارتها. كما عملن بعض الوقت مع المعهد الديمقراطي الوطني, ونظيره المعهد الجمهوري الذي يشرف علي الحملات الانتخابية. في الوقت ذاته نظمت لهن لقاءات مع بعض كبار المسئولين ـ والمسئولات ـ في الادارة الأمريكية.أما النساء العربيات اللاتي اشتركن في هذه الدورة التدريبية فقد توزعن علي العالم العربي علي النحو التالي:4 من الجزائر ـ5 من مصر ـ واحدة من الأردن ـ4 من الكويت ـ5 من لبنان ـ5 من المغرب ـ3 من سوريا ـ3 من الضفة الغربية وواحدة من غزة ـ سيدتان من سلطنة عمان ـ3 من الامارات ـ4 من اليمن ـ سيدتان من السعودية ـ واحدة من قطر ـ3 من تونس.
(2)
رغم أن الخبر صحيح إلا أننا لانستطيع أن نأخذه علي محمل الجد. ولذلك فلم يكن هناك بد من صياغته علي النحو الذي رأيت. مع ذلك فلابد أن يلفت أنظارنا فيه ـ فضلا عن فكرته ومضمونه ـ تلك الاشارة الي أن العملية تمت في أطار برنامج الاصلاح العربيالذي أعدته وزارة الخارجية الأمريكية. ومايهمني في الأمر هو ذلك البرنامج تحديدا, الذي هو حلقة في سلسلة من البرامج والمشروعات الأخري التي تصب في وعاءين أساسيين لم يخف الأمريكيون أمرهما, هما: إعادة تأهيل العالم العربي, وتحسين صورة الولايات التحدة لدي عموم العرب والمسلمين. والسر المعلن المحرك لتلك البرامج والمشروعات هو أنها تستهدف في النهاية التدخل في تشكيل العقل العربي, لكي يفكر بطريقة مختلفة ويري الأمور بمنظار مختلف, اكثر تجاوبا وتوافقا مع الرؤي الأمريكية.لسنا ندعي أن العقل العربي بخير او انه في تمام العافية, لكن لعلنا لانختلف أن صلاح أمره لايتم من خلال التدخل الأمريكي الذي لانستطيع أن نفترض البراءة فيه. وهو في كل أحواله معني بالمصالح والمقاصد الأمريكية. غير أن هذه المهمة أصبحت تحتل موقعا متقدما في أولويات الخارجية الأمريكية. ورغم أن ثمة لجنة للدبلوماسية الشعبية في الوزارة مشكلة منذ الأربعينيات في عهد الرئيس ترومان, إلا أن تقاريرها لم تكن تحظي بالاهتمام, إلي أن وقعت واقعة11 سبتمبر, وتقرر تنشيط مخاطبة المجتمعات العربية والاسلامية للتأثير علي مواقفها ومداركها, فجيء بسيدة اسمها شارلوت بيرس, كانت مديرة لاحدي شركات العلاقات العامة في نيويورك, وتم تعيينها مساعدا لوزير الخارجية لشئون العلاقات الدبلوماسية العامة لتنهض بالمهمة.
الملاحظة الأخري المهمة في هذا التوجه. أن الادارة الأمريكية في سعيها لتحقيق الاصلاح المنشود لم تكن مستعدة لان تري الغلط إلا في الجانب العربي والاسلامي دون غيره. فهي لم تدرك بعد أن شيئا مافي سياستها الخارجية علي الأقل يحتاج إلي مراجعة أو تغيير. وهو ماتنبأ به جورج ارويك في كتابه العالم سنة1984 حين قدم لنا صورة الأخ الأكبر الذي لايخطيء, ولايمكن أن يخضع لأي حساب, وليس امام الآخرين خيار إزاء مشيئته. فما لم يمتثلوا لارادته فالويل لهم والجحيم مصيرهم, وهي الطبعة الأولي المبكرة من محور الشر الذي تحدث عنه الرئيس بوش.
لو أن الأمر اقتصر علي سفر50 سيدة إلي الولايات التحدة للتأهل الديمقراطي لهان, ولكن الأمر اكبر من ذلك بكثير. ذلك أن المتابع للمشهد العربي خلال الأشهر الأخيرة يلاحظ مدي كثافة حملة إعادة تشكيل الادراك العام فيما يمكن اعتباره اختراقا او غزوا توجه إلي المجتمعات العربية, وتنوعت أساليبه وأدواته.
قلت إن الأمريكيين انطلقوا من أن الأغلاط كلها في جانبنا, وأضيف انهم أعطوا لأنفسهم حق التدخل بأنفسهم لاصلاح تلك الأغلاط في المجتمعات العربية, علي اعتبار أن علو شأنهم يعطيهم الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مكان بالكرة الأرضية. وهو ماعبرت عنه تصريحات وتصرفات السفراء الأمريكيين في اكثر من قطر عربي. كا أننا لمسنا, في مماسات أخري عديدة, بدءا بالتدخل في مناهج التعليم, وانتهاء بالتدخل في حلقات المسلسل التليفزيوني فارس بلاجواد.( ريتشارد باوتشر الناطق باسم الخارجية الأمريكية قال في11/3 انه ليس لمحطات التليفزيون الحكومية في العالم العربي عرض أي برامج تراها الولايات المتحدة عنصرية وغير صحية ـ هكذا بمنتهي الجرأة والبساطة).
(3)
هناك جديد في الحملة لاح خلال الأشهر الأخيرة, ويوحي بأن محاولات إعادة تشكيل الادراك العربي ـ غزوه أن شئت الدقة ـ تتم علي مستويات أربعة هي:
* خطاب مباشر تتولاه الحكومة الأمريكية علي نحو صريح وواضح فبعد أن تم تطوير إذاعة صوت أمريكا وإضفاء قدر ملحوظ من الحيوية علي برامجها ونشراتها الاخبارية, أنشئت محطة إذاعة أخري مستقلة تخاطب جيل الشباب العربي بوجه أخص أطلق عليها اسم سوا. وتبث برامجها طيلة24 ساعة يوميا. وفي ماليزيا انشئت محطة تليفزيونية لمخاطبة مسلمي جنوب شرق آسيا. وفي الوقت ذاته تم إعداد أفلام تسجيلية تقدم صورة زاهية لحياة المسلمين في الولايات المتحدة, لاقناع المشاهدين بان الادارة الأمريكية لاتحارب الاسلام وإنما ترحب به, لكن معركتها ضد الارهاب. وهذه الافلام وزعت علي مختلف التليفزيونات العربية.
كما أن موظفي السفارات الأمريكية المختصين اصبحوا يوزعون حقائب علي الشخصيات العامة في كل بلد, احتوت علي نماذج من تلك الأفلام, إضافة إلي تسجيلات ونصوص للفتاوي التي أصدرها بعض العلماء في إدانة عمليات11 سبتمبر, وغير ذلك من المطبوعات والبيانات الأمريكية التي عبرت عن موقف متوازن من العقيدة الاسلامية, وركزت علي التنديد بالارهاب..
بشكل مواز فان الادارة الأمريكية أناطت ببعض المؤسسات, في مقدمتها مجلس العلاقات الخارجية( ايباك) مسئولية إدارات الحوار بين المثقفين والخبراء الأمريكيين وبين نظرائهم في العام العربي والاسلامي, ولأجل ذلك عقد مؤتمر كبير في العاصمة الاندونيسية جاكرتا, ثم مؤتمر آخر في واشنطن, وعقد المؤتمر الثالث في الدوحة, خلال شهر أكتوبر الماضي.
المفارقة اللافتة للنظر في هذه المحاولة الأخيرة ان الذين يشرفون علي برنامج الحوار من الجانب الأمريكي, خصوصا عناصر ايباك, هم جميعا من الشخصيات ذات الميول الصهيونية, إذ المعروف أن ايباك هي أحد المنابر الاسرائيلية المهمة في الولايات المتحدة, وهي المفارقة التي دعت أحد المعلقين العرب البارزين ـ الاستاذ جميل مطر ـ إلي كتابة مقال نقدي للفكرة تساءل فيه عما اذا كان من الممكن لزارعي الكراهية للعرب من صهاينة واشنطن, أن يساعدوا علي إجراء حوار تفاهم أو تقريب مع العرب( الحياة اللندنية ـ11/5).
(4)
* فضلا عن الخطاب الأمريكي المباشر, بوسع المرء أن يلاحظ الحضور القوي للكتاب والسياسيين الأمريكيين, وأحيانا الاسرائيليين, علي نحو غير مسبوق في الصحافة العربية. نعم بعض هؤلاء ينتقدون السياسة الأمريكية في بعض ممارساتها. لكن الاغلبية تسوغها وتدافع عنها. ومن ثم اصبح ما يقوله الامريكيون عن اجتياح أفغانستان وتبرير ضرب العراق, والدعوة الي تغيير القيادة الفلسطينية, ورفض فكرة المحكمة الجنائية الدولية.. الخ, هذا كل اصبح يتوجه به الكتاب الأمريكيون إلي القارئ العربي, من خلال الصحافة العربية ذاتها. ليس ذلك وحسب, وإنما أصبحت بعض الصحف العربية الرئيسية تعتمد في تقاريرها الاخبارية عما يجري في مختلف انحاء العالم علي الخدمات الخاصة التي تقدمها المؤسسات الصحفية الأمريكية( نيويورك تايمز ـ لوس انجيليس تايمز ـ كريستيان سيانس مونيتور.. الخ) وبذلك فا ن القارئ العربي لم يعد يقرأ تحليل الاخبار باقلام امريكية وحسب, وإنما اصبح ايضا يقرأ الاخبار ذاتها بعيون أمريكية. وهذا الشق الأخير ليس جديدا تماما, لان وكالات الانباء الغربية لاتزال هي المصدر الرئيسي لـ85% من الاخبار التي تنشر في الصحافة العربية عن العالم الخارجي. لكن الجديد هو ان الصحف العربية أصبحت تعتمد, فضلا عن الوكالات, علي المراسلين الأجانب ـ أكثرهم أمريكيون ـ في تغطية ما لا تنهض به وكالات الانباء. ثم ان هؤلاء المراسلين اصبحوا يسهمون في محاولة تحسين الصورة الأمريكية واحدث ما قرأته في هذا الصدد تقرير نشرته الشرق الاوسط في11/8, عن حياة المسلمين وازدهار الاسلام في الولايات المتحدة,( للعلم: في تقرير أخير لمنظمة هيومان رايتس ووتش ـ مراقبة حقوق الانسان ـ الامريكية ان الاعتداءات علي المسلمين في أمريكا زادت في عام2001 بنسبة1700%) وهو ماعبر عنه ثلاثة من المهاجرين المسلمين, بينهم احد الفلسطينيين العاملين في المباحث الفيدزالية(!!) منذ ثلاث سنوات, الذي قال انه ينوي ان يختم القرآن خلال شهر رمضان. وهو ما لم يقم به منذ سنوات. حدثنا التقرير عن مسلم آخر وصل الي مطار ريجان الدولي, واراد أن يصلي الصبح فاستأذن أحد الحراس لكي يختلي بركن في المطار. فآذن له ولم يعترض. وكأنه اراد بذلك ان يغير من الانطباع السائد عن سوء معاملة المسلمين بالمطارات.
غير هذا وذاك فهناك الاخبار التي تنشر تسريبا من واشنطن لتزييف الادراك وتشكيل انطباعات الرأي العام, دون أن يشار إلي مصادرها. وكانت وزارة الدفاع قد أنشأت بعد11 سبتمبر جهازا لهذا الغرض باسم مكتب التأثير الاستراتيجيوظيفته أحكام تضليل الرأي العام عن طريق نشر اخبار مزيفة أو محرفة. ولكن افتضاح أمر المكتب دفع الادارة الأمريكية إلي إلغائه والاكتفاء بما تقوم به المخابرات المركزبة أو الوكالات الأخري المتخصصة في إشاعة الاخبار والتقارير الكاذبة المطلوبة, من قبيل تلك التي نشرت عن وجود علاقات بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة, أو ايواء إيران لعناصر إرهابية مطلوبة, أو عقد اجتماع بين الفلسطينيين والايرانيين في موسكو, أو وجود خلايا إرهابية نائمة في ألمانيا وإيطاليا. مثل هذه الاخبار الكاذبة يفترض أنها تعبئ الرأي العام في اتجاهات معينة, بحيث تجعله متقبلا لفكرة ضرب العراق مثلا او الضغط علي إيران أو تغيير ياسر عرفات, استنادا إلي أنهم يحتفظون بعلاقات مع الارهابيين.
(5)
* ذلك كله يمكن اعتباره من قبيل الاختراقات القادمة من الخارج التي تستهدف التأثير علي العقل العربي. الاسوأ والاشد خطرا من المستويات الثلاثة السابقة هو الاختراقات الحاصلة من الداخل. عن الدور الذي يقوم به نفر من المثقفين الذين ظهروا في بعض العواصم العربية, وتحولوا الي محامين للسياسة الامريكية في المنطقة, ومنهم من أصبح يزايد علي الجميع في تبرير وتجميل ما يفعله الأمريكيون, الي جانب إلحاحهم المستمر علي التهوين من شأن الروابط العربية فضلا عن الاسلامية, وتأكيد ضرورة التحاق العرب بأوروبا والغرب, وان ينصرف كل قطر إلي شئونه ومصالحه الخاصة, بحيث ينفض يديه من تبعات الانتماء العربي ومسئوليات الدفاع عن الأمن القومي, وذلك إعمالا لشعار أنا أولا, أو أنا وبعدي الطوفان.
بعض هؤلاء دافعوا عن اجتياح العراق, بدعوي أن ذلك سيفتح الباب لاقامة نظام تعددي ديمقراطي يطوي صفحة الاحزان التي عششت طويلا في ذلك البلد المبتلي. ومنهم من هلل لما فعله الأمريكيون في افغانستان بزعم انه حرر النساء من محبسهن وحرر الرجال من اللحي المفروضة. وقرأنا لمن دافع عن القصف الأمريكي لسيارة اليمنيين الستة في مأرب( الذي انتقدته وزيرة خارجية السويد واعتبرته قتلا خارج العدالة) بزعم انه من متطلبات الحملة ضذ الارهاب, وان التنسيق مستمر بين الدول العربية والمخابرات المركزية الأمريكية, وهو مالاتعلنه تلك الدول, بينما صنعاء اعترفت به علنا. وحين نجح الاسلاميون في الانتخابات النيابية التركية كتب أحدهم يقول أن ذلك دليل علي أن الولايات المتحدة ليست لها معركة ضد الاسلام وأنها تحارب الارهاب فقط.
* كأنك تقرأ فصول كتاب الحرب الباردة الثقافية لمؤلفته البريطانية فرانسيس سوندرز. ذلك أن ما يحدث الآن, وما قدمنا بعضه وليس كله, ليس اكثر من استعادة لذات الاساليب التي استخدمتها الولايات المتحدة الامريكية, والمخابرات المركزية بوجه أخص ضد السوفييت, اثناء سنوات الحرب الباردة, حيث كانت مجالات الاعلام والثقافة والفنون هي أحدي ساحات الصراع بين القطبين الكبيرين. الفرق الوحيد بين التجربتين ان الولايات المتحدة كانت اثناء الحرب الباردة تواجه دولة كبري محددة الكيان والمعالم هي الاتحاد السوفيتي, لكنها هذه المرة تواجه عفريتا اسمه الارهاب لايعرف له مكان أو كيان أو معالم, بل لايعرف حجم الحقيقة فيه او الوهم. والأولي معركة كانت لها نهاية اما المعركة الثانية فهي بغير نهاية, وممتدة بطول الزمان وعرض المكان!