هويدي 29-10-2002
أصبح العرب والمسلمون ملطشة هذا الزمان, وان شئت ان تستخدم الوصف الفصيح فهو ملطسة, حيث اللطس في معاجمنا هو اللطم, ولكثرة ماتعرضنا لذلك اللطم من كل صوب, فلعلي لا أبالغ اذا قلنا إننا نعيش عصر استباحة الأمة, علي نحو لم يعرف في تاريخها الممتد, حتي في أوج الهيمنة الاستعمارية, فالاستعمار مارسته دول كبري, جاءت بجيوشها, واستهدفت ثروات بلاد بذاتها, أما في زمن الاستباحة فقد أصبحنا نتلقي اللطمات من كل من هب ودب, ونقهر بلا جيوش, ونهان بلا استثناء, ثم إنه في ظل الاستعمار أستنفرت الشعوب وهبت تناضل من أجل التحرير, أما في زماننا فقد تراجعت الهمة, وحل الفتور, وصرنا عاجزين عن أي تحريك!
(1)
شخصيا, استشعرت اثر اللطمة صبيحة الاربعاء الماضي10/23, وهي لم تكن لطمة واحدة, وإنما اثنتان, فقد وقعت يومذاك علي خبرين في صحف الصباح, ما إن قرأتهما حتي أصابني الوجع, الذي استحضر في ذهني نموذج الملطشة وفكرة الاستباحة, في الخبر الأول ان الحكومة الأمريكية قررت تجميد أموال12 مؤسسة وطنية سودانية عقابا لحكومة الخرطوم علي موقفها في مباحثات السلام بالجنوب, أما قائمة المؤسسات المعنية فقد كانت مذهلة حقا, إذ ضمت مؤسسات حيوية مثل هيئة الاذاعة والتليفزيون وشركة السجائر الوطنية, ومؤسسات الكهرباء والبريد والبرق, والبترول والسكر, وشركتي الشاي والمناطق والأسواق الحرة, وهو مايعني أن القرار الأمريكي استهدف توجيه ضربة قاضية, وقاصمة للاقتصاد السوداني يراد لها أن تصيبه بالانهيار والشلل, وليت الدافع إلي ذلك درء خطر هددت به السودان أمن الولايات المتحدة أو مصالح شعبها, الأمر الذي قد يسوغ إعلان حرب اقتصادية عليها من ذلك القبيل, ولكن المدهش في الأمر أن واشنطن لجأت إلي تلك الخطوة لتركيع حكومة الخرطوم واجبارها علي الامتثال لشروط قيادة التمرد الجنوبي, بناء علي قانون غريب أصدره الكونجرس باسم سلام السودان, ينص علي فرض عقوبات علي الحكومة السودانية اذا لم تحرز تقدما في عملية السلام مع المتمردين.
حين يفيق المرء من الذهول, ويتأكد من أن ما وقعت عليه عيناه حقيقة, وليس وهما, فان أسئلة عديدة تلح عليه, منها علي سبيل المثال:: ما شأن واشنطن بصراع داخلي في السودان عمره نحو عشرين عاما؟ ولماذا التركيز علي السودان بالذات دون سائر الدول التي تحفل بالصراعات في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية؟ ثم من نصب الولايات المتحدة قاضيا في الموضوع؟ وهل أصبحت واشنطن مقرا لحكومة عالمية قررت من جانبها أن تتعامل مع شعوبنا بحسبانهم رعايا, يؤمرون, فلا يملكون إلا الامتثال والطاعة, وإلا حلت عليهم اللعنة وتعرضوا للعقاب؟ ثم كيف واتت أعضاء الكونجرس تلك الجرأة التي تصل إلي حد الصفاقة, لكي يصدروا قانونا يقرر معاقبة حكومة الخرطوم اذا لم تحرز تقدما في عملية السلام, في حين يعفي الطرف الآخر من أي عقاب أو عتاب اذا ما عوق التقدم في العملية ذاتها, وفرض شروطا يتعذر علي أي دولة تحترم نفسها أن تقبلها؟ ـ وكيف يمكن أن نفسر لجوء واشنطن إلي معاقبة حكومة السودان علي ذلك النحو, في حين تقدم في الوقت ذاته مائة مليون دولار علي ثلاث سنوات مساعدة منها ودعما لحركة التمرد الجنوبي؟ وحتي اذا ذهبنا بعيدا وقبلنا بالولايات المتحدة قاضيا في الموضوع, ألا يجرح هذا التصرف الأخير نزاهة القاضي وعدالته, ويكون سببا كافيا لتنحيته عن نظر القضية؟! ـ وإذ اجترأ الكونجرس علي السودان بهذه الصورة الفجة, فما الذي يمنع من تكرار التطاول وإنزال العقاب بأي دولة عربية أو إسلامية أخري, إذا تصرفت علي نحو لايلقي هوي في واشنطن؟
(2)
في الخبر الثاني ان الاتحاد الأوروبي هدد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بوقف التعامل معه, اذا فشلت حكومته الجديدة في الحصول علي ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني, ووقف التعامل مع الرجل لايعني قطع الاتصال السياسي فحسب, وإنما يعني ايضا وقف المساعدات المالية التي تقرر منحها للسلطة الفلسطينية لإغرائها بالانخراط في عملية السلام, ومعروف أن اسرائيل ومعها الولايات المتحدة يتبنيان الدعوة إلي إقصاء الرئيس عرفات, وإعادة بناء السلطة الفلسطينية من جديد, وبطبيعة الحال فان ذلك المطلب لم يقدم غيرة علي الديمقراطية, ولا حرصا علي صدق تمثيل الشعب الفلسطيني ولا سعيا لقطع دابر الفساد المالي والسياسي الذي اتهمت به بعض عناصر السلطة, ولكن المراد به شئ واحد هو ان تحل محل عرفات قيادة جديدة وفريق آخر ترضي عنه إسرائيل والولايات المتحدة, علما بأن عرفات قدم لهم أقصي مرونة ممكنة وتنازل لهم عن الكثير, لكن ذلك كله لم يكن كافيا, لأنهم لايريدون قيادة متجاوبة بنسبة70 أو80%, إنما يريدون استعدادا للتنازل يصل إلي مائة في المائة!
كنا نقول ان لاوروبا موقفا متميزا عن الولايات المتحدة, وانها أقل انصياعا للإرادة الاسرائيلية, واكثر اعتدالا في موقفها من العرب والفلسطينيين, ولكن يبدو أن ذلك كله يتراجع الآن, حيث الظاهر أن حالة الرخاوة المخيمة علي العالم العربي أغرت الأوروبيين بالانضمام إلي طابور لطس العرب والمسلمين, ومن ثم مارسوا الاستقواء بحق الفلسطينيين, فأظهروا لهم العين الحمراء.
رسالة الخبرين واحدة, فحكومة السودان يجب أن تستجيب لشروط قيادة التمرد الجنوبي, والقيادة الفلسطينية يجب أن تنصاع للمطالب الإسرائيلية, وفي الحالتين ينبغي أن يدرك الجميع انهم ليسوا أحرارا في تحري المصالح, ولكن هناك أوصياء منتدبين لرعاية حسن السير والسلوك في المنطقة, وبيدهم الكثير الذي يفعلونه لاجبار حكوماتها علي الالتزام بحدود الأدب المطلوب ولذلك فان من مصلحة تلك الحكومات أن تتجاوب بالحسني مع مايريده الأوصياء, أما من يتقاعس عن ذلك فهناك من سيتولي تأديبه علي النحو الذي تقدم!
(3)
لم أتحدث عن استقواء إسرائيل علي الفلسطينيين, واستخفافها بالعرب, كما لم أتحدث عن استقواء الأمريكان علي العراقيين في جانب والأفغان في جانب آخر, فاستباحة هذه الشعوب أصبحت خبرا يوميا, لم تتوقف الصحف عن تسجيل وقائعه خلال الأشهر الأخيرة, وهي وقائع تقطع بأن الممارسات التي تتم بحق تلك الشعوب العربية والإسلامية تمثل انتهاكا صارخا لقيم القانون والأخلاق والأعراف, حيث يد الاستكبار مطلقة بغير قيد, وحياة الشعوب وعمران البلاد وسيادتها, كل ذلك يعصف به بغير حدود.
لقد مررنا بما حدث مع السودان, وكيف صودرت أموال مؤسساته الحيوية, وسلاح المصادرة هذا مشهر في وجه الجميع, حتي قامت الادارة الأمريكية خلال هذا العام بمصادرة أموال عشرات بل مئات المؤسسات والأشخاص في العالم العربي والإسلامي, ومن ثم أصبحت أي جهة ناشطة في العالم العربي والاسلامي معرضة للاغتيال بجرة قلم, بعدما انقلب الحال واصبح الكل متهما حتي تثبت براءته.
في هذا السياق لابد أن تستوقفنا الاجراءات المهينة التي اصبح يخضع لها العرب والمسلمون الذين يضطرون للتعامل مع الولايات المتحدة, فهم يذلون في السفارات لكي يحصلوا علي تأشيرات الدخول, إذ علي كل واحد ان يتقدم بطلبه قبل ثلاثة أشهر من موعد سفره, والمسألة ليست سهلة فهناك عشرة آلاف طالب من أبناء عالمنا العربي والإسلامي لايزالون منذ شهور عاجزين عن الحصول علي تأشيرات لاستكمال دراستهم هناك, والذين يحصلون علي تلك التأشيرات لهم صفوف خاصة يقفون فيها في المطارات الأمريكية, وهناك تؤخذ بصماتهم وتلتقط صورهم, ويخضعون لمختلف صور الاستجواب والتحري, باعتبار ان الاصل في الجميع أنهم مشبوهون, ولأنهم كذلك فانهم يفتشون بعناية وتؤخذ منهم أية أوراق تتضمن عناوين أو أرقام هواتف في الولايات المتحدة, وإذا قدر للواحد منهم أن يخرج من المطار في النهاية فانه يظل ملاحقا ومراقبا حيثما ذهب, وأي تغيير في عنوانه أو في موضوع دراسته اذا كان مبتعثا, يجب ان تخطر به الجهات الأمريكية المختصة, علما بأنه ليس حرا في أن يدرس أي شيء ولكن هناك مجالات يحظر علي العرب والمسلمين التخصص فيها.
ثمة آلاف التفاصيل الأخري التي ترسم ملامح الصورة, والتي يتعلق بعضها بأوضاع المسلمين الأمريكيين الذين يعيشون داخل البلاد, لكن مايدهش له المرء حقا ليس تلك اللوثة التي انتابت الأجهزة الأمريكية, واقترنت بدرجة عالية من الفظاظة( نائب رئيس الوزراء الماليزي ذهب ليلقي كلمة بلاده أمام الأمم المتحدة في نيويورك, واجبر علي خلع حذائه, وحزام سرواله قبل صعوده إلي الطائرة التي حملته من لوس انجيليس!) ـ إنما المدهش اكثر ان ذلك كله لم يقابل بما يستحقه من استياء وغضب في العواصم العربية والإسلامية, استثني من ذلك احتجاج محاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا علي ما سماه الهيستيريا الموجهة ضد المسلمين, ومانقل علي لسان وزير الداخلية السعودية الأمير نايف بن عبدالعزيز الذي قال ان الأمريكيين سيعاملون بالمثل حال وصولهم إلي المملكة ـ أدري أن السكوت في هذه الحالة ليس علامة رضاء, لكن ذلك لابد أن يثير تساؤلا اخر: هو علامة ماذا إذن؟!
(4)
انفتح باب الاجتراء علي العرب والمسلمين علي مصراعيه, فقد انتقلت العدوي من الولايات المتحدة إلي أوروبا, وتلاحقت القوانين والإجراءات العنصرية, التي لاحقت جنس العرب والمسلمين فيما يخص الهجرة واجراءات الإقامة وارتداء الحجاب وافتتاح المدارس وبناء المساجد حتي روسيا التي يعيش في داخلها نحو20 مليون مسلم تشددت في مسألة الحجاب ورفضت اصدار جواز سفر لمسلمة تتارية اسمها أميرة هدايتلينا, بل تعرض حجاب فتيات للتمزيق في تلك الجمهورية ذات الأغلبية المسلمة, ومنع مسلمو سيبيريا من وضع أساس مسجد لهم, وأطلق الرصاص علي الذين شرعوا في تلك المحاولة, وهذا الذي حدث في روسيا تكرر في أسبانيا الصديقة فيما يخص حجاب الفتيات المسلمات بالمدارس.
تبنت الحركات القومية المتعصبة حملة العداء للمسلمين في مختلف الدول الأوروبية, وعلي رأسها فرنسا وانجلترا وألمانيا, ودعا بعض قادة رابطة الشمال في ايطاليا إلي طرد المسلمين من البلاد ومنعهم من اقامة شعائرهم, ومنهم من نادي بحظر دخول المسلمين إلي ايطاليا من الأساس, وفي بلجيكا أثير جدل حول خطورة دروس الدين الإسلامي, لان طالبا أشاد في أحد تلك الدروس بالعفة الجنسية, ولم يعترض المدرس علي ذلك, فيما اعتبر منه تأييدا لفكرة العفة.
أما في هولندا فان خطباء المساجد تعرضوا لحملة ترهيب وإبتزاز, واجبروا علي الالتحاق بدورات لتعلم اللغة الهولندية, لكي يلقوا بها خطب الجمعة, وانذروا بالطرد اذا لم يتمكنوا من تلك اللغة, ويتحدثوا بها في المساجد( ترددت ذات الدعوة في ألمانيا), وفي تلك الأجواء المتحاملة علي العرب والمسلمين, نجح في انتخابات بلدية روتردام رجل من غلاة اليمين يعمل أستاذا لعلم الاجتماع اسمه ييم فورتان, كان قد أعلن في برنامجه أنه يطالب بتعديل الدستور لاستثناء المسلمين من المساواة العادلة أمام القانون!
في احدي خطب الجمعة بروتردام انتقد خطيب المسجد الشذوذ الجنسي واعتبره ضارا بالمجتمع, وبرغم ان الرجل, وهو مهاجر مغربي أسمه خليل مومني, كان يخاطب المسلمين في مكان عبادة خاص بهم, إلا أن كلامه سجل عليه وأقام الدنيا ولم يقعدها, وشكته50 منظمة لأنه تعدي علي قيم المجتمع, وطالب سياسيون هولنديون بتقييد حرية المساجد في ممارسة النقد, واضطر الرجل إلي الاعتذار فيما بعد قائلا انه كان حسن النية, ولم يخطر بباله أن يؤذي أحدا بما قال. ولكن حين تتابعت حملات تجريح وتحقير المسلمين وعقائدهم في مختلف العواصم الغربية, وكثفت في كتب وما لاحصر له من المواد الإعلامية, لم يحدث ذلك صدي يذكر في العالم الإسلامي, من أوريانا فلاتشي في ايطاليا إلي ميشيل هوالباك في فرنسا ومارتن ايميس في انجلترا, وانتهاء بجيري فولويل وبات روبرتسون, واضرابهما من الكارهين والمتعصبين في الولايات المتحدة, ولا أريد أن أقارن بالمصير الذي يلقاه أي كاتب أو أكاديمي أواعلامي اذا ما وجه نقدا ولو خفيفا للسياسة ـ وليس العقيدة ـ في إسرائيل, وكيف ان ذلك كفيل بأن ينهي حياته السياسية والثقافية والمهنية, ويضطره للاعتذار, وقد يساق إلي القضاء بتهمة معاداة السامية.
(5)
بعد زيارة لإسرائيل هذا الصيف, نشرت الكاتبة البريطانية هيلينا كوبان, المتخصصة في شئون الشرق الأوسط سلسلة من المقالات في الحياة اللندنية ذكرت, في احداها ما نصه: يحلو للأمريكيين الشكوي من التطرف الذي تدعو إليه بعض المدارس الدينية الإسلامية في أنحاء العالم, لكن هل دققوا في التعاليم المليئة بالحقد التي تنشرها مدارس اليشيفا والكوليل الدينية في إسرائيل والضفة الغربية وخارجها( الحياة ـ7/11).
ملاحظة الكاتبة البريطانية مهمة, وتصب في مجري الاستباحة الذي نتحدث عنه, وهو مانجده أيضا في الهند, التي يسيطر عليها اليمين الهندوسي( يمثله حزب بهاراتيا جناتا الحاكم) الذي يكن قادته بغضا للإسلام والمسلمين, وهو مايعبر عنه شعار لهم يقول: مسلمونون كادو هي استهان: باكستان ياقبرستان أي للمسلم مكانان اثنان فقط, باكستان, أو القبر, هؤلاء الهندوس المتعصبون هم الذين هدموا المسجد البابري أحد اقدم المساجد التاريخية بالهند, في اطار مشروعهم لبسط الهيمنة الهندوسية علي أرجاء البلاد, هذه المواقف المعادية للمسلمين تبثها المنظمات الهندوسية بين شبابها, وقد نشرت مجلة نيوزويك في عدد2001/7/24 تقريرا عن انشطة تلك المنظمات, وكيف انها بدأت تبث افكارها في مناهج التعليم بعد تولي اليمين السلطة, لتعبئة الهندوس ضد المسلمين وتأييد استئصالهم.
تتجلي تلك الاستباحة في أعلي درجاتها في وسائل الإعلام الأمريكية, وهو ما رصده وسجله الأستاذ جاك شاهين ـ أمريكي من أصل عربي ـ في كتب عدة أحدثها مؤلفه الذي صدر في العام الماضي بعنوان العرب الأشرار جدا, فضلا عن ذلك فالمراجع الثقافية الأوروبية, والمناهج الدراسية مسكونة بذات الروح, التي تزدري العرب والمسلمين وتقدمهم في صورة سلبية, بدرجات متفاوتة.
حين يطل المرء علي المشهد من هذه الزاوية يخلص إلي ذات النتيجة, إذ يدرك أن التحريض علي العرب والمسلمين والتشهير بهم, أناسا وعقائد, حلال للجميع, وهو قاعدة عندهم, أما إذا عبر البعض عندنا عن مخاصمتهم الغرب أو انتقادهم لقيمه, حتي اذا تم ذلك علي سبيل الاستثناء, فإنه يغدو مشكلة مدوية, يجرح بسببها المسلمون, ويطالبون بتنقية المناهج من أمثال تلك الشوائب علي الفور, وإلا حلت به لعنة الأوصياء وتعرضوا لسخطهم وعقابهم.
أصبح العرب والمسلمون ملطشة هذا الزمان, وان شئت ان تستخدم الوصف الفصيح فهو ملطسة, حيث اللطس في معاجمنا هو اللطم, ولكثرة ماتعرضنا لذلك اللطم من كل صوب, فلعلي لا أبالغ اذا قلنا إننا نعيش عصر استباحة الأمة, علي نحو لم يعرف في تاريخها الممتد, حتي في أوج الهيمنة الاستعمارية, فالاستعمار مارسته دول كبري, جاءت بجيوشها, واستهدفت ثروات بلاد بذاتها, أما في زمن الاستباحة فقد أصبحنا نتلقي اللطمات من كل من هب ودب, ونقهر بلا جيوش, ونهان بلا استثناء, ثم إنه في ظل الاستعمار أستنفرت الشعوب وهبت تناضل من أجل التحرير, أما في زماننا فقد تراجعت الهمة, وحل الفتور, وصرنا عاجزين عن أي تحريك!
(1)
شخصيا, استشعرت اثر اللطمة صبيحة الاربعاء الماضي10/23, وهي لم تكن لطمة واحدة, وإنما اثنتان, فقد وقعت يومذاك علي خبرين في صحف الصباح, ما إن قرأتهما حتي أصابني الوجع, الذي استحضر في ذهني نموذج الملطشة وفكرة الاستباحة, في الخبر الأول ان الحكومة الأمريكية قررت تجميد أموال12 مؤسسة وطنية سودانية عقابا لحكومة الخرطوم علي موقفها في مباحثات السلام بالجنوب, أما قائمة المؤسسات المعنية فقد كانت مذهلة حقا, إذ ضمت مؤسسات حيوية مثل هيئة الاذاعة والتليفزيون وشركة السجائر الوطنية, ومؤسسات الكهرباء والبريد والبرق, والبترول والسكر, وشركتي الشاي والمناطق والأسواق الحرة, وهو مايعني أن القرار الأمريكي استهدف توجيه ضربة قاضية, وقاصمة للاقتصاد السوداني يراد لها أن تصيبه بالانهيار والشلل, وليت الدافع إلي ذلك درء خطر هددت به السودان أمن الولايات المتحدة أو مصالح شعبها, الأمر الذي قد يسوغ إعلان حرب اقتصادية عليها من ذلك القبيل, ولكن المدهش في الأمر أن واشنطن لجأت إلي تلك الخطوة لتركيع حكومة الخرطوم واجبارها علي الامتثال لشروط قيادة التمرد الجنوبي, بناء علي قانون غريب أصدره الكونجرس باسم سلام السودان, ينص علي فرض عقوبات علي الحكومة السودانية اذا لم تحرز تقدما في عملية السلام مع المتمردين.
حين يفيق المرء من الذهول, ويتأكد من أن ما وقعت عليه عيناه حقيقة, وليس وهما, فان أسئلة عديدة تلح عليه, منها علي سبيل المثال:: ما شأن واشنطن بصراع داخلي في السودان عمره نحو عشرين عاما؟ ولماذا التركيز علي السودان بالذات دون سائر الدول التي تحفل بالصراعات في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية؟ ثم من نصب الولايات المتحدة قاضيا في الموضوع؟ وهل أصبحت واشنطن مقرا لحكومة عالمية قررت من جانبها أن تتعامل مع شعوبنا بحسبانهم رعايا, يؤمرون, فلا يملكون إلا الامتثال والطاعة, وإلا حلت عليهم اللعنة وتعرضوا للعقاب؟ ثم كيف واتت أعضاء الكونجرس تلك الجرأة التي تصل إلي حد الصفاقة, لكي يصدروا قانونا يقرر معاقبة حكومة الخرطوم اذا لم تحرز تقدما في عملية السلام, في حين يعفي الطرف الآخر من أي عقاب أو عتاب اذا ما عوق التقدم في العملية ذاتها, وفرض شروطا يتعذر علي أي دولة تحترم نفسها أن تقبلها؟ ـ وكيف يمكن أن نفسر لجوء واشنطن إلي معاقبة حكومة السودان علي ذلك النحو, في حين تقدم في الوقت ذاته مائة مليون دولار علي ثلاث سنوات مساعدة منها ودعما لحركة التمرد الجنوبي؟ وحتي اذا ذهبنا بعيدا وقبلنا بالولايات المتحدة قاضيا في الموضوع, ألا يجرح هذا التصرف الأخير نزاهة القاضي وعدالته, ويكون سببا كافيا لتنحيته عن نظر القضية؟! ـ وإذ اجترأ الكونجرس علي السودان بهذه الصورة الفجة, فما الذي يمنع من تكرار التطاول وإنزال العقاب بأي دولة عربية أو إسلامية أخري, إذا تصرفت علي نحو لايلقي هوي في واشنطن؟
(2)
في الخبر الثاني ان الاتحاد الأوروبي هدد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بوقف التعامل معه, اذا فشلت حكومته الجديدة في الحصول علي ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني, ووقف التعامل مع الرجل لايعني قطع الاتصال السياسي فحسب, وإنما يعني ايضا وقف المساعدات المالية التي تقرر منحها للسلطة الفلسطينية لإغرائها بالانخراط في عملية السلام, ومعروف أن اسرائيل ومعها الولايات المتحدة يتبنيان الدعوة إلي إقصاء الرئيس عرفات, وإعادة بناء السلطة الفلسطينية من جديد, وبطبيعة الحال فان ذلك المطلب لم يقدم غيرة علي الديمقراطية, ولا حرصا علي صدق تمثيل الشعب الفلسطيني ولا سعيا لقطع دابر الفساد المالي والسياسي الذي اتهمت به بعض عناصر السلطة, ولكن المراد به شئ واحد هو ان تحل محل عرفات قيادة جديدة وفريق آخر ترضي عنه إسرائيل والولايات المتحدة, علما بأن عرفات قدم لهم أقصي مرونة ممكنة وتنازل لهم عن الكثير, لكن ذلك كله لم يكن كافيا, لأنهم لايريدون قيادة متجاوبة بنسبة70 أو80%, إنما يريدون استعدادا للتنازل يصل إلي مائة في المائة!
كنا نقول ان لاوروبا موقفا متميزا عن الولايات المتحدة, وانها أقل انصياعا للإرادة الاسرائيلية, واكثر اعتدالا في موقفها من العرب والفلسطينيين, ولكن يبدو أن ذلك كله يتراجع الآن, حيث الظاهر أن حالة الرخاوة المخيمة علي العالم العربي أغرت الأوروبيين بالانضمام إلي طابور لطس العرب والمسلمين, ومن ثم مارسوا الاستقواء بحق الفلسطينيين, فأظهروا لهم العين الحمراء.
رسالة الخبرين واحدة, فحكومة السودان يجب أن تستجيب لشروط قيادة التمرد الجنوبي, والقيادة الفلسطينية يجب أن تنصاع للمطالب الإسرائيلية, وفي الحالتين ينبغي أن يدرك الجميع انهم ليسوا أحرارا في تحري المصالح, ولكن هناك أوصياء منتدبين لرعاية حسن السير والسلوك في المنطقة, وبيدهم الكثير الذي يفعلونه لاجبار حكوماتها علي الالتزام بحدود الأدب المطلوب ولذلك فان من مصلحة تلك الحكومات أن تتجاوب بالحسني مع مايريده الأوصياء, أما من يتقاعس عن ذلك فهناك من سيتولي تأديبه علي النحو الذي تقدم!
(3)
لم أتحدث عن استقواء إسرائيل علي الفلسطينيين, واستخفافها بالعرب, كما لم أتحدث عن استقواء الأمريكان علي العراقيين في جانب والأفغان في جانب آخر, فاستباحة هذه الشعوب أصبحت خبرا يوميا, لم تتوقف الصحف عن تسجيل وقائعه خلال الأشهر الأخيرة, وهي وقائع تقطع بأن الممارسات التي تتم بحق تلك الشعوب العربية والإسلامية تمثل انتهاكا صارخا لقيم القانون والأخلاق والأعراف, حيث يد الاستكبار مطلقة بغير قيد, وحياة الشعوب وعمران البلاد وسيادتها, كل ذلك يعصف به بغير حدود.
لقد مررنا بما حدث مع السودان, وكيف صودرت أموال مؤسساته الحيوية, وسلاح المصادرة هذا مشهر في وجه الجميع, حتي قامت الادارة الأمريكية خلال هذا العام بمصادرة أموال عشرات بل مئات المؤسسات والأشخاص في العالم العربي والإسلامي, ومن ثم أصبحت أي جهة ناشطة في العالم العربي والاسلامي معرضة للاغتيال بجرة قلم, بعدما انقلب الحال واصبح الكل متهما حتي تثبت براءته.
في هذا السياق لابد أن تستوقفنا الاجراءات المهينة التي اصبح يخضع لها العرب والمسلمون الذين يضطرون للتعامل مع الولايات المتحدة, فهم يذلون في السفارات لكي يحصلوا علي تأشيرات الدخول, إذ علي كل واحد ان يتقدم بطلبه قبل ثلاثة أشهر من موعد سفره, والمسألة ليست سهلة فهناك عشرة آلاف طالب من أبناء عالمنا العربي والإسلامي لايزالون منذ شهور عاجزين عن الحصول علي تأشيرات لاستكمال دراستهم هناك, والذين يحصلون علي تلك التأشيرات لهم صفوف خاصة يقفون فيها في المطارات الأمريكية, وهناك تؤخذ بصماتهم وتلتقط صورهم, ويخضعون لمختلف صور الاستجواب والتحري, باعتبار ان الاصل في الجميع أنهم مشبوهون, ولأنهم كذلك فانهم يفتشون بعناية وتؤخذ منهم أية أوراق تتضمن عناوين أو أرقام هواتف في الولايات المتحدة, وإذا قدر للواحد منهم أن يخرج من المطار في النهاية فانه يظل ملاحقا ومراقبا حيثما ذهب, وأي تغيير في عنوانه أو في موضوع دراسته اذا كان مبتعثا, يجب ان تخطر به الجهات الأمريكية المختصة, علما بأنه ليس حرا في أن يدرس أي شيء ولكن هناك مجالات يحظر علي العرب والمسلمين التخصص فيها.
ثمة آلاف التفاصيل الأخري التي ترسم ملامح الصورة, والتي يتعلق بعضها بأوضاع المسلمين الأمريكيين الذين يعيشون داخل البلاد, لكن مايدهش له المرء حقا ليس تلك اللوثة التي انتابت الأجهزة الأمريكية, واقترنت بدرجة عالية من الفظاظة( نائب رئيس الوزراء الماليزي ذهب ليلقي كلمة بلاده أمام الأمم المتحدة في نيويورك, واجبر علي خلع حذائه, وحزام سرواله قبل صعوده إلي الطائرة التي حملته من لوس انجيليس!) ـ إنما المدهش اكثر ان ذلك كله لم يقابل بما يستحقه من استياء وغضب في العواصم العربية والإسلامية, استثني من ذلك احتجاج محاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا علي ما سماه الهيستيريا الموجهة ضد المسلمين, ومانقل علي لسان وزير الداخلية السعودية الأمير نايف بن عبدالعزيز الذي قال ان الأمريكيين سيعاملون بالمثل حال وصولهم إلي المملكة ـ أدري أن السكوت في هذه الحالة ليس علامة رضاء, لكن ذلك لابد أن يثير تساؤلا اخر: هو علامة ماذا إذن؟!
(4)
انفتح باب الاجتراء علي العرب والمسلمين علي مصراعيه, فقد انتقلت العدوي من الولايات المتحدة إلي أوروبا, وتلاحقت القوانين والإجراءات العنصرية, التي لاحقت جنس العرب والمسلمين فيما يخص الهجرة واجراءات الإقامة وارتداء الحجاب وافتتاح المدارس وبناء المساجد حتي روسيا التي يعيش في داخلها نحو20 مليون مسلم تشددت في مسألة الحجاب ورفضت اصدار جواز سفر لمسلمة تتارية اسمها أميرة هدايتلينا, بل تعرض حجاب فتيات للتمزيق في تلك الجمهورية ذات الأغلبية المسلمة, ومنع مسلمو سيبيريا من وضع أساس مسجد لهم, وأطلق الرصاص علي الذين شرعوا في تلك المحاولة, وهذا الذي حدث في روسيا تكرر في أسبانيا الصديقة فيما يخص حجاب الفتيات المسلمات بالمدارس.
تبنت الحركات القومية المتعصبة حملة العداء للمسلمين في مختلف الدول الأوروبية, وعلي رأسها فرنسا وانجلترا وألمانيا, ودعا بعض قادة رابطة الشمال في ايطاليا إلي طرد المسلمين من البلاد ومنعهم من اقامة شعائرهم, ومنهم من نادي بحظر دخول المسلمين إلي ايطاليا من الأساس, وفي بلجيكا أثير جدل حول خطورة دروس الدين الإسلامي, لان طالبا أشاد في أحد تلك الدروس بالعفة الجنسية, ولم يعترض المدرس علي ذلك, فيما اعتبر منه تأييدا لفكرة العفة.
أما في هولندا فان خطباء المساجد تعرضوا لحملة ترهيب وإبتزاز, واجبروا علي الالتحاق بدورات لتعلم اللغة الهولندية, لكي يلقوا بها خطب الجمعة, وانذروا بالطرد اذا لم يتمكنوا من تلك اللغة, ويتحدثوا بها في المساجد( ترددت ذات الدعوة في ألمانيا), وفي تلك الأجواء المتحاملة علي العرب والمسلمين, نجح في انتخابات بلدية روتردام رجل من غلاة اليمين يعمل أستاذا لعلم الاجتماع اسمه ييم فورتان, كان قد أعلن في برنامجه أنه يطالب بتعديل الدستور لاستثناء المسلمين من المساواة العادلة أمام القانون!
في احدي خطب الجمعة بروتردام انتقد خطيب المسجد الشذوذ الجنسي واعتبره ضارا بالمجتمع, وبرغم ان الرجل, وهو مهاجر مغربي أسمه خليل مومني, كان يخاطب المسلمين في مكان عبادة خاص بهم, إلا أن كلامه سجل عليه وأقام الدنيا ولم يقعدها, وشكته50 منظمة لأنه تعدي علي قيم المجتمع, وطالب سياسيون هولنديون بتقييد حرية المساجد في ممارسة النقد, واضطر الرجل إلي الاعتذار فيما بعد قائلا انه كان حسن النية, ولم يخطر بباله أن يؤذي أحدا بما قال. ولكن حين تتابعت حملات تجريح وتحقير المسلمين وعقائدهم في مختلف العواصم الغربية, وكثفت في كتب وما لاحصر له من المواد الإعلامية, لم يحدث ذلك صدي يذكر في العالم الإسلامي, من أوريانا فلاتشي في ايطاليا إلي ميشيل هوالباك في فرنسا ومارتن ايميس في انجلترا, وانتهاء بجيري فولويل وبات روبرتسون, واضرابهما من الكارهين والمتعصبين في الولايات المتحدة, ولا أريد أن أقارن بالمصير الذي يلقاه أي كاتب أو أكاديمي أواعلامي اذا ما وجه نقدا ولو خفيفا للسياسة ـ وليس العقيدة ـ في إسرائيل, وكيف ان ذلك كفيل بأن ينهي حياته السياسية والثقافية والمهنية, ويضطره للاعتذار, وقد يساق إلي القضاء بتهمة معاداة السامية.
(5)
بعد زيارة لإسرائيل هذا الصيف, نشرت الكاتبة البريطانية هيلينا كوبان, المتخصصة في شئون الشرق الأوسط سلسلة من المقالات في الحياة اللندنية ذكرت, في احداها ما نصه: يحلو للأمريكيين الشكوي من التطرف الذي تدعو إليه بعض المدارس الدينية الإسلامية في أنحاء العالم, لكن هل دققوا في التعاليم المليئة بالحقد التي تنشرها مدارس اليشيفا والكوليل الدينية في إسرائيل والضفة الغربية وخارجها( الحياة ـ7/11).
ملاحظة الكاتبة البريطانية مهمة, وتصب في مجري الاستباحة الذي نتحدث عنه, وهو مانجده أيضا في الهند, التي يسيطر عليها اليمين الهندوسي( يمثله حزب بهاراتيا جناتا الحاكم) الذي يكن قادته بغضا للإسلام والمسلمين, وهو مايعبر عنه شعار لهم يقول: مسلمونون كادو هي استهان: باكستان ياقبرستان أي للمسلم مكانان اثنان فقط, باكستان, أو القبر, هؤلاء الهندوس المتعصبون هم الذين هدموا المسجد البابري أحد اقدم المساجد التاريخية بالهند, في اطار مشروعهم لبسط الهيمنة الهندوسية علي أرجاء البلاد, هذه المواقف المعادية للمسلمين تبثها المنظمات الهندوسية بين شبابها, وقد نشرت مجلة نيوزويك في عدد2001/7/24 تقريرا عن انشطة تلك المنظمات, وكيف انها بدأت تبث افكارها في مناهج التعليم بعد تولي اليمين السلطة, لتعبئة الهندوس ضد المسلمين وتأييد استئصالهم.
تتجلي تلك الاستباحة في أعلي درجاتها في وسائل الإعلام الأمريكية, وهو ما رصده وسجله الأستاذ جاك شاهين ـ أمريكي من أصل عربي ـ في كتب عدة أحدثها مؤلفه الذي صدر في العام الماضي بعنوان العرب الأشرار جدا, فضلا عن ذلك فالمراجع الثقافية الأوروبية, والمناهج الدراسية مسكونة بذات الروح, التي تزدري العرب والمسلمين وتقدمهم في صورة سلبية, بدرجات متفاوتة.
حين يطل المرء علي المشهد من هذه الزاوية يخلص إلي ذات النتيجة, إذ يدرك أن التحريض علي العرب والمسلمين والتشهير بهم, أناسا وعقائد, حلال للجميع, وهو قاعدة عندهم, أما إذا عبر البعض عندنا عن مخاصمتهم الغرب أو انتقادهم لقيمه, حتي اذا تم ذلك علي سبيل الاستثناء, فإنه يغدو مشكلة مدوية, يجرح بسببها المسلمون, ويطالبون بتنقية المناهج من أمثال تلك الشوائب علي الفور, وإلا حلت به لعنة الأوصياء وتعرضوا لسخطهم وعقابهم.