هويدي 15-10-2002
هي مفارقة لاتخلو من سخرية, أن تكون الخبرة الأفغانية في مرحلتها الطالبانية نموذجا لما يتعين رفضه, ثم تدور دورة الزمن لتصبح الخبرة الأفغانية في إسقاط نظام طالبان نموذجا يراد تعميمه. ذلك أنك إذا فتشت في خلفية أصوات دعاة الإمبراطورية الأمريكية الذين ينادون بتغيير أنظمة المنطقة المتهمة بالمروق أو العقوق, فستجد خبرة التجربة الأفغانية كامنة هناك. وقد لا تحتاج إلي بذل جهد في عملية التفتيش, لأنك إذا ما قرأت التحليلات والتعليقات الأمريكية التي تنشر في تأييد الحملة العسكرية علي العراق, فستجد دائما إحالة إلي مرجعية الحالة الأفغانية, واستدلالا لا يحلو من اعتداد وزهو بما تحقق هناك من نجاحات.
ولما كنت أحد شهود الحدث الأفغاني, وأتيح لي أن أتابع تطوراته المختلفة, خصوصا في المرحلتين الطالبانية ومابعدها, حيث قمت بزيارتين لأفغانستان هذا العام, كانت آخرهما قبل أسبوعين, فربما سمح لي ذلك بأن أقدم شهادتي في صدد ما يجري هناك, علي الأقل من باب العلم والإحاطة بالنموذج الذي يراد تعميمه.
(1)
يوم وصلت إلي كابول كان التوتر والقلق يخيمان علي المدينة. ولم أستغرب حين علمت لاحقا أن حالة الطوارئ القصوي معلنة في العاصمة. فقد كان وصولي بعد24 ساعة من وقوع حادثين جسيمين في يوم واحد صدما الجميع. الأول كان تفجيرا لعبوة ناسفة في سوق كابول, أدي إلي مصرع50 شخصا وإصابة150 بجراح متفاوتة, والثاني كان محاولة لاغتيال رئيس الدولة السيد حامد كرزاي في قندهار. الانفجار الأول هز بقوته العاصمة حقا, لكنه أيضا هز صورة النظام الجديد وجرح هيبته, باعتبار أن المدينة لم تشهد له مثيلا حتي في ظل نظام طالبان. أما الثاني فقد هز مكانة رئيس الدولة وجرح صورته,. ذلك أنه ماكان يخطرعلي بال أحد أن يكون الرجل أهم رمز بشتوني في الحكم, ثم يتعرض لمحاولة القتل في قلعة البشتون وعاصمتهم التاريخية.
كنت قد تلقيت أول جرعة من التوتر في الطائرة الأفغانية التي ركبتها من دبي, حيث علمت أنها مستأجرة من شركة خاصة, وأن شركةالطيران الأفغانية ايريانا ليس لديها سوي طائرة واحدة صالحة للتشغيل, وأن الطائرتين تعملان ليل نهار علي الخطوط الدولية والداخلية, وتستخدمان لنقل الركاب والبضائع, الأمر الذي يجعلهما في حالة إنهاك مستمر, بحيث إن أي تراخ خطأ في الصيانة التي يجب أن تستمر علي مدار الساعة لابد أن تكون له عواقبه الوخيمة.
هذه المعلومات سمعتها من جار لي, اكتشفت أنه مهندس الطائرة الذي يلازمها في كل ذهاب وإياب لإنقاذ الموقف عند حدوث أي طارئ, تماما كما يلازم الطبيب مريضا في غرفة الإنعاش. وإذ شاءت المقادير أن أتلقي ذلك التقرير والطائرة معلقة بين الأرض والسماء, فلك أن تتصور السيناريوهات التي ظلت تتتابع في مخيلتي طول الوقت, خصوصا حين تهتز الطائرة بعنف إثر مرورها ببعض المطبات الهوائية, ثم لك أن تتصور مقدار عمق النفس الذي أخذته, وحالة الاسترخاء التي حلت بي فجأة حين أعلن المضيف علينا نبأ استعداد الطائرة للهبوط في مطار كابول. غيرأن الشعور بالارتياح لم يلبث أن تراجع حين ألقيت نظرة علي أرض المطار, وانتابني شعور بأنني في الطريق إلي ساحة حرب وليس إلي مطار مدني. فثمة أشلاء طائرات مدمرة منثورة في جانب, ومتاريس رملية عالية تظهر وراءها خوذات جنود القوات الدولية في جانب آخر, وبين هذا وذاك تتراءي الحفر التي قصد بها أن تخرب الممرات, ولاتزال شاهدة علي سنوات الاقتتال المرير والمجنون بين الأخوة الأعداء.
(2)
ليست هذه كابول التي أعرف. نعم رأيتها في عام79 وديعة وهادئة تتمدد في تراخ وكسل, لكني في زياراتي اللاحقة ما رأيتها إلا مستسلمة للحزن ومصلوبة علي مذبح الانكسار. وجدت الحزن ممتزجا بالذهول في شهر يناير الماضي, بعد سقوط نظام وحكومة طالبان, وتولي الطاجيك للسلطة في البلد الذي كان محكوما دائما بالأغلبية البشتونية. ليس ذلك فحسب وإنما جاء الطاجيك مصحوبين بالأمريكان والانجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم من عساكر حلفاء الغرب. وأدرك أهل كابول أن مدينتهم التي ظلت مغلقة الأبواب والنوافذ طيلة السنوات الخمس التي استغرقها حكم طالبان, قد تحولت إلي مدينة بلا أبواب, مفتوحة ومكشوفة لكل من هب ودب من الناس.
هذه المرة, انضاف إلي كل ما سبق انشداد الأعصاب وتوترها. إذ لفت انتباهي في الطريق إلي الفندق كثرة الحواجز الأسمنتية, وتعدد عمليات تفتيش السيارات العابرة, الأمر الذي أدي إلي إرباك المرور وتكدس السيارات في الشوارع. وقد اكتشفت لاحقا أن التفتيش والحواجز علي طريق المطار أهون منه كثيرا في وسط البلد, خصوصا في الشوارع القريبة من السفارات الغربية, التي يظن أنها مستهدفة.
لم يكن الأمر كذلك في شهر يناير الماضي. إذ كان واضحا أن العاصمة هادئة ومؤمنة بصورة نسبية, سواء بسبب ما حل بالناس من إنهاك وتعب وخوف, او بسبب كثافة وجود القوات الدولية علي أرضها والطائرات الأمريكية في سمائها. أما الاضطرابات والاشتباكات فكانت مستمرة خارجها, حتي كان البعض يتندر آنذاك قائلين أن كرزاي رئيس في مملكة كابول فقط, وانه يسعي إلي تحسين علاقاته مع الممالك الشقيقة الأخري في بلاد الأفغان.
الانفجار الكبير الذي وقع قبل24 ساعة من وصولي كان التاسع من نوعه الذي شهدته العاصمة خلال عشرة أيام, الأمر الذي أصاب الحكومة بالذعر قبل الناس, لان الاعتقاد الذي كان سائدا أن عناصر حركة طالبان وتنظيم القاعدة تلقوا ضربات قاصمة وساحقة في العاصمة, وانهم طوردوا خارجها ولوحقوا فردا فردا, وتم القضاء علي تجمعاتهم وتدمير أسلحتهم وذخيرتهم, بواسطة الأسلحة والقذائف الأمريكية الفتاكة. ورغم كل ذلك فظاهر الأمر أن الأمن لم يستتب بعد في العاصمة.
(3)
حين حمل بعض المسئولين في الحكومة حركة طالبان وتنظيم القاعدة المسئولية عن انفجارات العاصمة, فإن ذلك زاد من قلق الناس ولم يطمئنهم. ولأنه لم يلق القبض علي أحد, ولم يتم العثور علي أي دليل يكشف عن هوية الفاعلين, فقد صار بوسع كل أحد أن يتهم أي أحد. فمن قائل إن طالبان وراء عمليات التفجير, وقائل إن طالبان لم يعد بوسعها أن تمارس نشاطا في العاصمة, في ظل الوجود الأمني المكثف بها, وان الفاعلين هم تجمعات بشتونية أخري غير معروفة رافضة لهيمنة الطاجيك والأمريكان. وقائل أن الأمر لا يخرج عن كونه صراعا بين أجهزة الأمن في الحكومة حول الصلاحيات, وان عناصر في أحد تلك الأجهزة أرادت أن تثبت عجز وفشل الجهاز المهيمن في الحفاظ علي الامن. وآخرون اتهموا دولا أجنبية( باكستان هي المقصودة) بأنها تسعي من خلال عملائها إلي زعزعة أركان النظام القائم الذي لا يدين بالولاء لها. وهناك من ذهب إلي أن الأمريكان هم وراء ما جري, لأنه إزاء ارتفاع بعض الأصوات الداعية إلي إخراجهم من البلاد, فإن افتعال التفجيرات يغدو إعلانا عن استمرار الخطر, ومن ثم تأكيد ضرورة استمرار الوجود الأمريكي, الذي بغيره يسقط النظام.
كل هذه الاحتمالات واردة, كما أنها جميعا لا دليل ماديا عليها, وغير مؤكدة ـ لكن المقطوع به أن شبح الخوف عاد يطل برأسه مرة أخري في كابول بعد طول غياب. وبعد محاولة قتل رئيس الدولة في قندهار وبعد أن قتل في قلب العاصمة نائب رئيس الوزراء الحاج عبد القادر في أثناء خروجه من مكتبه, وقبله قتل وزير الحج في مطار كابول, فإن كل مسئول في الحكومة اصبح لا يعرف إذا ما خرج من بيته ما إذا كان سيعود إليه سالما أم لا.
لفت نظري أحد الخبراء إلي أن المتاريس الموضوعة في الشوارع, خصوصا في قلب المدينة وقرب مبانيها الحيوية لا تعتمد علي أكياس الرمل كما هو المتعارف عليه, ولكنها عبارة عن كتل أسمنتية أسطوانية صبت فوق الأرض. والأولي ـ أكياس الرمل ـ تحمي من إطلاق النار, أما الثانية فهي تعوق حركة الآليات. انتبهت إلي أن تلك الكتل الأسمنتية لم تكن موجودة في شهر يناير الماضي, وسألت محدثي عن تفسيره لظهورها في العاصمة في الآونة الأخيرة. فأعاد علي مسامعي التذكير بأن أكياس الرمل تنصب تحسبا للاشتباكات التي قد يتخللها إطلاق النار, أما الكتل الأسمنتية التي تعترض شوارع المناطق الحيوية فإنها توضع لتعويق تقدم الدبابات. لم افهم المقصود بالضبط فطلبت إيضاحا, حينئذ قال بصوت أقرب إلي الهمس إن تلك الكتل موضوعة تحسبا لاحتمالات حدوث انقلاب!
لاحظ صاحبنا الخبير دهشتي, فأضاف أن ثمة صراعا داخل الحكومة, وان الجنرال محمد فهيم نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع واهم شخصية طاجيكية في النظام ليس علي وفاق مع رئيس الدولة حامد كرزاي, وان الثقة المتبادلة بين الرجلين ضعفت إلي حد كبير في الأشهر الأخيرة, ودلل علي ذلك بملاحظتين دالتين, الأولي قرار كرزاي الاستغناء عن حراسه الطاجيك من أبناء وادي بنشير واستبدالهم بحراس أمريكيين, الأمر الذي اغضب الجنرال فهيم ـ هو أيضا من وادي بنشير ـ وأثار استياءه, رغم انه استفاد أدبيا من تمسك كرزاي بالحماية الأمريكية علي ذلك النحو المكشوف.
الملاحظة الثانية أن صحيفة بايام مجاهد ـ معناها رسالة الجهاد ـ الناطقة باسم التحالف الشمالي نشرت في عدد9/23 افتتاحية هاجمت فيها الرئيس كرزاي بشدة حيث انتقدت احتماءه بالحراس الأمريكيين, وقالت صراحة انه مالم يغير سياساته فانه سيعرض البلاد لمخاطر جمة تقودها الي مزيد من الظلام. وكانت تلك هي المرة الأولي التي تعلن فيها دوائر التحالف الشمالي نقدا بهذه الحدة له.
مثل هذه المؤشرات التي ظهرت علي السطح في الأسابيع الأخيرة جاءت دالة علي أن ثمة انقساما داخل الحكومة, قيل لي إن له اسبابا عدة, في المقدمة منها سياسة وتوجيهات النظام الجديد والوجود الأمريكي في البلاد ـ ازاء ذلك فقد خشيت الأطراف التي تدير اللعبة ان يطيح الجنرال فهيم المهيمن علي القوات المسلحة بالرئيس الذي جاء به الأمريكيون وأصبحوا يقومون بدور الكفيل له في العلن.
(4)
كما ان صحف الصباح في بلادنا لاتكاد تخلو كل يوم تقريبا من اخبار الاقتتال في افغانستان, فلا غرابة ان يكون ذلك الاقتتال محور الحديث اليومي في امسيات كابول, التي تصب فيها مختلف التقارير والشائعات.
حين راجعت الملاحظات التي دونتها بهذا الصدد في نهاية الأسبوع الذي أمضيته هناك, وجدت ان أفغانستان اصبحت اقرب ماتكون الي حقل الغام كبير, عجزت الحكومة عن إبطال مفعولها. بالتالي فان مالم ينفجر منها يصبح مرشحا للانفجار في أي وقت. فثمة قتال لايزال يدور بين القوات الأمريكية الخاصة وبين فلول تنظيم القاعدة وطالبان, التي يقال ان قياداتها وعناصرها مازالت محتمية بالجبال الشاهقة والقبائل المنتشرة علي الحدود بين أفغانستان وباكستان. وثمة صراع لم يتوقف علي النفوذ والهيمنة في الشمال بين الطاجيك والأوزبك. وصراع آخر مكتوم داخل صفوف الطاجيك الذين اثار استياءهم تفرد البنشيريين( أبناء وادي بنشير) بالسلطة, وحجبهم بقية القبائل الطاجيكية, وهناك صراع بين الموالين للجنرال محمد فهيم من جهة والموالين للرئيس حامد كرازاي من جهة ثانية. وهناك ولايات اصبحت شبه مستقلة عن السلطة التي لم تستطع ان تبسط عليها نفوذها, كما هو الحال في ولاية بلخ الأوزبكية وعاصمتها مزارشريف, التي يحكمها الجنرال عبدالرشيد دوستم, وولاية هيرات التي يحكمها اسماعيل خان. وهناك تحرشات مستمرة بين حاكمي هيرات وقندهار بسبب التسابق علي بسط النفوذ ع
لي بعض المواقع الاستراتيجية بين الولايتين. أما ولايات الجنوب والشرق البشتونية الأكثر تعاطفا مع حركة طالبان, فان تمردها علي الحكومة المحسوبة علي الطاجيك مستمر, والاشتباكات فيها لم تهدأ منذ سقط نظام طالبان في شهر نوفمبر من العام الماضي.
حين ينقل المرء هذه النزاعات علي خريطة أفغانستان, فسيجد ان الهدوء النسبي لايكاد يتجاوز ولايات اقاصي الشمال والوسط, التي تحتل مايوازي30% من مساحة البلد تقريبا. أما الاضطرابات فانها مستمرة في جزء من الشمال, وفي الشرق والغرب والجنوب, التي تمثل الـ70% المتبقية. من هذه الزاوية فبوسعنا ان نقول بأن الموقف الأمني كان افضل في ظل حكم طالبان, حيث كانت قوات التحالف الشمالي تسيطر علي5 أو6% من الرقعة الأفغانية, بينما كان الهدوء سائدا في بقية انحاء البلاد. حتي إذا قلت ان الوضع من الناحية الأمنية كان سيئا في عهد طالبان, فلن تستطيع إلا ان تقر بأنه اصبح اسوأ الآن.
(5)
في لقاء مع البروفيسور برهان الدين رباني رئيس الجمهورية السابق اثرت موضوع السلام والاستقرار في أفغانستان, وسألته عن حل الاشكال الذي يتفاقم بمضي الوقت, فكان رأيه ان اعادة السلام الي البلاد تتطلب وقتا, لان الجراح عميقة والعقد كثيرة لكنه اضاف ان الوضع الراهن لايساعد علي تحقيق السلام المنشود ولايختصر رحلته. سألته لماذا؟ فقال: ان البعض يظن بأن وجود القوات الدولية والأمريكية يشكل ضمانا لتحقيق الاستقرار وإعادة السلام, وهذا غير كاف, فضلا عن انه بمضي الوقت أصبح عنصرا مهددا للاستقرار والسلام, أولا لأن الوجود بحد ذاته اصبح مصدرا لاستفزاز كثيرين في البلاد وجرح كبريائهم, وثانيا لكثرة الأخطاء التي يرتكبها الأمريكيون في قصفهم العشوائي لتجمعات المدنيين وقراهم. وهو ماأدي الي تأليب القبائل عليهم ونقمتهم علي تصرفاتهم( مجلة نيوزويك في عددها الأخير الصادر في10/8 سجلت نفس الملاحظة, وذكرت ان عناصر القوات الخاصة يتصرفون مثل رعاة البقر الأغبياء في أفغانستان).
قال رباني( الوحيد الذي يلقب بالأستاذ في افغانستان) ان السلام له شرطان, الأول خروج القوات الأمريكية والدولية من البلاد, بعد ان أدت مهمتها. والثاني توفير الاطمئنان علي الأوضاع السياسية في البلاد, من خلال وضع دستور, واجراء انتخابات حرة لتشكيل مجلس نيابي وتشريعي, يفتح الطريق لمشاركة الجميع في تحمل المسئولية.
لكن هذين الشرطين يصعب تحقيقهما في الوقت الراهن, لأن الأمريكيين لايريدون الخروج, ولايريدون اجراء انتخابات حرة, خشية ان تسفر عن وضع يتعارض مع استمرارهم. لذلك فانهم يفضلون ابقاء الوضع كما هو عليه الآن, رغم مايشوبه من قلق وتوتر.
حين قرأت بعد العودة ان السيد حامد كرازاي مرشح لنيل جائزة نوبل للسلام في أفغانستان قلت: إن عرض الفيلم الأمريكي لايزال مستمرا.
هي مفارقة لاتخلو من سخرية, أن تكون الخبرة الأفغانية في مرحلتها الطالبانية نموذجا لما يتعين رفضه, ثم تدور دورة الزمن لتصبح الخبرة الأفغانية في إسقاط نظام طالبان نموذجا يراد تعميمه. ذلك أنك إذا فتشت في خلفية أصوات دعاة الإمبراطورية الأمريكية الذين ينادون بتغيير أنظمة المنطقة المتهمة بالمروق أو العقوق, فستجد خبرة التجربة الأفغانية كامنة هناك. وقد لا تحتاج إلي بذل جهد في عملية التفتيش, لأنك إذا ما قرأت التحليلات والتعليقات الأمريكية التي تنشر في تأييد الحملة العسكرية علي العراق, فستجد دائما إحالة إلي مرجعية الحالة الأفغانية, واستدلالا لا يحلو من اعتداد وزهو بما تحقق هناك من نجاحات.
ولما كنت أحد شهود الحدث الأفغاني, وأتيح لي أن أتابع تطوراته المختلفة, خصوصا في المرحلتين الطالبانية ومابعدها, حيث قمت بزيارتين لأفغانستان هذا العام, كانت آخرهما قبل أسبوعين, فربما سمح لي ذلك بأن أقدم شهادتي في صدد ما يجري هناك, علي الأقل من باب العلم والإحاطة بالنموذج الذي يراد تعميمه.
(1)
يوم وصلت إلي كابول كان التوتر والقلق يخيمان علي المدينة. ولم أستغرب حين علمت لاحقا أن حالة الطوارئ القصوي معلنة في العاصمة. فقد كان وصولي بعد24 ساعة من وقوع حادثين جسيمين في يوم واحد صدما الجميع. الأول كان تفجيرا لعبوة ناسفة في سوق كابول, أدي إلي مصرع50 شخصا وإصابة150 بجراح متفاوتة, والثاني كان محاولة لاغتيال رئيس الدولة السيد حامد كرزاي في قندهار. الانفجار الأول هز بقوته العاصمة حقا, لكنه أيضا هز صورة النظام الجديد وجرح هيبته, باعتبار أن المدينة لم تشهد له مثيلا حتي في ظل نظام طالبان. أما الثاني فقد هز مكانة رئيس الدولة وجرح صورته,. ذلك أنه ماكان يخطرعلي بال أحد أن يكون الرجل أهم رمز بشتوني في الحكم, ثم يتعرض لمحاولة القتل في قلعة البشتون وعاصمتهم التاريخية.
كنت قد تلقيت أول جرعة من التوتر في الطائرة الأفغانية التي ركبتها من دبي, حيث علمت أنها مستأجرة من شركة خاصة, وأن شركةالطيران الأفغانية ايريانا ليس لديها سوي طائرة واحدة صالحة للتشغيل, وأن الطائرتين تعملان ليل نهار علي الخطوط الدولية والداخلية, وتستخدمان لنقل الركاب والبضائع, الأمر الذي يجعلهما في حالة إنهاك مستمر, بحيث إن أي تراخ خطأ في الصيانة التي يجب أن تستمر علي مدار الساعة لابد أن تكون له عواقبه الوخيمة.
هذه المعلومات سمعتها من جار لي, اكتشفت أنه مهندس الطائرة الذي يلازمها في كل ذهاب وإياب لإنقاذ الموقف عند حدوث أي طارئ, تماما كما يلازم الطبيب مريضا في غرفة الإنعاش. وإذ شاءت المقادير أن أتلقي ذلك التقرير والطائرة معلقة بين الأرض والسماء, فلك أن تتصور السيناريوهات التي ظلت تتتابع في مخيلتي طول الوقت, خصوصا حين تهتز الطائرة بعنف إثر مرورها ببعض المطبات الهوائية, ثم لك أن تتصور مقدار عمق النفس الذي أخذته, وحالة الاسترخاء التي حلت بي فجأة حين أعلن المضيف علينا نبأ استعداد الطائرة للهبوط في مطار كابول. غيرأن الشعور بالارتياح لم يلبث أن تراجع حين ألقيت نظرة علي أرض المطار, وانتابني شعور بأنني في الطريق إلي ساحة حرب وليس إلي مطار مدني. فثمة أشلاء طائرات مدمرة منثورة في جانب, ومتاريس رملية عالية تظهر وراءها خوذات جنود القوات الدولية في جانب آخر, وبين هذا وذاك تتراءي الحفر التي قصد بها أن تخرب الممرات, ولاتزال شاهدة علي سنوات الاقتتال المرير والمجنون بين الأخوة الأعداء.
(2)
ليست هذه كابول التي أعرف. نعم رأيتها في عام79 وديعة وهادئة تتمدد في تراخ وكسل, لكني في زياراتي اللاحقة ما رأيتها إلا مستسلمة للحزن ومصلوبة علي مذبح الانكسار. وجدت الحزن ممتزجا بالذهول في شهر يناير الماضي, بعد سقوط نظام وحكومة طالبان, وتولي الطاجيك للسلطة في البلد الذي كان محكوما دائما بالأغلبية البشتونية. ليس ذلك فحسب وإنما جاء الطاجيك مصحوبين بالأمريكان والانجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم من عساكر حلفاء الغرب. وأدرك أهل كابول أن مدينتهم التي ظلت مغلقة الأبواب والنوافذ طيلة السنوات الخمس التي استغرقها حكم طالبان, قد تحولت إلي مدينة بلا أبواب, مفتوحة ومكشوفة لكل من هب ودب من الناس.
هذه المرة, انضاف إلي كل ما سبق انشداد الأعصاب وتوترها. إذ لفت انتباهي في الطريق إلي الفندق كثرة الحواجز الأسمنتية, وتعدد عمليات تفتيش السيارات العابرة, الأمر الذي أدي إلي إرباك المرور وتكدس السيارات في الشوارع. وقد اكتشفت لاحقا أن التفتيش والحواجز علي طريق المطار أهون منه كثيرا في وسط البلد, خصوصا في الشوارع القريبة من السفارات الغربية, التي يظن أنها مستهدفة.
لم يكن الأمر كذلك في شهر يناير الماضي. إذ كان واضحا أن العاصمة هادئة ومؤمنة بصورة نسبية, سواء بسبب ما حل بالناس من إنهاك وتعب وخوف, او بسبب كثافة وجود القوات الدولية علي أرضها والطائرات الأمريكية في سمائها. أما الاضطرابات والاشتباكات فكانت مستمرة خارجها, حتي كان البعض يتندر آنذاك قائلين أن كرزاي رئيس في مملكة كابول فقط, وانه يسعي إلي تحسين علاقاته مع الممالك الشقيقة الأخري في بلاد الأفغان.
الانفجار الكبير الذي وقع قبل24 ساعة من وصولي كان التاسع من نوعه الذي شهدته العاصمة خلال عشرة أيام, الأمر الذي أصاب الحكومة بالذعر قبل الناس, لان الاعتقاد الذي كان سائدا أن عناصر حركة طالبان وتنظيم القاعدة تلقوا ضربات قاصمة وساحقة في العاصمة, وانهم طوردوا خارجها ولوحقوا فردا فردا, وتم القضاء علي تجمعاتهم وتدمير أسلحتهم وذخيرتهم, بواسطة الأسلحة والقذائف الأمريكية الفتاكة. ورغم كل ذلك فظاهر الأمر أن الأمن لم يستتب بعد في العاصمة.
(3)
حين حمل بعض المسئولين في الحكومة حركة طالبان وتنظيم القاعدة المسئولية عن انفجارات العاصمة, فإن ذلك زاد من قلق الناس ولم يطمئنهم. ولأنه لم يلق القبض علي أحد, ولم يتم العثور علي أي دليل يكشف عن هوية الفاعلين, فقد صار بوسع كل أحد أن يتهم أي أحد. فمن قائل إن طالبان وراء عمليات التفجير, وقائل إن طالبان لم يعد بوسعها أن تمارس نشاطا في العاصمة, في ظل الوجود الأمني المكثف بها, وان الفاعلين هم تجمعات بشتونية أخري غير معروفة رافضة لهيمنة الطاجيك والأمريكان. وقائل أن الأمر لا يخرج عن كونه صراعا بين أجهزة الأمن في الحكومة حول الصلاحيات, وان عناصر في أحد تلك الأجهزة أرادت أن تثبت عجز وفشل الجهاز المهيمن في الحفاظ علي الامن. وآخرون اتهموا دولا أجنبية( باكستان هي المقصودة) بأنها تسعي من خلال عملائها إلي زعزعة أركان النظام القائم الذي لا يدين بالولاء لها. وهناك من ذهب إلي أن الأمريكان هم وراء ما جري, لأنه إزاء ارتفاع بعض الأصوات الداعية إلي إخراجهم من البلاد, فإن افتعال التفجيرات يغدو إعلانا عن استمرار الخطر, ومن ثم تأكيد ضرورة استمرار الوجود الأمريكي, الذي بغيره يسقط النظام.
كل هذه الاحتمالات واردة, كما أنها جميعا لا دليل ماديا عليها, وغير مؤكدة ـ لكن المقطوع به أن شبح الخوف عاد يطل برأسه مرة أخري في كابول بعد طول غياب. وبعد محاولة قتل رئيس الدولة في قندهار وبعد أن قتل في قلب العاصمة نائب رئيس الوزراء الحاج عبد القادر في أثناء خروجه من مكتبه, وقبله قتل وزير الحج في مطار كابول, فإن كل مسئول في الحكومة اصبح لا يعرف إذا ما خرج من بيته ما إذا كان سيعود إليه سالما أم لا.
لفت نظري أحد الخبراء إلي أن المتاريس الموضوعة في الشوارع, خصوصا في قلب المدينة وقرب مبانيها الحيوية لا تعتمد علي أكياس الرمل كما هو المتعارف عليه, ولكنها عبارة عن كتل أسمنتية أسطوانية صبت فوق الأرض. والأولي ـ أكياس الرمل ـ تحمي من إطلاق النار, أما الثانية فهي تعوق حركة الآليات. انتبهت إلي أن تلك الكتل الأسمنتية لم تكن موجودة في شهر يناير الماضي, وسألت محدثي عن تفسيره لظهورها في العاصمة في الآونة الأخيرة. فأعاد علي مسامعي التذكير بأن أكياس الرمل تنصب تحسبا للاشتباكات التي قد يتخللها إطلاق النار, أما الكتل الأسمنتية التي تعترض شوارع المناطق الحيوية فإنها توضع لتعويق تقدم الدبابات. لم افهم المقصود بالضبط فطلبت إيضاحا, حينئذ قال بصوت أقرب إلي الهمس إن تلك الكتل موضوعة تحسبا لاحتمالات حدوث انقلاب!
لاحظ صاحبنا الخبير دهشتي, فأضاف أن ثمة صراعا داخل الحكومة, وان الجنرال محمد فهيم نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع واهم شخصية طاجيكية في النظام ليس علي وفاق مع رئيس الدولة حامد كرزاي, وان الثقة المتبادلة بين الرجلين ضعفت إلي حد كبير في الأشهر الأخيرة, ودلل علي ذلك بملاحظتين دالتين, الأولي قرار كرزاي الاستغناء عن حراسه الطاجيك من أبناء وادي بنشير واستبدالهم بحراس أمريكيين, الأمر الذي اغضب الجنرال فهيم ـ هو أيضا من وادي بنشير ـ وأثار استياءه, رغم انه استفاد أدبيا من تمسك كرزاي بالحماية الأمريكية علي ذلك النحو المكشوف.
الملاحظة الثانية أن صحيفة بايام مجاهد ـ معناها رسالة الجهاد ـ الناطقة باسم التحالف الشمالي نشرت في عدد9/23 افتتاحية هاجمت فيها الرئيس كرزاي بشدة حيث انتقدت احتماءه بالحراس الأمريكيين, وقالت صراحة انه مالم يغير سياساته فانه سيعرض البلاد لمخاطر جمة تقودها الي مزيد من الظلام. وكانت تلك هي المرة الأولي التي تعلن فيها دوائر التحالف الشمالي نقدا بهذه الحدة له.
مثل هذه المؤشرات التي ظهرت علي السطح في الأسابيع الأخيرة جاءت دالة علي أن ثمة انقساما داخل الحكومة, قيل لي إن له اسبابا عدة, في المقدمة منها سياسة وتوجيهات النظام الجديد والوجود الأمريكي في البلاد ـ ازاء ذلك فقد خشيت الأطراف التي تدير اللعبة ان يطيح الجنرال فهيم المهيمن علي القوات المسلحة بالرئيس الذي جاء به الأمريكيون وأصبحوا يقومون بدور الكفيل له في العلن.
(4)
كما ان صحف الصباح في بلادنا لاتكاد تخلو كل يوم تقريبا من اخبار الاقتتال في افغانستان, فلا غرابة ان يكون ذلك الاقتتال محور الحديث اليومي في امسيات كابول, التي تصب فيها مختلف التقارير والشائعات.
حين راجعت الملاحظات التي دونتها بهذا الصدد في نهاية الأسبوع الذي أمضيته هناك, وجدت ان أفغانستان اصبحت اقرب ماتكون الي حقل الغام كبير, عجزت الحكومة عن إبطال مفعولها. بالتالي فان مالم ينفجر منها يصبح مرشحا للانفجار في أي وقت. فثمة قتال لايزال يدور بين القوات الأمريكية الخاصة وبين فلول تنظيم القاعدة وطالبان, التي يقال ان قياداتها وعناصرها مازالت محتمية بالجبال الشاهقة والقبائل المنتشرة علي الحدود بين أفغانستان وباكستان. وثمة صراع لم يتوقف علي النفوذ والهيمنة في الشمال بين الطاجيك والأوزبك. وصراع آخر مكتوم داخل صفوف الطاجيك الذين اثار استياءهم تفرد البنشيريين( أبناء وادي بنشير) بالسلطة, وحجبهم بقية القبائل الطاجيكية, وهناك صراع بين الموالين للجنرال محمد فهيم من جهة والموالين للرئيس حامد كرازاي من جهة ثانية. وهناك ولايات اصبحت شبه مستقلة عن السلطة التي لم تستطع ان تبسط عليها نفوذها, كما هو الحال في ولاية بلخ الأوزبكية وعاصمتها مزارشريف, التي يحكمها الجنرال عبدالرشيد دوستم, وولاية هيرات التي يحكمها اسماعيل خان. وهناك تحرشات مستمرة بين حاكمي هيرات وقندهار بسبب التسابق علي بسط النفوذ ع
لي بعض المواقع الاستراتيجية بين الولايتين. أما ولايات الجنوب والشرق البشتونية الأكثر تعاطفا مع حركة طالبان, فان تمردها علي الحكومة المحسوبة علي الطاجيك مستمر, والاشتباكات فيها لم تهدأ منذ سقط نظام طالبان في شهر نوفمبر من العام الماضي.
حين ينقل المرء هذه النزاعات علي خريطة أفغانستان, فسيجد ان الهدوء النسبي لايكاد يتجاوز ولايات اقاصي الشمال والوسط, التي تحتل مايوازي30% من مساحة البلد تقريبا. أما الاضطرابات فانها مستمرة في جزء من الشمال, وفي الشرق والغرب والجنوب, التي تمثل الـ70% المتبقية. من هذه الزاوية فبوسعنا ان نقول بأن الموقف الأمني كان افضل في ظل حكم طالبان, حيث كانت قوات التحالف الشمالي تسيطر علي5 أو6% من الرقعة الأفغانية, بينما كان الهدوء سائدا في بقية انحاء البلاد. حتي إذا قلت ان الوضع من الناحية الأمنية كان سيئا في عهد طالبان, فلن تستطيع إلا ان تقر بأنه اصبح اسوأ الآن.
(5)
في لقاء مع البروفيسور برهان الدين رباني رئيس الجمهورية السابق اثرت موضوع السلام والاستقرار في أفغانستان, وسألته عن حل الاشكال الذي يتفاقم بمضي الوقت, فكان رأيه ان اعادة السلام الي البلاد تتطلب وقتا, لان الجراح عميقة والعقد كثيرة لكنه اضاف ان الوضع الراهن لايساعد علي تحقيق السلام المنشود ولايختصر رحلته. سألته لماذا؟ فقال: ان البعض يظن بأن وجود القوات الدولية والأمريكية يشكل ضمانا لتحقيق الاستقرار وإعادة السلام, وهذا غير كاف, فضلا عن انه بمضي الوقت أصبح عنصرا مهددا للاستقرار والسلام, أولا لأن الوجود بحد ذاته اصبح مصدرا لاستفزاز كثيرين في البلاد وجرح كبريائهم, وثانيا لكثرة الأخطاء التي يرتكبها الأمريكيون في قصفهم العشوائي لتجمعات المدنيين وقراهم. وهو ماأدي الي تأليب القبائل عليهم ونقمتهم علي تصرفاتهم( مجلة نيوزويك في عددها الأخير الصادر في10/8 سجلت نفس الملاحظة, وذكرت ان عناصر القوات الخاصة يتصرفون مثل رعاة البقر الأغبياء في أفغانستان).
قال رباني( الوحيد الذي يلقب بالأستاذ في افغانستان) ان السلام له شرطان, الأول خروج القوات الأمريكية والدولية من البلاد, بعد ان أدت مهمتها. والثاني توفير الاطمئنان علي الأوضاع السياسية في البلاد, من خلال وضع دستور, واجراء انتخابات حرة لتشكيل مجلس نيابي وتشريعي, يفتح الطريق لمشاركة الجميع في تحمل المسئولية.
لكن هذين الشرطين يصعب تحقيقهما في الوقت الراهن, لأن الأمريكيين لايريدون الخروج, ولايريدون اجراء انتخابات حرة, خشية ان تسفر عن وضع يتعارض مع استمرارهم. لذلك فانهم يفضلون ابقاء الوضع كما هو عليه الآن, رغم مايشوبه من قلق وتوتر.
حين قرأت بعد العودة ان السيد حامد كرازاي مرشح لنيل جائزة نوبل للسلام في أفغانستان قلت: إن عرض الفيلم الأمريكي لايزال مستمرا.