مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
كلنا فلسطينيون
هويدي 24-9-2002

لا أجد سوي شعار كلنا فلسطينيون أدعو إلي رفعه في الفضاء العربي‏,‏ وترديده بأعلي صوت ممكن‏,‏ في مناسبة الذكري الثانية لانتفاضة الأقصي‏,‏ التي تحل يوم السبت المقبل‏28‏ سبتمبر‏,‏ ولا أعرف كيف سيمر ذلك اليوم في عالمنا العربي‏,‏ لكني أتمني ـ وألح في الرجاء ـ ألا نبخسه حقه‏,‏ فنستقبله ونودعه كأي يوم عادي في زمننا المثقل بالأحزان‏,‏ والمليء بالإحباطات والأحلام المجهضة‏.‏

‏(1)‏
أدري أن أشهر سبتمبر من شهور الأحزان في الذاكرة العربية عامة والفلسطينية بوجه أخص‏,‏ فقد علقت عليه لافتة أيلول الأسود منذ شهدت بدايته الصدام الدامي بين الفلسطينيين والسلطة الاردنية‏,‏ الذي وقع في الخامس من ذلك الشهر عام‏1970,‏ واختلط سواد صفحته بلون الدم مغموسا في الأشلاء الفلسطينية حين شهد منتصفه مذبحة صبرا وشاتيلا قبل عشرين عاما‏,‏ وانضافت إلي أجوائه جرعة حزن من العيار الثقيل بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر‏,‏ في نفس اليوم الذي اندلعت فيه الانتفاضة لاحقا‏28‏ سبتمبر لكني أزعم ان انتفاضة الأقصي تكاد تكون نقطة الضوء الوحيدة في عتمة ذلك الشهر‏,‏ ولحظة الأمل في مناخه الذي تظلله الغيوم‏,‏ والمسكون بالإحباط‏..‏ لماذا؟
لأن أحداث بقية الشهر اذا كانت تمثل انقضاضا علي الحلم الفلسطيني أو انحسارا له‏,‏ فان الانتفاضة جاءت إشهارا لقيامة الشعب الفلسطيني وإصراره علي الدفاع عن الحلم‏,‏ ليس ذلك فحسب‏,‏ وإنما أزعم أن هذه الانتفاضة هددت الحلم الإسرائيلي ذاته‏,‏ حين نقلت الخوف إلي قلب إسرائيل‏,‏ التي ظلت منذ ظهرت إلي الوجود تصدر الخوف إلي الآخرين‏,‏ مطمئنة إلي أنها وفرت الأمن لسكانها وحصنتهم ضد مظان الأذي‏.‏
رب قائل يقول أن نشرات الأخبار وصحف الصباح تقول أن الإسرائيليين في ظل حكومة شارون بوجه أخص سحقوا الفلسطينيين ودمروا حياتهم وكسروا شوكتهم‏,‏ هذا صحيح بصورة نسبية‏,‏ لكني أذكر بثلاثة أمور من الأهمية بمكان‏,‏ الأول أن الفلسطينيين لم يهزموا ولم يركعوا‏,‏ والحروب جولات كما أن الأيام دول‏,‏ والثاني أن هذه ليست نهاية الحلم ولانهاية التاريخ الفلسطيني‏,‏ وانما هناك مستقبل ممتد ومفتوح لمختلف الاحتمالات‏,‏ أما الأمر الثالث فهو انه مهما طال الأجل بالظلم‏,‏ فلن يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف‏,‏ وإلا انقلبت سنن الحياة واختلت موازين الكون‏.‏

‏(2)‏
لاخير فينا إن لم نقلها‏,‏ وإذا كانت صحيفة لوموند قد صدرت في اليوم التالي للهجوم علي مركز التجارة العالمي في نيويورك بعنوان علي صدر صفحتها الأولي يقول‏:‏ كلنا أمريكيون‏,‏ فأولي بنا أن نبادر في ذكري الانتفاضة إلي الإعلان علي الملأ‏:‏ كلنا فلسطينيون‏,‏ وليس من شك أن عنوان الصحيفة الفرنسية كان تعبيرا عميقا ورشيقا عن التضامن‏,‏ علي مابين فرنسا والولايات المتحدة من تباين واختلاف‏,‏ فرضتها اعتبارات الثقافة والتاريخ والجغرافيا‏,‏ وهو تباين لامكان له في الحالة الفلسطينية ـ العربية‏,‏ وإذا كان بوسع فرنسا أن تدير ظهرها لما يجري في الولايات المتحدة‏,‏ وان تنآي بنفسها عنها تحت أي ظرف‏,‏ فالأمر علي جانبنا جد مغاير‏,‏ ذلك أن كل ما يصيب فلسطين مردود أثره علي العالم العربي‏,‏ الذي أثبتت خبرة نصف القرن المنصرم انه لن ينعم بالأمن والاستقرار‏,‏ إلا اذا عاد السلام إلي فلسطين‏,‏ مبنيا علي العدل والانصاف‏,‏ ثم لاتنس انه ما من بلد عربي إلا وارتوي تراب فلسطين بدماء أبنائه‏,‏ منذ عام‏1948‏ وحتي هذه اللحظة‏,‏ ولاتنس أيضا أن الذين أقاموا إسرائيل في فلسطين لم تشغلهم أسطورة ارض الميعاد بقدر ما كانوا مشغولين بغرس خنجر في الخاصرة العربية‏,‏ يمزق انسجة الجسم ويسبب له وجعا مستمرا‏.‏
بسبب من ذلك فلعلي لا أبالغ إذا قلت أن فلسطينية العرب جذورها أعمق وأقوي بكثير من أمركة الفرنسيين‏,‏ ليس ذلك فحسب‏,‏ وانما اذا كان الفرنسيون قد قالوها مرة‏,‏ في لحظة انفعال وتعاطف‏,‏ ثم عادوا إلي حذرهم وحساسيتهم إزاء الأمريكيين واستخفافهم بثقافتهم‏,‏ فإن فلسطين في الإدراك العربي حاضرة طول الوقت‏,‏ بل ازعم أنها صارت مرآة العرب‏,‏ من حيث أن انتصارها أو انكسارها لن يكون في حقيقته سوي انعكاس لقوة العرب أو هزيمتهم‏.‏

أما لماذا يتعين علينا أن نقولها الآن‏,‏ وفي أول فرصة‏,‏ فردي علي ذلك هو ماذكرته في الأسبوع الماضي من أن القضية عادت إلي نقطة الصفر‏,‏ وشارون نفسه هو من أعلن انه يواصل حرب الاستقلال من ثم فان انتصاره لن يكون إلا بتحطيم إرادة البشر‏,‏ ووضع الفلسطينيين جميعا في معازل محكمة الاغلاق‏,‏ فيما وصف بأنه أكبر سجن في التاريخ‏,‏ ثم بتذويب الوطن وطمس معالمه‏.‏
لايقف الأمر عند حد ابتلاع فلسطين والإجهاز علي قضيتها وانما هناك عنصر آخر في المشهد جعله أكثر اثارة وفجاجة‏,‏ يتمثل في تلك الرعاية الأمريكية الصريحة‏,‏ التي بلغت مدي غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ وهي الرعاية التي ابتدعت لأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية مبدأ إضفاء الشرعية علي حق المحتل في الدفاع عن نفسه ضد الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال‏,‏ فضلا عن ذلك فقد أقرت ـ لأول مرة أيضا ـ مبدأ ضم الأراضي بالقوة المسلحة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد دافع عن وجود المستوطنات وقال إنها بنيت علي أرض حازها الإسرائيليون نتيجة حرب انتصروا فيها‏.‏

وهذا المسلك وذاك يعد تحديا مدهشا لكل ما أقرته المواثيق والاتفاقات والأعراف الدولية‏,‏ بقدر مايجسد الإذعان المشين للهوي والاستكبار الإسرائيليين‏.‏
هذه الظروف في مجموعها تمثل اختبارا حقيقيا للإرادة العربية‏,‏ فضلا عن الفلسطينيين بطبيعة الحال‏,‏ لذلك زعمت أننا في قلب اللحظة التي ينبغي أن يرفع فيها شعار كلنا فلسطينيون علي لافتة تمتد بطول وعرض الأمة العربية‏,‏ من المحيط إلي الخليج‏.‏

‏(3)‏
لتونا خارجين من مهرجان فرضه الأمريكيون علي العالم بأسره‏,‏ في مناسبة الذكري الأولي لحادث الحادي عشر من سبتمبر‏,‏ حيث تحولت الكرة الأرضية إلي سرادق كبير تبادلت فيه شعوب العالم العزاء واستعادت شريط ماجري‏,‏ ولم تكف عن الجدل حول الحدث بوقائعه وتداعياته وعبرته‏,‏ وإذ اعتبر الحادي عشر من سبتمبر تقويما جديدا‏,‏ في مقام الهجري والميلادي والقبطي‏,‏ وصار الحديث عن عالم مابعد سبتمبر أمرا عاديا كأنه حديث عن عصر مابعد ميلاد السيد المسيح‏,‏ فإن الأمريكيين في نجاحهم الذي حققوه علي صعيد عولمة الحدث‏,‏ ذهبوا إلي حد اقناع العالم بأن الإرهاب خطر يهدد الكون‏,‏ متقدما علي الفقر والجوع والايدز والملاريا‏,‏ وغير ذلك من المصائب الحقيقية التي تحصد الملايين كل عام‏,‏ ولكن لأنهم ليسوا أمريكيين ولا من الجنس الأبيض‏,‏ فقد تراجعت اهميتهم‏,‏ بعدما عمم علي الكافة شعار لاصوت يعلو فوق صوت الحزن الأمريكي‏.‏
لقد أنستنا القوة السياسية الأمريكية والقدرة الإعلامية الجبارة التي توافرت لهم حقيقة أن ماجري في‏11‏ سبتمبر هو حدث أمريكي بامتياز‏,‏ وإذا كان بعض العرب والمسلمين قد تورطوا فيه‏,‏ فان الدائرة تتسع قليلا لتشمل أولئك الذين يثبت ضلوعهم فيما جري‏,‏ هم وجماعتهم التي ينتسبون إليها‏,‏ في أبعد الفروض‏,‏ وبعد ذلك لا علاقة لعموم العرب أو المسلمين بالموضوع‏,‏ وليس هناك مايبرر شعورهم بالذنب بسببه‏.‏

كما انه ليس هناك مايسوغ إشاعة التوتر وتعميم الحزن علي الجنس البشري من جرائه‏.‏
لقد جري تشويه الوعي العام‏,‏ إلي الحد الذي فرض علي الناس في بلادنا ان ينشغلوا بالحزن الأمريكي عن قائمة همومهم واحزانهم الطويلة‏,‏ ولست هنا أقلل من شأن الحزن الأمريكي‏,‏ فما جري في‏11‏ سبتمبر كارثة وفجيعة بكل معيار‏,‏ لكنني فقط أشدد علي أمرين‏,‏ الأول أن موقفنا ازاء ماجري هناك لايتجاوز حدود المواساة والمشاطرة التي تفرضها المشاعر الانسانية الطبيعية‏,‏ والثاني ان لدينا كوارث وأوجاعا أشد وأنكي مما حدث في أمريكا‏,‏ شاخصة امام أعيننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير‏..‏ الخ‏,‏ ذلك فضلا عن همومنا العالمثالثية التي سبقت الإشارة إليها الفقر والجوع والتصحر والملاريا والايدز والتلوث وغير ذلك‏.‏
أن الأمريكيين أقاموا الدنيا وأقعدوها لأن ثلاثة آلاف شخص قتلوا في الهجوم علي نيويورك‏,‏ ولكن حين قتل ثلاث آلاف هندي‏,‏ وتسمم‏200‏ ألف آخرون‏,‏ بسبب الإهمال الذي ادي إلي تسرب الغاز من مصنع للأسمدة يملكه أمريكيون في مدينة بوبال الهندية عام‏1984,‏ حين وقعت تلك الواقعة فإن الأمر مر بهدوء وعولج بأعصاب باردة‏,‏ ولاتزال الولايات المتحدة ترفض تسليم المتهم الرئيسي في الكارثة‏,‏ وهو رجل أعمال أمريكي‏,‏ ولامقارنة بين الهستيريا التي أصابت العالم من جراء الهجوم علي البرجين الأمريكيين‏,‏ وبين ذلك الهجوم الذري الذي شنته الولايات المتحدة علي المدينتين اليابانيتين هيروشيما ونجازاكي في الحرب العالمية الثانية‏,‏ وهو ما أدي إلي إبادة أكثر من‏260‏ ألف شخص وإصابة أجيال اليابانيين في المدينتين بتشوهات مازالت مستمرة إلي الآن‏.‏

‏(4)‏
احتفظ باستطلاع مصور نشرته مجلة المجلة اللندنية في شهر مارس الماضي سجل احتفال الأمريكيين بأبطال سبتمبر من الكلاب‏,‏ وهي الكلاب الملحقة بأقسام الشرطة والنجدة في نيويورك ونيوجيرسي‏,‏ وشاركت بشجاعة في البحث عن ضحايا انهيار مركز التجارة العالمي‏,‏ وقد أقيم الاحتفال الكبير في حديقة ميدان ماديسون بمانهاتن لتكريم من بقي حيا من أولئك الأبطال شارك فيه أبرز نجوم السينما الأمريكية‏,‏ الذين ظهروا في الصور وقد احتضن كل نجم أو نجمة منهم كلبا‏,‏ كما شاركت في الاحتفال بعض الشركات الكبري وبعض محطات التليفزيون‏,‏ التي تبنت حملة دعائية واسعة النطاق لجمع الأموال من اجل رعاية أولئك الأبطال وحسن تدريبهم‏,‏ لكي يؤدوا دورهم في تأمين المجتمع وحراسته‏,‏ وأثناء الاحتفال وفي خلفيته‏,‏ رفع شعار نحن نحب الكلاب جنبا إلي جنب مع الشعار الذي رفع عقب الهجوم‏,‏ وكانت كلماته تقول أنا أحب نيويورك‏.‏
ومع حلول ذكري‏11‏ سبتمبر‏,‏ وقبل عدة أيام من الموعد‏,‏ نشرت صحيفة نيويورك تايمز موضوعا حول المشاكل التي تواجه المدرسين الأمريكيين في تحديد ما الذي يجب قوله للتلاميذ في‏11‏ سبتمبر‏,‏ وهو ما علق عليه توماس فريدمان الكاتب بنفس الجريدة‏,‏ مقترحا إلقاء ثلاثة دروس تجيب علي ثلاثة أسئلة هي‏:‏ من فعلها؟ ومن نحن؟ ولماذا يدين العديد ما جري ولكنهم يكرهون أمريكا؟

أمثال هذه الممارسات تمثلت في جانب منها محاولة للاجابة علي السؤال‏:‏ كيف يكون الاحتفال بكل عناصر المناسبة‏,‏ وكيف يزرع الحدث في وجدان الأجيال الجديدة‏,‏ وهي تفترض انه قبل تكريم الكلاب جري تكريم كل البشر الذين اسهموا في عملية الانقاذ‏,‏ كما تفترض أن المجتمع كله قد تمت تعبئته واستنفاره واذكاء وعيه بالحدث‏,‏ وبقي أن تكتمل الدائرة بتلقين تلاميذ المدارس دروسا حول ماجري في‏11‏ سبتمبر‏,‏ وتلك كلها مراحل متقدمة عما نفكر فيه مع حلول ذكري السنة الثانية لاندلاع الانتفاضة‏,‏ ناهيك أن بعض ممارسات الأمريكيين تعد من قبيل الترف الذي لانملكه‏,‏ ومن ثم لايحظر لنا علي بال‏.‏
علي صعيد اخر فإنه يحز في نفس المرء أن يقول بأننا لم نبلغ بعد مرحلة طرح السؤال كيف؟ وإنما ليست لدينا اجابة واضحة ينعقد من حولها الإجماع‏,‏ في صدد السؤالين هل؟ ولماذا؟ الأمر الذي يجسد جانبا من محنة النخبة في بلادنا‏,‏ التي تشرذمت وانفرط عقدها‏,‏ حتي اختلفت في أصول الوطن ناهيك عن فروعه‏.‏

‏(5)‏
ليس عندي كلام مع الذين يطرحون السؤال هل خصوصا أولئك الذين يمطون شفاههم وهم يتحدثون عن الانتفاضة‏,‏ ويعتبرونها حماقة ارتكبها بعض المتطرفين وشارك فيها نفر من الإرهابيين الذين ضيعوا فرصة السلام وساعدوا علي مجيء شارون في نهاية المطاف‏,‏ فهؤلاء ليسوا طرفا في المناقشة التي نجريها‏,‏ بل انهم ليسوا مشمولين بخطابنا أصلا‏,‏ اذ هم ليسوا فلسطينيين بالمعني الذي ندعو إليه‏,‏ لكن هناك مايمكن ان نضعه بين أيدي الذين هم علي استعداد للاقتناع‏,‏ ممن يطرحون السؤال لماذا؟‏.‏
أزعم أن هذه الانتفاضة لها خصوصية تميزها عن سابقاتها تبرر الحفاوة بها‏,‏ وهذه الخصوصية تتعلق في شق منها بالملابسات التي أحاطت بها‏,‏ وفي شق آخر بوقائعها والنموذج الذي قدمته‏,‏ وهو ما يحتاج إلي بعض الشرح والتفاصيل‏.‏

‏*‏ فيما يخص الظروف‏,‏ أشرت قبل قليل إلي عنصر الرعاية الأمريكية الصريحة للاحتلال والاستيطان‏,‏ وهي التي كانت في السابق مقصورة علي الدولة الإسرائيلية ومبدأ وجودها‏,‏ وتبدي بعض التحفظ علي مايتجاوز تلك الحدود‏,‏ وأضيف هنا ملابسات أخري منها تراجع الدور الأوروبي‏,‏ الذي أشعر الفلسطينيين بأنهم يقفون وحدهم‏,‏ إذ رغم تمايز موقف بعض الدول الأوروبية ازاء بعض الممارسات‏,‏ إلا أنها لم تعد مستعدة لأن تتحرك في النهاية بعيدا عن الموقف الأمريكي‏.‏
من تلك الملابسات أيضا ـ ربما كان أهمها ـ أن الانتفاضة انطلقت بعدما أعطيت كل الفرص لما سمي بالمسيرة السلمية‏,‏ وثبت بما لايدع مجالا للشك أن إسرائيل غير جادة في احلال سلام يلبي الحد الادني من المطالب الفلسطينية‏,‏ وأنها تستخدم المسيرة لتكريس التوسع وتقنين الاحتلال كانت محادثات كامب ديفيد الثانية‏,‏ التي عرضت فيها لأول مرة مسألة تقاسم المسجد الأقصي‏,‏ قد فشلت في التوصل إلي اتفاق حول التسوية النهائية‏,‏ وعقدت المباحثات في يوليو‏2000‏ والانتفاضة انطلقت في شهر سبتمبر في ذات العام‏.‏

‏*‏ في الشق المتعلق بوقائع ومشاهد الانتفاضة نجد أنها تميزت بأمور عدة في مقدمتها‏:‏ أنها استمرت مدة أطول من أي انتفاضة سابقة‏,‏ في حين أن انتفاضات التسعينيات كانت كل واحدة منها تستمر لأشهر معدودة‏,‏ ثم أنها اتسمت بدرجة عالية من الاصرار والتضحية والفداء‏,‏ وهو ماجسده الارتفاع غير المسبوق للعمليات الاستشهادية‏120‏ عملية حتي يوم الاربعاء الماضي‏9/18‏ أوقعت‏625‏ قتيلا إسرائيليا‏,‏ الأمر الذي لم يحدث من قبل في أي مرحلة من مراحل الصراع‏.‏ ليس ذلك فحسب وإنما يحسب للانتفاضة أيضا انها نقلت المعركة ـ والخوف معها كما قلنا ـ إلي قلب المجتمع الإسرائيلي لأول مرة‏,‏ في الوقت ذاته فإن عمليات المقاومة الفلسطينية اتسمت بدرجة عالية من الكفاءة والثقة والقدرة علي تحدي السلاح والصلف الإسرائيليين‏,‏ وهو ما شهدت به معركة جنين الخالدة ـ من ناحية أخري فيحسب لهذه الانتفاضة أنها غدت محل إجماع ومشاركة فعالة من جانب كل القوي الوطنية الفلسطينية‏,‏ وهو مايحدث لأول مرة‏,‏ ليس ذلك فحسب‏,‏ وانما اعتمدت تلك القوي أسلوب العمليات الاستشهادية سبيلا إلي المقاومة وردع العدو كتائب الأقصي التابعة لفتح والجبهة الشعبية ولم تعد تلك العمليات مقصورة علي حركة حماس والجهاد الإسلامي‏,‏ وهذا التطور بالغ الأهمية هز المجتمع الإسرائيلي وقلب حسابات النخبة الحاكمة‏,‏ وأثار انزعاج الإدارة الأمريكية حتي تولي الرئيس بوش قيادة الحملة العالمية ضد العمليات الاستشهادية ـ هذا الإجماع الوطني الفلسطيني الذي افرز تلك الدرجة العالية من الكفاءة وفاعلية الاداء كان له صداه القوي في الشارع العربي والإسلامي الذي شهد اجماعا اخر غير مسبوق‏,‏ مما دعانا إلي القول بأن الانتفاضة اعادت تعريب القضية الفلسطينية‏,‏ وأخرجتها من الإطار القطري الضيق الذي حشرت فيه طيلة العقد الأخير علي الأقل‏.‏
والأمر كذلك‏,‏ فلست أبالغ اذا قلت ان انتفاضة الأقصي تشكل نقطة ضوء‏,‏ بل علامة فارقة‏,‏ في مسيرة النضال الفلسطيني والعربي بعامة‏,‏ وهو مايفسر إلي حد ما المحاولة الإسرائيلية والأمريكية الشرسة لسحقها‏.‏

وفي مناسبة حلول الذكري الثانية لتلك الانتفاضة‏,‏ لا أقل من أن نعلن وقوفنا معها في اللحظة التي يحاولون إجهاضها وخنقها‏,‏ فنهتف جميعا قائلين‏:‏ كلنا فلسطينيون‏,‏ وحين يتحقق ذلك‏,‏ فإنه سوف يشجعنا علي أن نتساءل في وقت لاحق‏:‏ ماذا سنقول لتلاميذ مدارسنا صبيحة الثامن والعشرين من سبتمبر؟
أضافة تعليق