هويدي 10-9-2002
بعد أن انقضي عام علي فاجعة11 سبتمبر, بوسعنا أن نقر بأن العرب والمسلمين خسروا الكثير, لكن الولايات المتحدة كانت علي رأس الخاسرين, حتي أزعم أن خسارتها كانت اكبر من المنظور التاريخي والثقافي. نعم, خسر العرب والمسلمون سمعتهم ومصالحهم, لكنهم خرجوا من العام بمثل مادخلوا فيه, باستثناء بعض الكدمات والكسور. أما الامريكيون فقد خرجوا من التجربة علي هيئة مغايرة لتلك التي دخلوا بها, حيث خسروا ماهو أهم من الهيبة والمكانة. خسروا أنفسهم, وخيبوا أمل الآخرين فيهم, وتلك لعمري فاجعة أخري.
(1)
لقد تعرضت الولايات المتحدة في11 سبتمبر الماضي لهجوم إرهابي اتهم فيه نفر من الناس قيل إنهم ينتسبون إلي منظمة القاعدة, التي كانت تعيش في كنف نظام متخلف منبوذ في أفغانستان, وردت واشنطون بسلوك إرهابي اسقطت فيه نظام طالبان, وأهدرت دماء كل عناصره, وانتقمت من الشعب الافغاني, وفتكت بكل من اشتبهت بانتسابه إلي القاعدة, وأعلنتها حربا مفتوحة ضد ماسمي بالإرهاب, في كل أنحاء الكرة الأرضية. ومابرحت تلوح بأن تلك الحرب لاتتقيد بقوانين أو أعراف أو حدود, وأنها قد تستمر عقدا من السنين أو عقدين. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة التي تحولت إلي ثور هائج لايري في الكون غير الثأر والانتقام لأن هجوما إرهابيا استهدف برجين في نيويورك وأدي إلي مقتل حوالي ثلاثة آلاف شخص, هي ذاتها التي استبدت بها روح الثأر والانتقام بعد تدمير اليابانيين لأسطولها في ميناء بيرل هابر أثناء الحرب العالمية الثانية( عام1941), فلجأت في عام45 إلي تدمير مدينتين يابانيتين بالكامل( هيروشيما ونجازاكي) علي رؤوس سكانها وقتلت اكثر من250 ألف شخص. وكانت تلك هي المرة الاولي في التاريخ التي تستخدم فيها القنابل الذرية لإبادة ذلك العدد الهائل من البشر في صراع مسلح. وهي السابقة التي تدحض الزعم بأن أسلحة الدمار الشامل تصبح آمنة إذا ماكانت في يد دولة ديمقراطية, وتغدو خطرا إذا ماكانت بيد نظام مستبد( لاحظ أن هذه أهم الحجج التي تسوق الآن لتسويغ ضرب العراق).
هذا الكلام رددته أكثر من مرة علي مسامع من لقيت من الصحفيين الغربيين الذين تقاطروا علي بلادنا في أعقاب ماجري في11 سبتمبر, ومضوا يمطروننا بالأسئلة التي تركزت حول الحدث وأسبابه وتداعياته. بوجه أخص فإن الصحفيين الامريكيين كانوا يهزون رؤوسهم وهم يستمعون إلي ماقلت, ثم يلقون علي السؤال التالي: ما الذي كان يتعين علي الولايات المتحدة أن تفعله وقد تعرضت للهجوم الإرهابي وقتل من أبنائها ثلاثة آلاف شخص؟
خلاصة ماقلت في الإجابة أن أحدا لاينكر علي الولايات المتحدة حقها في الرد ومعاقبة من ثبتت بحقهم التهمة. ولكن عليها أن تتصرف بسلوك الدولة العظمي التي تحترم أصول العلاقات الدولية والمؤسسات المعبرة عن الشرعية في العالم والقوانين والأعراف المرعية. أما أن تستسلم للانفعال والغضب العارم, وتطيح بكل ماتعارفت عليه المجتمعات الانسانية, فإنها بذلك تكون قد تعاملت بشرعية الغابة, وليس بالشرعية القانونية أو الدولية. من ثم فإنها بعد11 سبتمبر أسفرت عن وجه ومواقف مخالفة تماما لكل ما ادعته لنفسها من مبادئ, وأهدرت في ذلك قيما كانت قد أعطتنا دروسا في ضرورة احترامها والوفاء باستحقاقاتها.
(2)
خلال القرن الماضي عرف العالم ثلاثة من الرؤساء الامريكيين ممن دافعوا عن القيم الانسانية المتعالية, والثلاثة هم ودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي. ولايزال لأمريكا أصدقاء محبطون يرغبون في أن يروا صورتها المتسامحة وأهدافها النبيلة ـ غير أن سياسة امريكا الانفرادية فيما خص الألغام الأرضية والمحكمة الجنائية الدولية واتفاقيات كيوتو الخاصة بالبيئة, كانت كلها مخيبة لآمال هؤلاء.
هذا الكلام ليس من عندي, ولكنه بعض ماجاء في مقالة كان عنوانها لماذا تبدو وطأتنا ثقيلة علي الكرة الأرضية كتبها المؤرخ الامريكي المعروف بول كينيدي الأستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب ظهور واضمحلال القوي العظمي( نشرتها صحيفة الشرق الأوسط في2/28/ الماضي).
مثل هذه الانتقادات ترددت في كتابات عدة. فهذا وليان فاف الذي كتب في لوس انجيليس تايمز(8/14) يقول إن الهواة الذي يقررون سياسات الحكومة الامريكية يتصورون أن من حق الإدارة الامريكية أن تفعل أي شيء تريده, ويعتبرون ذلك أمرا مسلما به ومبررا كما أن الحكومة تصر بشكل مستمر علي إعفائها من الالتزام بالقانون الدولي, وظلت ترفض القيود التي تفرضها الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات الامريكية السابقة, وهي تطالب اليوم بأن تعفي أيضا من بعض القيود الدستورية.
هذا التفرد الامريكي الذي عبرت عنه بوضوح إدارة الرئيس بوش أجهض فكرة العولمة ـ وأثبت أنها تحمل في جوهرها سيطرة أقلية إمبريالية, إذ عندما تصطدم بمصالح الأقوياء فإنه يتم الإطاحة بها علي الفور, ويلقي جانبا بمشروع العولمة كله, وإلا فكيف يفهم الخطاب الامريكي الاخلاقي في البلقان, والنشاط العسكري الأمريكي المستمر للقبض علي المتهمين بجرائم الحرب, من الرئيس اليوغوسلافي السابق إلي أصغر ضباط الميليشيات الصربية, بينما يصف الناطقون باسم الإدارة الامريكية المحكمة الجنائية الدولية بأبشع الأوصاف, ويطالبون بحصانة مطلقة للجنود الأمريكيين من الاتهام والمحاكمة؟ ـ( د. بشير نافع ـ القدس العربي ـ7/11).
(3)
مافعلته الإدارة الأمريكية في الداخل يفوق مايتصوره أي عقل, حتي أننا لانبالغ إذا قلنا إن أكثر إن لم يكن كل الإجراءات التي اتخذتها الإدارة ومررها الكونجرس بعد11 سبتمبر تمثل عدوانا سافرا علي الحريات العامة وعلي مبادئ حقوق الانسان.
هذا الوجه الأمريكي أثار دهشة كثيرين, وكان ماكتبه الاستاذ جميل مطر المحلل السياسي المتميز تحت عنوان أمريكا ومادهاها( الحياة اللندنية ـ8/24) معبرا عن تلك الدهشة. إذ انتقد في تحليله المشروع الاقتصادي الامريكي ومشروعها الثقافي والسياسي, معتبرا أن الولايات المتحدة بأسرها في أزمة. فقد تساءل مثلا: ماذا دهي الامريكيين حتي يسمحوا لحكومتهم بالتفكير في إنشاء نظام تجسس علي المواطن الامريكي, بحيث يتحولون إلي أمة من الجواسيس. إذ إنه طبقا لذلك النظام الذي عرف باسم تيبس(TIPS) سيخضع الأمريكي العادي لرقابة ساعي البريد وجامع القمامة وملاحظ الهاتف وسائق الحافلة العمومية. إذ كلهم يصبحون مكلفين بكتابة تقارير عنه إذا مااشتبهوا في تحركاته وضيوفه وعلاقاته الشخصية, وهي الحياة الخاصة التي أحيطت بقدسية عند الامريكيين, وتحولت إلي نموذج يحلم كثيرون في العالم باحتذائه.( ذكرت صحيفة القدس العربي في7/17 أن الادارة الامريكية تعتزم تجنيد11 مليون جاسوس لمراقبة النشاطات المشبوهة داخل الولايات المتحدة).
في إطار اللوثة التي أصابت الإدارة الامريكية في أعقاب11 سبتمبر, أعيد العمل بقانون الدليل السري, الذي بمقتضاه يعتقل المرء ويحاكم وتتم إدانته دون أن يعرف حقيقة التهمة الموجهة ضده والوقائع المنسوبة إليه, كما أصبح من الممكن أن يلقي القبض علي الانسان ويودع في مكان مجهول, ويمنع من الاتصال بمحاميه لعدة أشهر, في حين يترك لأجهزة الأمن تحديد مصيره علي هواها, دون أي التزام بمبدأ أو قانون.
إضافة إلي احتجاجات المدافعين عن الحقوق المدنية الذين انتقدوا بشدة المكارثية الجديدة بعد11 سبتمبر, فإن بعض القضاة ضاقوا ذرعا بسلوك الادارة الامريكية, وطبقا لما نشرته واشنطن بوست( في8/23) فإن محكمة اتحادية سرية رفضت منح وزارة العدل الامريكية صلاحيات جديدة طلبتها لممارسة الرقابة الالكترونية باسم حماية الأمن القومي. وقالت صراحة ـ في توبيخ علني نادر ـ إن الحكومة أساءت استخدام القانون وضللت المحكمة عشرات المرات, وإن وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية زودوها بمعلومات خاطئة في أكثر من75 طلب إصدار مذكرات تفتيش ومراقبة للمكالمات الهاتفية.
لفت الاستاذ جميل مطر الانتباه فيما كتبه إلي قرار الحكومة الامريكية إنشاء وكالة خاصة لصياغة الانباء والتعليقات, وترجمتها إلي لغات مختلفة, لتوزيعها علي الصحفيين والكتاب في افريقيا والشرق الأوسط وأوروبا, لكي تنشر أسماءهم, وكأنها وجهات نظرهم الشخصية. والهدف من ذلك هوالاحتيال للترويج لوجهة النظر الامريكية, عن طريق خداع القارئ العادي والعبث بمداركه, في عدوان صارخ علي حرية التعبير وعلي ابسط مبادئ المسئولية الاعلامية.
(4)
في غمرة الانفعال وتحت ضغط الحرص علي تعزيز المكانة واستعادة الهيبة, استسلمت الولايات المتحدة لفكرة العسكرة, وتلبستها روح الاستقواء ونزعات الهيمنة الإمبراطورية. فارتفعت في ساحتها السياسية أصوات اليمين الأصولي والصهيوني داعية إلي ممارسة القوة في بسط السلطات الامريكية بالقوة علي جهات الكرة الأرضية الأربع, مع تأديب المارقين فضلا عن تهذيب المنحرفين. بحيث لاتكتفي الولايات المتحدة بإسقاط الأنظمة المتمردة وإخضاعها, وإنما تذهب إلي حد هزيمة الأفكار المناهضة لها والمحرضة ضدها. وفي ذلك لاتكتفي الإدارة الامريكية بقمع معارضيها, ولكن تذهب إلي حد إعادة رسم خرائط المناطق التي تهمها( الشرق الأوسط في المقدمة), علي النحو الذي يرضي الهوي الامريكي( والاسرائيلي بالتبعية) ويستجيب لمقتضيات المصالح والمطامع الامريكية. وهو ماعرضت له تفصيلا في الاسبوعين الماضيين.
ومايحتاج إلي وقفة قصيرة هو ماوصفناه بالعسكرة في أداء الإدارة الأمريكية, التي كانت حملات التأديب الموجهة ضد الدول المعارضة من تجلياتها, لكن هذا التحول ظهر بشكل أكبر في التحولات التي طرأت علي الاستراتيجية العسكرية الامريكية, وهي التي عرضها باستفاضة نسبية وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في مقالة نشرتها مجلة سياسة خارجية الشهرية( عدد أول مايو الماضي), المعروفة بأنها منبر مؤثر وعاكس لتوجهات الإدارة الامريكية. كانت مقالة رامسفيلد بعنوان التحولات العسكرية, وفيها ذكر أن الاستراتيجية الامريكية التي كانت متبعة إبان الحرب الباردة ومابعدها لم تعد صالحة للتعاطي مع عالم مابعد11 سبتمبر والحرب التي أعلنتها واشنطون علي الإرهاب في أنحاء العالم, حيث أصبحت الولايات المتحدة تدافع ضد عدو مجهول, وغير محدد, وغير مرئي, وغير متوقع, الأمر الذي يقتضي وضع خطط جديدة, واستخدام أسلحة جديدة. فقد كانت الإستراتيجية الأمريكية قبل11 سبتمبر تقوم علي فكرة تمكين الآلة العسكرية من خوض معركتين إقليميتين رئيسيتين في منطقتين متباعدتين في العالم, في أي وقت من الأوقات. ولكن بعد اتساع المسرح بعد11 سبتمبر قررنا تركيز الردع
المطلوب في أربعة مسارح حيوية, مع الاحتفاظ بخيار تنفيذ هجوم شامل كاسح ضد عدو محدد, مع احتمال احتلال عاصمة العدو وتغيير نظامه ـ( هل ينطبق ذلك علي الوضع الراهن, الذي تخوض واشنطون ماتزعم انه معركة ضد الإرهاب, في دول عدة, بينما تستعد في الوقت ذاته لاجتياح العراق وإسقاط نظامه؟).
(5)
في مناسبة مرور عام علي ماجري في11 سبتمبر, أصدر اكثر من2000 مثقف أمريكي بيانا( نشرت الحياة اللندنية نصه في8/30) أعلنوا فيه معارضتهم واستنكارهم لسياسة حكومة بلادهم, وجاء البيان تحت عنوان لافت للنظر هو: ليس باسمنا. ليس ذلك فحسب, وإنما دعا البيان الشعب الأمريكي إلي مقاومة السياسة الظالمة واللاأخلاقية واللاشرعية, التي تنتهجها حكومة الرئيس بوش, وأصبحت توجهاتها تهدد العالم بأسره.
انتقد البيان كل مافعلته الحكومة الامريكية بعد11 سبتمبر, بدءا من تقسيم العالم إلي أخيار وأشرار, وانتهاء بإعلان الحرب علي جبهات متعددة في الخارج وممارسة القمع في الداخل.
في دعوة إلي مقاومة آلية الحرب والقمع, ذكر البيان أنه: باسمنا, وداخل الولايات المتحدة, أنشأت الحكومة شريحتين من الناس: أولئك الموعودون بالحقوق الأساسية ضمن النظام القانوني الامريكي كحد أدني, وأولئك الذين يفتقرون تماما إلي أي حق. فقد جمعت الحكومة مايزيد علي الألف مهاجر واحتجزتهم بالسر حتي أجل غير مسمي. كما تم ترحيل المئات, في حين مازال يزوي مئات آخرون في السجن, مما يعيد للذاكرة الذكري الأليمة لمخيمات الاعتقال للأمريكيين اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية. وللمرة الأولي منذ عقود, أشارت اجراءات الهجرة إلي بعض الجنسيات بهدف التمييز في المعاملة.
باسمنا, نشرت الحكومة فوق المجتمع حجابا قاتما من القمع. وقد انذر الناطق الرسمي باسم الرئيس الناس للانتباه إلي مايتفوهون به. لذا يجد الفنانون والمثقفون والأساتذة والمعارضون وجهات نظرهم عرضة للتحريف والتشويه والهجوم والقمع. فما يعرف بالمرسوم الوطني ـ إضافة إلي عدد من الاجراءات المماثلة علي صعيد الولاية ـ يمنح الشرطة سلطات كاسحة في مايخص التفتيش والاعتقال, بإشراف, عندما يلزم ذلك, دعاوي قضائية سرية ترفع في محاكم سرية.
باسمنا, ثابرت السلطة التنفيذية علي اغتصاب أدوار الدوائر الحكومية ووظائفها الاخري. وقد أنشئت محاكم عسكرية لاتتطلب براهين صارمة وتفتقر إلي حق الاستئناف, وذلك بواسطة أوامر إجرائية. ويتم الاعلان عن مجموعات إرهابية بجرة قلم رئاسي.
يعيد إلينا البيان الثقة في ضمير ونبل بعض عناصر النخبة الامريكية, لكنه يدعونا أيضا إلي طرح السؤال التالي: هل ماتقوم به الإدارة الأمريكية الراهنة يمثل استثناء علي السياسة الأمريكية أم أنه استمرار لها وتعبير عن الأصل فيها ـ بكلام آخر: أيهما أصدق في التعبير عن الحقيقة الأمريكية, أداء الرئيس بوش وفريقه أم بيان المثقفين؟
إن بيان المثقفين الأمريكيين كان صوتا استثنائيا, وإن أداء البيت الأبيض هوالمعبر الأصدق عن الحقيقة الامريكية. وإذا صح ذلك فإنه يدعوني إلي مراجعة المنطوق الذي بسطته البداية, حيث يبدو الاصوب أن الولايات المتحدة بعد11 سبتمبر لم تخسر نفسها, ولكنها كشفت عن وجهها الحقيقي الذي حجبته زمنا طويلا الألوان الصارخة والأصباغ الكثيفة.
بعد أن انقضي عام علي فاجعة11 سبتمبر, بوسعنا أن نقر بأن العرب والمسلمين خسروا الكثير, لكن الولايات المتحدة كانت علي رأس الخاسرين, حتي أزعم أن خسارتها كانت اكبر من المنظور التاريخي والثقافي. نعم, خسر العرب والمسلمون سمعتهم ومصالحهم, لكنهم خرجوا من العام بمثل مادخلوا فيه, باستثناء بعض الكدمات والكسور. أما الامريكيون فقد خرجوا من التجربة علي هيئة مغايرة لتلك التي دخلوا بها, حيث خسروا ماهو أهم من الهيبة والمكانة. خسروا أنفسهم, وخيبوا أمل الآخرين فيهم, وتلك لعمري فاجعة أخري.
(1)
لقد تعرضت الولايات المتحدة في11 سبتمبر الماضي لهجوم إرهابي اتهم فيه نفر من الناس قيل إنهم ينتسبون إلي منظمة القاعدة, التي كانت تعيش في كنف نظام متخلف منبوذ في أفغانستان, وردت واشنطون بسلوك إرهابي اسقطت فيه نظام طالبان, وأهدرت دماء كل عناصره, وانتقمت من الشعب الافغاني, وفتكت بكل من اشتبهت بانتسابه إلي القاعدة, وأعلنتها حربا مفتوحة ضد ماسمي بالإرهاب, في كل أنحاء الكرة الأرضية. ومابرحت تلوح بأن تلك الحرب لاتتقيد بقوانين أو أعراف أو حدود, وأنها قد تستمر عقدا من السنين أو عقدين. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة التي تحولت إلي ثور هائج لايري في الكون غير الثأر والانتقام لأن هجوما إرهابيا استهدف برجين في نيويورك وأدي إلي مقتل حوالي ثلاثة آلاف شخص, هي ذاتها التي استبدت بها روح الثأر والانتقام بعد تدمير اليابانيين لأسطولها في ميناء بيرل هابر أثناء الحرب العالمية الثانية( عام1941), فلجأت في عام45 إلي تدمير مدينتين يابانيتين بالكامل( هيروشيما ونجازاكي) علي رؤوس سكانها وقتلت اكثر من250 ألف شخص. وكانت تلك هي المرة الاولي في التاريخ التي تستخدم فيها القنابل الذرية لإبادة ذلك العدد الهائل من البشر في صراع مسلح. وهي السابقة التي تدحض الزعم بأن أسلحة الدمار الشامل تصبح آمنة إذا ماكانت في يد دولة ديمقراطية, وتغدو خطرا إذا ماكانت بيد نظام مستبد( لاحظ أن هذه أهم الحجج التي تسوق الآن لتسويغ ضرب العراق).
هذا الكلام رددته أكثر من مرة علي مسامع من لقيت من الصحفيين الغربيين الذين تقاطروا علي بلادنا في أعقاب ماجري في11 سبتمبر, ومضوا يمطروننا بالأسئلة التي تركزت حول الحدث وأسبابه وتداعياته. بوجه أخص فإن الصحفيين الامريكيين كانوا يهزون رؤوسهم وهم يستمعون إلي ماقلت, ثم يلقون علي السؤال التالي: ما الذي كان يتعين علي الولايات المتحدة أن تفعله وقد تعرضت للهجوم الإرهابي وقتل من أبنائها ثلاثة آلاف شخص؟
خلاصة ماقلت في الإجابة أن أحدا لاينكر علي الولايات المتحدة حقها في الرد ومعاقبة من ثبتت بحقهم التهمة. ولكن عليها أن تتصرف بسلوك الدولة العظمي التي تحترم أصول العلاقات الدولية والمؤسسات المعبرة عن الشرعية في العالم والقوانين والأعراف المرعية. أما أن تستسلم للانفعال والغضب العارم, وتطيح بكل ماتعارفت عليه المجتمعات الانسانية, فإنها بذلك تكون قد تعاملت بشرعية الغابة, وليس بالشرعية القانونية أو الدولية. من ثم فإنها بعد11 سبتمبر أسفرت عن وجه ومواقف مخالفة تماما لكل ما ادعته لنفسها من مبادئ, وأهدرت في ذلك قيما كانت قد أعطتنا دروسا في ضرورة احترامها والوفاء باستحقاقاتها.
(2)
خلال القرن الماضي عرف العالم ثلاثة من الرؤساء الامريكيين ممن دافعوا عن القيم الانسانية المتعالية, والثلاثة هم ودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي. ولايزال لأمريكا أصدقاء محبطون يرغبون في أن يروا صورتها المتسامحة وأهدافها النبيلة ـ غير أن سياسة امريكا الانفرادية فيما خص الألغام الأرضية والمحكمة الجنائية الدولية واتفاقيات كيوتو الخاصة بالبيئة, كانت كلها مخيبة لآمال هؤلاء.
هذا الكلام ليس من عندي, ولكنه بعض ماجاء في مقالة كان عنوانها لماذا تبدو وطأتنا ثقيلة علي الكرة الأرضية كتبها المؤرخ الامريكي المعروف بول كينيدي الأستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب ظهور واضمحلال القوي العظمي( نشرتها صحيفة الشرق الأوسط في2/28/ الماضي).
مثل هذه الانتقادات ترددت في كتابات عدة. فهذا وليان فاف الذي كتب في لوس انجيليس تايمز(8/14) يقول إن الهواة الذي يقررون سياسات الحكومة الامريكية يتصورون أن من حق الإدارة الامريكية أن تفعل أي شيء تريده, ويعتبرون ذلك أمرا مسلما به ومبررا كما أن الحكومة تصر بشكل مستمر علي إعفائها من الالتزام بالقانون الدولي, وظلت ترفض القيود التي تفرضها الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات الامريكية السابقة, وهي تطالب اليوم بأن تعفي أيضا من بعض القيود الدستورية.
هذا التفرد الامريكي الذي عبرت عنه بوضوح إدارة الرئيس بوش أجهض فكرة العولمة ـ وأثبت أنها تحمل في جوهرها سيطرة أقلية إمبريالية, إذ عندما تصطدم بمصالح الأقوياء فإنه يتم الإطاحة بها علي الفور, ويلقي جانبا بمشروع العولمة كله, وإلا فكيف يفهم الخطاب الامريكي الاخلاقي في البلقان, والنشاط العسكري الأمريكي المستمر للقبض علي المتهمين بجرائم الحرب, من الرئيس اليوغوسلافي السابق إلي أصغر ضباط الميليشيات الصربية, بينما يصف الناطقون باسم الإدارة الامريكية المحكمة الجنائية الدولية بأبشع الأوصاف, ويطالبون بحصانة مطلقة للجنود الأمريكيين من الاتهام والمحاكمة؟ ـ( د. بشير نافع ـ القدس العربي ـ7/11).
(3)
مافعلته الإدارة الأمريكية في الداخل يفوق مايتصوره أي عقل, حتي أننا لانبالغ إذا قلنا إن أكثر إن لم يكن كل الإجراءات التي اتخذتها الإدارة ومررها الكونجرس بعد11 سبتمبر تمثل عدوانا سافرا علي الحريات العامة وعلي مبادئ حقوق الانسان.
هذا الوجه الأمريكي أثار دهشة كثيرين, وكان ماكتبه الاستاذ جميل مطر المحلل السياسي المتميز تحت عنوان أمريكا ومادهاها( الحياة اللندنية ـ8/24) معبرا عن تلك الدهشة. إذ انتقد في تحليله المشروع الاقتصادي الامريكي ومشروعها الثقافي والسياسي, معتبرا أن الولايات المتحدة بأسرها في أزمة. فقد تساءل مثلا: ماذا دهي الامريكيين حتي يسمحوا لحكومتهم بالتفكير في إنشاء نظام تجسس علي المواطن الامريكي, بحيث يتحولون إلي أمة من الجواسيس. إذ إنه طبقا لذلك النظام الذي عرف باسم تيبس(TIPS) سيخضع الأمريكي العادي لرقابة ساعي البريد وجامع القمامة وملاحظ الهاتف وسائق الحافلة العمومية. إذ كلهم يصبحون مكلفين بكتابة تقارير عنه إذا مااشتبهوا في تحركاته وضيوفه وعلاقاته الشخصية, وهي الحياة الخاصة التي أحيطت بقدسية عند الامريكيين, وتحولت إلي نموذج يحلم كثيرون في العالم باحتذائه.( ذكرت صحيفة القدس العربي في7/17 أن الادارة الامريكية تعتزم تجنيد11 مليون جاسوس لمراقبة النشاطات المشبوهة داخل الولايات المتحدة).
في إطار اللوثة التي أصابت الإدارة الامريكية في أعقاب11 سبتمبر, أعيد العمل بقانون الدليل السري, الذي بمقتضاه يعتقل المرء ويحاكم وتتم إدانته دون أن يعرف حقيقة التهمة الموجهة ضده والوقائع المنسوبة إليه, كما أصبح من الممكن أن يلقي القبض علي الانسان ويودع في مكان مجهول, ويمنع من الاتصال بمحاميه لعدة أشهر, في حين يترك لأجهزة الأمن تحديد مصيره علي هواها, دون أي التزام بمبدأ أو قانون.
إضافة إلي احتجاجات المدافعين عن الحقوق المدنية الذين انتقدوا بشدة المكارثية الجديدة بعد11 سبتمبر, فإن بعض القضاة ضاقوا ذرعا بسلوك الادارة الامريكية, وطبقا لما نشرته واشنطن بوست( في8/23) فإن محكمة اتحادية سرية رفضت منح وزارة العدل الامريكية صلاحيات جديدة طلبتها لممارسة الرقابة الالكترونية باسم حماية الأمن القومي. وقالت صراحة ـ في توبيخ علني نادر ـ إن الحكومة أساءت استخدام القانون وضللت المحكمة عشرات المرات, وإن وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية زودوها بمعلومات خاطئة في أكثر من75 طلب إصدار مذكرات تفتيش ومراقبة للمكالمات الهاتفية.
لفت الاستاذ جميل مطر الانتباه فيما كتبه إلي قرار الحكومة الامريكية إنشاء وكالة خاصة لصياغة الانباء والتعليقات, وترجمتها إلي لغات مختلفة, لتوزيعها علي الصحفيين والكتاب في افريقيا والشرق الأوسط وأوروبا, لكي تنشر أسماءهم, وكأنها وجهات نظرهم الشخصية. والهدف من ذلك هوالاحتيال للترويج لوجهة النظر الامريكية, عن طريق خداع القارئ العادي والعبث بمداركه, في عدوان صارخ علي حرية التعبير وعلي ابسط مبادئ المسئولية الاعلامية.
(4)
في غمرة الانفعال وتحت ضغط الحرص علي تعزيز المكانة واستعادة الهيبة, استسلمت الولايات المتحدة لفكرة العسكرة, وتلبستها روح الاستقواء ونزعات الهيمنة الإمبراطورية. فارتفعت في ساحتها السياسية أصوات اليمين الأصولي والصهيوني داعية إلي ممارسة القوة في بسط السلطات الامريكية بالقوة علي جهات الكرة الأرضية الأربع, مع تأديب المارقين فضلا عن تهذيب المنحرفين. بحيث لاتكتفي الولايات المتحدة بإسقاط الأنظمة المتمردة وإخضاعها, وإنما تذهب إلي حد هزيمة الأفكار المناهضة لها والمحرضة ضدها. وفي ذلك لاتكتفي الإدارة الامريكية بقمع معارضيها, ولكن تذهب إلي حد إعادة رسم خرائط المناطق التي تهمها( الشرق الأوسط في المقدمة), علي النحو الذي يرضي الهوي الامريكي( والاسرائيلي بالتبعية) ويستجيب لمقتضيات المصالح والمطامع الامريكية. وهو ماعرضت له تفصيلا في الاسبوعين الماضيين.
ومايحتاج إلي وقفة قصيرة هو ماوصفناه بالعسكرة في أداء الإدارة الأمريكية, التي كانت حملات التأديب الموجهة ضد الدول المعارضة من تجلياتها, لكن هذا التحول ظهر بشكل أكبر في التحولات التي طرأت علي الاستراتيجية العسكرية الامريكية, وهي التي عرضها باستفاضة نسبية وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في مقالة نشرتها مجلة سياسة خارجية الشهرية( عدد أول مايو الماضي), المعروفة بأنها منبر مؤثر وعاكس لتوجهات الإدارة الامريكية. كانت مقالة رامسفيلد بعنوان التحولات العسكرية, وفيها ذكر أن الاستراتيجية الامريكية التي كانت متبعة إبان الحرب الباردة ومابعدها لم تعد صالحة للتعاطي مع عالم مابعد11 سبتمبر والحرب التي أعلنتها واشنطون علي الإرهاب في أنحاء العالم, حيث أصبحت الولايات المتحدة تدافع ضد عدو مجهول, وغير محدد, وغير مرئي, وغير متوقع, الأمر الذي يقتضي وضع خطط جديدة, واستخدام أسلحة جديدة. فقد كانت الإستراتيجية الأمريكية قبل11 سبتمبر تقوم علي فكرة تمكين الآلة العسكرية من خوض معركتين إقليميتين رئيسيتين في منطقتين متباعدتين في العالم, في أي وقت من الأوقات. ولكن بعد اتساع المسرح بعد11 سبتمبر قررنا تركيز الردع
المطلوب في أربعة مسارح حيوية, مع الاحتفاظ بخيار تنفيذ هجوم شامل كاسح ضد عدو محدد, مع احتمال احتلال عاصمة العدو وتغيير نظامه ـ( هل ينطبق ذلك علي الوضع الراهن, الذي تخوض واشنطون ماتزعم انه معركة ضد الإرهاب, في دول عدة, بينما تستعد في الوقت ذاته لاجتياح العراق وإسقاط نظامه؟).
(5)
في مناسبة مرور عام علي ماجري في11 سبتمبر, أصدر اكثر من2000 مثقف أمريكي بيانا( نشرت الحياة اللندنية نصه في8/30) أعلنوا فيه معارضتهم واستنكارهم لسياسة حكومة بلادهم, وجاء البيان تحت عنوان لافت للنظر هو: ليس باسمنا. ليس ذلك فحسب, وإنما دعا البيان الشعب الأمريكي إلي مقاومة السياسة الظالمة واللاأخلاقية واللاشرعية, التي تنتهجها حكومة الرئيس بوش, وأصبحت توجهاتها تهدد العالم بأسره.
انتقد البيان كل مافعلته الحكومة الامريكية بعد11 سبتمبر, بدءا من تقسيم العالم إلي أخيار وأشرار, وانتهاء بإعلان الحرب علي جبهات متعددة في الخارج وممارسة القمع في الداخل.
في دعوة إلي مقاومة آلية الحرب والقمع, ذكر البيان أنه: باسمنا, وداخل الولايات المتحدة, أنشأت الحكومة شريحتين من الناس: أولئك الموعودون بالحقوق الأساسية ضمن النظام القانوني الامريكي كحد أدني, وأولئك الذين يفتقرون تماما إلي أي حق. فقد جمعت الحكومة مايزيد علي الألف مهاجر واحتجزتهم بالسر حتي أجل غير مسمي. كما تم ترحيل المئات, في حين مازال يزوي مئات آخرون في السجن, مما يعيد للذاكرة الذكري الأليمة لمخيمات الاعتقال للأمريكيين اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية. وللمرة الأولي منذ عقود, أشارت اجراءات الهجرة إلي بعض الجنسيات بهدف التمييز في المعاملة.
باسمنا, نشرت الحكومة فوق المجتمع حجابا قاتما من القمع. وقد انذر الناطق الرسمي باسم الرئيس الناس للانتباه إلي مايتفوهون به. لذا يجد الفنانون والمثقفون والأساتذة والمعارضون وجهات نظرهم عرضة للتحريف والتشويه والهجوم والقمع. فما يعرف بالمرسوم الوطني ـ إضافة إلي عدد من الاجراءات المماثلة علي صعيد الولاية ـ يمنح الشرطة سلطات كاسحة في مايخص التفتيش والاعتقال, بإشراف, عندما يلزم ذلك, دعاوي قضائية سرية ترفع في محاكم سرية.
باسمنا, ثابرت السلطة التنفيذية علي اغتصاب أدوار الدوائر الحكومية ووظائفها الاخري. وقد أنشئت محاكم عسكرية لاتتطلب براهين صارمة وتفتقر إلي حق الاستئناف, وذلك بواسطة أوامر إجرائية. ويتم الاعلان عن مجموعات إرهابية بجرة قلم رئاسي.
يعيد إلينا البيان الثقة في ضمير ونبل بعض عناصر النخبة الامريكية, لكنه يدعونا أيضا إلي طرح السؤال التالي: هل ماتقوم به الإدارة الأمريكية الراهنة يمثل استثناء علي السياسة الأمريكية أم أنه استمرار لها وتعبير عن الأصل فيها ـ بكلام آخر: أيهما أصدق في التعبير عن الحقيقة الأمريكية, أداء الرئيس بوش وفريقه أم بيان المثقفين؟
إن بيان المثقفين الأمريكيين كان صوتا استثنائيا, وإن أداء البيت الأبيض هوالمعبر الأصدق عن الحقيقة الامريكية. وإذا صح ذلك فإنه يدعوني إلي مراجعة المنطوق الذي بسطته البداية, حيث يبدو الاصوب أن الولايات المتحدة بعد11 سبتمبر لم تخسر نفسها, ولكنها كشفت عن وجهها الحقيقي الذي حجبته زمنا طويلا الألوان الصارخة والأصباغ الكثيفة.