احمد عبدالملك المقرمي
(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )
عبر القرون والأجيال وما يعيه التاريخ ما تزال أفئدة الناس تهوي إلى الحج رجالا وركبانا وعلى كل ضامر أو طائر أو جارية تمخر البحار أو تقطع المحيطات ، ملبية نداء الاذان للناس بالحج ( ويذكروا اسم الله ) لبيك اللهم لبيك ...
إنه الهتاف الذي يعج به الحجيج ، الهتاف الذي يوجه الناس إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. لقد جبلت النفوس على أن تهتف للحق ، وأن تشدوا بذكر الله فتؤوب مع الفطرة السليمة الطير والجبال بكل اللغات ( كل قد علم صلاته وتسبيحه )
وما فتئت الإنسانية بمختلف شعوبها تهتف وتهتف فهي مجبولة في التوجه إلى بارئها وتلك فطرة في النفس ، غير أن هناك من قد تنحرف بهم طوارئ غزت فطر الناس السليمة فانحرفت بها عن الجادة ، ونزعت بها بعيدا عن الصراط المستقيم والطريق السوي ، فراحت تهتف بسفه لأفراد أو أشخاص .. فيما راح المسلم يهتف على الدوام لله الواحد القهار في كل وقت وحين وعلى مدار اليوم والليلة ، بل والساعة وعند كل صلاة ..
وفي الحج يتمحض الهتاف لله وحده لا شريك له : ( لبيك اللهم لبيك ) والحج فريضة يتمناها كل مسلم ، وتظل النفس تتوق وتتلهف لليوم الذي تتوفر معه القدرة والاستطاعة عن فعل ذلك . أما إذا هيأ الله للمسلم القدرة والاستطاعة فإن عزم المرء على الفعل ونيته كذلك يسبقان مكانهما الزماني والمكاني ، فمنذ عزم المسلم على اداء فريضة الحج الى حين دخول الميقات الزماني للأداء يلازم العزم والنية المسلم الى حين أن يحل الميقات ، وكذلك الشأن في ملازمة العزم والنية للمسلم منذ انطلاقته من وطنه إلى حين وصول الميقات المكاني للإهلال بالحج والإحرام بالنسك ، فإنه زمن في كلا الحالين يهيئ المسلم نفسيا وشعوريا ، كما يهيئه روحيا وسلوكيا فما أن يصل الى الميقات الذي يحرم منه حتى يكون قد فاض به الشوق وغمرته مشاعر روحية وإيمانية لا يجليها الوصف وإنما يتذوق طعمها المرء بالتجربة . هناك يدخل المسلم حياة جديدة ، ومشاعر متجددة .
لم يعهدها من قبل ، يخلع عند الإحرام ثيابه وملابسه الظاهرة ليستبد لها بثياب الإحرام ، ويخلع في الوقت ذاته مشاعره وعاداته السابقة لتتلبسه مشاعر روحية تنتقل به الى مشاعر مغايرة تفيض طهرا وتشع نورا وتنساب خشوعا وايمانا وذكرا .. لقد غدت الشفافية ظاهرة عليه وباطنة فلا تأنق في ملبس ولا اسراف في الأنواع والألوان وتعدد القطع التي يرتديها، بل رداء وإزار لاغير بالنسبة للرجل بحيث يتجرد من كل تلك الثياب التي يثقل بها جسده في حياته اليومية فيبالغ في اختيار وانتقاء هذه الملابس المتعددة الأشكال والالوان ، وانما يغادرها الى قطعتين لا يعلوهما شيئ ولا يكون من تحتها أي شيئ، والمرأة كذلك تنخلع من كل زينة أو لبس مزخرف أو مزركش أو ثوب مفصل تفصيلا وفق الأزياء التي تتبارى بها دور الأزياء ، بل تتناول ثوبا ساترا محتشما خال من كل مظهر للزينة أو دوافع الإغراء ويمضي المسلم والمسلمة بهذه الشفافية الروحية والمادية ليعيش بهذا التجرد من متاع الحياة ، وبهذا الزهد طوال أيام ادائهما لمناسك الحج.
نفس انخلعت عن عاداتها وتحررت من قيودها المادية التي كانت تكبلها ، وذابت في حياة يريد معها صاحبها أن يعود من فريضة الحج وقد خلا من الذنوب واصبح كيوم ولدته امه ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وإذ يتجرد المسلم والمسلمة من قيود الحياة المعتادة فإنه يقبل لحياة جديدة وتجربة ايمانية وعبادية فريدة حيث تمتلئ النفس خشوعا وإيمانا وذكرا .
وإذا كانت شفافية الظاهر بادية بتجردها من الثياب المعتادة فإن الأهم هو شفافية الباطن وقد أناب المسلم الى ربه وتاب إليه يرجو رحمته ويخشى عذابه ، فيالها من شفافية لازمت الظاهر والباطن ( وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) .
ينطلق الحاج من مناطق مختلفة وبعيدة من شتى أنحاء الأرض نحو غايته وهدفه وهو أداء فريضة الحج لا يلوي على شيئ غيره ، فوضوح الهدف وجلاء الغاية يسهل السير والحركة نحو المقصد ، وإلا كيف تتحرك الملايين بسهولة ويسر ونضام وانتضام ليس من بلدانهم بل في تحركهم الجماعي الفريد من منسك الى آخر ومن منطقة إلى أخرى وفق مناسك قد عرفها الجميع يؤدونها بشكل جماعي ومنظم.
في الحج تتجلى ارادة المسلم بصورة جديدة وبمظهر آخر غير صور الارادة التي نجدها لدى المسلم في فريضة الصيام أو الصلاة أو الزكاة .. فهنا إرادة قهر العادات وكسر التقاليد الاجتماعية والاعراف اليومية و( الإتيكيت ) أو قوانين المظهر العام للشخص ، حيث يرتدى الحاج ملابس الإحرام خالية من أي زينة أو ترتيب معين ، وحين يمشي بين الجمع بلا أي تميز أو تفرد فيطوف مع الطائفين ويسعى مع الساعين ويفترش الارض في منى أو عرفات أو المزدلفة بكل شوق وحب وارتياح وبدون ادنى تأفف أو تضجر أو ضيق من وضعه أو من أحد ، ويتحمل كل ازدحام أو تعب أو مشقة بكامل الارتياح والاحتساب للأجر والتمثل للطاعة وهى أوضاع وحركات وممارسات لا تخطر على باله فضلا عن أن يفعلها في بلده أو مدينته .. لكنه هنا يفعلها بنية وشوق واطمئنان نفسي تام .
انها الإرادة المخزونة لدى المسلم والتي تثب الى ميدان الحياة حين تأتيها القناعة ويصطحبها العزم والنية الاسلامية .
هذه الارادة تبرز الى العلن وتكشف للمسلم والمسلمة مدى ما يتمتعان به من روح الجندية ، بأبرز مظاهرها الايجابية من حزم وعزم واقدام وبذل وتضحية واحتمال وجلد وارادة تسبقها نية صحيحة ( رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا) إنها روح الجندية والطاعة التي لبى نداها كل مسلم ومسلمة من شتى بقاع الأرض على مختلف الألوان واللغات والمستويات ، ليقفوا جميعا على قواعد ثقافة واحدة وارض واحدة وصعيد واحد يرددون هتافا واحد وشعارا واحدا : ( لبيك اللهم لبيك )
ملايين الحجاج يعيشون ثقافة واحدة ، ويتجهون نحو وجهة واحدة بمشاعر واحدة واعمال واحدة ومناسك واحدة حيث يخبرهم ذلك الهتاف ، ويقول لهم ذلك الشعار وتوحي لهم تلك المشاعر وتدعوهم تلك الوجهة الواحدة والقبلة الواحدة ان بمقدوركم وانتم مئات الملايين من المسلمين ان تعيشوا بنفس هذه المشاعر والشعار والوجهة والثقافة في بلادكم كما انتم هنا في المشاعر المقدسة ملايين معددوة .. تستطيعون ان تعيشوا على مستوى العالم في حب ووئام واخاء كما تعيشون هذه الحياة أيام الحجيج .
هناك يتحرك الفرد المسلم بحرية تامة في أداء مناسكه وفي إطار وحدة المجموع .
يطوف مع الطائفين غير مرتبط طوافه بآخر ، ويسعى مع الساعين غير مرتبط أو مقيد سعيه بسعي احد ، ويرمي أو يحلق أو يطوف طواف الإفاضة غير مرتبط بآخر وإن كان يؤدي ذلك في اطار المجموع .
لكن هناك مناسك جماعية يلزم المكان أو الوقت الجميع إداء مناسكهم في زمن واحد او مكان واحد، فالوقوف بعرفة يفرض على الجميع أن يجتمعوا في مكان واحد وفي زمن واحد ، وان كان كل يؤدي نسكه بمفرده من حيث الدعاء والتعبد لكن الوقت والمكان يجمعهم جميعا .
فهناك يتجلى العمل الجماعي والعمل الفردي ولكن في اطار الاصطفاف الجماعي والصف الواحد والثقافة الواحدة والقواعد المنظمة والنظام الذي يسلكه الجميع بقناعة وحب واتباع .
إنه قانون وقواعد شرعية يحتكم لها الجميع ، ويستسلم له الجميع ، ويحافظ عليه الجميع دون اختراق أو تمرد ضده بل يستسلمون له بحب ولهفة ، مما يعني أن هذه الحياة الانموذج خلال هذه الأيام المعدودات للملايين المعدودة يمكن ان تكون نموذجا قائما ينتظم شتى مجالات الحياة حين يصل العمل الاسلامي بثمار العمل الدعوي والتربوي في صفوف الناس الى نقطة القناعة التي يصل إليها الحاج وهو يؤدي مناسك الحج بقناعة وشوق ولهفة ومتى وصل جهد العمل الدعوي والتربوي والتنظيمي بثماره شأوا بعيدا ومدى واسعا ، فإنه سيكون قد قطع شوطا كبيرا ومسافة ممتازة في العمل .
في الحج دروس وعبر ينتفع بها الفرد ويستفيد منها المجموع وقد قال فيه ربنا ( ليشهدوا منافع لهم ) وهى منافع تفيد مجال التربية ، كما تزود مجال الدعوة والتنظيم بالجديد الذي يوائم كل زمن ومكان .
فللحج أسرار ودلالات تفيد الفرد والمجموع وتفيد الشعوب والحكومات ، واذا كانت هناك حكومات تحاول ان توظف بعض المؤتمرات الكبيرة اقليمية او دولية وتحاول ان تستثمر هذا المؤتمر او ذاك الى اقصى درجة فالحج حيث يشهد الناس منافع لهم بمقدور الامة ان تستثمر نتائجه ومنافعه بمقدار ما تنهض الأمة فترتقي الى مستوى تلك المنافع التي يدعوا إليها دينا الحنيف .
*ينابيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )
عبر القرون والأجيال وما يعيه التاريخ ما تزال أفئدة الناس تهوي إلى الحج رجالا وركبانا وعلى كل ضامر أو طائر أو جارية تمخر البحار أو تقطع المحيطات ، ملبية نداء الاذان للناس بالحج ( ويذكروا اسم الله ) لبيك اللهم لبيك ...
إنه الهتاف الذي يعج به الحجيج ، الهتاف الذي يوجه الناس إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. لقد جبلت النفوس على أن تهتف للحق ، وأن تشدوا بذكر الله فتؤوب مع الفطرة السليمة الطير والجبال بكل اللغات ( كل قد علم صلاته وتسبيحه )
وما فتئت الإنسانية بمختلف شعوبها تهتف وتهتف فهي مجبولة في التوجه إلى بارئها وتلك فطرة في النفس ، غير أن هناك من قد تنحرف بهم طوارئ غزت فطر الناس السليمة فانحرفت بها عن الجادة ، ونزعت بها بعيدا عن الصراط المستقيم والطريق السوي ، فراحت تهتف بسفه لأفراد أو أشخاص .. فيما راح المسلم يهتف على الدوام لله الواحد القهار في كل وقت وحين وعلى مدار اليوم والليلة ، بل والساعة وعند كل صلاة ..
وفي الحج يتمحض الهتاف لله وحده لا شريك له : ( لبيك اللهم لبيك ) والحج فريضة يتمناها كل مسلم ، وتظل النفس تتوق وتتلهف لليوم الذي تتوفر معه القدرة والاستطاعة عن فعل ذلك . أما إذا هيأ الله للمسلم القدرة والاستطاعة فإن عزم المرء على الفعل ونيته كذلك يسبقان مكانهما الزماني والمكاني ، فمنذ عزم المسلم على اداء فريضة الحج الى حين دخول الميقات الزماني للأداء يلازم العزم والنية المسلم الى حين أن يحل الميقات ، وكذلك الشأن في ملازمة العزم والنية للمسلم منذ انطلاقته من وطنه إلى حين وصول الميقات المكاني للإهلال بالحج والإحرام بالنسك ، فإنه زمن في كلا الحالين يهيئ المسلم نفسيا وشعوريا ، كما يهيئه روحيا وسلوكيا فما أن يصل الى الميقات الذي يحرم منه حتى يكون قد فاض به الشوق وغمرته مشاعر روحية وإيمانية لا يجليها الوصف وإنما يتذوق طعمها المرء بالتجربة . هناك يدخل المسلم حياة جديدة ، ومشاعر متجددة .
لم يعهدها من قبل ، يخلع عند الإحرام ثيابه وملابسه الظاهرة ليستبد لها بثياب الإحرام ، ويخلع في الوقت ذاته مشاعره وعاداته السابقة لتتلبسه مشاعر روحية تنتقل به الى مشاعر مغايرة تفيض طهرا وتشع نورا وتنساب خشوعا وايمانا وذكرا .. لقد غدت الشفافية ظاهرة عليه وباطنة فلا تأنق في ملبس ولا اسراف في الأنواع والألوان وتعدد القطع التي يرتديها، بل رداء وإزار لاغير بالنسبة للرجل بحيث يتجرد من كل تلك الثياب التي يثقل بها جسده في حياته اليومية فيبالغ في اختيار وانتقاء هذه الملابس المتعددة الأشكال والالوان ، وانما يغادرها الى قطعتين لا يعلوهما شيئ ولا يكون من تحتها أي شيئ، والمرأة كذلك تنخلع من كل زينة أو لبس مزخرف أو مزركش أو ثوب مفصل تفصيلا وفق الأزياء التي تتبارى بها دور الأزياء ، بل تتناول ثوبا ساترا محتشما خال من كل مظهر للزينة أو دوافع الإغراء ويمضي المسلم والمسلمة بهذه الشفافية الروحية والمادية ليعيش بهذا التجرد من متاع الحياة ، وبهذا الزهد طوال أيام ادائهما لمناسك الحج.
نفس انخلعت عن عاداتها وتحررت من قيودها المادية التي كانت تكبلها ، وذابت في حياة يريد معها صاحبها أن يعود من فريضة الحج وقد خلا من الذنوب واصبح كيوم ولدته امه ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وإذ يتجرد المسلم والمسلمة من قيود الحياة المعتادة فإنه يقبل لحياة جديدة وتجربة ايمانية وعبادية فريدة حيث تمتلئ النفس خشوعا وإيمانا وذكرا .
وإذا كانت شفافية الظاهر بادية بتجردها من الثياب المعتادة فإن الأهم هو شفافية الباطن وقد أناب المسلم الى ربه وتاب إليه يرجو رحمته ويخشى عذابه ، فيالها من شفافية لازمت الظاهر والباطن ( وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) .
ينطلق الحاج من مناطق مختلفة وبعيدة من شتى أنحاء الأرض نحو غايته وهدفه وهو أداء فريضة الحج لا يلوي على شيئ غيره ، فوضوح الهدف وجلاء الغاية يسهل السير والحركة نحو المقصد ، وإلا كيف تتحرك الملايين بسهولة ويسر ونضام وانتضام ليس من بلدانهم بل في تحركهم الجماعي الفريد من منسك الى آخر ومن منطقة إلى أخرى وفق مناسك قد عرفها الجميع يؤدونها بشكل جماعي ومنظم.
في الحج تتجلى ارادة المسلم بصورة جديدة وبمظهر آخر غير صور الارادة التي نجدها لدى المسلم في فريضة الصيام أو الصلاة أو الزكاة .. فهنا إرادة قهر العادات وكسر التقاليد الاجتماعية والاعراف اليومية و( الإتيكيت ) أو قوانين المظهر العام للشخص ، حيث يرتدى الحاج ملابس الإحرام خالية من أي زينة أو ترتيب معين ، وحين يمشي بين الجمع بلا أي تميز أو تفرد فيطوف مع الطائفين ويسعى مع الساعين ويفترش الارض في منى أو عرفات أو المزدلفة بكل شوق وحب وارتياح وبدون ادنى تأفف أو تضجر أو ضيق من وضعه أو من أحد ، ويتحمل كل ازدحام أو تعب أو مشقة بكامل الارتياح والاحتساب للأجر والتمثل للطاعة وهى أوضاع وحركات وممارسات لا تخطر على باله فضلا عن أن يفعلها في بلده أو مدينته .. لكنه هنا يفعلها بنية وشوق واطمئنان نفسي تام .
انها الإرادة المخزونة لدى المسلم والتي تثب الى ميدان الحياة حين تأتيها القناعة ويصطحبها العزم والنية الاسلامية .
هذه الارادة تبرز الى العلن وتكشف للمسلم والمسلمة مدى ما يتمتعان به من روح الجندية ، بأبرز مظاهرها الايجابية من حزم وعزم واقدام وبذل وتضحية واحتمال وجلد وارادة تسبقها نية صحيحة ( رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا) إنها روح الجندية والطاعة التي لبى نداها كل مسلم ومسلمة من شتى بقاع الأرض على مختلف الألوان واللغات والمستويات ، ليقفوا جميعا على قواعد ثقافة واحدة وارض واحدة وصعيد واحد يرددون هتافا واحد وشعارا واحدا : ( لبيك اللهم لبيك )
ملايين الحجاج يعيشون ثقافة واحدة ، ويتجهون نحو وجهة واحدة بمشاعر واحدة واعمال واحدة ومناسك واحدة حيث يخبرهم ذلك الهتاف ، ويقول لهم ذلك الشعار وتوحي لهم تلك المشاعر وتدعوهم تلك الوجهة الواحدة والقبلة الواحدة ان بمقدوركم وانتم مئات الملايين من المسلمين ان تعيشوا بنفس هذه المشاعر والشعار والوجهة والثقافة في بلادكم كما انتم هنا في المشاعر المقدسة ملايين معددوة .. تستطيعون ان تعيشوا على مستوى العالم في حب ووئام واخاء كما تعيشون هذه الحياة أيام الحجيج .
هناك يتحرك الفرد المسلم بحرية تامة في أداء مناسكه وفي إطار وحدة المجموع .
يطوف مع الطائفين غير مرتبط طوافه بآخر ، ويسعى مع الساعين غير مرتبط أو مقيد سعيه بسعي احد ، ويرمي أو يحلق أو يطوف طواف الإفاضة غير مرتبط بآخر وإن كان يؤدي ذلك في اطار المجموع .
لكن هناك مناسك جماعية يلزم المكان أو الوقت الجميع إداء مناسكهم في زمن واحد او مكان واحد، فالوقوف بعرفة يفرض على الجميع أن يجتمعوا في مكان واحد وفي زمن واحد ، وان كان كل يؤدي نسكه بمفرده من حيث الدعاء والتعبد لكن الوقت والمكان يجمعهم جميعا .
فهناك يتجلى العمل الجماعي والعمل الفردي ولكن في اطار الاصطفاف الجماعي والصف الواحد والثقافة الواحدة والقواعد المنظمة والنظام الذي يسلكه الجميع بقناعة وحب واتباع .
إنه قانون وقواعد شرعية يحتكم لها الجميع ، ويستسلم له الجميع ، ويحافظ عليه الجميع دون اختراق أو تمرد ضده بل يستسلمون له بحب ولهفة ، مما يعني أن هذه الحياة الانموذج خلال هذه الأيام المعدودات للملايين المعدودة يمكن ان تكون نموذجا قائما ينتظم شتى مجالات الحياة حين يصل العمل الاسلامي بثمار العمل الدعوي والتربوي في صفوف الناس الى نقطة القناعة التي يصل إليها الحاج وهو يؤدي مناسك الحج بقناعة وشوق ولهفة ومتى وصل جهد العمل الدعوي والتربوي والتنظيمي بثماره شأوا بعيدا ومدى واسعا ، فإنه سيكون قد قطع شوطا كبيرا ومسافة ممتازة في العمل .
في الحج دروس وعبر ينتفع بها الفرد ويستفيد منها المجموع وقد قال فيه ربنا ( ليشهدوا منافع لهم ) وهى منافع تفيد مجال التربية ، كما تزود مجال الدعوة والتنظيم بالجديد الذي يوائم كل زمن ومكان .
فللحج أسرار ودلالات تفيد الفرد والمجموع وتفيد الشعوب والحكومات ، واذا كانت هناك حكومات تحاول ان توظف بعض المؤتمرات الكبيرة اقليمية او دولية وتحاول ان تستثمر هذا المؤتمر او ذاك الى اقصى درجة فالحج حيث يشهد الناس منافع لهم بمقدور الامة ان تستثمر نتائجه ومنافعه بمقدار ما تنهض الأمة فترتقي الى مستوى تلك المنافع التي يدعوا إليها دينا الحنيف .
*ينابيع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ