هويدي 20-8-2002
الشغل الشاغل للجميع هو وقف العمليات الاستشهادية, هو هم إسرائيلي بامتياز لأسباب مفهومة, ولأنه كذلك فقد صار علي رأس أجندة الإدارة الأمريكية, ولأسباب ليست خافية ـ أيضا ـ فتلك فرضته علي القيادة الفلسطينية, وعلي بعض العواصم العربية الصديقة, وهو ما كثف من الضغوط علي فصائل المقاومة, التي تتداول الآن وثيقة بهذا الخصوص, وبتغير مسار الريح علي ذلك النحو انقلب الحال رأسا علي عقب, وتحولت الساحة الفلسطينية إلي مسرح عبثي, تراجع فيه شعار تحرير فلسطين وأصبحت القضية مختزلة في تحرير الإسرائيليين من الخوف, وتخليصهم من رعب العمليات الاستشهادية.
(1)
ذات صباح في الأسبوع الماضي وقعت علي خبر يجسد ذلك العبث الذي يتجاوز قدرة العقل علي التصديق, إذ وجدته مسكونا بسبع من عجائب دنيا السياسة في هذا الزمان, موضوع الخبر هو زيارة وفد السلطة الفلسطينية إلي واشنطن الذي ضم من بين أعضائه وزير الداخلية الجديد اللواء عبدالقادر يحيي, أما العجائب السبع التي تضمنها فكانت كالتالي: عقد الوفد في واشنطن عدة اجتماعات مع رئيس المخابرات المركزية الأمريكية لبحث تنظيم واستقرار الأوضاع الأمنية في الأرض المحتلة, واتفق الطرفان علي إنشاء وحدات فلسطينية لمكافحة الإرهاب, وستكون المهمة الأساسية لتلك الوحدات هي منع الهجمات الفلسطينية ضد إسرائيل( بالدقة حصار المقاومة وتكبيلها وإجهاض عملياتها), وصف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محادثات واشنطن بأنها إيجابية للغاية, غير أن بعض المصادر السياسية في رام الله أعربت عن قلقها إزاء المعلومات التي تسربت بشأن الاتفاق, مشيرة في ذلك إلي أن الوحدات المستجدة ستعمل خارج القانون!
كل جملة في الخبر تصلح بحد ذاتها لكي تكون موضوعا للزاوية التي تنشرها الصحف والمجلات تحت عنوان صدق أو لا تصدق! ذلك أن الجيل الذي عاصر مراحل الصراع خلال نصف القرن الأخير, واستقرت في مداركه صورة معينة للمخابرات المركزية, واستوعب حقيقة المشروع الصهيوني ومقاصده, وآمن بقضية التحرير وضرورة المقاومة, وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة, هذا الجيل لابد أن يري في كل جملة بالخبر صدمة تزلزل كيانه وتصيبه بخليط من الدهشة والذهول. بل إنني أزعم أن أي وطني لم يفقد وعيه في زماننا سوف يمتد إليه الشعور بالصدمة, حين يجد في نهاية المطاف أن وحدات فلسطينية مدربة عربيا بإشراف المخابرات المركزية, هي التي تلاحق المقاومة وتجهض عملياتها, وأن هذا المسلك أصبح بديلا عن التمسك بحق المقاومة والالتزام العربي بالدفاع عن ذلك الحق, وتعزيز الصمود الفلسطيني.
(2)
يوم نشر ذلك الخبر البائس بثت وكالة الأنباء الفرنسية صورة لبعض الفلسطينيين الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في بلدة بيت لهيا وقد سيقوا حفاة بثياب النوم, بينما عصبت أعينهم وقيدت أيديهم, وكان التركيز في الصورة علي أحدهم وقد دفن واقفا في حفرة, وظهر ثلثه العلوي علي تلك الهيئة: منكس الرأس ومعصوب العينين ومقيد اليدين, علي نحو يذكرنا بالصور البشعة التي التقطت لمعتقلي جوانتانامو لدي وصولهم إلي الجزيرة الكوبية, وكانت ناطقة بالمذلة والقهر. تصادف أيضا أن نشرت صحيفة القدس العربي صورة علي أربعة أعمدة للطفلة لميس القريني ابنة السنوات السبع, التي قتل قناص إسرائيلي أباها أحمد القريني, الموظف بقسم الحركة في طوارئ بلدية نابلس, بينما كان جالسا داخل سيارة إنقاذ تابعة للبلدية. كان وجه لميس غارقا في الدموع, وجسدها يتلوي من الفجيعة, وصراخها يتردد في جنبات مستشفي الاتحاد بالمدينة وهي تنادي الأب بصوت مكلوم يهز الجدران ويمزق نياط القلوب, قائلة: أريدك يا أبي, لا تذهب بعيدا..!
مثل هذه الصور ليست فريدة في بابها, لكنها جاءت تسجيلا للحدث اليومي الذي أصبح نمطا للحياة الفلسطينية, في ظل الاحتلال الإسرائيلي الوحشي, حيث لم يعد أمام الناس سوي أحد خيارين: الإذلال أو الموت, والأسير الفلسطيني الذي عصبت عيناه وكبلت يداه ودفن ثلثا جسمه لم يكن سوي رمز للمذلة المفروضة, أما الشهيد أحمد القريني فقد كان واحدا ممن لاحقهم الموت المجاني وهو قابع داخل سيارة الإنقاذ, خرج لينقذ غيره غير مدرك أن الدور قد حل عليه لكي ينضم إلي قافلة الضحايا.
هي مصادفة لاريب, أن يتزامن نشر خبر تشكيل وحدات مكافحة الإرهاب الفلسطينية مع ظهور الصورتين السابقتين في الصحف العربية, كأن الأقدار أرادت بذلك أن تبرز المفارقة( تفضحها إن شئت الدقة), إذ صار المطلوب أن يستمر الخيار بين الإذلال أو الموت, شريطة أن يكون الموت بالرصاص الإسرائيلي, ومحظور علي الفلسطيني أن يختار الموت شهيدا, وإنما يراد له أن يرحل عن الدنيا قتيلا, بحيث يظل موته ـ حتي موته! ـ بقرار إسرائيلي استكمالا لمسلسل المذلة والهوان, وهو ما قد نفهمه حين يصدر عن الإسرائيليين والأمريكيين, لكن المذهل في الأمر أن يحدث توافق فلسطيني علي ذلك المعني.
(3)
لا أعرف أمة تعاملت مع شهدائها بمثل هذا الأسلوب الذي يتراوح بين الإنكار والاتهام, ذلك أن الذين عارضوا العمليات الاستشهادية اعتبروها إرهابا أو انتحارا في أحسن الفروض, أما الذين دافعوا عنها فقد ادعي بعضهم أن الذين يقومون بها هم شباب محبط ويائس, وجد فيها حلا لأزمته!
هذا المشهد بحد ذاته يعد أحد أوجه العبث الذي يعبر عن الخلل في الرؤية والفساد في معايير القياس والتقويم, وليس عندي كلام مع الذين يعتبرون المقاومة إرهابا, أو أقرانهم الذين ينعتون العمليات الاستشهادية بتلك الصفة, لكني أدهش من أولئك الذين يضنون علي الفدائيين بوصف الشهداء, ويصرون علي اعتبارهم انتحاريين, ولا أستطيع أن أخفي دهشة مقرونة بالحزن إزاء الدفاع عن عملياتهم بمرافعة تنطلق من نسبة اليأس والإحباط إليهم.
كأن الفدائي الفلسطيني إنسان منزوع الكرامة, ومضنون عليه بالعزة والكبرياء, كأنه مخلوق بلا ضمير أو حلم, لا تحركه محبة لوطنه أو دفاع عن شرف أمته وعرضها, أو غضب لكرامته وكبريائه, وكأنه لا يري في الشهادة قيمة عظمي وفعلا جليلا يستجلب به رضا ربه ويتطلع إلي الفوز بجنته, لكي يحشر مع النبيين والصديقين وكوكبة الشهداء الأبرار الذين تحدث عنهم النص القرآني. إنهم لا يريدونه كذلك, بل إنهم يضاعفون من إهانته بذلك التبرير العليل والعاجز الذي ينكر عليه البطولة والفداء ولا يرونه إلامحبطا ويائسا.
الشهيد ليس يائسا أيها السادة, وشتان بين المعنيين. فاليائس مهزوم وفاقد للأمل وكاره للحياة بأسرها, والشهيد جسور ومفعم بالأمل وكاره للذل والظلم, واليائس مخلوق منكسر يحل مشكلته بإنهاء حياته, والشهيد ملأ الإيمان قلبه وقرر أن يفتدي وطنه وأمته بروحه, مطمئنا إلي أنه بما يفعل يبدأ حياة جديدة في رحاب الله, اليائس وجد الحياة بلا معني فتخلص منها بالانتحار, والشهيد أراد أن يكون للحياة معني ففجر نفسه في جسم العدو, لكي يضيئها للآخرين.
يستحيي المرء من المضي في المقارنة التي تعد بذاتها شهادة تدين زماننا, حتي لا يخطر علي البال أن يجد الواحد منا نفسه مضطرا في لحظة ما لأن يدافع عن كرامة الشهيد, ويزيح عن وجهه الأوحال والتهم التي يرمي بها, بعد أن قدم دمه وروحه فداء لوطنه وأمته, وعربونا لكرامتها وعزتها, وإذ يحدث ذلك والأمة مهزومة ومنكسرة, وتتلمس شعرة كبرياء تتعلق بها, فإن المشهد العبثي يبلغ ذروته علي نحو يجعل الحليم حيران.
(4)
في الوصية التي تركها الشهيد محمد هزاع الغول, قبل انطلاقه نحو هدفه وتفجير نفسه, كأنه كان يرد علي أولئك الذين هونوا من شأن الفعل واتهموه وأقرانه بالاستسلام لليأس والسعي للتخلص من الحياة, إذ قال بعبارة واضحة: إنه ذهب لأداء واجبه ليس حبا في القتل, ولكن لنحيا كما يحيا الناس, فنحن لا نغني أغنية الموت, بل نتلو أناشيد الحياة, ونموت لتحيا الأجيال من بعدنا.
هذا المعني سجله بصورة أو أخري العديد من الشهداء, الشبان والشابات, الذين عبرت وصاياهم عن درجة عالية من اليقين والعزة والفداء.
إن الذين يسفهون العمليات الاستشهادية وينتقصون من قدر أبطالها, يلغون التاريخ, ويتجاهلون الملابسات التي أفرزتها, فهم ينسون مثلا ـ بعضهم يتناسون ـ أن المقاومة لم تبدأ بذلك النوع من العمليات, وإنما انتهت بها, فمنذ الثلاثينيات والفلسطينيون يمارسون مختلف صور الاحتجاج السلمي علي التغول الصهيوني, وانتفاضتهم في عام87 اشتهرت بأنها انتفاضة الحجارة, وقد لجأت فصائل المقاومة إلي السلاح, حين أدركت أن إسرائيل تستخدم اتفاقيات السلام وعنوانها لتكريس الاحتلال وإدامته, في البدء كانت عمليات المقاومة تستهدف الأهداف العسكرية وحدها, وبعد مذبحة الحرم الإبراهيمي التي قتل فيها أحد متعصبي الصهاينة أكثر من عشرين مصليا فلسطينيا, ردت المقاومة بتوسيع دائرة عملياتها في العمق, وضد ما يسمي تجاوزا بالأهداف المدنية, وإزاء فقدان الأمل تماما في العملية السلمية, وبعد الاندفاعات الإسرائيلية نحو استجلاب المستوطنين( مليون ونصف مليون استجلبوا بعد اتفاقيات أوسلو), التي اقترنت بالتوسع الوحشي في المستوطنات, واستمرار سياسة مصادرة أراضي الفلسطينيين وتجريف زراعاتهم, وحصار مدنهم وتحويل الضفة والقطاع إلي مجموعة من المعازل, مع مواصلة حصار الفلسطينيين وتجويعهم ورفع شعار المذلة والركوع أو الموت, إزاء ذلك كله وبعد أن أعلنها شارون حربا مفتوحة, كان من الطبيعي أن تتحول العمليات الاستشهادية إلي سلاح للمقاومة الوطنية, فضلا عن الإسلامية, سلاح يعبر عن رفض الفلسطينيين وتحديهم لسياسة الإذلال والتركيع, ويبعث للإسرائيليين برسالة مكتوبة بالدم تبلغهم أن الاحتلال له كلفته الباهظة والموجعة, وقد وصلت الرسالة بالفعل كما سنري توا.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس عرض أكثر من مرة اقتراحا بوقف العمليات الاستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين, مقابل وقف استهداف المدنيين الفلسطينيين, كما اقترح عقد تفاهم في هذا الصدد مع الإسرائيليين, علي غرار تفاهم نيسان ـ أبريل ـ بين حزب الله في لبنان وسلطات الاحتلال, لكن مقترحاته هذه قوبلت بالصد والرفض, وبدا أن المطلوب أن يوقف الفلسطينيون عملياتهم, بينما تطلق يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في ضرب الأهداف الفلسطينية واستمرار قتل الفلسطينيين بغير تمييز ولا حساب.
(5)
فيما بين أول عملية استشهادية في93/4/16, وحتي اندلاع انتفاضة الأقصي في نهاية شهر سبتمبر عام ألفين, سجلت30 محاولة للقيام بعمليات استشهادية, نفذت منها24 عملية, أما الفترة الواقعة من بداية انتفاضة الأقصي وحتي مطلع شهر أبريل الماضي فقد سجلت153 محاولة, نفذت منها102 عملية, ومنذ ذلك التاريخ وحتي أول شهر يوليو نفذت18 عملية, بينما زاد عدد المحاولات علي خمسين, وهو ما يعني تزايد إقبال وإصرار الشعب الفلسطيني علي تحدي الاحتلال الإسرائيلي, علي الرغم من مضاعفة ما يستخدمه من وسائل البطش والقهر.
في هذا الصدد ذكر الكولونيل جال لوفت, وهو ضابط كبير سابق في الجيش الإسرائيلي, في عدد مجلة فورين افيرز الأخير( يوليو ـ أغسطس) أن39 عملية للاستشهاديين أودت بحياة70 إسرائيليا وجرحت أكثر من ألف, في حين أن الخسائر التي نجمت عن إطلاق39 صاروخا عراقيا من طراز سكود( عام1991) أودت بحياة74 إسرائيليا فقط, معظمهم مات نتيجة للسكتة القلبية.
موضوع مقال الكولونيل لوفت في المجلة الأمريكية المهمة كان يناقش مسألة القنبلة البشرية الفلسطينية, وذكر فيه أن إسرائيل لم تستشعر في تاريخها أذي مثيلا لذلك الذي ألحقته بها العمليات الاستشهادية( يسميها الانتحارية), وعلي الرغم من أنها نجحت في استخدام ونشر النظام الدفاعي الصاروخي أرو, لمواجهة صواريخ سكود العراقية, بتكلفة ملياري دولار, فإنها لم تملك ما ترد به علي القنبلة البشرية الفلسطينية غير بناء الأسوار الشائكة, وخلص من ذلك إلي أن إسرائيل بصدد عدو لا يمكن القضاء عليه, ومن ثم لا يوجد حل عسكري للمشكلة.( من الملاحظات التي أوردها في هذا السياق وهو يعبر عن مأزق الإسرائيليين, قوله: إنهم يثقون في دباباتهم وجيشهم, بينما الفلسطينيون يضعون ثقتهم في الله, وبسبب إيمانهم ذاك فلن تستطيع إسرائيل أن تحقق إنجازات استراتيجية في مواجهة الفلسطينيين, علي الرغم من قدرتها علي تحقيق الإنجازات التكتيكية).
الباحثة البريطانية هيلينا كوبان المتخصصة في الشرق الأوسط قامت بزيارة إلي فلسطين وإسرائيل وعادت بانطباع مماثل عرضته في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة الحياة اللندنية( ابتداء من7/31), وقد نقلت علي لسان أحد كبار المسئولين في الخارجية الإسرائيلية قوله: إننا نشعر بالخوف علي الرغم من قوة جيشنا, ولا تصدقوا أي إسرائيلي ينكر ذلك, حتي غلاة اليمين الذين يطالبون بطرد العرب فإن الخوف يظل كامنا في أعماقهم.
أشرت قبلا إلي ما كتبه في هذا المعني توماس فريدمان الصحفي الأمريكي اليهودي المتعاطف مع إسرائيل, حين قال في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز: إن العمليات الاستشهادية سببت وجعا لإسرائيل لم تسببه لها الجيوش العربية طيلة خمسين عاما, وإن إسرائيل كانت مستعدة تحت ضغط تلك العمليات للانسحاب من الضفة الغربية كلها لتجنب الترويع الذي أحدثته العمليات الانتحارية.
إذ يوضح لنا ذلك لماذا أصبح وقف تلك العمليات الشغل الشاغل لإسرائيل والولايات المتحدة, إلا أنه يضاعف من عجزنا عن فهم اللغز الآخر, المتمثل في الموافقة علي تشكيل وحدات فلسطينية لإجهاض تلك العمليات, بدعوي مكافحة الإرهاب.
هل عندكم حل لهذا اللغز؟!
الشغل الشاغل للجميع هو وقف العمليات الاستشهادية, هو هم إسرائيلي بامتياز لأسباب مفهومة, ولأنه كذلك فقد صار علي رأس أجندة الإدارة الأمريكية, ولأسباب ليست خافية ـ أيضا ـ فتلك فرضته علي القيادة الفلسطينية, وعلي بعض العواصم العربية الصديقة, وهو ما كثف من الضغوط علي فصائل المقاومة, التي تتداول الآن وثيقة بهذا الخصوص, وبتغير مسار الريح علي ذلك النحو انقلب الحال رأسا علي عقب, وتحولت الساحة الفلسطينية إلي مسرح عبثي, تراجع فيه شعار تحرير فلسطين وأصبحت القضية مختزلة في تحرير الإسرائيليين من الخوف, وتخليصهم من رعب العمليات الاستشهادية.
(1)
ذات صباح في الأسبوع الماضي وقعت علي خبر يجسد ذلك العبث الذي يتجاوز قدرة العقل علي التصديق, إذ وجدته مسكونا بسبع من عجائب دنيا السياسة في هذا الزمان, موضوع الخبر هو زيارة وفد السلطة الفلسطينية إلي واشنطن الذي ضم من بين أعضائه وزير الداخلية الجديد اللواء عبدالقادر يحيي, أما العجائب السبع التي تضمنها فكانت كالتالي: عقد الوفد في واشنطن عدة اجتماعات مع رئيس المخابرات المركزية الأمريكية لبحث تنظيم واستقرار الأوضاع الأمنية في الأرض المحتلة, واتفق الطرفان علي إنشاء وحدات فلسطينية لمكافحة الإرهاب, وستكون المهمة الأساسية لتلك الوحدات هي منع الهجمات الفلسطينية ضد إسرائيل( بالدقة حصار المقاومة وتكبيلها وإجهاض عملياتها), وصف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محادثات واشنطن بأنها إيجابية للغاية, غير أن بعض المصادر السياسية في رام الله أعربت عن قلقها إزاء المعلومات التي تسربت بشأن الاتفاق, مشيرة في ذلك إلي أن الوحدات المستجدة ستعمل خارج القانون!
كل جملة في الخبر تصلح بحد ذاتها لكي تكون موضوعا للزاوية التي تنشرها الصحف والمجلات تحت عنوان صدق أو لا تصدق! ذلك أن الجيل الذي عاصر مراحل الصراع خلال نصف القرن الأخير, واستقرت في مداركه صورة معينة للمخابرات المركزية, واستوعب حقيقة المشروع الصهيوني ومقاصده, وآمن بقضية التحرير وضرورة المقاومة, وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة, هذا الجيل لابد أن يري في كل جملة بالخبر صدمة تزلزل كيانه وتصيبه بخليط من الدهشة والذهول. بل إنني أزعم أن أي وطني لم يفقد وعيه في زماننا سوف يمتد إليه الشعور بالصدمة, حين يجد في نهاية المطاف أن وحدات فلسطينية مدربة عربيا بإشراف المخابرات المركزية, هي التي تلاحق المقاومة وتجهض عملياتها, وأن هذا المسلك أصبح بديلا عن التمسك بحق المقاومة والالتزام العربي بالدفاع عن ذلك الحق, وتعزيز الصمود الفلسطيني.
(2)
يوم نشر ذلك الخبر البائس بثت وكالة الأنباء الفرنسية صورة لبعض الفلسطينيين الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في بلدة بيت لهيا وقد سيقوا حفاة بثياب النوم, بينما عصبت أعينهم وقيدت أيديهم, وكان التركيز في الصورة علي أحدهم وقد دفن واقفا في حفرة, وظهر ثلثه العلوي علي تلك الهيئة: منكس الرأس ومعصوب العينين ومقيد اليدين, علي نحو يذكرنا بالصور البشعة التي التقطت لمعتقلي جوانتانامو لدي وصولهم إلي الجزيرة الكوبية, وكانت ناطقة بالمذلة والقهر. تصادف أيضا أن نشرت صحيفة القدس العربي صورة علي أربعة أعمدة للطفلة لميس القريني ابنة السنوات السبع, التي قتل قناص إسرائيلي أباها أحمد القريني, الموظف بقسم الحركة في طوارئ بلدية نابلس, بينما كان جالسا داخل سيارة إنقاذ تابعة للبلدية. كان وجه لميس غارقا في الدموع, وجسدها يتلوي من الفجيعة, وصراخها يتردد في جنبات مستشفي الاتحاد بالمدينة وهي تنادي الأب بصوت مكلوم يهز الجدران ويمزق نياط القلوب, قائلة: أريدك يا أبي, لا تذهب بعيدا..!
مثل هذه الصور ليست فريدة في بابها, لكنها جاءت تسجيلا للحدث اليومي الذي أصبح نمطا للحياة الفلسطينية, في ظل الاحتلال الإسرائيلي الوحشي, حيث لم يعد أمام الناس سوي أحد خيارين: الإذلال أو الموت, والأسير الفلسطيني الذي عصبت عيناه وكبلت يداه ودفن ثلثا جسمه لم يكن سوي رمز للمذلة المفروضة, أما الشهيد أحمد القريني فقد كان واحدا ممن لاحقهم الموت المجاني وهو قابع داخل سيارة الإنقاذ, خرج لينقذ غيره غير مدرك أن الدور قد حل عليه لكي ينضم إلي قافلة الضحايا.
هي مصادفة لاريب, أن يتزامن نشر خبر تشكيل وحدات مكافحة الإرهاب الفلسطينية مع ظهور الصورتين السابقتين في الصحف العربية, كأن الأقدار أرادت بذلك أن تبرز المفارقة( تفضحها إن شئت الدقة), إذ صار المطلوب أن يستمر الخيار بين الإذلال أو الموت, شريطة أن يكون الموت بالرصاص الإسرائيلي, ومحظور علي الفلسطيني أن يختار الموت شهيدا, وإنما يراد له أن يرحل عن الدنيا قتيلا, بحيث يظل موته ـ حتي موته! ـ بقرار إسرائيلي استكمالا لمسلسل المذلة والهوان, وهو ما قد نفهمه حين يصدر عن الإسرائيليين والأمريكيين, لكن المذهل في الأمر أن يحدث توافق فلسطيني علي ذلك المعني.
(3)
لا أعرف أمة تعاملت مع شهدائها بمثل هذا الأسلوب الذي يتراوح بين الإنكار والاتهام, ذلك أن الذين عارضوا العمليات الاستشهادية اعتبروها إرهابا أو انتحارا في أحسن الفروض, أما الذين دافعوا عنها فقد ادعي بعضهم أن الذين يقومون بها هم شباب محبط ويائس, وجد فيها حلا لأزمته!
هذا المشهد بحد ذاته يعد أحد أوجه العبث الذي يعبر عن الخلل في الرؤية والفساد في معايير القياس والتقويم, وليس عندي كلام مع الذين يعتبرون المقاومة إرهابا, أو أقرانهم الذين ينعتون العمليات الاستشهادية بتلك الصفة, لكني أدهش من أولئك الذين يضنون علي الفدائيين بوصف الشهداء, ويصرون علي اعتبارهم انتحاريين, ولا أستطيع أن أخفي دهشة مقرونة بالحزن إزاء الدفاع عن عملياتهم بمرافعة تنطلق من نسبة اليأس والإحباط إليهم.
كأن الفدائي الفلسطيني إنسان منزوع الكرامة, ومضنون عليه بالعزة والكبرياء, كأنه مخلوق بلا ضمير أو حلم, لا تحركه محبة لوطنه أو دفاع عن شرف أمته وعرضها, أو غضب لكرامته وكبريائه, وكأنه لا يري في الشهادة قيمة عظمي وفعلا جليلا يستجلب به رضا ربه ويتطلع إلي الفوز بجنته, لكي يحشر مع النبيين والصديقين وكوكبة الشهداء الأبرار الذين تحدث عنهم النص القرآني. إنهم لا يريدونه كذلك, بل إنهم يضاعفون من إهانته بذلك التبرير العليل والعاجز الذي ينكر عليه البطولة والفداء ولا يرونه إلامحبطا ويائسا.
الشهيد ليس يائسا أيها السادة, وشتان بين المعنيين. فاليائس مهزوم وفاقد للأمل وكاره للحياة بأسرها, والشهيد جسور ومفعم بالأمل وكاره للذل والظلم, واليائس مخلوق منكسر يحل مشكلته بإنهاء حياته, والشهيد ملأ الإيمان قلبه وقرر أن يفتدي وطنه وأمته بروحه, مطمئنا إلي أنه بما يفعل يبدأ حياة جديدة في رحاب الله, اليائس وجد الحياة بلا معني فتخلص منها بالانتحار, والشهيد أراد أن يكون للحياة معني ففجر نفسه في جسم العدو, لكي يضيئها للآخرين.
يستحيي المرء من المضي في المقارنة التي تعد بذاتها شهادة تدين زماننا, حتي لا يخطر علي البال أن يجد الواحد منا نفسه مضطرا في لحظة ما لأن يدافع عن كرامة الشهيد, ويزيح عن وجهه الأوحال والتهم التي يرمي بها, بعد أن قدم دمه وروحه فداء لوطنه وأمته, وعربونا لكرامتها وعزتها, وإذ يحدث ذلك والأمة مهزومة ومنكسرة, وتتلمس شعرة كبرياء تتعلق بها, فإن المشهد العبثي يبلغ ذروته علي نحو يجعل الحليم حيران.
(4)
في الوصية التي تركها الشهيد محمد هزاع الغول, قبل انطلاقه نحو هدفه وتفجير نفسه, كأنه كان يرد علي أولئك الذين هونوا من شأن الفعل واتهموه وأقرانه بالاستسلام لليأس والسعي للتخلص من الحياة, إذ قال بعبارة واضحة: إنه ذهب لأداء واجبه ليس حبا في القتل, ولكن لنحيا كما يحيا الناس, فنحن لا نغني أغنية الموت, بل نتلو أناشيد الحياة, ونموت لتحيا الأجيال من بعدنا.
هذا المعني سجله بصورة أو أخري العديد من الشهداء, الشبان والشابات, الذين عبرت وصاياهم عن درجة عالية من اليقين والعزة والفداء.
إن الذين يسفهون العمليات الاستشهادية وينتقصون من قدر أبطالها, يلغون التاريخ, ويتجاهلون الملابسات التي أفرزتها, فهم ينسون مثلا ـ بعضهم يتناسون ـ أن المقاومة لم تبدأ بذلك النوع من العمليات, وإنما انتهت بها, فمنذ الثلاثينيات والفلسطينيون يمارسون مختلف صور الاحتجاج السلمي علي التغول الصهيوني, وانتفاضتهم في عام87 اشتهرت بأنها انتفاضة الحجارة, وقد لجأت فصائل المقاومة إلي السلاح, حين أدركت أن إسرائيل تستخدم اتفاقيات السلام وعنوانها لتكريس الاحتلال وإدامته, في البدء كانت عمليات المقاومة تستهدف الأهداف العسكرية وحدها, وبعد مذبحة الحرم الإبراهيمي التي قتل فيها أحد متعصبي الصهاينة أكثر من عشرين مصليا فلسطينيا, ردت المقاومة بتوسيع دائرة عملياتها في العمق, وضد ما يسمي تجاوزا بالأهداف المدنية, وإزاء فقدان الأمل تماما في العملية السلمية, وبعد الاندفاعات الإسرائيلية نحو استجلاب المستوطنين( مليون ونصف مليون استجلبوا بعد اتفاقيات أوسلو), التي اقترنت بالتوسع الوحشي في المستوطنات, واستمرار سياسة مصادرة أراضي الفلسطينيين وتجريف زراعاتهم, وحصار مدنهم وتحويل الضفة والقطاع إلي مجموعة من المعازل, مع مواصلة حصار الفلسطينيين وتجويعهم ورفع شعار المذلة والركوع أو الموت, إزاء ذلك كله وبعد أن أعلنها شارون حربا مفتوحة, كان من الطبيعي أن تتحول العمليات الاستشهادية إلي سلاح للمقاومة الوطنية, فضلا عن الإسلامية, سلاح يعبر عن رفض الفلسطينيين وتحديهم لسياسة الإذلال والتركيع, ويبعث للإسرائيليين برسالة مكتوبة بالدم تبلغهم أن الاحتلال له كلفته الباهظة والموجعة, وقد وصلت الرسالة بالفعل كما سنري توا.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس عرض أكثر من مرة اقتراحا بوقف العمليات الاستشهادية ضد المدنيين الإسرائيليين, مقابل وقف استهداف المدنيين الفلسطينيين, كما اقترح عقد تفاهم في هذا الصدد مع الإسرائيليين, علي غرار تفاهم نيسان ـ أبريل ـ بين حزب الله في لبنان وسلطات الاحتلال, لكن مقترحاته هذه قوبلت بالصد والرفض, وبدا أن المطلوب أن يوقف الفلسطينيون عملياتهم, بينما تطلق يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في ضرب الأهداف الفلسطينية واستمرار قتل الفلسطينيين بغير تمييز ولا حساب.
(5)
فيما بين أول عملية استشهادية في93/4/16, وحتي اندلاع انتفاضة الأقصي في نهاية شهر سبتمبر عام ألفين, سجلت30 محاولة للقيام بعمليات استشهادية, نفذت منها24 عملية, أما الفترة الواقعة من بداية انتفاضة الأقصي وحتي مطلع شهر أبريل الماضي فقد سجلت153 محاولة, نفذت منها102 عملية, ومنذ ذلك التاريخ وحتي أول شهر يوليو نفذت18 عملية, بينما زاد عدد المحاولات علي خمسين, وهو ما يعني تزايد إقبال وإصرار الشعب الفلسطيني علي تحدي الاحتلال الإسرائيلي, علي الرغم من مضاعفة ما يستخدمه من وسائل البطش والقهر.
في هذا الصدد ذكر الكولونيل جال لوفت, وهو ضابط كبير سابق في الجيش الإسرائيلي, في عدد مجلة فورين افيرز الأخير( يوليو ـ أغسطس) أن39 عملية للاستشهاديين أودت بحياة70 إسرائيليا وجرحت أكثر من ألف, في حين أن الخسائر التي نجمت عن إطلاق39 صاروخا عراقيا من طراز سكود( عام1991) أودت بحياة74 إسرائيليا فقط, معظمهم مات نتيجة للسكتة القلبية.
موضوع مقال الكولونيل لوفت في المجلة الأمريكية المهمة كان يناقش مسألة القنبلة البشرية الفلسطينية, وذكر فيه أن إسرائيل لم تستشعر في تاريخها أذي مثيلا لذلك الذي ألحقته بها العمليات الاستشهادية( يسميها الانتحارية), وعلي الرغم من أنها نجحت في استخدام ونشر النظام الدفاعي الصاروخي أرو, لمواجهة صواريخ سكود العراقية, بتكلفة ملياري دولار, فإنها لم تملك ما ترد به علي القنبلة البشرية الفلسطينية غير بناء الأسوار الشائكة, وخلص من ذلك إلي أن إسرائيل بصدد عدو لا يمكن القضاء عليه, ومن ثم لا يوجد حل عسكري للمشكلة.( من الملاحظات التي أوردها في هذا السياق وهو يعبر عن مأزق الإسرائيليين, قوله: إنهم يثقون في دباباتهم وجيشهم, بينما الفلسطينيون يضعون ثقتهم في الله, وبسبب إيمانهم ذاك فلن تستطيع إسرائيل أن تحقق إنجازات استراتيجية في مواجهة الفلسطينيين, علي الرغم من قدرتها علي تحقيق الإنجازات التكتيكية).
الباحثة البريطانية هيلينا كوبان المتخصصة في الشرق الأوسط قامت بزيارة إلي فلسطين وإسرائيل وعادت بانطباع مماثل عرضته في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة الحياة اللندنية( ابتداء من7/31), وقد نقلت علي لسان أحد كبار المسئولين في الخارجية الإسرائيلية قوله: إننا نشعر بالخوف علي الرغم من قوة جيشنا, ولا تصدقوا أي إسرائيلي ينكر ذلك, حتي غلاة اليمين الذين يطالبون بطرد العرب فإن الخوف يظل كامنا في أعماقهم.
أشرت قبلا إلي ما كتبه في هذا المعني توماس فريدمان الصحفي الأمريكي اليهودي المتعاطف مع إسرائيل, حين قال في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز: إن العمليات الاستشهادية سببت وجعا لإسرائيل لم تسببه لها الجيوش العربية طيلة خمسين عاما, وإن إسرائيل كانت مستعدة تحت ضغط تلك العمليات للانسحاب من الضفة الغربية كلها لتجنب الترويع الذي أحدثته العمليات الانتحارية.
إذ يوضح لنا ذلك لماذا أصبح وقف تلك العمليات الشغل الشاغل لإسرائيل والولايات المتحدة, إلا أنه يضاعف من عجزنا عن فهم اللغز الآخر, المتمثل في الموافقة علي تشكيل وحدات فلسطينية لإجهاض تلك العمليات, بدعوي مكافحة الإرهاب.
هل عندكم حل لهذا اللغز؟!