مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
قراءة في " الفكر العربي " لمحمد أركون
عبد العزيز كحيل
علمَنَة حثيثة: عند متابعة كتابات العلمانيّين العرب عن الفكر الإسلامي نجدهم يطرحونه كما يحبّون أن يكون لا كما هو بالفعل، ذلك أنّ أكثر هذه الكتابات تغلب عليها النزعة الذاتية، بل يلفّها التناول السطحي المستعجل للأدبيات الإسلامية من وحي وتراث وتنظير حديث، ويكمن موطن الداء العضال في تحكيم المرجعية الغربية - ذات الأصول الإغريقية الرومانية من جهة واليهودية المسيحية من جهة أخرى- في تناول الإسلام كدين وكثقافة وانتماء وهوّية وتقويمه على أساس تلك المرجعية التي يعتبرونها مقياس الصواب ومعيار الاستقامة، لذلك تأتي مقارباتهم وتحليلاتهم انتصارًا لها واتّهامًا للإسلام لأنّه لا يطابق معاييرها، فكأنّنا لسنا أمام دراسات أكاديمية ولا بصدد تحليل فكري وعمل ثقافي وإنّما أمام حملات عمودية مشحونة بالعداء تستهدف علمنة الإسلام بدعاوى الإنسانية والعالمية بل والعولمة أيضا، وهي حملات تُخفي الأحادية الفكرية والهيمنة الحضارية وتسعى إلى فرضهما على الأمة الإسلامية العصيّة على التطويع بوسائل : علمية ’’ محايدة كما تزعم لكنّها سافرة مفضوحة، واللافت أنّ محاولات علمنة الإسلام لم تعُد بضاعة استشراقية كما كانت وإنّما وُضعت بأيدي كتّاب ومفكّرين ’’ مسلمين ’’ متشبّعين حتى النخاع بالفلسفة الغربية في الفكر والثقافة والمنهج والنظرة إلى الدين والإنسان والكون والحياة، يجمعهم مشروع كبير يتلخّص في نقض عرى الإسلام من الداخل تحت اسم التجديد والاجتهاد وإعادة قراءة الوحي بطرق لا علاقة لها بأصول التفسير والفقه المعروفة في الثقافة الإسلامية، وهؤلاء عددٌ من المتشبّثين بالقيم العلمانية والأفكار التغريبية المتبرّمين من ’’ التزمّت’’ الإسلامي، يُعرَفون بالتنويريّين والحداثيّين، يتوزّعون على عدد من الدول العربية ، من أبرز وجوههم: محمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني (مصر) محمد شحرور (سورية) هشام جعيّط و عبد الوهاب مدّب (تونس) و محمد عابد الجابري (المغرب).
· جهود أركون: يأتي في مقدّمة هؤلاء الكاتب الفرنسي من أصل جزائري ’’ محمد أركون ’’ الذي قضى نصف حياته الأخير يخدم مشروعًا واحدا هو محاولة تطويع الإسلام للمرجعية الغربية وإضفاء الصبغة العلمانية الغربية عليه، وهذا ما محور جميع كتبه منذ ألّف أوّلها الذي سمّاه ’’ الفكر العربي’’ .
فهذا الكتاب الصغير الحجم من المؤلّفات الأولى لمحمد أركون ، كتبه باللغة الفرنسية سنة 1975 ،وضمّنه خلاصة آرائه ومحاور توجّهه الفكري التي سيتناولها بالتفصيل بعد ذلك في العديد من الكتب، لهذا يستحقّ الوقوف عنده ليعرف القرّاء غير المتخصّصين حقيقة أركون ومشروعه الفكري الذي يصبّ بوضوح في المسعى الاستشراقي التغريبي المستهدف لدين الاسلام وأتباعه، وتستمدّ منه العلمانية العربية الحجج ’’ العلمية ’’ المؤيّدة لطروحاتها، مع العلم أنّ المقصود بالفكر العربي عند أركون هو الفكر الإسلامي، كما يتّضح بجلاء من محتوى الكتاب.
ويجب أن أشير إلى أن محمد أركون دأب على اتّهام القراء العرب بسوء فهم فكره لأنهم قرأوه مترجَما عن الفرنسية التي يكتب بها، وسدّا لهذه الذريعة المتهافتة قمتُ بترجمة المقاطع التالية بنفسي ترجمةً أمينةً إلى أبعد حدّ عن النصّ الفرنسيّ الأصليّ، لأذيّلها ببعض التعليقات المتناسبة مع هذا البحث المختصر.
- ’’ يجب التمييز بين الواقع القرآني والواقع الإسلامي أي بين البُعد الديني والمؤسسات والثقافة والتقنيات الأخلاقية والقانونية التي تعبّر عنه تاريخيا ’’ - ص 18
محمد أركون لا يعترف بقرآنية ما عاشه المسلمون طيلة قرون، أي تأثير الوحي في جوانب حياتهم، ومردّ هذا إلى محاولته الدؤوبة ’’علمنة’’ الإسلام، واعتبار القرآن الكريم نصوصا غيبية غير قابلة لصنع الحياة أو التأثير فيها، وسيُبدئويعيد حول هذه الفكرة في كلّ أعماله.
- ينفي بشدّة إمكانية تناول القرآن الكريم تناولا موضوعيا وقراءته كوحدات متجانسة متكاملة ويصفه بأنّه ’’ نصّ حرّ وغير منظّم متفجّر إلى آلاف الوحدات النصية ’’، ثم يصف كتاب الله بأنه كلام ذو بُنية خرافية (يستعمل دائما كلمة ’’ميثولوجيا’’ ويتّهم المسلمين بتزييف كلامه والتجنّي عليه في تأويلها، مع ان هذه اللفظة الإغريقية لا تعني سوى الخرافة والأحداث الوهمية)– ص18
- تشكّل’’ الفكر العربي الإسلامي الرسمي في ظلّ الصراع السياسي (حول الاستحواذ على السلطة) بين القدرية – دعاة حرية الإنسان – والأمويين، وفي السياق نفسه نشأ الخلاف بين المعتزلة والحنابلة ’’ - ص 34.
هذا مجرّد تحكّم شخصي سبقه إليه المستشرقون، وهم جميعا ينزعون عن الدين صفات القداسة ويجرّدون المسلمين من خصال التديّن والأخلاق لينتهي الأمر إلى مجرّد مسعى سياسي للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، لا مكان فيه لالتزام ديني أخلاقي، بل هو فرصة – كما يقول أركون –’’لاختلاق أحاديث منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، تدعّم هذا الطرف أو ذاك’’، ولا يخفى ما في هذا التأويل من طعن في حركة الفكر الإسلامي، و مبالغة في تجريده من البُعد الديني وحصره في نطاق الصراع السياسي.
- يزعم أن الشافعي هو الذي جعل من السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع ، وهذا قولٌ متهافتٌ يعبّر عن إرادته في ’’ أنسنة ’’ الإسلام وردّه إلى تدخّل يد العلماء والحكّام كأن ليست له علاقة بالوحي ، والجميع يعرفون مرتبة السنة من التشريع،وقد بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأجمع عليه المسلمون منذ عصر الصحابة ، ولم يزد الإمام الشافعي عن تقرير ذلك وهو يضع أسس أصول الفقه في ’’الرسالة’’، التي هي بمثابة أوّل تقنين لمنهج التفكير الاسلامي.

- ’’ بفضل ’’الأدب’’ ( يقصد الأدبيات الإسلامية ) ظهر منذ سنة 950 م. اتجاه ذو بُعد علماني وعقلاني واقعي بفضل انتشار ’’ الأدب الفلسفي ’’ - ص53.
يدخل هذا الرأي في إطار البحث عن جذور تاريخية للعلمانية في الفضاء الإسلامي، وفيه تضخيم لتأثير الفلاسفة والمعتزلة، وافتراءٌ عليهم بحصر العقلانية في المواصفات الغربية الحديثة وخلعها على تلك التيارات الفكرية لإخراجها من دائرة الانتساب لدين سماوي ووضعها في سياق بشري بحت، كما أنّ العلمانية أبعدُ شيء عن حركة الفكر الاسلامي في ذلك الزمان.
- ينحو أركون منحى مدرسة تأليه العقل ويحتفي – بالتالي – بالمعتزلة وبالفلاسفة خاصة – أي الفارابي وابن سينا – لكنّه يُلقي عليهم باللائمة لسعيهم إلى إثبات أن مقولاتهم العقلية تستند إلى الوحي وتتلاءم مع الحقائق الدينية، وهذا ما لا يستسيغه طبعا لأنّه يريد تجديدا منقطعا عن الوحي غير مستند إليه - ص 72-73
- لم ينجُ من نقده لعلماء المسلمين في كل التخصّصات واتهامهم بالابتعاد عن العقلية العلمية سوى ثلاثة:
1. ابن خلدون: ليس لأنه عبقري ولا مبتكر ولكن لذكائه، فجاءت ’’المقدمة’’ كإضافة ثقافية لتراث كبار المؤرخين وعلماء الدين والفلاسفة السالف ذكرهم.
2. ابن تيمية: ’’ممثّل الإسلام السنّي الأصوليّ الذي يعمل كنظام حماية لمجتمع مهدّد بالتدمير’’.
3. لسان الدين بن الخطيب: ’’ أحد آخر ممثلي البُعد الإنساني الإسلامي في الأندلس’’- ص 83-84.
تعليل أركون لاستثناء هؤلاء الثلاثة من نقده الهدّام هو في حدّ ذاته ذمٌّ وليس مدحا، فهو يصف الثلاثة بالمفكرين المستقلّين ’’ نسبيا ’’، وهو لا يستطيع المبالغة في نقد ابن خلدون لأن الغرب احتضنه مُرغَما بفضل عبقريته وإبداعه في علم الاجتماع مفلسفة التاريخ، والغرب عند أركون هو المعيار، أما ابن تيمية فلم يذكر له فضيلة سوى السكونية والمحافظة على القديم وتجسيد الأصولية، أما ابن الخطيب فكونه ’’إنسانيّا’’ يصبُّ في صالح مشروع أركون الفكري.
- ’’ بينما حيَّى أسقف باريس سقوط مدينة الجزائر (بأيدي الاحتلال الفرنسي) في سنة 1830 باعتباره انتصارا للمسيحية على الإسلام فإنّ رفاعة الطهطاوي وصف ذلك – بكثير من الموضوعية – بأنّه قضية سياسية بحتة سببُها نزاعاتٌ تجارة وصفقات وشجارات ومجادلات ناتجة عن الغرور والعُجب ’’ - ص95.
نلاحظ هنا مَيلَه الدائم إلى استبعاد العنصر الديني والتركيز على التفسير المادي، رغم صراحة كلام الغزاة أنفسهم، ولئن كان مردُّ كلام الطهطاوي إعجابه بالغرب الذي اكتشف ’’إيجابياته’’ فجأةً فإنّ إقرار أركون يندرج بوضوح في نظرته للدين والتاريخحتى إنها لا تبالي بمصادمة الحقائق الدامغة، وكان يُمكنُه كجزائري أن يلمس بيديه الدلائل الصليبية للغزو الفرنسي.
- ’’ لماذا تقدّم الكفار وتأخّر المسلمون؟ ’’ – يثير أركون المسألة على لسان المسلمين ثمّ يجيب بما يلي: ’’عند أصحاب العقول التي لا تملك لقراءة العالم والتاريخ سوى لغة مثقلة بالإيحاءات المقدسة فإنّ السؤال ينمّ عن رهبة ميتافيزيقية ويتطلّب إجابة دينية’’ - ص97.
ينسجم مع منهجه المستبعد للمقدّس ولو كان من صميم الدين، ويرفض أيّ تفسير خارج الدائرة المادية بل يسخر منه.
- في سنة 1928 أنشأ حسن البنا جماعة الاخوان المسلمين التي تجعل الخطاب الديني السلفي أكثر راديكالية ولا تقدّم أيّ تنازل للحداثة، يقول البنا ’’الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية وعمل ومصحف وسيف’’،إنّها مغالطة خطيرة تقتل بضربة واحدة العقلية العلمية وكلام الله (!!!)،ثمّ يصف أركون هذا الشعار ألإخواني بالتعصّب الأعمى – ص100.
نلمس مرة أخرى موقفه المَرَضي من التفسير ’’الديني’’ للأشياء والأحداث ولومَه للمسلمين على البحث عن الإجابات لأسئلتهم في ’’التراث’’، الذي يقصد به القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومَهما، بينما يرى هو الحلَّ خارج دائرة ’’المقدّس’’،بل على حساب هذا المقدّس وأصوله ونصوصه وتطبيقاته، لأنّ محور الحياه برأيه هو الانسان وليس الله، وهذه ’’الأنسنة’’ تحتلّ مكانا محوريا في مشروعه العام المشتمل على العلمنة ووحدة الأديان الابراهيمية وقراءتها قراءة حداثية بالمعيار الغربي المعاصر لتخليص المسلمين – وكلّ الناس – من آصار المعتقدات الغيبية والمقاربات الدغماتية ليستوي الجميع في حياة لا سلطان عليها إلاّ للعقل، والعقل الغربي بالذات.
- في الثلاثينيّات ( من القرن العشرين) كان جمهور عريض في مصر يطالب ويستهلك بجَشَع الكتابات الدينية، فتوجّه أقطاب الحداثة امثال طه حسين وهيكل والعقّاد إلى الاحتفاء بعبقرية الرسول والصحابة، وقيم العدالة والأخوّة والديمقراطية في الاسلام، وهذا المنحى يؤكّد أنّ الخيار العقلاني للفكر العربي المعاصر ما زال عرضة للعودة الهجومية للعاطفة – ص101.
دأب أركون على التبرّم من أيّ إشادة بالإسلام ونبيّه ورموزه لأنّ العقلانية التي يؤلّهها تقتضي نزع القداسة ومعاني التأثّر الوجداني بما يؤمن به المسلمون، لذلك يسخر من العاطفة التي اضطرّ أقطاب الحداثة العربية إلى أخذها بالاعتبار،وهذا من الدلائل الكثيرة الكثيفة على لادينية الفكر الأركوني رغم أنّه يسوّقه باسم تجديد الفكر الاسلامي.
- يستعرض تطوّر فكر النهضة العربية ثمّ فكر الثورة وأخيرا فكر ما بعد الاستقلاليخلص إلى تغلّب ’’الفكر الايديولوجي على الفكر النقدي’’ ويُبدي أشدّ الأسف على ذلك ويعزوه إلى تمسّك المسلمين بالعاطفة الدينية وإقحام الدين في الحياة السياسية والاجتماعية بدل بقائه في الإطار الروحي الشخصي، فيحين كان ينبغي أن يكون الهمّ الأوّل موجَّها للنقد العلمي للموروث الديني، وتجدر الاشارة إلى أنّه في تناوله لهذا التطوّر يُلصق بالفكر الاسلامي أعمال النصارى العرب وحزب البعث والاشتراكية والاتجاهات القومية – ص101- 107
يجدّد هنا حرصه على علمنة الاسلام عبر مسعيين اثنين يتمثّل الأوّل في فصل الاسلام عن الحياة الاجتماعية، بنما يتمحور الثاني حول نقد التراث أي القرآن والسنّة بالدرجة الأولى وفق آليّات جديدة هي ما انتهى إليه العقل الغربي من أدوات كاللسانيات والعلوم النفسية والاجتماعية والأنتروبولوجيا، وقراءة النصوص الدينية والأحداث التاريخية على هَديها باعتبارها وحدها القادرة على تجاوز الشحنة العاطفية من جهة و’’المقدّس’’ من جهة ثانية لتناول الموروث الديني بغير خلفيات مهما كانت ،وهذا يتيح إعادة تشكيل العقل المسلم بعيدا عن الايديولوجيا لينسجم مع العصر الحديث والاتجاه الانساني، وهذا امتداد لمشروع أركون لعلمنة الاسلام وأنسنته من خلال التعامل مع ثوابته تعاملا بشريّا عقليّا بحتًا يجرّدها من ثباتها وقدسيّتها ليغدُوَ الدين فكرًا بشريّا عاديا قابلا للتصرّف بالإضافة والحذف والتطعيم بالعطاء الخارجي.
- لا يمكن تفادي الخطأ والتخبّط ما دام التعليم الثانوي والعالي يقدّم اليقينيّات الدينية او الايديولوجية على ضرورات الدراسة المعرفية النقدية - ص117.
إنّ همّ أركون ليس الاسلام بل الاسلام مشكلتُه، لأنّه يستعصي على المنهجية الغربية اللادينية ،وتدريسه يؤدي حتما إلى الخطأ والخلط والتيه.
· خاتمة: إنّ محمد أركون كان يزعم لنفسه تجديد الفكر الاسلامي عبر إحداث ثورة داخلية عارمة لا تدع مجالا معرفيّا إلاّ سلكته ليتمكّن المسلمون من الالتحاق بركب الحضارة، والحقيقة التي نلمسها من كتابه تلخّص مشروعه في إفراغ الاسلام من محتواه ’’الديني’’ تمامّا وإنزاله إلى الساحة الفكرية البشرية، ليتسنّى ذوبانه في المنظومة الغربية التي لا يرى اركون الصواب والحقيقة والخلاص إلاّ عبرَها.

عبد العزيز كحيل
أضافة تعليق