د.يوسف مكي
بعد تفجير برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك ومبنى للبنتاجون في واشنطون بالحادي عشر من سبتمبر 2001، وإعلان الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش حربا عالمية على الإرهاب برزت مفاهيم جديدة، ارتبطت بالحدث وبتجاذباته. ضمن تلك المفاهيم أن ما جرى كان نتيجة لسيادة ثقافة الكراهية والإرهاب، وسيادة أنظمة الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط. وأن الحل للقضاء على الإرهاب هو فرض الديمقراطية بنمطها الغربي، المستند على الحرية الفردية، والإطاحة بالمستبدين، ولو كان ذلك عن طريق الاحتلال، وخارج أطر الشرعية الدولية. ولم تستثني الخرائط والبرامج المعدة للحرب على الإرهاب عدو أو صديق، فليس في القانون الأمريكي كما يقول تشرشل صداقات دائمة، ولكنها مصالح وموازين قوى وصراع إرادات.
وقد غيب برنامج بوش لتغيير الأنظمة في المنطقة حقائق أساسية، في مقدمتها أن التغيرات الجوهرية في البنيان السياسي هي انعكاس لتحولات كبرى في الهياكل الاجتماعية ومنظومة الثقافات، وأنها والحال هذه تعبير عن واقع موضوعي وتحول تاريخي. وأن فرضها بالطريقة التي طرحتها إدارة بوش لن ينتج عنها سوى تفجير الصراعات الطائفية والإثنية وسيادة حالة الفوضى، التي هي بالضد من أساسيات تأسيس الدولة المدنية، في شكلها المعاصر.
انتقلت رؤية إدارة الرئيس بوش، من التنظير إلى الفعل، لتتحول إلى معلم استراتيجي كوني باحتلال العراق وأفغانستان. ومر عقد على احتلال البلدين، ولم ينبثق في كليهما أفغانستان جديدة أو عراق جديد، ولا ديمقراطية ولا هم يحزنون. وتكشف زيف الوعود الأمريكية بتحويل البلدين إلى واحتين للنماء والازدهار. تحققت أشياء أخرى، مغايرة تماما لتلك الوعود. بروز لغة التشطير والتفتيت، التي فرضت بالقوة وبالتخطيط لتشمل أجزاء أخرى من الوطن العربي إضافة إلى ما تم تنفيذه بالاحتلال المباشر. فاليمن لدينا أكثر من سودان، والبقية قادمة في هذا البلد الجريح. وليبيا أزيل عن تشكيلها اللاصق الشمعي، لتتحول إلى برقة وفزان وطرابلس، وازدهارها ونماؤها تفصح عنه السيارات المفخخة، والتفجيرات التي تجري بين الحين والحين.
الفيدرالية العراقية، التي قيل أنها ستشكل أنموذجا متقدما للحكم في هذه المنطقة، أضحت مشروعا ناكصا، أحال أرض السواد، إلى رقعة شطرنج تتنافس فوقها الأقليات والطوائف. وأصبح هناك حكومتين تتصارعان على المواقف والثروات والحصص، والتفجيرات اليومية والقتل على الهوية يحصل عشرات الأبرياء كل يوم.
ومع أن المشروع الامبراطوري الأمريكي، للقرن الواحد والعشرين ووجه بفشل ذريع، فإن كثير من المثقفين لا زال ينظر بافتتان لتلك الشعارات. لا يزال كثير من الناس، يرون في الفيدرالية مدخلا للتماهي مع لغة هذا العصر. وهي تجادلهم بالقول، إن الليبرالية مشروع يقوم بين أوطان وثقافات مختلفة، وليس بين أبناء مجتمع واحد، وأنها تعتبر حالة متقدمة حين تكون هناك أوطان، أما في ظل الوطن الواحد فإنها مشروع ناكص. إن الليبرالية التي تحققت في عدد من دول العالم، جاءت استجابة لواقع موضوعي، وخرجت من رحم اختيار وإجماع وطني، ولم تفرض من الخارج، وبالضد من الإرادة الوطنية، يجادلونك بالهروب إلى الأمام، بالسخرية من موضوع الوطن والوطنية، داعين إلى رؤية إنسانية أرحب من فكرة الوطن، سرعان ما يتكشف ما يكمن خلفها من أطروحات طائفية وحزبية وفئوية.
وفي هذا الجدل البيزنطي، يبرز مفهوم جديد، سطحي وساذج ولا يتسق مع ما هو لدينا من موروث، خلاصته أن الإنسان أهم من الوطن، لأنه قيمة مطلقة بينما الآخر قيمة نسبية. يقال ذلك، مع أن الوطن، كما يراه العلامة عبد الرحمن بن خلدون هو الاستقرار، وهو انتقال الإنسان من حالة السير والترحال إلى العمران والحضارة والمدنية. وفي موروثنا الخالد أن حب الوطن من الإيمان. وفي موروثنا أيضا أن الدفاع عن الأرض هو دفاع عن العرض والشرف والكرامة.
وحتى إذا سلمنا جدلا بأرجحية مقولة أولوية الإنسان على الأوطان، فإن السؤال عن حق الإنسان في المأوى والهوية سيصدمنا، ليعيد طرح الهوية والانتماء الوطني بقوة. كيف يحقق فلسطيني احتلت بلاده وشرد من أرضه، وصودرت ممتلكاته، وحرم من وثيقة تؤكد هويته الوطنية، تحقيق إنسانيته؟ وكيف يمكن لخمسة من الملايين العراقيين الذين فرضت عليهم الحرب الطائفية، والاحتلال الأمريكي لبلادهم، مغادرة العراق، والعيش لما يقرب عقد من الزمن في الشتات، دون الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية؟. كيف يتحرك الإنسان في هذا العالم الرحب دون جواز سفر ومن غير هوية، أو انتماء لوطن... كيف... وكيف... أسئلة كثيرة تتداعى، لتؤكد زيف مقولة أن الإنسان أهم من الوطن، لنوضع أمام تقابل بين مطلقين، ليس منطقيا أو مقبولا التمييز بينهما، أو إعطاء أحدهما أرجحية على الآخر.
الوعي بأهمية حرية الوطن، وتأمين استقلاله واستقراره، أدى إلى فرض خدمة العلم، وأصبحت هذه الخدمة قانونا تنص عليه معظم دساتير دول العالم. وهو بالذات ما ارتقى بالوعي في المجتمعات الإنسانية، لتصبح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، علاقة تعاقدية تحكمها قائمة من الحقوق والواجبات التي يؤديها الجميع، من غير احتجاج أو ضجر، كونها ضريبة الانتماء للوطن، يدفعها الجميع عن طيب خاطر.
هذه المفاهيم المغلوطة، تنسحب أيضا على التبشير بالتنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتغليبها على مقاومة الاحتلال. كيف يمكن تحقيق تنمية في بلد لا يملك حق الإمساك بزمام مقاديره. وهل فعلا يمكن لبلد صغير محاصر، كقطاع غزة أن يحقق تنمية حقيقية في ظل الحصار وشحة الموارد.
في هذا السياق، نذكر أن الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات أسس مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية على الأراضي اللبنانية بحسبان نقلها بالجملة بعد تحرير فلسطين. وأدى انشغاله بذلك إلى التركيز على حمايتها، مستبدلا روح المبادرة والاقتحام بالتريث والتردد، لكن هذه المؤسسات جرى تدميرها بالجملة بعد الغز الإسرائيلي لبيروت في مطالع الثمانينات، لتؤكد تعارض إنجاز أي تنمية اقتصادية واجتماعية، ما لم ينجز الفلسطينيون مشروع الاستقلال.
وإذن فنحن أمام جملة من المفاهيم المغلوطة، التي ينبغي أن تقرأ في سياقها التاريخي، سياق الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. وهي هيمنة ينبغي في كل الأحوال أن لا تفرض مفاهيمها على ثقافتنا، لأن الأسوأ ليس هو الاحتلال أو الهيمنة، ولكنه سقوط الذاكرة التاريخية، الحصن الأخير في الدفاع عن الوطن والهوية.
موقع التجديدالعربي
بعد تفجير برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك ومبنى للبنتاجون في واشنطون بالحادي عشر من سبتمبر 2001، وإعلان الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش حربا عالمية على الإرهاب برزت مفاهيم جديدة، ارتبطت بالحدث وبتجاذباته. ضمن تلك المفاهيم أن ما جرى كان نتيجة لسيادة ثقافة الكراهية والإرهاب، وسيادة أنظمة الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط. وأن الحل للقضاء على الإرهاب هو فرض الديمقراطية بنمطها الغربي، المستند على الحرية الفردية، والإطاحة بالمستبدين، ولو كان ذلك عن طريق الاحتلال، وخارج أطر الشرعية الدولية. ولم تستثني الخرائط والبرامج المعدة للحرب على الإرهاب عدو أو صديق، فليس في القانون الأمريكي كما يقول تشرشل صداقات دائمة، ولكنها مصالح وموازين قوى وصراع إرادات.
وقد غيب برنامج بوش لتغيير الأنظمة في المنطقة حقائق أساسية، في مقدمتها أن التغيرات الجوهرية في البنيان السياسي هي انعكاس لتحولات كبرى في الهياكل الاجتماعية ومنظومة الثقافات، وأنها والحال هذه تعبير عن واقع موضوعي وتحول تاريخي. وأن فرضها بالطريقة التي طرحتها إدارة بوش لن ينتج عنها سوى تفجير الصراعات الطائفية والإثنية وسيادة حالة الفوضى، التي هي بالضد من أساسيات تأسيس الدولة المدنية، في شكلها المعاصر.
انتقلت رؤية إدارة الرئيس بوش، من التنظير إلى الفعل، لتتحول إلى معلم استراتيجي كوني باحتلال العراق وأفغانستان. ومر عقد على احتلال البلدين، ولم ينبثق في كليهما أفغانستان جديدة أو عراق جديد، ولا ديمقراطية ولا هم يحزنون. وتكشف زيف الوعود الأمريكية بتحويل البلدين إلى واحتين للنماء والازدهار. تحققت أشياء أخرى، مغايرة تماما لتلك الوعود. بروز لغة التشطير والتفتيت، التي فرضت بالقوة وبالتخطيط لتشمل أجزاء أخرى من الوطن العربي إضافة إلى ما تم تنفيذه بالاحتلال المباشر. فاليمن لدينا أكثر من سودان، والبقية قادمة في هذا البلد الجريح. وليبيا أزيل عن تشكيلها اللاصق الشمعي، لتتحول إلى برقة وفزان وطرابلس، وازدهارها ونماؤها تفصح عنه السيارات المفخخة، والتفجيرات التي تجري بين الحين والحين.
الفيدرالية العراقية، التي قيل أنها ستشكل أنموذجا متقدما للحكم في هذه المنطقة، أضحت مشروعا ناكصا، أحال أرض السواد، إلى رقعة شطرنج تتنافس فوقها الأقليات والطوائف. وأصبح هناك حكومتين تتصارعان على المواقف والثروات والحصص، والتفجيرات اليومية والقتل على الهوية يحصل عشرات الأبرياء كل يوم.
ومع أن المشروع الامبراطوري الأمريكي، للقرن الواحد والعشرين ووجه بفشل ذريع، فإن كثير من المثقفين لا زال ينظر بافتتان لتلك الشعارات. لا يزال كثير من الناس، يرون في الفيدرالية مدخلا للتماهي مع لغة هذا العصر. وهي تجادلهم بالقول، إن الليبرالية مشروع يقوم بين أوطان وثقافات مختلفة، وليس بين أبناء مجتمع واحد، وأنها تعتبر حالة متقدمة حين تكون هناك أوطان، أما في ظل الوطن الواحد فإنها مشروع ناكص. إن الليبرالية التي تحققت في عدد من دول العالم، جاءت استجابة لواقع موضوعي، وخرجت من رحم اختيار وإجماع وطني، ولم تفرض من الخارج، وبالضد من الإرادة الوطنية، يجادلونك بالهروب إلى الأمام، بالسخرية من موضوع الوطن والوطنية، داعين إلى رؤية إنسانية أرحب من فكرة الوطن، سرعان ما يتكشف ما يكمن خلفها من أطروحات طائفية وحزبية وفئوية.
وفي هذا الجدل البيزنطي، يبرز مفهوم جديد، سطحي وساذج ولا يتسق مع ما هو لدينا من موروث، خلاصته أن الإنسان أهم من الوطن، لأنه قيمة مطلقة بينما الآخر قيمة نسبية. يقال ذلك، مع أن الوطن، كما يراه العلامة عبد الرحمن بن خلدون هو الاستقرار، وهو انتقال الإنسان من حالة السير والترحال إلى العمران والحضارة والمدنية. وفي موروثنا الخالد أن حب الوطن من الإيمان. وفي موروثنا أيضا أن الدفاع عن الأرض هو دفاع عن العرض والشرف والكرامة.
وحتى إذا سلمنا جدلا بأرجحية مقولة أولوية الإنسان على الأوطان، فإن السؤال عن حق الإنسان في المأوى والهوية سيصدمنا، ليعيد طرح الهوية والانتماء الوطني بقوة. كيف يحقق فلسطيني احتلت بلاده وشرد من أرضه، وصودرت ممتلكاته، وحرم من وثيقة تؤكد هويته الوطنية، تحقيق إنسانيته؟ وكيف يمكن لخمسة من الملايين العراقيين الذين فرضت عليهم الحرب الطائفية، والاحتلال الأمريكي لبلادهم، مغادرة العراق، والعيش لما يقرب عقد من الزمن في الشتات، دون الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية؟. كيف يتحرك الإنسان في هذا العالم الرحب دون جواز سفر ومن غير هوية، أو انتماء لوطن... كيف... وكيف... أسئلة كثيرة تتداعى، لتؤكد زيف مقولة أن الإنسان أهم من الوطن، لنوضع أمام تقابل بين مطلقين، ليس منطقيا أو مقبولا التمييز بينهما، أو إعطاء أحدهما أرجحية على الآخر.
الوعي بأهمية حرية الوطن، وتأمين استقلاله واستقراره، أدى إلى فرض خدمة العلم، وأصبحت هذه الخدمة قانونا تنص عليه معظم دساتير دول العالم. وهو بالذات ما ارتقى بالوعي في المجتمعات الإنسانية، لتصبح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، علاقة تعاقدية تحكمها قائمة من الحقوق والواجبات التي يؤديها الجميع، من غير احتجاج أو ضجر، كونها ضريبة الانتماء للوطن، يدفعها الجميع عن طيب خاطر.
هذه المفاهيم المغلوطة، تنسحب أيضا على التبشير بالتنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتغليبها على مقاومة الاحتلال. كيف يمكن تحقيق تنمية في بلد لا يملك حق الإمساك بزمام مقاديره. وهل فعلا يمكن لبلد صغير محاصر، كقطاع غزة أن يحقق تنمية حقيقية في ظل الحصار وشحة الموارد.
في هذا السياق، نذكر أن الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات أسس مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية على الأراضي اللبنانية بحسبان نقلها بالجملة بعد تحرير فلسطين. وأدى انشغاله بذلك إلى التركيز على حمايتها، مستبدلا روح المبادرة والاقتحام بالتريث والتردد، لكن هذه المؤسسات جرى تدميرها بالجملة بعد الغز الإسرائيلي لبيروت في مطالع الثمانينات، لتؤكد تعارض إنجاز أي تنمية اقتصادية واجتماعية، ما لم ينجز الفلسطينيون مشروع الاستقلال.
وإذن فنحن أمام جملة من المفاهيم المغلوطة، التي ينبغي أن تقرأ في سياقها التاريخي، سياق الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. وهي هيمنة ينبغي في كل الأحوال أن لا تفرض مفاهيمها على ثقافتنا، لأن الأسوأ ليس هو الاحتلال أو الهيمنة، ولكنه سقوط الذاكرة التاريخية، الحصن الأخير في الدفاع عن الوطن والهوية.
موقع التجديدالعربي