هويدي 9-7-2002
هذه الفرقعات الأمريكية شبه اليومية, الموحية بوجود نذر للخطر في كل مكان, ليست كلها مصادفات, ولكنني أزعم أنها ــ بما تستصحبه من تسويق وتعميم للخوف والقلق ــ ليست سوي حلقات في مسلسل مرتب طويل الأجل, يراد له أن يستمر حتي شهر نوفمبر المقبل علي الأقل, وله عدة أهداف, في المقدمة منها التغطية علي خيبات وفضائح الإدارة الأمريكية الحالية, وتهيئة الأجواء لفوز الحزب الجمهوري, ومن ثم فتح الطريق لإعادة انتخاب الرئيس بوش لفترة رئاسية ثانية ــ أما كيف ولماذا, فإليك الحكاية:
(1)
لا أذكر بالضبط من الذي قال: إنه لاتوجد في الولايات المتحدة سياسة خارجية وأخري داخلية, ولكن هناك فقط سياسة داخلية. بمعني أن صاحب القرار السياسي لايخطو خطوة إلا وعيناه علي الداخل والصوت الانتخابي. لكن مختلف الشواهد تدل علي صواب تلك المقولة, بوجه أخص في ظل الإدارة الأمريكية الحالية, التي يقف علي رأسها رئيس ضعيف لم تكن له علاقة بالسياسة الخارجية يوما ما, ثم إن شرعية توليه للسلطة مجرحة. حيث تولاها بحكم المحكمة, وليس استنادا إلي تأييد شعبي يطمأن إليه.
ليس ذلك فحسب, وإنما لاحقت الرئيس منذ توليه للسلطة سلسلة من الفضائح من ذوات العيار الثقيل, بدأت بما أثير من شبهات حوله شخصيا وحول بعض مساعديه( نائبه ديك تشيني) بشركة انرون للطاقة, التي ثبت أنها اشتركت في تمويل حملته الانتخابية, وفي وضع خطة إدارته في مجال الطاقة, كي تحقق من وراء ذلك ما تصبو إليه من أرباح. وإذ بينت التحقيقات أن ثمة فسادا وتلاعبا في موازنة الشركة, التي تعد من أضخم المؤسسات الأمريكية, فإن الأمور تطورت في وقت لاحق إلي الحد الذي غدت معه قضيةانرون بمثابة الجزء الذي ظهر من جبل الفساد الهائل المستشري في الشركات الأمريكية الكبري. وهي الحقيقة التي ظهرت بشكل جلي خلال الأشهر الأخيرة, ووصفت بأنها سبتمبر الثانية, إشارة إلي عمق وجسامة الضرر الذي ضربت به الاقتصاد الأمريكي, علي نحو أقرب إلي الأضرار التي أصابت الولايات المتحدة من جراء هجوم الحادي عشر من سبتمبر في العام الماضي.
لقد ثبت أن شركة وورلدكوم العملاقة في عالم الاتصالات تلاعبت في ميزانياتها بصورة فاحشة( الوصف للرئيس بوش) فأعلنت في العام الماضي مثلا عن تدفقات مالية غير حقيقية بلغت2 مليار و400 مليون دولار, في حين أنها كانت خاسرة662 مليون دولار وكشف النقاب لاحقا عن أن شركة زيروكس فعلت الشيء نفسه, وكذلك عدة شركات عملاقة أخري, وصفت في الإعلام الأمريكي بـ عصابة الخمس. وثبت أن هذه الشركات وحدها ألحقت بحملة أسهمها خسائر تجاوزت460 بليون دولار.
هذه الصدمات أحدثت ذعرا في داخل الولايات المتحدة التي انهارت فيها أسعار الأسهم بسرعة علي نحو لم يحدث في تاريخها, ولك أن تتصور تأثير تلك الصدمة علي المواطن الأمريكي, الذي هو أبرز من يرفع شعار عض قلبي ولاتعض رغيفي!.( للعلم: شركة وورلد كوم وحدها استغنت عن17 ألف عامل) وكان من الطبيعي أن تتردد أصداء الزلزال في البورصات والأسواق العالمية, فقرأنا في7/4 عن أن بورصة لندن وحدها خسرت من جرائه56 مليار دولار, ولم تنج البورصات الأوروبية الأخري من الإصابة بخسائر مماثلة.
مازالت كرة الثلج تكبر يوما بعد يوم, وأكثر مايهمنا في السياق الذي نحن بصدده أن من شأن ذلك تآكل الرصيد الشعبي للرئيس بوش وإدارته, وهو خطر يهدد مصير حزبه ومصيره شخصيا في الانتخابات المقبلة.
(2)
الفضيحة الثانية تمثلت في الفشل الأمني المروع الذي أدي إلي وقوع هجمات11 سبتمبر. وهو الذي تسربت أخباره أخيرا بعد حصارها والتكتم عليها لعدة أشهر. فقد كان مجرد نجاح ذلك الهجوم فضيحة كبري لأجهزة الأمن, التي عجزت عن اكتشاف وجود عشرين شخصا أو أكثر في داخل الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر أو سنة, بعضهم كان مدرجا علي لوائح الاشتباه, وهم الذين استطاعوا تنفيذ مخططهم وتوجيه واحدة من أسوأ الضربات في تاريخ الولايات المتحدة.
أما الذي لايقل سوءا وفداحة عن ذلك, فهو ماتبين من أنه كانت هناك لدي أجهزة الأمن معلومات وتقارير حول تحركات مثيرة للشك من قبل بعض العناصر, أحدها وصل إلي مكتب الرئيس شخصيا.
ولو أن هذه المعلومات والتحذيرات أخذت علي محمل الجد, في حينه, لأمكن تجنب الكارثة التي وقعت. وقد تابع الجميع أصداء الفضيحة فيما نشر عن تحقيقات الكونجرس وتعليقات أعضائه حول الموضوع, الأمر الذي بدا مؤذنا بتدمير سمعة الإدارة الأمريكية, وإشهار عجز الرئيس وفريقه والأجهزة المعنية عن حماية أمن البلاد.
لقد قيل: إن صفقة أبرمت لاحتواء الفضيحة, ألقت إسرائيل فيها بثقلها ورجالها في الكونجرس, حيث دعتهم إلي تخفيف الضغوط علي الرئيس بوش, والكف عن فضح إدارته وتدمير سمعتها, وبذلك أسدي شارون للرئيس الأمريكي خدمة ومعروفا لايمكن نسيانه, وقبضت إسرائيل لقاء ذلك الثمن الذي كان واضحا في خطاب الرئيس بوش الأخير, والذي أطلق فيه يد شارون لكي يفعل مايريد بالفلسطينيين والأرض المحتلة. ورغم أن الصفقة المفترضة أدت إلي تسكين الرياح لبعض الوقت, فإنها أدت إلي التستر علي الفضيحة وحجبها إلا, وذلك لايضمن ولايمنع من تفجير القنبلة في أي وقت آخر.
ثمة مشكلات أخري داخلية تواجه الإدارة الأمريكية, بعضها يتعلق بما وعد به الرئيس في حملته الانتخابية ــ ولم يف به ــ خاصا بالأوضاع الاجتماعية والتعليم, والبعض الآخر يتعلق بإجراءات تقييد الحريات المدنية أو العامة التي لجأت إليها, وبالمخصصات المالية الهائلة التي طلبت لأجهزة الأمن, وصلاحياتها التي تم التوسع فيها.
لكنني لن أتحدث عن تأثير تلك المشكلات, وإنما أشير إلي الفضيحتين الكبيرتين اللتين سبقت الإشارة إليهما,وأتساءل: كيف تعاملت الإدارة الأمريكية معهما, علما بأن الفضيحة الأولي شكلت ــ ومازالت ــ تهديدا للأمن الاقتصادي للمواطن الأمريكي, بينما مثلت الثانية تهديدا مباشرا للأمن الوطني الأمريكي؟!.
إجابتي المباشرة أن الإدارة الأمريكية لجأت في ذلك ــ ضمن أمور أخري ــ إلي إثارة مخاوف الأمريكيين حول أمنهم الشخصي, وحرصت علي أن تشيع بين الناس درجات مختلفة من الخوف, لصرف انتباههم عن تلك الفضائح الجسيمة من ناحية, ولإقناعهم بأنهم معرضون للخطر, وأنهم بحاجة إلي سياسة القبضة الحديدية التي يلوح بها الرئيس بوش. ومن ثم بحاجة إلي إدارته الجمهورية وسياستها الحازمة, لحمايتهم من ذلك الخطر المفترض.
(3)
في العاشر من شهر يونيو الماضي كان وزير العدل الأمريكي جون اشكروفت في زيارة لموسكو, وصبيحة ذلك اليوم دعا إلي مؤتمر صحفي استثنائي أعلن فيه أن وزارته اعتقلت إرهابيا خطيرا كان يتحري عن إمكان صنع وتفجير قنبلة قذرة في الولايات المتحدة.
وذكر أن تلك الخطوة بمثابة إنجاز مهم وخطوة واسعة في الحرب ضد الإرهاب, لأنه أحبط مؤامرة إرهابية قيد النمو. ولم تمض ساعات علي ذلك الإعلان حتي خفضت الحكومة الأمريكية من حجم كذبتها, حيث أكد نائب وزير الدفاع وولفوفيتز أنه لم تكن هناك خطة فعلية, لكننا أوقفنا الرجل في مراحل التخطيط الأولي ــ وفي وقت لاحق صرح مسئول بأجهزة الأمن بأنه ليس هناك دليل علي أن الشخص المعني كانت لديه الإمكانات لتنفيذ الخطة, أو أنه فوض في ذلك!! ثم إن التهويل من حجم الخسائر البشرية المترتبة علي تفجير تلك القنبلة القذرة, كما صورها وزير العدل, دحضه الخبراء الذين أكدوا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي انه ستنجم عنها خسائر بشرية قليلة نسبيا, وان كان لها آثار ملوثة علي المدي البعيد.
رغم ذلك فإن الحكومة الأمريكية إمعانا في تضليل الرأي العام, وإصرارا علي تخويفه, سارعت بعد مضي عدة ساعات إلي اعتبار ذلك الشخص مقاتلا يشكل خطرا جديا ومستمرا علي الشعب الأمريكي والأمن القومي. وبسبب ذلك الأمر الرئاسي تم نقله من سجنه في نيويورك إلي قاعدة عسكرية في ولاية أخري, حيث وضع تحت إشراف وزارة الدفاع, وهناك اختفي أثره, ولم يسمح له بالاتصال حتي بمحام يدافع عنه.
هذا الإرهابي الخطير لم يكن سوي الأمريكي خوسيه باديلا, الذي دخل في الإسلام وأطلق علي نفسه اسم عبدالله المهاجر, وله تاريخ في عصابات الشوارع, ولم يتجاوز تحصيله المرحلة الابتدائية, ولم يثبت أن له علاقة بتنظيم القاعدة, ولم تثبت بحقه أي شبهة علي أنه إرهابي, وهو مادفع صحيفة الاندبندنت البريطانية إلي نشر تقرير آنذاك ذكرت فيه أنه لايوجد لدي الأمريكان دليل واحد يدين عبدالله المهاجر, ويثبت تورطه في عمل إرهابي, خصوصا أن قدراته الشخصية وتحصيله العلمي لايمكنانه بأي حال من صناعة قنبلة مشعة من ذلك القبيل بالغ التقدم والتعقيد. أضافت الاندبندنت أن القضية كلها تبدو محاولة من إدارة بوش لتحويل الأنظار عن فشل المخابرات الأمريكية في اكتشاف الإرهاب ومنعه.
هذه الإشارات إلي براءة باديلا أو المهاجر مما نسب إليه, نشرت مقتضبة وخجولة, بينما شغل الناس لعدة أسابيع بحكاية القنبلة القذرة التي اتهم بصنعها. وبعدما أفاضت الصحف ومحطات التليفزيون في الحديث عن مخاطر تلك القنبلة الخطيرة والترويع الذي يمكن أن تحدثه, وعن خطط الإرهابيين التي لم تتوقف عن استهداف الولايات المتحدة.
لقد سلطت الأضواء قوية علي خطر موهوم, ولم ينتبه أحد إلي أن الأمر لم يكن أكثر من فرقعة إعلامية أريد بها إذكاء مشاعر الخوف عندهم, مع الهائهم عن حقائق الواقع وفضائحه.
ذلك غيض من فيض. لأن أخبار الخطط والمؤامرات الإرهابية التي تسربت بين الحين والآخر داخل الولايات المتحدة وخارجها لاتعد ولاتحصي, حتي أصبحنا لانكاد نفتح الصحيفة كل صباح إلا ونجد فيها نبأ عن عمل إرهابي هنا أو خلية إرهابية هنا أو مشروع إرهابي هناك.
تعد غم الأمر علينا, ولم نعد نعرف ماهو حقيقي مما هو موهوم أو مكذوب. ذلك أنني لا أستطيع القول بان كل مانقرؤه من أخبار ومشروعات إرهابية مختلق ومكذوب, ولا استبعد أن يكون لبعضه ظل من الحقيقة. إنما الذي تدل عليه شواهد كثيرة أن بعض مايسرب إلينا مختلق, وان البعض الآخر مبالغ فيه.
وإذ لاينسي المرء أن وزارة الدفاع الأمريكية هي التي أنشأت قبل عدة اشهر ماسمي آنذاك بمكتب التأثير الاستراتيجي, الذي كان الهدف منه تضليل الرأي العام بالأخبار والمعلومات المكذوبة, لتحقيق مآرب معينة, فان التراجع عن إنشاء المكتب بعدما انفضح أمره وتسربت أنباؤه إلي الصحف, لايعني بالضرورة انه تم التراجع عن الفكرة الشريرة فيه.
من ناحية أخري فان مايثير الشك فيما يعمم علينا بين الحين والآخر من أنباء عن اكتشاف خلايا وعمليات إرهابية في مختلف أنحاء العالم, أن واحدا مثلي يدهش كيف أن الذين قاموا بهجومات11 سبتمبر, بالغة الدقة والاكتمال, لاحقتهم الخيبة والفشل الذريع في كل ما اقدموا عليه من أعمال بعد ذلك, هذا إذا ما صدقنا مايقولون عن أن ثمة صلة بين هؤلاء وهؤلاء. وهي مفارقة تضعنا أمام أحد احتمالات ثلاثة, أولها أن يكون المخرج قد اختلف في حالة11 سبتمبر عنه في الحوادث التالية أو أن الذين قاموا بهجمات11 سبتمبر غير الذين اقدموا علي المحاولات الأخري, او أن تلك العمليات اللاحقة مختلقة, وأريد بتسويقها تحقيق أهداف سياسية داخلية, من ذلك القبيل الذي سبقت الإشارة إليه. وبطبيعة الحال فان الذي يفعلها لأسباب داخلية لن يتردد في أن يستخدم أسلوب الافتعال لتحقيق أهداف أخري خارجية.
(4)
في شهر مارس من العام الحالي سربت الحكومة البريطانية خبرا عن اكتشاف مختبر بيولوجي في إحدي مغارات تنظيم القاعدة بشرق افغانستان. وبعدما نفت واشنطن الخبر, تبين أن الهدف من تسريبه كان تبرير وتغطية قرار الحكومة إرسال1400 جندي بريطاني إلي افغانستان. وفي الشهر ذاته نشرت الصحف أن عرفات عقد تحالف سريا مع الإيرانيين في اجتماعات عقدت بموسكو, ولكن نيويورك تايمز التي نشرت الخبر, عادت وكذبته في وقت لاحق, أخيرا سربت أخبار أخري عن تحالف بين حزب الله ومنظمة القاعدة, في حين أن أي مبتديء في السياسة يعلم أن الخبر مكذوب, لأن حزب الله لم يدخل في أي تحالفات أو عمليات خارج لبنان ابعد من أرضه المحتلة. وقبل أيام قليلة( في7/3) بثت وكالة رويترز للأنباء خبرا من طوكيو خلاصته أن المسئولين اليابانيين أصبحت تساورهم الشكوك في صدقية التقارير الأمنية الأمريكية لكثرة المعلومات الزائفة فيها, التي أوقعت اليابان في اكثر من مأزق حرج.
ذلك قليل من كثير فيما يخص استخدام الاخبار المكذوبة لتحقيق أهداف معينة في الساحة الدولية. وهي خلفية تسمح لنا بمضاعفة الشك في الكثير مما يروج له من أخبار علي صعيد الداخل, وتحضرني هنا قصة الجمرة الخبيثة التي روعت الأمريكيين حينا من الدهر, والتحذيرات المستمرة من توقع عمليات إرهابية في المناسبات المختلفة التي كان آخرها احتفالات عيدالاستقلال الأمريكي يوم الخميس الماضي(7/4), ثم حكايات العرب الذين يلقي القبض عليهم كل حين بتهمة تسهيل الإرهاب أوالضلوع فيه, ومايروج له بين الحين والآخر من إجراءات لضمان عدم تهريب أسلحة الدمار الشامل للولايات المتحدة.
من أسف أن العدالة الأمريكية في أجواء اللوثة الراهنة أخضعت للسياسة, بعدما مرر الكونجرس قوانين, وأصدرت وزارة العدل سيلا من التعليمات التي كانت كلها اعتداء صارخا علي الحريات والحقوق المدنية, خصوصا بالنسبة للعرب والمسلمين, وما كان لذلك كله أن يمر إلا في ظل أجواء الخوف المصطنع الذي جرت إشاعته بين الناس, إذ حينما نجحوا في إشعار المواطن الأمريكي أن أمنه مهدد, وانه في خطر, فانه أصبح مستعدا لقبول أي شيء, بما في ذلك ضوابط العدالة وضمانات الحرية.
هي لعبة خطيرة حقا, لكن خبرة التاريخ علمتنا انه يتعذر خداع الناس والكذب عليهم طول الوقت, حتي اذا كانوا أمريكيين ممن يسهل الضحك عليهم,وغسل أدمغتهم بالأساليب الجهنمية المعهودة. لكن يبدو أن ذلك الخداع والكذب يجب أن يستمرا حتي شهر نوفمبر المقبل علي الأقل, حيث يفترض أن يجني الحزب الجمهوري حصاد مايتم زرعه اليوم, من خوف وقلق
هذه الفرقعات الأمريكية شبه اليومية, الموحية بوجود نذر للخطر في كل مكان, ليست كلها مصادفات, ولكنني أزعم أنها ــ بما تستصحبه من تسويق وتعميم للخوف والقلق ــ ليست سوي حلقات في مسلسل مرتب طويل الأجل, يراد له أن يستمر حتي شهر نوفمبر المقبل علي الأقل, وله عدة أهداف, في المقدمة منها التغطية علي خيبات وفضائح الإدارة الأمريكية الحالية, وتهيئة الأجواء لفوز الحزب الجمهوري, ومن ثم فتح الطريق لإعادة انتخاب الرئيس بوش لفترة رئاسية ثانية ــ أما كيف ولماذا, فإليك الحكاية:
(1)
لا أذكر بالضبط من الذي قال: إنه لاتوجد في الولايات المتحدة سياسة خارجية وأخري داخلية, ولكن هناك فقط سياسة داخلية. بمعني أن صاحب القرار السياسي لايخطو خطوة إلا وعيناه علي الداخل والصوت الانتخابي. لكن مختلف الشواهد تدل علي صواب تلك المقولة, بوجه أخص في ظل الإدارة الأمريكية الحالية, التي يقف علي رأسها رئيس ضعيف لم تكن له علاقة بالسياسة الخارجية يوما ما, ثم إن شرعية توليه للسلطة مجرحة. حيث تولاها بحكم المحكمة, وليس استنادا إلي تأييد شعبي يطمأن إليه.
ليس ذلك فحسب, وإنما لاحقت الرئيس منذ توليه للسلطة سلسلة من الفضائح من ذوات العيار الثقيل, بدأت بما أثير من شبهات حوله شخصيا وحول بعض مساعديه( نائبه ديك تشيني) بشركة انرون للطاقة, التي ثبت أنها اشتركت في تمويل حملته الانتخابية, وفي وضع خطة إدارته في مجال الطاقة, كي تحقق من وراء ذلك ما تصبو إليه من أرباح. وإذ بينت التحقيقات أن ثمة فسادا وتلاعبا في موازنة الشركة, التي تعد من أضخم المؤسسات الأمريكية, فإن الأمور تطورت في وقت لاحق إلي الحد الذي غدت معه قضيةانرون بمثابة الجزء الذي ظهر من جبل الفساد الهائل المستشري في الشركات الأمريكية الكبري. وهي الحقيقة التي ظهرت بشكل جلي خلال الأشهر الأخيرة, ووصفت بأنها سبتمبر الثانية, إشارة إلي عمق وجسامة الضرر الذي ضربت به الاقتصاد الأمريكي, علي نحو أقرب إلي الأضرار التي أصابت الولايات المتحدة من جراء هجوم الحادي عشر من سبتمبر في العام الماضي.
لقد ثبت أن شركة وورلدكوم العملاقة في عالم الاتصالات تلاعبت في ميزانياتها بصورة فاحشة( الوصف للرئيس بوش) فأعلنت في العام الماضي مثلا عن تدفقات مالية غير حقيقية بلغت2 مليار و400 مليون دولار, في حين أنها كانت خاسرة662 مليون دولار وكشف النقاب لاحقا عن أن شركة زيروكس فعلت الشيء نفسه, وكذلك عدة شركات عملاقة أخري, وصفت في الإعلام الأمريكي بـ عصابة الخمس. وثبت أن هذه الشركات وحدها ألحقت بحملة أسهمها خسائر تجاوزت460 بليون دولار.
هذه الصدمات أحدثت ذعرا في داخل الولايات المتحدة التي انهارت فيها أسعار الأسهم بسرعة علي نحو لم يحدث في تاريخها, ولك أن تتصور تأثير تلك الصدمة علي المواطن الأمريكي, الذي هو أبرز من يرفع شعار عض قلبي ولاتعض رغيفي!.( للعلم: شركة وورلد كوم وحدها استغنت عن17 ألف عامل) وكان من الطبيعي أن تتردد أصداء الزلزال في البورصات والأسواق العالمية, فقرأنا في7/4 عن أن بورصة لندن وحدها خسرت من جرائه56 مليار دولار, ولم تنج البورصات الأوروبية الأخري من الإصابة بخسائر مماثلة.
مازالت كرة الثلج تكبر يوما بعد يوم, وأكثر مايهمنا في السياق الذي نحن بصدده أن من شأن ذلك تآكل الرصيد الشعبي للرئيس بوش وإدارته, وهو خطر يهدد مصير حزبه ومصيره شخصيا في الانتخابات المقبلة.
(2)
الفضيحة الثانية تمثلت في الفشل الأمني المروع الذي أدي إلي وقوع هجمات11 سبتمبر. وهو الذي تسربت أخباره أخيرا بعد حصارها والتكتم عليها لعدة أشهر. فقد كان مجرد نجاح ذلك الهجوم فضيحة كبري لأجهزة الأمن, التي عجزت عن اكتشاف وجود عشرين شخصا أو أكثر في داخل الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر أو سنة, بعضهم كان مدرجا علي لوائح الاشتباه, وهم الذين استطاعوا تنفيذ مخططهم وتوجيه واحدة من أسوأ الضربات في تاريخ الولايات المتحدة.
أما الذي لايقل سوءا وفداحة عن ذلك, فهو ماتبين من أنه كانت هناك لدي أجهزة الأمن معلومات وتقارير حول تحركات مثيرة للشك من قبل بعض العناصر, أحدها وصل إلي مكتب الرئيس شخصيا.
ولو أن هذه المعلومات والتحذيرات أخذت علي محمل الجد, في حينه, لأمكن تجنب الكارثة التي وقعت. وقد تابع الجميع أصداء الفضيحة فيما نشر عن تحقيقات الكونجرس وتعليقات أعضائه حول الموضوع, الأمر الذي بدا مؤذنا بتدمير سمعة الإدارة الأمريكية, وإشهار عجز الرئيس وفريقه والأجهزة المعنية عن حماية أمن البلاد.
لقد قيل: إن صفقة أبرمت لاحتواء الفضيحة, ألقت إسرائيل فيها بثقلها ورجالها في الكونجرس, حيث دعتهم إلي تخفيف الضغوط علي الرئيس بوش, والكف عن فضح إدارته وتدمير سمعتها, وبذلك أسدي شارون للرئيس الأمريكي خدمة ومعروفا لايمكن نسيانه, وقبضت إسرائيل لقاء ذلك الثمن الذي كان واضحا في خطاب الرئيس بوش الأخير, والذي أطلق فيه يد شارون لكي يفعل مايريد بالفلسطينيين والأرض المحتلة. ورغم أن الصفقة المفترضة أدت إلي تسكين الرياح لبعض الوقت, فإنها أدت إلي التستر علي الفضيحة وحجبها إلا, وذلك لايضمن ولايمنع من تفجير القنبلة في أي وقت آخر.
ثمة مشكلات أخري داخلية تواجه الإدارة الأمريكية, بعضها يتعلق بما وعد به الرئيس في حملته الانتخابية ــ ولم يف به ــ خاصا بالأوضاع الاجتماعية والتعليم, والبعض الآخر يتعلق بإجراءات تقييد الحريات المدنية أو العامة التي لجأت إليها, وبالمخصصات المالية الهائلة التي طلبت لأجهزة الأمن, وصلاحياتها التي تم التوسع فيها.
لكنني لن أتحدث عن تأثير تلك المشكلات, وإنما أشير إلي الفضيحتين الكبيرتين اللتين سبقت الإشارة إليهما,وأتساءل: كيف تعاملت الإدارة الأمريكية معهما, علما بأن الفضيحة الأولي شكلت ــ ومازالت ــ تهديدا للأمن الاقتصادي للمواطن الأمريكي, بينما مثلت الثانية تهديدا مباشرا للأمن الوطني الأمريكي؟!.
إجابتي المباشرة أن الإدارة الأمريكية لجأت في ذلك ــ ضمن أمور أخري ــ إلي إثارة مخاوف الأمريكيين حول أمنهم الشخصي, وحرصت علي أن تشيع بين الناس درجات مختلفة من الخوف, لصرف انتباههم عن تلك الفضائح الجسيمة من ناحية, ولإقناعهم بأنهم معرضون للخطر, وأنهم بحاجة إلي سياسة القبضة الحديدية التي يلوح بها الرئيس بوش. ومن ثم بحاجة إلي إدارته الجمهورية وسياستها الحازمة, لحمايتهم من ذلك الخطر المفترض.
(3)
في العاشر من شهر يونيو الماضي كان وزير العدل الأمريكي جون اشكروفت في زيارة لموسكو, وصبيحة ذلك اليوم دعا إلي مؤتمر صحفي استثنائي أعلن فيه أن وزارته اعتقلت إرهابيا خطيرا كان يتحري عن إمكان صنع وتفجير قنبلة قذرة في الولايات المتحدة.
وذكر أن تلك الخطوة بمثابة إنجاز مهم وخطوة واسعة في الحرب ضد الإرهاب, لأنه أحبط مؤامرة إرهابية قيد النمو. ولم تمض ساعات علي ذلك الإعلان حتي خفضت الحكومة الأمريكية من حجم كذبتها, حيث أكد نائب وزير الدفاع وولفوفيتز أنه لم تكن هناك خطة فعلية, لكننا أوقفنا الرجل في مراحل التخطيط الأولي ــ وفي وقت لاحق صرح مسئول بأجهزة الأمن بأنه ليس هناك دليل علي أن الشخص المعني كانت لديه الإمكانات لتنفيذ الخطة, أو أنه فوض في ذلك!! ثم إن التهويل من حجم الخسائر البشرية المترتبة علي تفجير تلك القنبلة القذرة, كما صورها وزير العدل, دحضه الخبراء الذين أكدوا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي انه ستنجم عنها خسائر بشرية قليلة نسبيا, وان كان لها آثار ملوثة علي المدي البعيد.
رغم ذلك فإن الحكومة الأمريكية إمعانا في تضليل الرأي العام, وإصرارا علي تخويفه, سارعت بعد مضي عدة ساعات إلي اعتبار ذلك الشخص مقاتلا يشكل خطرا جديا ومستمرا علي الشعب الأمريكي والأمن القومي. وبسبب ذلك الأمر الرئاسي تم نقله من سجنه في نيويورك إلي قاعدة عسكرية في ولاية أخري, حيث وضع تحت إشراف وزارة الدفاع, وهناك اختفي أثره, ولم يسمح له بالاتصال حتي بمحام يدافع عنه.
هذا الإرهابي الخطير لم يكن سوي الأمريكي خوسيه باديلا, الذي دخل في الإسلام وأطلق علي نفسه اسم عبدالله المهاجر, وله تاريخ في عصابات الشوارع, ولم يتجاوز تحصيله المرحلة الابتدائية, ولم يثبت أن له علاقة بتنظيم القاعدة, ولم تثبت بحقه أي شبهة علي أنه إرهابي, وهو مادفع صحيفة الاندبندنت البريطانية إلي نشر تقرير آنذاك ذكرت فيه أنه لايوجد لدي الأمريكان دليل واحد يدين عبدالله المهاجر, ويثبت تورطه في عمل إرهابي, خصوصا أن قدراته الشخصية وتحصيله العلمي لايمكنانه بأي حال من صناعة قنبلة مشعة من ذلك القبيل بالغ التقدم والتعقيد. أضافت الاندبندنت أن القضية كلها تبدو محاولة من إدارة بوش لتحويل الأنظار عن فشل المخابرات الأمريكية في اكتشاف الإرهاب ومنعه.
هذه الإشارات إلي براءة باديلا أو المهاجر مما نسب إليه, نشرت مقتضبة وخجولة, بينما شغل الناس لعدة أسابيع بحكاية القنبلة القذرة التي اتهم بصنعها. وبعدما أفاضت الصحف ومحطات التليفزيون في الحديث عن مخاطر تلك القنبلة الخطيرة والترويع الذي يمكن أن تحدثه, وعن خطط الإرهابيين التي لم تتوقف عن استهداف الولايات المتحدة.
لقد سلطت الأضواء قوية علي خطر موهوم, ولم ينتبه أحد إلي أن الأمر لم يكن أكثر من فرقعة إعلامية أريد بها إذكاء مشاعر الخوف عندهم, مع الهائهم عن حقائق الواقع وفضائحه.
ذلك غيض من فيض. لأن أخبار الخطط والمؤامرات الإرهابية التي تسربت بين الحين والآخر داخل الولايات المتحدة وخارجها لاتعد ولاتحصي, حتي أصبحنا لانكاد نفتح الصحيفة كل صباح إلا ونجد فيها نبأ عن عمل إرهابي هنا أو خلية إرهابية هنا أو مشروع إرهابي هناك.
تعد غم الأمر علينا, ولم نعد نعرف ماهو حقيقي مما هو موهوم أو مكذوب. ذلك أنني لا أستطيع القول بان كل مانقرؤه من أخبار ومشروعات إرهابية مختلق ومكذوب, ولا استبعد أن يكون لبعضه ظل من الحقيقة. إنما الذي تدل عليه شواهد كثيرة أن بعض مايسرب إلينا مختلق, وان البعض الآخر مبالغ فيه.
وإذ لاينسي المرء أن وزارة الدفاع الأمريكية هي التي أنشأت قبل عدة اشهر ماسمي آنذاك بمكتب التأثير الاستراتيجي, الذي كان الهدف منه تضليل الرأي العام بالأخبار والمعلومات المكذوبة, لتحقيق مآرب معينة, فان التراجع عن إنشاء المكتب بعدما انفضح أمره وتسربت أنباؤه إلي الصحف, لايعني بالضرورة انه تم التراجع عن الفكرة الشريرة فيه.
من ناحية أخري فان مايثير الشك فيما يعمم علينا بين الحين والآخر من أنباء عن اكتشاف خلايا وعمليات إرهابية في مختلف أنحاء العالم, أن واحدا مثلي يدهش كيف أن الذين قاموا بهجومات11 سبتمبر, بالغة الدقة والاكتمال, لاحقتهم الخيبة والفشل الذريع في كل ما اقدموا عليه من أعمال بعد ذلك, هذا إذا ما صدقنا مايقولون عن أن ثمة صلة بين هؤلاء وهؤلاء. وهي مفارقة تضعنا أمام أحد احتمالات ثلاثة, أولها أن يكون المخرج قد اختلف في حالة11 سبتمبر عنه في الحوادث التالية أو أن الذين قاموا بهجمات11 سبتمبر غير الذين اقدموا علي المحاولات الأخري, او أن تلك العمليات اللاحقة مختلقة, وأريد بتسويقها تحقيق أهداف سياسية داخلية, من ذلك القبيل الذي سبقت الإشارة إليه. وبطبيعة الحال فان الذي يفعلها لأسباب داخلية لن يتردد في أن يستخدم أسلوب الافتعال لتحقيق أهداف أخري خارجية.
(4)
في شهر مارس من العام الحالي سربت الحكومة البريطانية خبرا عن اكتشاف مختبر بيولوجي في إحدي مغارات تنظيم القاعدة بشرق افغانستان. وبعدما نفت واشنطن الخبر, تبين أن الهدف من تسريبه كان تبرير وتغطية قرار الحكومة إرسال1400 جندي بريطاني إلي افغانستان. وفي الشهر ذاته نشرت الصحف أن عرفات عقد تحالف سريا مع الإيرانيين في اجتماعات عقدت بموسكو, ولكن نيويورك تايمز التي نشرت الخبر, عادت وكذبته في وقت لاحق, أخيرا سربت أخبار أخري عن تحالف بين حزب الله ومنظمة القاعدة, في حين أن أي مبتديء في السياسة يعلم أن الخبر مكذوب, لأن حزب الله لم يدخل في أي تحالفات أو عمليات خارج لبنان ابعد من أرضه المحتلة. وقبل أيام قليلة( في7/3) بثت وكالة رويترز للأنباء خبرا من طوكيو خلاصته أن المسئولين اليابانيين أصبحت تساورهم الشكوك في صدقية التقارير الأمنية الأمريكية لكثرة المعلومات الزائفة فيها, التي أوقعت اليابان في اكثر من مأزق حرج.
ذلك قليل من كثير فيما يخص استخدام الاخبار المكذوبة لتحقيق أهداف معينة في الساحة الدولية. وهي خلفية تسمح لنا بمضاعفة الشك في الكثير مما يروج له من أخبار علي صعيد الداخل, وتحضرني هنا قصة الجمرة الخبيثة التي روعت الأمريكيين حينا من الدهر, والتحذيرات المستمرة من توقع عمليات إرهابية في المناسبات المختلفة التي كان آخرها احتفالات عيدالاستقلال الأمريكي يوم الخميس الماضي(7/4), ثم حكايات العرب الذين يلقي القبض عليهم كل حين بتهمة تسهيل الإرهاب أوالضلوع فيه, ومايروج له بين الحين والآخر من إجراءات لضمان عدم تهريب أسلحة الدمار الشامل للولايات المتحدة.
من أسف أن العدالة الأمريكية في أجواء اللوثة الراهنة أخضعت للسياسة, بعدما مرر الكونجرس قوانين, وأصدرت وزارة العدل سيلا من التعليمات التي كانت كلها اعتداء صارخا علي الحريات والحقوق المدنية, خصوصا بالنسبة للعرب والمسلمين, وما كان لذلك كله أن يمر إلا في ظل أجواء الخوف المصطنع الذي جرت إشاعته بين الناس, إذ حينما نجحوا في إشعار المواطن الأمريكي أن أمنه مهدد, وانه في خطر, فانه أصبح مستعدا لقبول أي شيء, بما في ذلك ضوابط العدالة وضمانات الحرية.
هي لعبة خطيرة حقا, لكن خبرة التاريخ علمتنا انه يتعذر خداع الناس والكذب عليهم طول الوقت, حتي اذا كانوا أمريكيين ممن يسهل الضحك عليهم,وغسل أدمغتهم بالأساليب الجهنمية المعهودة. لكن يبدو أن ذلك الخداع والكذب يجب أن يستمرا حتي شهر نوفمبر المقبل علي الأقل, حيث يفترض أن يجني الحزب الجمهوري حصاد مايتم زرعه اليوم, من خوف وقلق