هويدي 2-7-2002
لا تفاجئنا كثيرا رسالة الرئيس بوش في خطابه الأخير, إنما الذي يفاجئنا ويدهشنا حقا هو محاولة البعض البحث عن إيجابيات فيه. وهو ما وضعنا أمام مفارقة تضاعف من الدهشة, خلاصتها أن قارئ الصحف العربية التبس عليه أمر الخطاب, في حين أن حقيقته كانت أكثر وضوحا في الصحافة الغربية والإسرائيلية. إن شئت فقل إن صحافتنا تعاملت معه بخليط من الحذر والحياء والمجاملة, بينما تخلت الصحف الغربية والإسرائيلية عن كل ذلك, فكانت النتيجة أن تستر عليه بعض أصحاب المصلحة الحقيقية في فضحه, وفضحه من هو أولي بالمجاملة والتستر عليه.
(1)
خذ مثلا ما نشرته صحيفة الجارديان البريطانية قبل أيام قليلة( في6/27), وقالت فيه بصراحة: إن خطاب الرئيس بوش خيالي وغير واقعي من بدايته إلي نهايته, ولا تكاد تكون له أية علاقة بالواقع في الشرق الأوسط, أما خطته التي طرحها في الخطاب فمحكوم عليها بالفشل, وتدعم دعاة الحرب لا السلام, الأمر الذي أثار دهشة الدبلوماسيين في أنحاء العالم وألقت بهم في خضم الكآبة واليأس.
وبعد أن عرضت الصحيفة للمطالب والشروط التي وجهها بوش إلي الفلسطينيين, لكي تكتسب بلدهم وضع الدولة مؤقتا, قالت إن هذه المطالب تدعو إلي السخرية لأنها طالبت فلسطين بأن تقيم نموذجا مثل السويد, قبل أن تكتسب صفة الدولة. وهذه الدعوة تصبح نوعا من الكوميديا السوداء حين نقف علي شقها الذي قال فيه بوش إنه ينبغي علي الفلسطينيين تعلم أساليب الحكم الجيدة, وترشيحه للدول العربية للقيام بذلك الدور.
لقد ذهب الرئيس الأمريكي في جموحه إلي حد المطالبة بتنحية الرئيس عرفات من منصبه, وإن لم يذكره بالاسم, هكذا قالت الصحيفة. ثم أضافت أنه شيء لافت وربما يكون سلبيا أن نستمع لرئيس أمريكي, يعبر عن اقتناعه بأن من حقه اختيار زعماء الدول الأخري, الأمر الذي يكشف عن مدي البلاهة في تفكير الرئيس بوش. وهو الذي لا يدرك أن الفلسطينيين غاضبون من رئيسهم ليس لأنه غير موال للولايات المتحدة بقدر كاف, ولكن لأنه في نظرهم معتدل أكثر من اللازم, ولديه استعداد زائد لإرضاء إسرائيل!
من الخلاصات التي خرجت بها الصحيفة بعد استعراضها لجوانب الخطاب, أن ما قاله الرئيس الأمريكي يكشف عن مدي انفصاله التام عن واقع الشرق الأوسط, وذلك لا يثير القلق فحسب, ولكنه شيء خطير أيضا, لأن بوش أعطي شارون الضوء الأخضر لمواصلة سياسته القائمة علي استخدام القوة العسكرية, المقترنة برفض تجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية. وهي بهذه الصفة تصبح أقرب إلي الخيال الجامح الذي يفتقر إلي الشعور بالمسئولية, فضلا عن أنه محكوم عليها بالفشل من حيث أنها سترفع من درجة المعاناة في الشرق الأوسط, الذي تحتاج شعوبه إلي بذل الجهد لتقليل الدمار وإراقة الدماء, لا إلي مضاعفتهما.
ختمت الجارديان تعليقها بقولها: إن الخطة بالصورة العاجزة التي قدمت بها تضر بالمكانة الدولية للرئيس بوش والولايات المتحدة, كما أنها لابد أن تثير عداوة وكراهية الشعوب العربية والإسلامية, ولأنها تفتح الباب واسعا لارتكاب المزيد من المذابح في الشرق الأوسط, فإنها تثير عدة أسئلة جارحة وغير ودية حول بوش وحربه ضد الإرهاب, الأمر الذي يعني أن واشنطن تحتاج لأن تفيق من غفوة إجماع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر, بحيث تدرك أنها تعاني مشكلة زعامة تتجسد في شخص جورج بوش!
(2)
الأصداء الناقدة للخطاب في الصحافة الإسرائيلية كثيرة, بحيث لا تنافسها في الكثرة سوي الأصوات المؤيدة له, لكني سأستعرض ثلاثة نصوص من تلك التي فضحت الخطاب وكشفت عوراته, إلي جانب الإشادة بما دعا إليه من تطبيع للعلاقات وإنهاء مقاطعة الدول العربية لإسرائيل, وفي مطالبة للدول العربية بوقف تمويل منظمات الإرهاب الفلسطينية واللبنانية.
في نقد الخطاب وكشف مقاصده ومراميه, أثار المعلقون الإسرائيليون الثلاثة نقاطا عدة من أهمها ما يلي:
* ناحوم برنياع كتب في صحيفة يديعوت أحرونوت( عدد6/25): قائلا: اللسان لسان الرئيس بوش, ولكن اليد التي كتبت الخطاب هي يد أرييل شارون, من ثم فإنه يمكن لشارون أن يطالب بحقوق تأليف الخطاب, فهو ما كان ليحلم بخطاب أكثر راحة منه. ومن الناحية السياسية يبدو أن شارون يمكنه أن يجلس بارتياح, وأن يفتح حزامه بخرم إضافي: فمسار بوش لا يطالبه في هذه اللحظة بشيء, فهو يطالب بأن تتغير أولا السلطة الفلسطينية وتتجذر فيها قواعد اللعب بالديمقراطية, وسلطة القانون والاقتصاد الحر, وبعد ذلك تقوم هناك الدولة الفلسطينية المؤقتة, التي تتفاوض مع إسرائيل علي الحدود الآمنة والمعترف بها( هذا إلا إذا جاء المسيح قبل ذلك).
صحيح أن الخطاب استمد من ورقة بيريز ـ أبو العلاء فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة, التي يسبق الإعلان عنها تحديد حدودها النهائية, لكنه يهمل الإطار الزمني الصارم الذي حاولت الورقة إياها إعطاءه للمسيرة. فبدون إطار زمني فإن الحديث يدور في أفضل الأحوال عن شيء قد يطير وقد لا يطير. وفي الوضع المشوه في الشرق الأوسط فإنه من شبه المؤكد ألا يطير.
بتعبير آخر إذا كانت السنتان الأخيرتنا قد قتلتا اتفاق أوسلو, فإن خطاب بوش يدفنه في صفحات التاريخ. لقد وعد شارون بجلب الأمن والسلام, وفي هذه الأثناء لم يحقق للأسف الشديد أيا من الوعدين, لكنه حقق وعدا واحدا لم يقطعه: فقد ضم جورج بوش الابن كعضو مؤقت في الليكود, ولم يتبق الآن لرجال شارون سوي أن يضموه كعضو في فرع جادة بنسلفينيا!
* الوف بن كتب في هاآرتس(6/25) قائلا: إن الدبلوماسي الإسرائيلي الأول الذي عقب علي الخطاب الشرق أوسطي للرئيس الأمريكي جورج بوش كان زعيم المعارضة اليميني النائب ليبرمان الذي وصفه بأنه إيجابي وبناء في معظمه. ليس في كل يوم يتلقي الرئيس الأمريكي مثل هذا الثناء من رئيس الاتحاد الوطني, ولكن هذه المرة كان هناك سبب وجيه لذلك, لقد تبني بوش الموقف الإسرائيلي ووضع في مقدمة سياسته الإقليمية الدعوة لاستبدال القيادة الفلسطينية.
لقد تبني بوش تماما التفسيرات الإسرائيلية للمواجهة, وانتقد السلطة الفلسطينية التي رفضت اليد الممدودة للسلام واختارت العنف, وحذر الفلسطينيين من أنهم إذا واصلوا الإرهاب فإن إسرائيل ستواصل الدفاع عن نفسها وسيزداد وضع الفلسطينيين خطورة وشدة, وبذلك قدم تغطية أمريكية لعملية السور الواقي التي تجري الآن في مدن الضفة الغربية.
وسجل رئيس الحكومة أرييل شارون لنفسه انتصارا سياسيا, وفي زيارته الأخيرة إلي البيت الأبيض نجح في صد الضغوط التي مارسها عليه بوش صديق العرب من أجل أن يعلن عن جدول زمني للاتفاق الدائم وأن يدعو إلي انسحاب إسرائيلي من كل المناطق إلي حدود1967, وهو الإعلان الذي أيدته وزارة الخارجية, بينما عارضته أطراف أخري في مقدمتها نائب الرئيس تشيني ووزارة الدفاع البنتاجون, إلي أن رجحت كفة المعارضة وخابت آمال العرب, ولم يشر بوش إلي الانسحاب إلي خطوط عام1967, وإنما تحدث فقط عن انسحاب إلي حدود آمنة ومعترف بها, تماما كما طلب شارون قبل أسبوعين.
لقد ذكر الرئيس بوش أنه يمكن إحراز اتفاق دائم( بين الفلسطينيين والإسرائيليين) خلال ثلاث سنوات, لكن ذلك الجدول الزمني مجرد أمل, وهو مشروط بتنفيذ إصلاحات من الجانب الفلسطيني. وأوضح شارون لبوش أنه لن يؤيد الآن الدولة الفلسطينية لكنه لن يغضب إذا دعا بوش إلي إقامة دولة مؤقتة, بعد إجراء الإصلاحات, حيث إن هذا بالضبط هو اقتراح شارون لاتفاق مرحلي طويل المدي, بالمقارنة مع التغيير العميق المطلوب في السلطة الفلسطينية كي تكون جديرة بالاستقلال, وبالمقابل فإن المطالب التي عرضها بوش لإسرائيل محدودة وقليلة, حيث دعاها إلي الانسحاب للمواقف التي كانت بها قبل المواجهة, ووقف الاستيطان وفقا لخطة ميتشيل وإزالة الأطواق والإفراج عن أموال السلطة المجمدة, وتنفيذ المطالب مشروط بتحسين الوضع الأمني, لم يطلب الرئيس من الطرفين تقديم ردود له, ولم يعرض الخطوات التالية لخطته, لا مؤتمر دوليا, ولا جولة أخري لوزير الخارجية كولين باول, كل هذه الأفكار تبخرت في الطريق إلي غرفة النقاشات في البيت الأبيض, حتي سوريا تلقت ضربة من بوش الذي تبني موقف شارون وحدد أن عليها التنصل من الإرهاب من أجل أن تكون شريكة جديرة للمسيرة السياسية.
لقد امتنع بوش عن كل التزام محدد يعرضه لانتقادات مستقبلية, ومسئولية التنفيذ ألقيت علي عاتق الشعب الفلسطيني الذي دعي لنبذ الإرهاب والتنصل من عرفات, وإلا فإنه سيقف وحده مقابل القوة الإسرائيلية.
وفي الوضع الحالي الذي يعمل فيه الجيش بدون تحديد وقت في الضفة, يبدو الخطاب كموافقة أمريكية ضمنية لإعادة احتلال المناطق.
(3)
* في6/26 نشرت صحيفة هاآرتس مقالا لجدعون سامتي قال فيه: إن الميزة الوحيدة للخطاب غير المجدي الذي ألقاه بوش هي أننا أصبحنا نعرف منذ الآن ـ وبشكل رسمي ـ أين تميل واشنطن في الصراع العربي ـ الإسرائيلي, والدراما التي حدثت علي طريق الحسم الرئاسي مثيرة بشكل خاص, ذلك أن الرئيس بوش تجاهل تماما في خطبته رؤية باول المغايرة للصراع, وألقي بالمبادرات العربية في سلة المهملات, وتصرف بوحي من مصلحته الخاصة والعليا, وهذه المصلحة تكمن في اجتياز انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي تتم في شهر أكتوبر المقبل, والنجاح في تجديد فترة الرئاسة التي تجري بعد عامين, وهو نجاح يريده هذه المرة خاليا من الإهانة التي تعرض لها في الانتخابات الأولي, وهي المهانة التي كان بإمكان بضعة آلاف من أصوات اليهود في فلوريدا أن تحول دون حدوثها.
إن خطاب بوش حافل بالتفاصيل والاشتراطات التي يمكن تطبيقها, والتي تفتقد لاحتمالات النجاح, وبدا أن هدفها هو الالتفاف حول الصعوبة وليس محاولة حلها, لذلك بوسعنا القول بأنه تصرف بدم بارد, وبدرجة مؤسفة من اللامسئولية تجاه الاحتياجات الحقيقية التي تتطلبها إدارة دفة الصراع, وأضرار هذه الرؤية ستظهر عما قريب, ذلك أن بوش عزز من موقف شارون المتشدد وتبناه في واقع الأمر. كما أن أقواله ستعزز من عزم الإرهاب وتصميمه بدلا من إضعافه, وهو في خطابه ألمح لقادة حماس والجهاد بأن الحرب هي الحرب, وعليهم أن يتمسكوا أكثر فأكثر بالديناميت, مادام أنه لم يطرح أية رؤية تفتح الطريق للحل.
إن الرئيس الأمريكي لم يترك مجالا للتظاهر بالحرص علي الإسراع بالحل, ولو علي سبيل الادعاء والتظاهر. فلم يتحدث عن جدول زمني أو عن المؤتمر الإقليمي, ولم يشر حتي إلي العبارة التقليدية: سيتوجه وزير خارجيتي إلي المنطقة. إنه لم يفعل شيئا من ذلك كله, فجاءت رؤيته للحل مجرد كلام فارغ لا يحل ولا يربط.
أختم الأصداء الإسرائيلية بذلك التقرير البرقي الذي نقلته من مدينة القدس يوم6/26 صحيفة القدس العربي وقالت فيه: إن إسرائيل قابلت بفرح عارم خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش بشأن الشرق الأوسط, وقالت: إن بوش يستحق وسام الصهيونية, واعتبر وزير الاتصالات الإسرائيلي ريوفين ريفلين أن خطاب بوش كان يمكن أن يكتبه مسئول في الليكود حزب رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون.
وصرح الوزير المقرب من شارون للإذاعة العسكرية قائلا: إن هذا الخطاب للرئيس بوش كان يمكن أن يكتبه مسئول في الليكود, كان بإمكاني أنا شخصيا أن ألقيه أمام الكنيست.. وشدد معلق الإذاعة العامة وصحيفة هاآرتس علي أن خطاب بوش يعتبر انتصارا دبلوماسيا لأرييل شارون الذي تمكن خلال زياراته الست إلي واشنطن منذ توليه السلطة من إقناع بوش بإقصاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, وتجاهل المبادرات العربية.
ونقلت صحيفة معاريف أيضا عن وزير إسرائيلي قوله: إنه يجب تقليد بوش وسام الصهيونية. وأصدر مكتب شارون بيانا وصف معلق الإذاعة الإسرائيلية بأنه حذر, مشيرا إلي أن شارون لا يريد إبداء ارتياحه لعدم إحراج الولايات المتحدة لدي البلدان العربية.
(4)
هل انطفأت كل المصابيح في الشرق الأوسط, وانسدت أبواب الأمل في حل مشكلته؟
هذا هو السؤال يلوح في الأفق في اللحظة الراهنة, وهو نفسه السؤال الذي كان قد طرحه علي العقل الأوروبي في عام1914, السير إدوارد جراي حينما تمكن منه اليأس, وبدا أن أوروبا انفلت فيها العيار, وتدهورت أوضاعها علي النحو الذي أشعل نار الحرب العالمية الأولي, التي استمرت حتي عام1919, آنذاك قال الرجل: إن المصابيح بدأت تنطفئ في أنحاء أوروبا, وتساءل عما إذا كانت ستكتب له الحياة, كي يراها مشتعلة مرة أخري؟!
كأننا نعيش لحظة انطفاء المصابيح هذه, فالموقف الأمريكي بائس علي النحو الذي رأيت, والإسرائيلي أشد بؤسا, والأوروبيون تسمع منهم كلاما طيبا وتأكيدهم الاختلاف مع الموقف الأمريكي والتميز عنه, لكنهم يقولون لنا صراحة في نهاية كل حوار: إنهم لا يستطيعون أن يذهبوا بعيدا عن الموقف الأمريكي, ولا يستطيعون أن يختلفوا مع واشنطن في العلن, وهو ما يعني ـ بكلام آخر ـ أن أوروبا في هذا الموضوع بوجه أخص ستظل تابعة للولايات المتحدة.
لم تبق أمامنا سوي مصابيح الساحة العربية والإسلامية, فهي وحدها التي نملكها, وحدها خط دفاعنا الأول في الحالة المثلي, وهي خط دفاعنا الأخير في ظل الخرائط الراهنة, لا مجال الآن للعتاب وانتقاد الذين راهنوا علي الأمريكيين والأوروبيين, أو من يسمون بقوي الاعتدال والسلام في إسرائيل, علي الرغم من أن ذلك يجب ألا ينسي, وإنما الأمل يظل معقودا علي جهود الحفاظ علي المصابيح مضاءة في الساحتين العربية والإسلامية, إن لم تكن كلها, فأغلبها عند الحد الأدني, وهذه المصابيح تتمثل في استمرار المقاومة علي الأرض الفلسطينية, وفي محاولات بناء موقف وطني ديمقراطي علي المستوي القطري, وفي التمسك بالصمود والمقاطعة وتعميق الروابط علي المستوي القومي, وفي تنشيط فعالية العمق الإسلامي.
ثمة اجتهادات كثيرة في هذا الصدد, لكن أهم ما يعنينا في الأمر هو استمرار الحفاظ علي مصابيحنا العربية والإسلامية مضاءة, مع توجيه الرجاء إلي الذين يعجزون عن إضاءة مصابيحهم ألا يطفئوا المصابيح الأخري المجاورة لهم, وألا يعطلوا سعي الآخرين لإنارة مصابيحهم إذا ما حاولوا ذلك.
إن غاية مرادنا الآن لا أن تضاء كل مصابيح المنطقة ـ فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ـ ولكن ألا تنطفئ ونحن علي قيد الحياة كل المصابيح, وتعيش المنطقة في ظلام دامس.
لا تفاجئنا كثيرا رسالة الرئيس بوش في خطابه الأخير, إنما الذي يفاجئنا ويدهشنا حقا هو محاولة البعض البحث عن إيجابيات فيه. وهو ما وضعنا أمام مفارقة تضاعف من الدهشة, خلاصتها أن قارئ الصحف العربية التبس عليه أمر الخطاب, في حين أن حقيقته كانت أكثر وضوحا في الصحافة الغربية والإسرائيلية. إن شئت فقل إن صحافتنا تعاملت معه بخليط من الحذر والحياء والمجاملة, بينما تخلت الصحف الغربية والإسرائيلية عن كل ذلك, فكانت النتيجة أن تستر عليه بعض أصحاب المصلحة الحقيقية في فضحه, وفضحه من هو أولي بالمجاملة والتستر عليه.
(1)
خذ مثلا ما نشرته صحيفة الجارديان البريطانية قبل أيام قليلة( في6/27), وقالت فيه بصراحة: إن خطاب الرئيس بوش خيالي وغير واقعي من بدايته إلي نهايته, ولا تكاد تكون له أية علاقة بالواقع في الشرق الأوسط, أما خطته التي طرحها في الخطاب فمحكوم عليها بالفشل, وتدعم دعاة الحرب لا السلام, الأمر الذي أثار دهشة الدبلوماسيين في أنحاء العالم وألقت بهم في خضم الكآبة واليأس.
وبعد أن عرضت الصحيفة للمطالب والشروط التي وجهها بوش إلي الفلسطينيين, لكي تكتسب بلدهم وضع الدولة مؤقتا, قالت إن هذه المطالب تدعو إلي السخرية لأنها طالبت فلسطين بأن تقيم نموذجا مثل السويد, قبل أن تكتسب صفة الدولة. وهذه الدعوة تصبح نوعا من الكوميديا السوداء حين نقف علي شقها الذي قال فيه بوش إنه ينبغي علي الفلسطينيين تعلم أساليب الحكم الجيدة, وترشيحه للدول العربية للقيام بذلك الدور.
لقد ذهب الرئيس الأمريكي في جموحه إلي حد المطالبة بتنحية الرئيس عرفات من منصبه, وإن لم يذكره بالاسم, هكذا قالت الصحيفة. ثم أضافت أنه شيء لافت وربما يكون سلبيا أن نستمع لرئيس أمريكي, يعبر عن اقتناعه بأن من حقه اختيار زعماء الدول الأخري, الأمر الذي يكشف عن مدي البلاهة في تفكير الرئيس بوش. وهو الذي لا يدرك أن الفلسطينيين غاضبون من رئيسهم ليس لأنه غير موال للولايات المتحدة بقدر كاف, ولكن لأنه في نظرهم معتدل أكثر من اللازم, ولديه استعداد زائد لإرضاء إسرائيل!
من الخلاصات التي خرجت بها الصحيفة بعد استعراضها لجوانب الخطاب, أن ما قاله الرئيس الأمريكي يكشف عن مدي انفصاله التام عن واقع الشرق الأوسط, وذلك لا يثير القلق فحسب, ولكنه شيء خطير أيضا, لأن بوش أعطي شارون الضوء الأخضر لمواصلة سياسته القائمة علي استخدام القوة العسكرية, المقترنة برفض تجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية. وهي بهذه الصفة تصبح أقرب إلي الخيال الجامح الذي يفتقر إلي الشعور بالمسئولية, فضلا عن أنه محكوم عليها بالفشل من حيث أنها سترفع من درجة المعاناة في الشرق الأوسط, الذي تحتاج شعوبه إلي بذل الجهد لتقليل الدمار وإراقة الدماء, لا إلي مضاعفتهما.
ختمت الجارديان تعليقها بقولها: إن الخطة بالصورة العاجزة التي قدمت بها تضر بالمكانة الدولية للرئيس بوش والولايات المتحدة, كما أنها لابد أن تثير عداوة وكراهية الشعوب العربية والإسلامية, ولأنها تفتح الباب واسعا لارتكاب المزيد من المذابح في الشرق الأوسط, فإنها تثير عدة أسئلة جارحة وغير ودية حول بوش وحربه ضد الإرهاب, الأمر الذي يعني أن واشنطن تحتاج لأن تفيق من غفوة إجماع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر, بحيث تدرك أنها تعاني مشكلة زعامة تتجسد في شخص جورج بوش!
(2)
الأصداء الناقدة للخطاب في الصحافة الإسرائيلية كثيرة, بحيث لا تنافسها في الكثرة سوي الأصوات المؤيدة له, لكني سأستعرض ثلاثة نصوص من تلك التي فضحت الخطاب وكشفت عوراته, إلي جانب الإشادة بما دعا إليه من تطبيع للعلاقات وإنهاء مقاطعة الدول العربية لإسرائيل, وفي مطالبة للدول العربية بوقف تمويل منظمات الإرهاب الفلسطينية واللبنانية.
في نقد الخطاب وكشف مقاصده ومراميه, أثار المعلقون الإسرائيليون الثلاثة نقاطا عدة من أهمها ما يلي:
* ناحوم برنياع كتب في صحيفة يديعوت أحرونوت( عدد6/25): قائلا: اللسان لسان الرئيس بوش, ولكن اليد التي كتبت الخطاب هي يد أرييل شارون, من ثم فإنه يمكن لشارون أن يطالب بحقوق تأليف الخطاب, فهو ما كان ليحلم بخطاب أكثر راحة منه. ومن الناحية السياسية يبدو أن شارون يمكنه أن يجلس بارتياح, وأن يفتح حزامه بخرم إضافي: فمسار بوش لا يطالبه في هذه اللحظة بشيء, فهو يطالب بأن تتغير أولا السلطة الفلسطينية وتتجذر فيها قواعد اللعب بالديمقراطية, وسلطة القانون والاقتصاد الحر, وبعد ذلك تقوم هناك الدولة الفلسطينية المؤقتة, التي تتفاوض مع إسرائيل علي الحدود الآمنة والمعترف بها( هذا إلا إذا جاء المسيح قبل ذلك).
صحيح أن الخطاب استمد من ورقة بيريز ـ أبو العلاء فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة, التي يسبق الإعلان عنها تحديد حدودها النهائية, لكنه يهمل الإطار الزمني الصارم الذي حاولت الورقة إياها إعطاءه للمسيرة. فبدون إطار زمني فإن الحديث يدور في أفضل الأحوال عن شيء قد يطير وقد لا يطير. وفي الوضع المشوه في الشرق الأوسط فإنه من شبه المؤكد ألا يطير.
بتعبير آخر إذا كانت السنتان الأخيرتنا قد قتلتا اتفاق أوسلو, فإن خطاب بوش يدفنه في صفحات التاريخ. لقد وعد شارون بجلب الأمن والسلام, وفي هذه الأثناء لم يحقق للأسف الشديد أيا من الوعدين, لكنه حقق وعدا واحدا لم يقطعه: فقد ضم جورج بوش الابن كعضو مؤقت في الليكود, ولم يتبق الآن لرجال شارون سوي أن يضموه كعضو في فرع جادة بنسلفينيا!
* الوف بن كتب في هاآرتس(6/25) قائلا: إن الدبلوماسي الإسرائيلي الأول الذي عقب علي الخطاب الشرق أوسطي للرئيس الأمريكي جورج بوش كان زعيم المعارضة اليميني النائب ليبرمان الذي وصفه بأنه إيجابي وبناء في معظمه. ليس في كل يوم يتلقي الرئيس الأمريكي مثل هذا الثناء من رئيس الاتحاد الوطني, ولكن هذه المرة كان هناك سبب وجيه لذلك, لقد تبني بوش الموقف الإسرائيلي ووضع في مقدمة سياسته الإقليمية الدعوة لاستبدال القيادة الفلسطينية.
لقد تبني بوش تماما التفسيرات الإسرائيلية للمواجهة, وانتقد السلطة الفلسطينية التي رفضت اليد الممدودة للسلام واختارت العنف, وحذر الفلسطينيين من أنهم إذا واصلوا الإرهاب فإن إسرائيل ستواصل الدفاع عن نفسها وسيزداد وضع الفلسطينيين خطورة وشدة, وبذلك قدم تغطية أمريكية لعملية السور الواقي التي تجري الآن في مدن الضفة الغربية.
وسجل رئيس الحكومة أرييل شارون لنفسه انتصارا سياسيا, وفي زيارته الأخيرة إلي البيت الأبيض نجح في صد الضغوط التي مارسها عليه بوش صديق العرب من أجل أن يعلن عن جدول زمني للاتفاق الدائم وأن يدعو إلي انسحاب إسرائيلي من كل المناطق إلي حدود1967, وهو الإعلان الذي أيدته وزارة الخارجية, بينما عارضته أطراف أخري في مقدمتها نائب الرئيس تشيني ووزارة الدفاع البنتاجون, إلي أن رجحت كفة المعارضة وخابت آمال العرب, ولم يشر بوش إلي الانسحاب إلي خطوط عام1967, وإنما تحدث فقط عن انسحاب إلي حدود آمنة ومعترف بها, تماما كما طلب شارون قبل أسبوعين.
لقد ذكر الرئيس بوش أنه يمكن إحراز اتفاق دائم( بين الفلسطينيين والإسرائيليين) خلال ثلاث سنوات, لكن ذلك الجدول الزمني مجرد أمل, وهو مشروط بتنفيذ إصلاحات من الجانب الفلسطيني. وأوضح شارون لبوش أنه لن يؤيد الآن الدولة الفلسطينية لكنه لن يغضب إذا دعا بوش إلي إقامة دولة مؤقتة, بعد إجراء الإصلاحات, حيث إن هذا بالضبط هو اقتراح شارون لاتفاق مرحلي طويل المدي, بالمقارنة مع التغيير العميق المطلوب في السلطة الفلسطينية كي تكون جديرة بالاستقلال, وبالمقابل فإن المطالب التي عرضها بوش لإسرائيل محدودة وقليلة, حيث دعاها إلي الانسحاب للمواقف التي كانت بها قبل المواجهة, ووقف الاستيطان وفقا لخطة ميتشيل وإزالة الأطواق والإفراج عن أموال السلطة المجمدة, وتنفيذ المطالب مشروط بتحسين الوضع الأمني, لم يطلب الرئيس من الطرفين تقديم ردود له, ولم يعرض الخطوات التالية لخطته, لا مؤتمر دوليا, ولا جولة أخري لوزير الخارجية كولين باول, كل هذه الأفكار تبخرت في الطريق إلي غرفة النقاشات في البيت الأبيض, حتي سوريا تلقت ضربة من بوش الذي تبني موقف شارون وحدد أن عليها التنصل من الإرهاب من أجل أن تكون شريكة جديرة للمسيرة السياسية.
لقد امتنع بوش عن كل التزام محدد يعرضه لانتقادات مستقبلية, ومسئولية التنفيذ ألقيت علي عاتق الشعب الفلسطيني الذي دعي لنبذ الإرهاب والتنصل من عرفات, وإلا فإنه سيقف وحده مقابل القوة الإسرائيلية.
وفي الوضع الحالي الذي يعمل فيه الجيش بدون تحديد وقت في الضفة, يبدو الخطاب كموافقة أمريكية ضمنية لإعادة احتلال المناطق.
(3)
* في6/26 نشرت صحيفة هاآرتس مقالا لجدعون سامتي قال فيه: إن الميزة الوحيدة للخطاب غير المجدي الذي ألقاه بوش هي أننا أصبحنا نعرف منذ الآن ـ وبشكل رسمي ـ أين تميل واشنطن في الصراع العربي ـ الإسرائيلي, والدراما التي حدثت علي طريق الحسم الرئاسي مثيرة بشكل خاص, ذلك أن الرئيس بوش تجاهل تماما في خطبته رؤية باول المغايرة للصراع, وألقي بالمبادرات العربية في سلة المهملات, وتصرف بوحي من مصلحته الخاصة والعليا, وهذه المصلحة تكمن في اجتياز انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي تتم في شهر أكتوبر المقبل, والنجاح في تجديد فترة الرئاسة التي تجري بعد عامين, وهو نجاح يريده هذه المرة خاليا من الإهانة التي تعرض لها في الانتخابات الأولي, وهي المهانة التي كان بإمكان بضعة آلاف من أصوات اليهود في فلوريدا أن تحول دون حدوثها.
إن خطاب بوش حافل بالتفاصيل والاشتراطات التي يمكن تطبيقها, والتي تفتقد لاحتمالات النجاح, وبدا أن هدفها هو الالتفاف حول الصعوبة وليس محاولة حلها, لذلك بوسعنا القول بأنه تصرف بدم بارد, وبدرجة مؤسفة من اللامسئولية تجاه الاحتياجات الحقيقية التي تتطلبها إدارة دفة الصراع, وأضرار هذه الرؤية ستظهر عما قريب, ذلك أن بوش عزز من موقف شارون المتشدد وتبناه في واقع الأمر. كما أن أقواله ستعزز من عزم الإرهاب وتصميمه بدلا من إضعافه, وهو في خطابه ألمح لقادة حماس والجهاد بأن الحرب هي الحرب, وعليهم أن يتمسكوا أكثر فأكثر بالديناميت, مادام أنه لم يطرح أية رؤية تفتح الطريق للحل.
إن الرئيس الأمريكي لم يترك مجالا للتظاهر بالحرص علي الإسراع بالحل, ولو علي سبيل الادعاء والتظاهر. فلم يتحدث عن جدول زمني أو عن المؤتمر الإقليمي, ولم يشر حتي إلي العبارة التقليدية: سيتوجه وزير خارجيتي إلي المنطقة. إنه لم يفعل شيئا من ذلك كله, فجاءت رؤيته للحل مجرد كلام فارغ لا يحل ولا يربط.
أختم الأصداء الإسرائيلية بذلك التقرير البرقي الذي نقلته من مدينة القدس يوم6/26 صحيفة القدس العربي وقالت فيه: إن إسرائيل قابلت بفرح عارم خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش بشأن الشرق الأوسط, وقالت: إن بوش يستحق وسام الصهيونية, واعتبر وزير الاتصالات الإسرائيلي ريوفين ريفلين أن خطاب بوش كان يمكن أن يكتبه مسئول في الليكود حزب رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون.
وصرح الوزير المقرب من شارون للإذاعة العسكرية قائلا: إن هذا الخطاب للرئيس بوش كان يمكن أن يكتبه مسئول في الليكود, كان بإمكاني أنا شخصيا أن ألقيه أمام الكنيست.. وشدد معلق الإذاعة العامة وصحيفة هاآرتس علي أن خطاب بوش يعتبر انتصارا دبلوماسيا لأرييل شارون الذي تمكن خلال زياراته الست إلي واشنطن منذ توليه السلطة من إقناع بوش بإقصاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, وتجاهل المبادرات العربية.
ونقلت صحيفة معاريف أيضا عن وزير إسرائيلي قوله: إنه يجب تقليد بوش وسام الصهيونية. وأصدر مكتب شارون بيانا وصف معلق الإذاعة الإسرائيلية بأنه حذر, مشيرا إلي أن شارون لا يريد إبداء ارتياحه لعدم إحراج الولايات المتحدة لدي البلدان العربية.
(4)
هل انطفأت كل المصابيح في الشرق الأوسط, وانسدت أبواب الأمل في حل مشكلته؟
هذا هو السؤال يلوح في الأفق في اللحظة الراهنة, وهو نفسه السؤال الذي كان قد طرحه علي العقل الأوروبي في عام1914, السير إدوارد جراي حينما تمكن منه اليأس, وبدا أن أوروبا انفلت فيها العيار, وتدهورت أوضاعها علي النحو الذي أشعل نار الحرب العالمية الأولي, التي استمرت حتي عام1919, آنذاك قال الرجل: إن المصابيح بدأت تنطفئ في أنحاء أوروبا, وتساءل عما إذا كانت ستكتب له الحياة, كي يراها مشتعلة مرة أخري؟!
كأننا نعيش لحظة انطفاء المصابيح هذه, فالموقف الأمريكي بائس علي النحو الذي رأيت, والإسرائيلي أشد بؤسا, والأوروبيون تسمع منهم كلاما طيبا وتأكيدهم الاختلاف مع الموقف الأمريكي والتميز عنه, لكنهم يقولون لنا صراحة في نهاية كل حوار: إنهم لا يستطيعون أن يذهبوا بعيدا عن الموقف الأمريكي, ولا يستطيعون أن يختلفوا مع واشنطن في العلن, وهو ما يعني ـ بكلام آخر ـ أن أوروبا في هذا الموضوع بوجه أخص ستظل تابعة للولايات المتحدة.
لم تبق أمامنا سوي مصابيح الساحة العربية والإسلامية, فهي وحدها التي نملكها, وحدها خط دفاعنا الأول في الحالة المثلي, وهي خط دفاعنا الأخير في ظل الخرائط الراهنة, لا مجال الآن للعتاب وانتقاد الذين راهنوا علي الأمريكيين والأوروبيين, أو من يسمون بقوي الاعتدال والسلام في إسرائيل, علي الرغم من أن ذلك يجب ألا ينسي, وإنما الأمل يظل معقودا علي جهود الحفاظ علي المصابيح مضاءة في الساحتين العربية والإسلامية, إن لم تكن كلها, فأغلبها عند الحد الأدني, وهذه المصابيح تتمثل في استمرار المقاومة علي الأرض الفلسطينية, وفي محاولات بناء موقف وطني ديمقراطي علي المستوي القطري, وفي التمسك بالصمود والمقاطعة وتعميق الروابط علي المستوي القومي, وفي تنشيط فعالية العمق الإسلامي.
ثمة اجتهادات كثيرة في هذا الصدد, لكن أهم ما يعنينا في الأمر هو استمرار الحفاظ علي مصابيحنا العربية والإسلامية مضاءة, مع توجيه الرجاء إلي الذين يعجزون عن إضاءة مصابيحهم ألا يطفئوا المصابيح الأخري المجاورة لهم, وألا يعطلوا سعي الآخرين لإنارة مصابيحهم إذا ما حاولوا ذلك.
إن غاية مرادنا الآن لا أن تضاء كل مصابيح المنطقة ـ فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ـ ولكن ألا تنطفئ ونحن علي قيد الحياة كل المصابيح, وتعيش المنطقة في ظلام دامس.