هويدي 4-6-2002
اذا حاولنا أن نجيب علي السؤال: أين تقع مصلحة مصر في تعاملها مع الملف الفلسطيني, فلابد أن نتفق أولا حول تحديد مصر المقصودة التي هي بالمفهوم الضيق مصر المكان وهي من منظور أوسع مصر المكانة. ومن أسف أن البعض صار معنيا الآن بالأولي دون الثانية, ووراء أولئك البعض سنمضي مؤقتا, حتي نعرف بالضبط علي أي الشطآن سترسو مراكبنا.
(1)
أعلن البراءة في البداية من السؤال الذي ألقيته عن مصلحة مصر وأذكر الجميع بأنه سؤال مفروض, ماتمنيت أن يكون موضع جدل أصلا, حيث أزعم انه من المدهش حقا أن تستمر مصر في قلب المشهد الفلسطيني طيلة اكثر من نصف قرن, ثم نفاجأ بقلة في آخر الزمان تتساءل مستنكرة: ماعلاقتنا بالموضوع, بل وتذهب تلك الاصوات في الجرأة إلي حد التهجم علي المدافعين عن مسئولية مصر إزاء مايجري حولها, وبالأخص في فلسطين, واتهامهم بأنهم حربجية يستهدفون في النهاية ـ صدق أو لاتصدق ـ تقويض الديمقراطية في مصر, وضرب علاقاتها بالعالم الحر!! وهو كلام يقطر بؤسا, ويستحي المرء من استعادته, ولكنه اما وقد قيل فانه يتعذر تجاهله.
والأمر كذلك, فأزعم أن المشكلة الأصلية ليست في الاجابة علي السؤال, لكنها في مبدأ طرح السؤال, لان مثل ذلك الطرح يوحي بأن دائرة الضباب والالتباس تجاوزت الحدود حتي طالت بديهيات كثيرة, ولم تنج منها تلك التي درجنا علي اعتبارها من مسلمات الوطنية المصرية لكننا فوجئنا في الآونة الأخيرة بمن يدعي أن مقتضي الوطنية المصرية أن نمضي في عكس الاتجاه الذي سرنا فيه طيلة نصف القرن المنصرم, الأمر الذي يصور لك مدي التردي والتدهور الذي أصاب المدارك, فاختلط عندها الحابل بالنابل والحق بالباطل. ومن ثم فلم يكن هناك مفر من الاجابة علي هذا السؤال, لإزالة الالتباس وتقليل حجم البلبلة والتلوث الفكري الذي يمكن أن يحدثه في أوساط الرأي العام.
في الأسبوع الماضي حاولت التذكير بمعالم المشروع/ التحدي الصهيوني الذي تواجهه الامة العربية, ومصر ضمنا, وأجلت إلي الاسبوع الحالي مناقشة السؤال حول حدود وطبيعة مصلحة مصر في التعامل مع ذلك المشروع, وكانت النقطة الجوهرية في ذلك السؤال هي ما اذا كان بوسع مصر أن تنأي بنفسها عن الموضوع الفلسطيني, لكي تنصرف إلي الاهتمام بالتنمية والإعمار ورفاهية المجتمع, كما دعت قلة ممن توجسوا من أن استمرار دعم مصر للقضية الفلسطينية من شأنه أن يورطها في حرب هي احرص ماتكون علي تجنبها, وعملا بالمثال القائل الباب الذي يأتيك منه الريح أغلقه لتستريح, فانه يحسن في هذه الحالة ـ هكذا ينصحون ـ بأن تدير مصر ظهرها للموضوع وتنفض أيديها منه حتي تتجنب مزالق الريح ومآلاتها.
(2)
أذكر في التمهيد للإجابة علي السؤال بأمور عدة هي:
* أن مصر لم تخض حربا ولم تطلق رصاصة واحدة في الساحة الفلسطينية خلال الثلاثين سنة الأخيرة, ومن ثم فان أحدا لا يستطيع أن يدعي من أي باب أن الالتزام بالقضية الفلسطينية شكل عبئا علي التنمية في مصر, وإنما كانت تلك أطول فترة خلال نصف القرن الأخير أتيح لمصر أن تباشر فيها خطط التنمية بغير أية أعباء عسكرية استثنائية.
* ان الالتزام المفترض لمصر بالقضية الفلسطينية, لايمثل بالضرورة دعوة إلي إعلان الحرب, بل أذهب إلي أبعد, وأقول ان ذلك الالتزام لايقتضي ايضا إلغاء معاهدة كامب ديفيد, وإنما مدار الحديث عن ذلك الالتزام هو بالدقة الأنشطة السلمية المشروعة التي تحفظ المصالح والكرامة الوطنية, والتي يعد تجنب الحرب والالتزام بالمعاهدة سقفا لها حتي إشعار آخر علي الأقل, رغم أنني أحد من يتمنون ان تختفي تلك المعاهدة من الوجود اليوم قبل الغد.. بكلام آخر فإننا نتحدث في الوقت الراهن عن إجراءات ومواقف في التعامل مع القضية, مما يتفق مع الشرعية والأعراف الدولية, ومما تحتمله ولاتحول دونه معاهدة كامب ديفيد.
* إننا حين نتحدث عن الالتزام المصري إزاء الملف الفلسطيني نركز علي موضوع الأمن القومي لمصر وهو منطلق صحيح تماما سنتطرق إليه ونفصل فيه بعد قليل, ولكننا إلي جانب ذلك الالتزام الأمني, نتجاهل ان هناك التزاما أخلاقيا وتاريخيا لانستطيع أن نتحلل منه, وهو مانبه إليه الأستاذ طارق البشري, المفكر والمؤرخ المعروف, في الدراسة التي نشرتها له عن الموضوع صحيفة الأسبوع القاهرية( عدد2002/4/8) وفيها ذكر أن الدول العربية تتحمل مسئولية تاريخية إزاء احتلال فلسطين, ففلسطين عانت1948 عانت من سلبيات نظمنا العربية ـ دولا وحكومات ـ بأكثر كثيرا مما عانت من ضعف شعبها وان مابقي من فلسطين عاني في1967 بدوره من سلبيات نظمنا وسياساتنا الرسمية, وان ماحدث وقتذاك كان بسبب سلبيات راجعة إلينا, وليس إلي الشعب الفلسطيني, ذلك أن احتلال الصهاينة للضفة الغربية وغزة كان بالدقة جزءا من هزيمة مصر وسوريا والأردن في تلك الأيام البغيضة, لذلك فإننا لابوصفنا العربي والإسلامي فقط, ولكن بوصفنا المصري والسوري والأردني أيضا علينا واجب أخلاقي وتاريخي, يفرض علينا أن نسهم مساهمة فعالة في استرجاع هذين الأرضين لاصحابها. فضلا عما علينا من واجب الدفاع عن أنفسنا.
(3)
اتفقنا من البداية علي أننا سننحي مسألة مكانة مصر مؤقتا, بمعني مسئولية مصر كأكبر دولة عربية لها دورها القيادي والريادي في المنطقة, وسنحصر حوارنا في مصر المكان, بمعني القطر والكيان الذي له متطلباته الأمنية والحياتية, أدري أن ذلك يبخسها حقها ويهون من شأنها بما لايليق, لكننا سنقبل جدلا بذلك التهوين المؤقت, لكي نقف علي ذات الأرضية القطرية الضيقة التي ارتضاها الآخرون لمصر, حتي نقلب الأمر معهم, ونري كيف يمكن أن تتحقق مصلحة مصر من تلك الزاوية.
ان أي طالب جامعي يدرس العلوم السياسية يعرف أن أمن اي بلد يشمل أمرين: الدفاع ضد المخاطر الخارجية التي تتهدد البلد ثم الدفاع ضد المخاطر التي تتهدده في الداخل, ومخاطر الخارج مقدمة بامتياز, لان من شأنها ان تهدد وجود الدولة وكيانها, الأمر الذي تهون إلي جواره أي مخاطر أخري تأتي من داخل البيت ومهما تحقق الدولة من وئام واستقرار ونمو في الداخل, فإنها لن تستشعر الاطمئنان مادام هناك خطر كامن وراء حدودها, من ثم فان الحفاظ علي أمن الدولة القطرية بمعناه الصارم يقتضي ألا يقوم بجوار أراضيها من دولة أخري وضع أو موقف يتهددها, وينذر بإمكان اجتياح أراضيها ـ بعضها أو كلها ـ أو بإمكان حدوث ضغط علي ارادتها يقيد حريتها في التصرف.
هكذا فان تأمين الوطن لايقتضي فقط تأمين حدوده الجغرافية, ولكن تأمين ماوراء الحدود يحتل ذات الدرجة من الأهمية, وهو مايسمي بالعمق الاستراتيجي او المجال الحيوي, ومن باب التخفيف والتلطيف فان الروس يطلقون علي جمهوريات وسط آسيا التي تتمدد علي حدودها الجنوبية وصف الحديقة الخلفية.
في التفكير الاستراتيجي فان تأمين الجماعة ضد المخاطر الخارجية هو الوظيفة الأولي الدولة, بل إن المبرر الأساسي لقيام الدولة من البداية كان مجرد نهوضها بمهمة الحراسة, وقد كانت فكرة الدولة الحارسة هي أول مادرسناه من وظائف الدولة في القانون الدستوري بكلية الحقوق, وقد دلت الخبرة التاريخية علي أن الدول والنظم تدوم أو تندثر تبعا لقدرتها علي القيام بواجب حماية القطر من الأخطار الخارجية, أثبت ذلك المستشار البشري, حيث ذكر أن المماليك حكموا مصر قرابة250 عاما, لأنهم كانوا حراسا وحماة علي أمن البلد في مواجهة المخاطر الخارجية التي لاحت آنذاك, وتمثلت في الخطر المغولي والتتري, ثم حكم العثمانيون مصر قرابة400 سنة, لأنهم نجحوا علي مدي ثلاثمائة سنة أو يزيد في حماية أمن المنطقة من مخاطر الخارج الآتية من الشرق الآسيوي أو الغرب الأوروبي, ثم ارتخت قبضتهم وتقطعت بهم الأوصال, حيث تبين عجزهم عن كفالة الأمن للجماعة, وتفاصيل ذلك يلحظها كل من تابع مسيرة القرن التاسع عشر, وحين حلت بهم الهزيمة في عام1918, في الحرب العالمية الأولي, اندثرت الخلافة ذاتها, وطويت صفحة اقدم مؤسسة حكم عرفها العالم الإسلامي, لأن الهزيمة جرت باسمها وتحت رايتها, رغم أن الحكام المهزومين آنذاك كانوا من رجال الاتحاد والترقي غير المؤمنين بالخلافة أصلا, ولكن لحقها مالحقهم.
(4)
إذا كانت مصر استعادت الأرض بتوقيعها معاهدة كامب ديفيد, فلقد ظل التوتر علي بابها من جراء استمرار الاحتلال الإسرائيلي, ليس ذلك فحسب وإنما ظلت إسرائيل تطور سلاحها وتحشد قواتها وهي متمترسة وراء سلاحها النووي, ومصرة علي استمرار الاحتلال ومواصلة التوسع والاستيطان., وقد أثبتت تجربة السنوات العشر بعد أوسلو ان اسرائيل غير جادة في القبول بفكرة السلام العادل, وإنما هي معنية فقط بتجميل صورة الاحتلال وإضفاء الشرعية علي استمراره تحت مسميات ولافتات أخري.
ان أمن أي قطر لاتحدده المعاهدات وحدها, ولكن ما لم يتوافر توازن سياسي وراء الحدود الجغرافية يكفل تحقيق الاستقرار واستمراره, فان ذلك الأمن لن تقوم له قائمة, لقد مرت اكثر من عشرين سنة علي توقيع المعاهدة المصرية ـ الاسرائيلية ولكن الوضع المشحون بعوامل التفجير وراء الحدود المصرية يظل مصدر تهديد وقد رأينا ان الحكومة الإسرائيلية الحالية قد عصفت بكل التعهدات والاتفاقات السابقة التي تمت مع الفلسطينيين, ثم أعلنت عن الرغبة في عقد مؤتمر جديد للسلام لفتح صفحة جديدة, وإعادة بناء السلام المزعوم من الصفر, وفي ظل تفكير من ذلك القبيل فإننا لانستبعد أن يأتي زعيم إسرائيلي جديد ـ نتنياهو أو غيره ـ ليهدم مابني ويدعو بدوره لفتح صفحة أخري جديدة, وهو مايذكرنا بما فعله الأمريكيون مع الهنود الحمر, حين وقعوا معهم120 اتفاقا نقضوها واحدا تلو الآخر, حتي أبادوهم في النهاية وحاصروا من بقي منهم في معازل صغيرة, ذلك انه ما لم يتحقق التوازن المنشود الذي يكفل اقامة الوضع وراء الحدود علي قاعدة من العدل والإنصاف, فان احتمالات التفجير ستظل قائمة.
(5)
لانستطيع أن نتجاهل في هذا السياق أن مشروع السلام الذي دعا إليه شارون وفريقه الذي يضم خليطا من الغلاة ومجرمي الحرب, يستهدف إعادة رسم خرائط المنطقة, بما يرفع من درجة التهديد للأمن القومي المصري, وقد أصاب الدكتور حسن نافعة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة, حين اعتبره بمثابة إعادة انتاج مشروع هتلر للسلام( الأهرام4/27) ذلك أن الاجتياح الذي قامت به القوات الإسرائيلية للضفة الغربية فيما سمي بعملية السور الواقي والتأهب لاستكمال المرحلة الثانية منه بإعادة احتلال غزة, شبيه إلي حد ما باجتياح هتلر لاوروبا, ثم تطلعه في منتصف عام1941 إلي استكمال الحملة بغزو الاراضي السوفيتية وكسر إرادة المقاومة لدي بريطانيا, كي يحكم قبضته علي القارة الأوروبية من أدناها إلي أقصاها, وكانت تلك هي الأجواء التي دفعت هتلر إلي التطلع لتوحيد أوروبا تحت قيادته, بعد إعادة تنظيمها وتقسيمها, وفقا لمعتقداته الأيديولوجية النازية.
أراد هتلر أن يعيد رسم خريطة أوروبا تحت قيادة الرايخ الألماني بحيث تتولي ألمانيا تحديد موقع ومكانة ووظائف بقية الدول والأقاليم في أوروبا الجديدة فتخضع منها ماتشاء لادارتها المدنية أو العسكرية المباشرة, وتفرض وصايتها علي ماتشاء, تسخر من تشاء من شعوب وحكومات الدول الباقية لأداء الوظائف المطلوبة, واللازمة لازدهار الرايخ, بوصفه عقل أوروبا الجديدة, وقاطرتها نحو الرخاء والازدهار.
هذا المشروع الوحشي وجد من حاول تجميله والتنظير له, بزعم أن أوروبا الجديدة والموحدة تحت قيادة الرايخ الثالث ستتمكن من وضع نهاية للإمبريالية الانجلو ساكسونية, الأمر الذي سيسمح في تصورهم بإعادة تخطيط وتنظيم الاقتصاد الأوروبي بطريقة عصرية وفعالة, وهو مايوفر البيئة الاقليمية اللازمة للقضاء نهائيا علي الصراعات الأوروبية ـ الأوروبية التي تسببت في إضعاف القارة وتأخرها.
كان مدهشا أن يتحمس للفكر نفر من المثقفين الأوروبيين ـ خاصة في بلجيكا وفرنسا ـ الذين شاركوا في التبشير بنهاية عصر الديمقراطيات البرلمانية, وبداية عصر النظام النازي الجديد الذي سوف تساعد حيويته علي صياغة أوروبا جديدة, ثورية وتقدمية.
ان مصر المنكفئة علي ذاتها هي مصر المنتحرة, والذين يزينون لها أن تدير ظهرها لما حولها يدعونها لان تدفن رأسها في الرمال لكي تذهل عما يحيط بها, وتتحول في النهاية إلي لقمة سائغة, يسهل ابتلاعها من قبل أصحاب المشروع التوسعي الوحشي الذي يتعاظم ويمتد وراء حدودها, إنها نصيحة مسمومة.
واعذرونا اذا كنا قد تصاغرنا وحصرنا الكلام هذه المرة في مصر المكان, لان الذين يتحدثون عن انكفائها لم يعرفوا ولم يسمعوا عن مصر المكانة.
اذا حاولنا أن نجيب علي السؤال: أين تقع مصلحة مصر في تعاملها مع الملف الفلسطيني, فلابد أن نتفق أولا حول تحديد مصر المقصودة التي هي بالمفهوم الضيق مصر المكان وهي من منظور أوسع مصر المكانة. ومن أسف أن البعض صار معنيا الآن بالأولي دون الثانية, ووراء أولئك البعض سنمضي مؤقتا, حتي نعرف بالضبط علي أي الشطآن سترسو مراكبنا.
(1)
أعلن البراءة في البداية من السؤال الذي ألقيته عن مصلحة مصر وأذكر الجميع بأنه سؤال مفروض, ماتمنيت أن يكون موضع جدل أصلا, حيث أزعم انه من المدهش حقا أن تستمر مصر في قلب المشهد الفلسطيني طيلة اكثر من نصف قرن, ثم نفاجأ بقلة في آخر الزمان تتساءل مستنكرة: ماعلاقتنا بالموضوع, بل وتذهب تلك الاصوات في الجرأة إلي حد التهجم علي المدافعين عن مسئولية مصر إزاء مايجري حولها, وبالأخص في فلسطين, واتهامهم بأنهم حربجية يستهدفون في النهاية ـ صدق أو لاتصدق ـ تقويض الديمقراطية في مصر, وضرب علاقاتها بالعالم الحر!! وهو كلام يقطر بؤسا, ويستحي المرء من استعادته, ولكنه اما وقد قيل فانه يتعذر تجاهله.
والأمر كذلك, فأزعم أن المشكلة الأصلية ليست في الاجابة علي السؤال, لكنها في مبدأ طرح السؤال, لان مثل ذلك الطرح يوحي بأن دائرة الضباب والالتباس تجاوزت الحدود حتي طالت بديهيات كثيرة, ولم تنج منها تلك التي درجنا علي اعتبارها من مسلمات الوطنية المصرية لكننا فوجئنا في الآونة الأخيرة بمن يدعي أن مقتضي الوطنية المصرية أن نمضي في عكس الاتجاه الذي سرنا فيه طيلة نصف القرن المنصرم, الأمر الذي يصور لك مدي التردي والتدهور الذي أصاب المدارك, فاختلط عندها الحابل بالنابل والحق بالباطل. ومن ثم فلم يكن هناك مفر من الاجابة علي هذا السؤال, لإزالة الالتباس وتقليل حجم البلبلة والتلوث الفكري الذي يمكن أن يحدثه في أوساط الرأي العام.
في الأسبوع الماضي حاولت التذكير بمعالم المشروع/ التحدي الصهيوني الذي تواجهه الامة العربية, ومصر ضمنا, وأجلت إلي الاسبوع الحالي مناقشة السؤال حول حدود وطبيعة مصلحة مصر في التعامل مع ذلك المشروع, وكانت النقطة الجوهرية في ذلك السؤال هي ما اذا كان بوسع مصر أن تنأي بنفسها عن الموضوع الفلسطيني, لكي تنصرف إلي الاهتمام بالتنمية والإعمار ورفاهية المجتمع, كما دعت قلة ممن توجسوا من أن استمرار دعم مصر للقضية الفلسطينية من شأنه أن يورطها في حرب هي احرص ماتكون علي تجنبها, وعملا بالمثال القائل الباب الذي يأتيك منه الريح أغلقه لتستريح, فانه يحسن في هذه الحالة ـ هكذا ينصحون ـ بأن تدير مصر ظهرها للموضوع وتنفض أيديها منه حتي تتجنب مزالق الريح ومآلاتها.
(2)
أذكر في التمهيد للإجابة علي السؤال بأمور عدة هي:
* أن مصر لم تخض حربا ولم تطلق رصاصة واحدة في الساحة الفلسطينية خلال الثلاثين سنة الأخيرة, ومن ثم فان أحدا لا يستطيع أن يدعي من أي باب أن الالتزام بالقضية الفلسطينية شكل عبئا علي التنمية في مصر, وإنما كانت تلك أطول فترة خلال نصف القرن الأخير أتيح لمصر أن تباشر فيها خطط التنمية بغير أية أعباء عسكرية استثنائية.
* ان الالتزام المفترض لمصر بالقضية الفلسطينية, لايمثل بالضرورة دعوة إلي إعلان الحرب, بل أذهب إلي أبعد, وأقول ان ذلك الالتزام لايقتضي ايضا إلغاء معاهدة كامب ديفيد, وإنما مدار الحديث عن ذلك الالتزام هو بالدقة الأنشطة السلمية المشروعة التي تحفظ المصالح والكرامة الوطنية, والتي يعد تجنب الحرب والالتزام بالمعاهدة سقفا لها حتي إشعار آخر علي الأقل, رغم أنني أحد من يتمنون ان تختفي تلك المعاهدة من الوجود اليوم قبل الغد.. بكلام آخر فإننا نتحدث في الوقت الراهن عن إجراءات ومواقف في التعامل مع القضية, مما يتفق مع الشرعية والأعراف الدولية, ومما تحتمله ولاتحول دونه معاهدة كامب ديفيد.
* إننا حين نتحدث عن الالتزام المصري إزاء الملف الفلسطيني نركز علي موضوع الأمن القومي لمصر وهو منطلق صحيح تماما سنتطرق إليه ونفصل فيه بعد قليل, ولكننا إلي جانب ذلك الالتزام الأمني, نتجاهل ان هناك التزاما أخلاقيا وتاريخيا لانستطيع أن نتحلل منه, وهو مانبه إليه الأستاذ طارق البشري, المفكر والمؤرخ المعروف, في الدراسة التي نشرتها له عن الموضوع صحيفة الأسبوع القاهرية( عدد2002/4/8) وفيها ذكر أن الدول العربية تتحمل مسئولية تاريخية إزاء احتلال فلسطين, ففلسطين عانت1948 عانت من سلبيات نظمنا العربية ـ دولا وحكومات ـ بأكثر كثيرا مما عانت من ضعف شعبها وان مابقي من فلسطين عاني في1967 بدوره من سلبيات نظمنا وسياساتنا الرسمية, وان ماحدث وقتذاك كان بسبب سلبيات راجعة إلينا, وليس إلي الشعب الفلسطيني, ذلك أن احتلال الصهاينة للضفة الغربية وغزة كان بالدقة جزءا من هزيمة مصر وسوريا والأردن في تلك الأيام البغيضة, لذلك فإننا لابوصفنا العربي والإسلامي فقط, ولكن بوصفنا المصري والسوري والأردني أيضا علينا واجب أخلاقي وتاريخي, يفرض علينا أن نسهم مساهمة فعالة في استرجاع هذين الأرضين لاصحابها. فضلا عما علينا من واجب الدفاع عن أنفسنا.
(3)
اتفقنا من البداية علي أننا سننحي مسألة مكانة مصر مؤقتا, بمعني مسئولية مصر كأكبر دولة عربية لها دورها القيادي والريادي في المنطقة, وسنحصر حوارنا في مصر المكان, بمعني القطر والكيان الذي له متطلباته الأمنية والحياتية, أدري أن ذلك يبخسها حقها ويهون من شأنها بما لايليق, لكننا سنقبل جدلا بذلك التهوين المؤقت, لكي نقف علي ذات الأرضية القطرية الضيقة التي ارتضاها الآخرون لمصر, حتي نقلب الأمر معهم, ونري كيف يمكن أن تتحقق مصلحة مصر من تلك الزاوية.
ان أي طالب جامعي يدرس العلوم السياسية يعرف أن أمن اي بلد يشمل أمرين: الدفاع ضد المخاطر الخارجية التي تتهدد البلد ثم الدفاع ضد المخاطر التي تتهدده في الداخل, ومخاطر الخارج مقدمة بامتياز, لان من شأنها ان تهدد وجود الدولة وكيانها, الأمر الذي تهون إلي جواره أي مخاطر أخري تأتي من داخل البيت ومهما تحقق الدولة من وئام واستقرار ونمو في الداخل, فإنها لن تستشعر الاطمئنان مادام هناك خطر كامن وراء حدودها, من ثم فان الحفاظ علي أمن الدولة القطرية بمعناه الصارم يقتضي ألا يقوم بجوار أراضيها من دولة أخري وضع أو موقف يتهددها, وينذر بإمكان اجتياح أراضيها ـ بعضها أو كلها ـ أو بإمكان حدوث ضغط علي ارادتها يقيد حريتها في التصرف.
هكذا فان تأمين الوطن لايقتضي فقط تأمين حدوده الجغرافية, ولكن تأمين ماوراء الحدود يحتل ذات الدرجة من الأهمية, وهو مايسمي بالعمق الاستراتيجي او المجال الحيوي, ومن باب التخفيف والتلطيف فان الروس يطلقون علي جمهوريات وسط آسيا التي تتمدد علي حدودها الجنوبية وصف الحديقة الخلفية.
في التفكير الاستراتيجي فان تأمين الجماعة ضد المخاطر الخارجية هو الوظيفة الأولي الدولة, بل إن المبرر الأساسي لقيام الدولة من البداية كان مجرد نهوضها بمهمة الحراسة, وقد كانت فكرة الدولة الحارسة هي أول مادرسناه من وظائف الدولة في القانون الدستوري بكلية الحقوق, وقد دلت الخبرة التاريخية علي أن الدول والنظم تدوم أو تندثر تبعا لقدرتها علي القيام بواجب حماية القطر من الأخطار الخارجية, أثبت ذلك المستشار البشري, حيث ذكر أن المماليك حكموا مصر قرابة250 عاما, لأنهم كانوا حراسا وحماة علي أمن البلد في مواجهة المخاطر الخارجية التي لاحت آنذاك, وتمثلت في الخطر المغولي والتتري, ثم حكم العثمانيون مصر قرابة400 سنة, لأنهم نجحوا علي مدي ثلاثمائة سنة أو يزيد في حماية أمن المنطقة من مخاطر الخارج الآتية من الشرق الآسيوي أو الغرب الأوروبي, ثم ارتخت قبضتهم وتقطعت بهم الأوصال, حيث تبين عجزهم عن كفالة الأمن للجماعة, وتفاصيل ذلك يلحظها كل من تابع مسيرة القرن التاسع عشر, وحين حلت بهم الهزيمة في عام1918, في الحرب العالمية الأولي, اندثرت الخلافة ذاتها, وطويت صفحة اقدم مؤسسة حكم عرفها العالم الإسلامي, لأن الهزيمة جرت باسمها وتحت رايتها, رغم أن الحكام المهزومين آنذاك كانوا من رجال الاتحاد والترقي غير المؤمنين بالخلافة أصلا, ولكن لحقها مالحقهم.
(4)
إذا كانت مصر استعادت الأرض بتوقيعها معاهدة كامب ديفيد, فلقد ظل التوتر علي بابها من جراء استمرار الاحتلال الإسرائيلي, ليس ذلك فحسب وإنما ظلت إسرائيل تطور سلاحها وتحشد قواتها وهي متمترسة وراء سلاحها النووي, ومصرة علي استمرار الاحتلال ومواصلة التوسع والاستيطان., وقد أثبتت تجربة السنوات العشر بعد أوسلو ان اسرائيل غير جادة في القبول بفكرة السلام العادل, وإنما هي معنية فقط بتجميل صورة الاحتلال وإضفاء الشرعية علي استمراره تحت مسميات ولافتات أخري.
ان أمن أي قطر لاتحدده المعاهدات وحدها, ولكن ما لم يتوافر توازن سياسي وراء الحدود الجغرافية يكفل تحقيق الاستقرار واستمراره, فان ذلك الأمن لن تقوم له قائمة, لقد مرت اكثر من عشرين سنة علي توقيع المعاهدة المصرية ـ الاسرائيلية ولكن الوضع المشحون بعوامل التفجير وراء الحدود المصرية يظل مصدر تهديد وقد رأينا ان الحكومة الإسرائيلية الحالية قد عصفت بكل التعهدات والاتفاقات السابقة التي تمت مع الفلسطينيين, ثم أعلنت عن الرغبة في عقد مؤتمر جديد للسلام لفتح صفحة جديدة, وإعادة بناء السلام المزعوم من الصفر, وفي ظل تفكير من ذلك القبيل فإننا لانستبعد أن يأتي زعيم إسرائيلي جديد ـ نتنياهو أو غيره ـ ليهدم مابني ويدعو بدوره لفتح صفحة أخري جديدة, وهو مايذكرنا بما فعله الأمريكيون مع الهنود الحمر, حين وقعوا معهم120 اتفاقا نقضوها واحدا تلو الآخر, حتي أبادوهم في النهاية وحاصروا من بقي منهم في معازل صغيرة, ذلك انه ما لم يتحقق التوازن المنشود الذي يكفل اقامة الوضع وراء الحدود علي قاعدة من العدل والإنصاف, فان احتمالات التفجير ستظل قائمة.
(5)
لانستطيع أن نتجاهل في هذا السياق أن مشروع السلام الذي دعا إليه شارون وفريقه الذي يضم خليطا من الغلاة ومجرمي الحرب, يستهدف إعادة رسم خرائط المنطقة, بما يرفع من درجة التهديد للأمن القومي المصري, وقد أصاب الدكتور حسن نافعة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة, حين اعتبره بمثابة إعادة انتاج مشروع هتلر للسلام( الأهرام4/27) ذلك أن الاجتياح الذي قامت به القوات الإسرائيلية للضفة الغربية فيما سمي بعملية السور الواقي والتأهب لاستكمال المرحلة الثانية منه بإعادة احتلال غزة, شبيه إلي حد ما باجتياح هتلر لاوروبا, ثم تطلعه في منتصف عام1941 إلي استكمال الحملة بغزو الاراضي السوفيتية وكسر إرادة المقاومة لدي بريطانيا, كي يحكم قبضته علي القارة الأوروبية من أدناها إلي أقصاها, وكانت تلك هي الأجواء التي دفعت هتلر إلي التطلع لتوحيد أوروبا تحت قيادته, بعد إعادة تنظيمها وتقسيمها, وفقا لمعتقداته الأيديولوجية النازية.
أراد هتلر أن يعيد رسم خريطة أوروبا تحت قيادة الرايخ الألماني بحيث تتولي ألمانيا تحديد موقع ومكانة ووظائف بقية الدول والأقاليم في أوروبا الجديدة فتخضع منها ماتشاء لادارتها المدنية أو العسكرية المباشرة, وتفرض وصايتها علي ماتشاء, تسخر من تشاء من شعوب وحكومات الدول الباقية لأداء الوظائف المطلوبة, واللازمة لازدهار الرايخ, بوصفه عقل أوروبا الجديدة, وقاطرتها نحو الرخاء والازدهار.
هذا المشروع الوحشي وجد من حاول تجميله والتنظير له, بزعم أن أوروبا الجديدة والموحدة تحت قيادة الرايخ الثالث ستتمكن من وضع نهاية للإمبريالية الانجلو ساكسونية, الأمر الذي سيسمح في تصورهم بإعادة تخطيط وتنظيم الاقتصاد الأوروبي بطريقة عصرية وفعالة, وهو مايوفر البيئة الاقليمية اللازمة للقضاء نهائيا علي الصراعات الأوروبية ـ الأوروبية التي تسببت في إضعاف القارة وتأخرها.
كان مدهشا أن يتحمس للفكر نفر من المثقفين الأوروبيين ـ خاصة في بلجيكا وفرنسا ـ الذين شاركوا في التبشير بنهاية عصر الديمقراطيات البرلمانية, وبداية عصر النظام النازي الجديد الذي سوف تساعد حيويته علي صياغة أوروبا جديدة, ثورية وتقدمية.
ان مصر المنكفئة علي ذاتها هي مصر المنتحرة, والذين يزينون لها أن تدير ظهرها لما حولها يدعونها لان تدفن رأسها في الرمال لكي تذهل عما يحيط بها, وتتحول في النهاية إلي لقمة سائغة, يسهل ابتلاعها من قبل أصحاب المشروع التوسعي الوحشي الذي يتعاظم ويمتد وراء حدودها, إنها نصيحة مسمومة.
واعذرونا اذا كنا قد تصاغرنا وحصرنا الكلام هذه المرة في مصر المكان, لان الذين يتحدثون عن انكفائها لم يعرفوا ولم يسمعوا عن مصر المكانة.