هويدي 14-5-2002
لنا أن نرتاب ونثير العديد من علامات الاستفهام والتعجب إزاء قرار واشنطن الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. كما أننا لا نستطيع أن نخفي شعورا بالدهشة والحيرة إزاء تقاعس الدول العربية عن التصديق علي معاهدة إنشاء تلك المحكمة, وهي التي تعد فرصة غير مسبوقة ــ ولا ملحوقة في الأغلب ــ تمكن العرب من ملاحقة الظلمة والمفترين, وغيرهم من مجرمي الحرب الذين لم يرعوا فيهم إلا ولاذمة.
(1)
هي غير مسبوقة لان الساحة الدولية لم تعرف محكمة جنائية دائمة تحاسب الطواغيت والجبابرة الذين يرتكبون جرائمهم ضد البشر مطمئنين إلي انهم فوق الحساب وفوق القانون. نعم هناك محكمة العدل الدولية في لاهاي, ولكن هذه مختصة بنزاعات الدول وليس الأفراد. صحيح أيضا أنه في نورمبرج شكلت بعد الحرب العالمية الثانية محكمة جنائية لمحاسبة الزعماء النازيين علي جرائمهم, وفي عام93 شكل مجلس الأمن محكمتين, إحداهما لمحاكمة مجرمي الحرب في الصراع الذي شهدته يوجوسلافيا السابقة بين الصرب والكروات من جانب والمسلمين البوسنيين من جانب آخر, والثانية لمحاكمة المسئولين عن مذابح رواندا التي راح ضحيتها نحو نصف مليون أفريقي. لكن المحاكم الثلاث كانت مؤقتة, وقد شكلت لمحاكمة أناس بذواتهم في قضايا معينة, ولم تكن دائمة, ولا كانت مخولة بمحاكمة أي مجرم حرب أو طاغوت في أي بلد غير الذي اختصت به.
ثم لاحظ أن المحكمتين المذكورتين شكلتا بقرار من مجلس الأمن, وما ادراك ماهو: اعني أن تمرير قرار من ذلك القبيل من المجلس يحتاج إلي وقت طويل ومساومات كثيرة. ثم إن سيف الفيتو يظل مسلطا عليه, الأمر الذي يعني أن أيا من الدول الكبري أعضاء المجلس بوسعها أن تجهضه اذا وجدت انه لايلقي من جانبها هوي او يمس لها مصلحة, ومن ثم استخدمت حقها في الاعتراض عليه. وقد تعثر قرار إنشاء محكمة مجرمي الحرب اليوجوسلافية لان بعض الدول الأوروبية كانت ضده, فرنسا وإنجلترا بوجه أخص, ولم يمر إلا بعد ضغوط أمريكية قوية, وبعد أن تمت المساومات وراء الكواليس أضعفت صلاحيات المحكمة وأدت إلي التراخي في إجراءات القبض علي المتهمين, وقيدت حركة القوات الدولية ودورها في ملاحقتهم. وجود محكمة جنائية دائمة تختص بالنظر في مختلف الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية يوفر تلك المعاناة, ويبعد المحكمة عن ساحة مناورات وألاعيب الدول الكبري, الأمر الذي يشكل ضمانة مهمة للغاية لحسن سير العدالة الدولية. وأزعم في هذا الصدد أن إنشاء تلك المحكمة يعد خطوة تاريخية فارقة بين مرحلة نحن ضحاياها, ساد فيها قانون الغاب الذي يفرض في ظله الأقوي إرادته, وبين
طور نتطلع إليه, يحتكم فيه إلي القانون الجنائي الدولي, ويفترض أن تسود فيه قيم العدل دون معادلات القوة. وهو مايعني انه اذا كان الوضع الراهن هو في مصلحة المستكبرين بامتياز, فان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يشكل فرصة لكل المظلومين والمستضعفين, يتعين أن يقبضوا عليها ويتشبثوا بها, بأيديهم وأسنانهم.
(2)
إذا سألتني لماذا هي غير ملحوقة في الأغلب, فردي علي ذلك أن الأجواء التي ولدت فيها المحكمة كانت لها خصوصيات, يبدو أنها لن تتكرر في الأجل القريب علي الأقل. إذ كان الظن بعد الحرب العالمية الثانية أن المأساة التي دمرت أوروبا لن تتكرر, وانه لن يسمح لها بذلك. لكن تبين انه بعد عام1945 استمرت الحروب والصراعات والمجازر التي استهدفت المدنيين العزل, مما أدي إلي قتل نحو170 مليون شخص في أنحاء العالم, ولم يحاسب أحد علي ذلك. ليس ذلك فحسب, وإنما فوجئت أوروبا بالأهوال والفظائع تطرق أبوابها من أخري, حين وقع العدوان الصربي الكرواتي علي مسلمي البوسنة, في منطقة البلقان, التي انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولي. وهو التي كان الظن أن صفحتها طويت إلي الأبد, الأمر الذي أدي إلي إحياء فكرة راودت البعض منذ محاكمة النازيين في نورمبرج, دعت إلي ضرورة إنشاء محكمة دائمة لمحاسبة المسئولين عن الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية.
أجواء الصدمة التي عاشتها أوروبا بعد انفضاح أمر فظائع العدوان الصربي الكرواتي, عمقتها أخبار المجازر الوحشية وعمليات الإبادة التي حدثت في رواندا, مما اسهم في تحريك فكرة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. ولانستطيع أن نتجاهل أن ذلك حدث عقب السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي, الذي استصحب الترويج لبعض القيم في المجتمعات الإنسانية والعلاقات الدولية, مثل الديمقراطية والتعددية والعدل وحقوق الإنسان.. الخ. ولعلي لا أبالغ اذا قلت إن هذه الرايات التي رفعت في بداية التسعينيات. كانت عنصرا مساعدا علي تحريك الفكرة والإسراع بميلادها داخل أروقة الأمم المتحدة. فعقدت لذلك الغرض عدة اجتماعات تحضيرية في نيويورك, تم خلالها الاتفاق علي عقد مؤتمر دبلوماسي في روما لدراسة معاهدة إنشاء المحكمة وإعداد ميثاقها, فالتقي لأجل ذلك بالعاصمة الإيطالية في صيف عام98 ممثلو160 دولة عضو بالأمم المتحدة, وأمضوا هناك خمسة أسابيع تمت خلالها ولادة المعاهدة التي أعلنت في إطار ما سمي بميثاق روما.
(3)
إذا لاحظت أن إخراج الفكرة إلي النور استغرق خمس سنوات, من بدء تحريكها في93 إلي إصدار ميثاق روما في98, فستدرك أن الأمر لم يكن سهلا, وان الولادة كانت عسرة. ذلك انه اذا كانت محكمة جرائم الحرب اليوجوسلافية قد صدرت برغبة أمريكية, وبرغم المقاومة الأوروبية, فان العكس تماما حدث في محكمة جرائم الحرب الدولية, حيث كانت الرغبة أوروبية بينما المقاومة أمريكية.
صحيح أن الرئيس كلينتون اصدر موافقة مبدئية علي فكرة تأسيس المحكمة في عام96, في أثناء مشاورات التحضير لها( هيرالد تريبيون96/11/4), وان هناك أصواتا أمريكية عدة أيدتها وتحمست لها كثيرا, وكان الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مقدمة هؤلاء,( كتب مقالا بهذا المعني نشرته صحيفة لوس انجلوس تايمز ونقلته الشرق الأوسط في96/12/12), إلا أن هناك أطرافا لايستهان بها عارضتها وقاومتها بشدة منذ اللحظة الاولي. وكان النواب الجمهوريون في الكونجرس ومسئولو وزارة الدفاع( البنتاجون) ابرز أولئك المعارضين. وهو ما أدي إلي إحجام الولايات المتحدة عن التوقيع علي معاهدة إنشاء المحكمة, وإرجاء ذلك التوقيع إلي اليوم الأخير(2000/12/31) ـــ
من المفارقات الطريفة في هذا الصدد أن الولايات المتحدة حين امتنعت عن التوقيع( ومعها اسرائيل بطبيعة الحال) فانها وجدت نفسها واقفة في مربع يضم مجموعة من الدول الأخري التي تصنفها واشنطن باعتبارها معادية أو مارقة مثل: العراق ــ إيران ــ السودان ـــ ليبيا ـــ الصين!
المصدر الرئيسي للقلق الأمريكي في المحكمة يتمثل في أن واشنطن لاتستطيع التحكم في قراراتها اذا ما أرادت أن تدين أي طرف, من حيث إن نظامها يجردها من سلاح الفيتو الذي تستخدمه تبعا لهواها. ولان سجل الأمريكيين في القمع حافل بالوقائع التي يمكن أن ترشح بعض المسئولين وكبار الضباط للمثول أمام المحكمة, فقد كان ذلك مبررا كافيا لحث الادارة الأمريكية علي الامتناع عن التوقيع. وقد قيل آنذاك إن الأمريكيين يمكن أن يقدموا للمحاكمة بسبب قصفهم لمصنع الشفاء للأدوية في السودان بناء علي معلومات خاطئة. وهو مايرفضه الاستعلاء والاستكبار الأمريكيان.
في هذا الصدد قال لي أحد القضاة العرب في محكمة العدل الدولية في لاهاي إنه سمع من بعض الدبلوماسيين الأمريكيين قولهم انهم لايثقون إلا في القضاء الأمريكي, وانهم كدولة عظمي لا يتصورون أن يحاكموا أمام قضاة بعضهم من دول العالم الثالث, آسيويين كانوا أم أفارقة.
حين تم التوقيع الأمريكي في اليوم الآخير, كانت هناك أسباب عدة, منها مثلا ماتردد من انه تمت الموافقة علي أن يعطي مجلس الأمن دورا في قبول القضايا أمام المحكمة, الأمر الذي يمكن الولايات المتحدة ــ عن طريق الفيتو ــ من تأجيل نظر بعض القضايا التي تريد استبعادها, علي الأقل في السنوات الأولي لعمل المحكمة.
وتردد أن واشنطن طلبت ضمانات تقضي بألا يتهم مسئول أمريكي بالإبادة الجماعية او بارتكاب جرائم ضد الإنسانية, ولكنها لم تنجح في ذلك.
من الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية إلي التوقيع أن امتناعها من شأنه أن يسيء إليها من الناحية الأخلاقية. اذ بدا معيبا ومشينا أن تدافع واشنطن عن محاكمة مجرمي الحرب الصرب او الروانديين, وتطنطن في كل مكان ومناسبة بالدفاع عن حقوق الإنسان, ثم تمتنع عن التوقيع علي معاهدة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب حيثما وجدوا.
من تلك الأسباب كذلك أن عدم التوقيع الأمريكي ــ إضافة إلي ما قد يسببه من حرج ــ لن يوقف من إنشاء المحكمة, التي لها أن تعمل دون الموافقة الأمريكية, ثم إن التوقيع سيمكن الولايات المتحدة من الانضمام إلي مجموعة الدول الأطراف, ومن ثم العمل من داخل المشهد في تحديد الجرائم التي ستعرض علي المحكمة والإجراءات المراد اتباعها, وانتخاب القضاة والمدعي العام. ومن شأن ذلك أن يمكن الولايات المتحدة من أن تكون فاعلة في داخل الكيان الجديد, علي النحو الذي قد يمكنها من الدفاع عن مصالحها.
(4)
حدث ذلك كله في عهد الرئيس كلينتون, ولكن الأمر اختلف تماما في ظل الإدارة الجديدة التي يقودها الرئيس الحالي جورج بوش, وبعد ماجري في11 سبتمبر. فالجمهوريون من أعضاء الكونجرس الذين عارضوا الاتفاقية من الأساس اصبحوا أصحاب اليد الطولي في الإدارة الجديدة. ثم إن وزارة الدفاع التي كانت بدورها من المعارضين, ارتفعت أسهمها أكثر من اللازم في الوضع الراهن, واصبح الوزير ونائبه المحسوبان علي الصقور, من واضعي السياسة الخارجية الأمريكية.
فضلا عن هذا وذاك فان الحرب التي تدعي الولايات المتحدة خوضها ضد الإرهاب الدولي ورطتها في ممارسات يمكن أن تدخل ضمن جرائم الحرب. وإذا كان الجدل في التسعينيات أثير حول احتمالات محاسبة الأمريكيين علي قصف مصنع الشفاء في السودان, فان ذلك لايقارن بما فعله الأمريكيون في أفغانستان مثلا. وإذا كانت المخاوف الناشئة عن قصف مصنع الشفاء قد أسهمت في تأجيل توقيع الولايات المتحدة علي المعاهدة لمدة سنتين مثلا, فان مايسمي بالحرب ضد الارهاب تشكل مبررا كافيا من وجهة النظر الأمريكية لمضاعفة المخاوف ومن ثم الامتناع عن التصديق علي المعاهدة, والانسحاب منها نهائيا. صحيح أن المحكمة يفترض أن تنظر في الجرائم التي وقعت بعد إنشائها, ولكن لاتنسي أن الحملة الأمريكية ضد الإرهاب مستمرة إلي اجل غير معلوم, ولا أحد يعرف لها حدودا في المكان أو الزمان او التكاليف.
هناك عنصر آخر في المسألة, وهو أنه اذا كانت الولايات المتحدة قد قامت بدور الضامن والكفيل لإسرائيل, الذي يؤمن لها ظهرها وهي تمارس مختلف جرائمها في الأرض المحتلة, فهذه الحماية لن تتوافر طول الوقت لإسرائيل امام المحكمة في الأغلب. ولان نفوذ اسرائيل لدي الإدارة الأمريكية الآن كما تعلم, ولان قادة اسرائيل هم أول المرشحين للمثول امام المحكمة للأسباب التي لايمكن أن تخفي علي صاحب أي ضمير في العالم, فلا غرابة في أن تنسحب الولايات المتحدة بالكلية من المعاهدة, لكي تضعف المحكمة بعد إنشائها, وفي ذلك مصلحة لإسرائيل لاريب.
من المفارقات اللافتة للنظر في هذا السياق أن الرئيس كلينتون حين قررت إدارته التوقيع علي المعاهدة أشار إلي أن ذلك تم التزاما بالريادة الأخلاقية التي تمثلها الولايات المتحدة في العالم. أما في عهد الرئيس بوش فان حكومته بعد أن قررت الانسحاب من المعاهدة, ارتفعت أصوات في الكونجرس تطالب بتوقيع عقوبات علي الدول التي صدقت عليها, وحرمانها من المساعدات الامريكية.
(5)
حين أثير موضوع المحكمة استقبل الأمر عربيا بحماس نسبي, ووقعت13 دولة علي الاتفاقية, وكان لأحد كبار أساتذة القانون الدولي الأمريكيين من ذوي الأصل المصري ــ الدكتور شريف بسيوني, دور بارز في إعداد مشروع الاتفاقية. وقد نجح بالتعاون مع بعض الخبراء العرب الآخرين في إضافة نص يقضي بتجريم الافعال المؤدية إلي طرد السكان الأصليين من أرضهم, وتوطين غيرهم بالقوة, واعتبار تلك الافعال من جرائم الحرب, الأمر الذي من شأنه أن يعتبر إقامة المستعمرات جريمة حرب. غير أن ذلك الحماس لم يستمر, إذ بعد التوقيع لم تصدق علي الاتفاقية سوي دولة عربية واحدة هي الأردن!
أساتذة القانون الدولي ــ المصريون علي الأقل ــ عبروا عن دهشتهم إزاء التراخي في عملية التصديق, وعلي حد تعبير أحد شيوخهم ــ الدكتور فؤاد رياض الذي كان أحد قضاة محكمة جرائم الحرب اليوجوسلافية ــ فانه ليس لدي العرب مايخشونه من التوقيع, اذ لم يحدث في تاريخهم أن قاموا بجرائم إبادة من ذلك القبيل الذي يقوم به الإسرائيليون مثلا. وليس في المعاهدة مايتعارض مع نصوص أي دستور عربي, أو مع القضاء الوطني لأي بلد. غاية ما هناك أن الدول العربية مطالبة بإجراء بعض التعديلات التشريعية في قوانينها الجنائية, بحيث تضيف مواد تعرف الجرائم الدولية وتنص عليها, وتقرر العقوبات اللازمة لها, في ضوء النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
إن امام العرب فرصة نادرة للامساك بتلابيب الذين ظلموهم واغتصبوا حقوقهم, وتقديمهم إلي ساحة القضاء لكي يلقوا ما يستحقونه من عقاب. وهذه الفرصة تتوافر علي نحو أفضل في حالة ما اذا صدقت بعض الدول العربية علي الاتفاقية, التي اكتمل نصاب سريان مفعولها( مطلوب توقيع60 دولة وحتي الآن جمعت توقيعات66 دولة). ومن المقرر أن ينتهي اجل التوقيع وتبدأ إجراءات تشكيل المحكمة في أول شهر يوليو المقبل.
إن مصر إحدي الدول التي وقعت علي الاتفاقية, التي أشاد بها خبراؤها, ومنهم الدكتور فتحي سرور الذي نشر له الأهرام مقالين في9 و10 يناير الماضي, اعتبر فيهما الاتفاقية حدثا تاريخيا مهما, وبصيص أمل للإنسانية. صحيح انه كتب المقالين باعتباره أستاذا للقانون ورئيسا للجمعية المصرية للقانون الجنائي, لكننا ننتظر منه وهو رئيس مجلس الشعب أن يقود الدعوة إلي التصديق عليها قبل فوات الأوان, حتي يقترن القول بالعمل.. وحتي لانضيع بأنفسنا فرصة محاسبة الظلمة والمفترين ومجرمي الحرب.
لنا أن نرتاب ونثير العديد من علامات الاستفهام والتعجب إزاء قرار واشنطن الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. كما أننا لا نستطيع أن نخفي شعورا بالدهشة والحيرة إزاء تقاعس الدول العربية عن التصديق علي معاهدة إنشاء تلك المحكمة, وهي التي تعد فرصة غير مسبوقة ــ ولا ملحوقة في الأغلب ــ تمكن العرب من ملاحقة الظلمة والمفترين, وغيرهم من مجرمي الحرب الذين لم يرعوا فيهم إلا ولاذمة.
(1)
هي غير مسبوقة لان الساحة الدولية لم تعرف محكمة جنائية دائمة تحاسب الطواغيت والجبابرة الذين يرتكبون جرائمهم ضد البشر مطمئنين إلي انهم فوق الحساب وفوق القانون. نعم هناك محكمة العدل الدولية في لاهاي, ولكن هذه مختصة بنزاعات الدول وليس الأفراد. صحيح أيضا أنه في نورمبرج شكلت بعد الحرب العالمية الثانية محكمة جنائية لمحاسبة الزعماء النازيين علي جرائمهم, وفي عام93 شكل مجلس الأمن محكمتين, إحداهما لمحاكمة مجرمي الحرب في الصراع الذي شهدته يوجوسلافيا السابقة بين الصرب والكروات من جانب والمسلمين البوسنيين من جانب آخر, والثانية لمحاكمة المسئولين عن مذابح رواندا التي راح ضحيتها نحو نصف مليون أفريقي. لكن المحاكم الثلاث كانت مؤقتة, وقد شكلت لمحاكمة أناس بذواتهم في قضايا معينة, ولم تكن دائمة, ولا كانت مخولة بمحاكمة أي مجرم حرب أو طاغوت في أي بلد غير الذي اختصت به.
ثم لاحظ أن المحكمتين المذكورتين شكلتا بقرار من مجلس الأمن, وما ادراك ماهو: اعني أن تمرير قرار من ذلك القبيل من المجلس يحتاج إلي وقت طويل ومساومات كثيرة. ثم إن سيف الفيتو يظل مسلطا عليه, الأمر الذي يعني أن أيا من الدول الكبري أعضاء المجلس بوسعها أن تجهضه اذا وجدت انه لايلقي من جانبها هوي او يمس لها مصلحة, ومن ثم استخدمت حقها في الاعتراض عليه. وقد تعثر قرار إنشاء محكمة مجرمي الحرب اليوجوسلافية لان بعض الدول الأوروبية كانت ضده, فرنسا وإنجلترا بوجه أخص, ولم يمر إلا بعد ضغوط أمريكية قوية, وبعد أن تمت المساومات وراء الكواليس أضعفت صلاحيات المحكمة وأدت إلي التراخي في إجراءات القبض علي المتهمين, وقيدت حركة القوات الدولية ودورها في ملاحقتهم. وجود محكمة جنائية دائمة تختص بالنظر في مختلف الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية يوفر تلك المعاناة, ويبعد المحكمة عن ساحة مناورات وألاعيب الدول الكبري, الأمر الذي يشكل ضمانة مهمة للغاية لحسن سير العدالة الدولية. وأزعم في هذا الصدد أن إنشاء تلك المحكمة يعد خطوة تاريخية فارقة بين مرحلة نحن ضحاياها, ساد فيها قانون الغاب الذي يفرض في ظله الأقوي إرادته, وبين
طور نتطلع إليه, يحتكم فيه إلي القانون الجنائي الدولي, ويفترض أن تسود فيه قيم العدل دون معادلات القوة. وهو مايعني انه اذا كان الوضع الراهن هو في مصلحة المستكبرين بامتياز, فان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يشكل فرصة لكل المظلومين والمستضعفين, يتعين أن يقبضوا عليها ويتشبثوا بها, بأيديهم وأسنانهم.
(2)
إذا سألتني لماذا هي غير ملحوقة في الأغلب, فردي علي ذلك أن الأجواء التي ولدت فيها المحكمة كانت لها خصوصيات, يبدو أنها لن تتكرر في الأجل القريب علي الأقل. إذ كان الظن بعد الحرب العالمية الثانية أن المأساة التي دمرت أوروبا لن تتكرر, وانه لن يسمح لها بذلك. لكن تبين انه بعد عام1945 استمرت الحروب والصراعات والمجازر التي استهدفت المدنيين العزل, مما أدي إلي قتل نحو170 مليون شخص في أنحاء العالم, ولم يحاسب أحد علي ذلك. ليس ذلك فحسب, وإنما فوجئت أوروبا بالأهوال والفظائع تطرق أبوابها من أخري, حين وقع العدوان الصربي الكرواتي علي مسلمي البوسنة, في منطقة البلقان, التي انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الأولي. وهو التي كان الظن أن صفحتها طويت إلي الأبد, الأمر الذي أدي إلي إحياء فكرة راودت البعض منذ محاكمة النازيين في نورمبرج, دعت إلي ضرورة إنشاء محكمة دائمة لمحاسبة المسئولين عن الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية.
أجواء الصدمة التي عاشتها أوروبا بعد انفضاح أمر فظائع العدوان الصربي الكرواتي, عمقتها أخبار المجازر الوحشية وعمليات الإبادة التي حدثت في رواندا, مما اسهم في تحريك فكرة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. ولانستطيع أن نتجاهل أن ذلك حدث عقب السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي, الذي استصحب الترويج لبعض القيم في المجتمعات الإنسانية والعلاقات الدولية, مثل الديمقراطية والتعددية والعدل وحقوق الإنسان.. الخ. ولعلي لا أبالغ اذا قلت إن هذه الرايات التي رفعت في بداية التسعينيات. كانت عنصرا مساعدا علي تحريك الفكرة والإسراع بميلادها داخل أروقة الأمم المتحدة. فعقدت لذلك الغرض عدة اجتماعات تحضيرية في نيويورك, تم خلالها الاتفاق علي عقد مؤتمر دبلوماسي في روما لدراسة معاهدة إنشاء المحكمة وإعداد ميثاقها, فالتقي لأجل ذلك بالعاصمة الإيطالية في صيف عام98 ممثلو160 دولة عضو بالأمم المتحدة, وأمضوا هناك خمسة أسابيع تمت خلالها ولادة المعاهدة التي أعلنت في إطار ما سمي بميثاق روما.
(3)
إذا لاحظت أن إخراج الفكرة إلي النور استغرق خمس سنوات, من بدء تحريكها في93 إلي إصدار ميثاق روما في98, فستدرك أن الأمر لم يكن سهلا, وان الولادة كانت عسرة. ذلك انه اذا كانت محكمة جرائم الحرب اليوجوسلافية قد صدرت برغبة أمريكية, وبرغم المقاومة الأوروبية, فان العكس تماما حدث في محكمة جرائم الحرب الدولية, حيث كانت الرغبة أوروبية بينما المقاومة أمريكية.
صحيح أن الرئيس كلينتون اصدر موافقة مبدئية علي فكرة تأسيس المحكمة في عام96, في أثناء مشاورات التحضير لها( هيرالد تريبيون96/11/4), وان هناك أصواتا أمريكية عدة أيدتها وتحمست لها كثيرا, وكان الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مقدمة هؤلاء,( كتب مقالا بهذا المعني نشرته صحيفة لوس انجلوس تايمز ونقلته الشرق الأوسط في96/12/12), إلا أن هناك أطرافا لايستهان بها عارضتها وقاومتها بشدة منذ اللحظة الاولي. وكان النواب الجمهوريون في الكونجرس ومسئولو وزارة الدفاع( البنتاجون) ابرز أولئك المعارضين. وهو ما أدي إلي إحجام الولايات المتحدة عن التوقيع علي معاهدة إنشاء المحكمة, وإرجاء ذلك التوقيع إلي اليوم الأخير(2000/12/31) ـــ
من المفارقات الطريفة في هذا الصدد أن الولايات المتحدة حين امتنعت عن التوقيع( ومعها اسرائيل بطبيعة الحال) فانها وجدت نفسها واقفة في مربع يضم مجموعة من الدول الأخري التي تصنفها واشنطن باعتبارها معادية أو مارقة مثل: العراق ــ إيران ــ السودان ـــ ليبيا ـــ الصين!
المصدر الرئيسي للقلق الأمريكي في المحكمة يتمثل في أن واشنطن لاتستطيع التحكم في قراراتها اذا ما أرادت أن تدين أي طرف, من حيث إن نظامها يجردها من سلاح الفيتو الذي تستخدمه تبعا لهواها. ولان سجل الأمريكيين في القمع حافل بالوقائع التي يمكن أن ترشح بعض المسئولين وكبار الضباط للمثول أمام المحكمة, فقد كان ذلك مبررا كافيا لحث الادارة الأمريكية علي الامتناع عن التوقيع. وقد قيل آنذاك إن الأمريكيين يمكن أن يقدموا للمحاكمة بسبب قصفهم لمصنع الشفاء للأدوية في السودان بناء علي معلومات خاطئة. وهو مايرفضه الاستعلاء والاستكبار الأمريكيان.
في هذا الصدد قال لي أحد القضاة العرب في محكمة العدل الدولية في لاهاي إنه سمع من بعض الدبلوماسيين الأمريكيين قولهم انهم لايثقون إلا في القضاء الأمريكي, وانهم كدولة عظمي لا يتصورون أن يحاكموا أمام قضاة بعضهم من دول العالم الثالث, آسيويين كانوا أم أفارقة.
حين تم التوقيع الأمريكي في اليوم الآخير, كانت هناك أسباب عدة, منها مثلا ماتردد من انه تمت الموافقة علي أن يعطي مجلس الأمن دورا في قبول القضايا أمام المحكمة, الأمر الذي يمكن الولايات المتحدة ــ عن طريق الفيتو ــ من تأجيل نظر بعض القضايا التي تريد استبعادها, علي الأقل في السنوات الأولي لعمل المحكمة.
وتردد أن واشنطن طلبت ضمانات تقضي بألا يتهم مسئول أمريكي بالإبادة الجماعية او بارتكاب جرائم ضد الإنسانية, ولكنها لم تنجح في ذلك.
من الأسباب التي دفعت الإدارة الأمريكية إلي التوقيع أن امتناعها من شأنه أن يسيء إليها من الناحية الأخلاقية. اذ بدا معيبا ومشينا أن تدافع واشنطن عن محاكمة مجرمي الحرب الصرب او الروانديين, وتطنطن في كل مكان ومناسبة بالدفاع عن حقوق الإنسان, ثم تمتنع عن التوقيع علي معاهدة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب حيثما وجدوا.
من تلك الأسباب كذلك أن عدم التوقيع الأمريكي ــ إضافة إلي ما قد يسببه من حرج ــ لن يوقف من إنشاء المحكمة, التي لها أن تعمل دون الموافقة الأمريكية, ثم إن التوقيع سيمكن الولايات المتحدة من الانضمام إلي مجموعة الدول الأطراف, ومن ثم العمل من داخل المشهد في تحديد الجرائم التي ستعرض علي المحكمة والإجراءات المراد اتباعها, وانتخاب القضاة والمدعي العام. ومن شأن ذلك أن يمكن الولايات المتحدة من أن تكون فاعلة في داخل الكيان الجديد, علي النحو الذي قد يمكنها من الدفاع عن مصالحها.
(4)
حدث ذلك كله في عهد الرئيس كلينتون, ولكن الأمر اختلف تماما في ظل الإدارة الجديدة التي يقودها الرئيس الحالي جورج بوش, وبعد ماجري في11 سبتمبر. فالجمهوريون من أعضاء الكونجرس الذين عارضوا الاتفاقية من الأساس اصبحوا أصحاب اليد الطولي في الإدارة الجديدة. ثم إن وزارة الدفاع التي كانت بدورها من المعارضين, ارتفعت أسهمها أكثر من اللازم في الوضع الراهن, واصبح الوزير ونائبه المحسوبان علي الصقور, من واضعي السياسة الخارجية الأمريكية.
فضلا عن هذا وذاك فان الحرب التي تدعي الولايات المتحدة خوضها ضد الإرهاب الدولي ورطتها في ممارسات يمكن أن تدخل ضمن جرائم الحرب. وإذا كان الجدل في التسعينيات أثير حول احتمالات محاسبة الأمريكيين علي قصف مصنع الشفاء في السودان, فان ذلك لايقارن بما فعله الأمريكيون في أفغانستان مثلا. وإذا كانت المخاوف الناشئة عن قصف مصنع الشفاء قد أسهمت في تأجيل توقيع الولايات المتحدة علي المعاهدة لمدة سنتين مثلا, فان مايسمي بالحرب ضد الارهاب تشكل مبررا كافيا من وجهة النظر الأمريكية لمضاعفة المخاوف ومن ثم الامتناع عن التصديق علي المعاهدة, والانسحاب منها نهائيا. صحيح أن المحكمة يفترض أن تنظر في الجرائم التي وقعت بعد إنشائها, ولكن لاتنسي أن الحملة الأمريكية ضد الإرهاب مستمرة إلي اجل غير معلوم, ولا أحد يعرف لها حدودا في المكان أو الزمان او التكاليف.
هناك عنصر آخر في المسألة, وهو أنه اذا كانت الولايات المتحدة قد قامت بدور الضامن والكفيل لإسرائيل, الذي يؤمن لها ظهرها وهي تمارس مختلف جرائمها في الأرض المحتلة, فهذه الحماية لن تتوافر طول الوقت لإسرائيل امام المحكمة في الأغلب. ولان نفوذ اسرائيل لدي الإدارة الأمريكية الآن كما تعلم, ولان قادة اسرائيل هم أول المرشحين للمثول امام المحكمة للأسباب التي لايمكن أن تخفي علي صاحب أي ضمير في العالم, فلا غرابة في أن تنسحب الولايات المتحدة بالكلية من المعاهدة, لكي تضعف المحكمة بعد إنشائها, وفي ذلك مصلحة لإسرائيل لاريب.
من المفارقات اللافتة للنظر في هذا السياق أن الرئيس كلينتون حين قررت إدارته التوقيع علي المعاهدة أشار إلي أن ذلك تم التزاما بالريادة الأخلاقية التي تمثلها الولايات المتحدة في العالم. أما في عهد الرئيس بوش فان حكومته بعد أن قررت الانسحاب من المعاهدة, ارتفعت أصوات في الكونجرس تطالب بتوقيع عقوبات علي الدول التي صدقت عليها, وحرمانها من المساعدات الامريكية.
(5)
حين أثير موضوع المحكمة استقبل الأمر عربيا بحماس نسبي, ووقعت13 دولة علي الاتفاقية, وكان لأحد كبار أساتذة القانون الدولي الأمريكيين من ذوي الأصل المصري ــ الدكتور شريف بسيوني, دور بارز في إعداد مشروع الاتفاقية. وقد نجح بالتعاون مع بعض الخبراء العرب الآخرين في إضافة نص يقضي بتجريم الافعال المؤدية إلي طرد السكان الأصليين من أرضهم, وتوطين غيرهم بالقوة, واعتبار تلك الافعال من جرائم الحرب, الأمر الذي من شأنه أن يعتبر إقامة المستعمرات جريمة حرب. غير أن ذلك الحماس لم يستمر, إذ بعد التوقيع لم تصدق علي الاتفاقية سوي دولة عربية واحدة هي الأردن!
أساتذة القانون الدولي ــ المصريون علي الأقل ــ عبروا عن دهشتهم إزاء التراخي في عملية التصديق, وعلي حد تعبير أحد شيوخهم ــ الدكتور فؤاد رياض الذي كان أحد قضاة محكمة جرائم الحرب اليوجوسلافية ــ فانه ليس لدي العرب مايخشونه من التوقيع, اذ لم يحدث في تاريخهم أن قاموا بجرائم إبادة من ذلك القبيل الذي يقوم به الإسرائيليون مثلا. وليس في المعاهدة مايتعارض مع نصوص أي دستور عربي, أو مع القضاء الوطني لأي بلد. غاية ما هناك أن الدول العربية مطالبة بإجراء بعض التعديلات التشريعية في قوانينها الجنائية, بحيث تضيف مواد تعرف الجرائم الدولية وتنص عليها, وتقرر العقوبات اللازمة لها, في ضوء النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
إن امام العرب فرصة نادرة للامساك بتلابيب الذين ظلموهم واغتصبوا حقوقهم, وتقديمهم إلي ساحة القضاء لكي يلقوا ما يستحقونه من عقاب. وهذه الفرصة تتوافر علي نحو أفضل في حالة ما اذا صدقت بعض الدول العربية علي الاتفاقية, التي اكتمل نصاب سريان مفعولها( مطلوب توقيع60 دولة وحتي الآن جمعت توقيعات66 دولة). ومن المقرر أن ينتهي اجل التوقيع وتبدأ إجراءات تشكيل المحكمة في أول شهر يوليو المقبل.
إن مصر إحدي الدول التي وقعت علي الاتفاقية, التي أشاد بها خبراؤها, ومنهم الدكتور فتحي سرور الذي نشر له الأهرام مقالين في9 و10 يناير الماضي, اعتبر فيهما الاتفاقية حدثا تاريخيا مهما, وبصيص أمل للإنسانية. صحيح انه كتب المقالين باعتباره أستاذا للقانون ورئيسا للجمعية المصرية للقانون الجنائي, لكننا ننتظر منه وهو رئيس مجلس الشعب أن يقود الدعوة إلي التصديق عليها قبل فوات الأوان, حتي يقترن القول بالعمل.. وحتي لانضيع بأنفسنا فرصة محاسبة الظلمة والمفترين ومجرمي الحرب.