هويدي 16-4-2002
الآن ندرك أن العمليات الاستشهادية هي الشيء الوحيد الذي أوجع الحكومة الإسرائيلية وحلفاءها, وأوصل إلي الجميع رسالة الغضب الفلسطيني باللغة التي يفهمونها. وهو ما يفسر لنا إلحاحهم علي وصف أبطال تلك العمليات الجسورة بالانتحاريين حينا, وبالإرهابيين في أحيان أخري كثيرة, وذلك الإلحاح ليس له إلا معني واحد هو: إنهم يريدون أن يجردوا العرب والمسلمين من السلاح الوحيد الذي تبقي لهم, للدفاع عن شرف أمتهم وكرامتها, لكي ينفتح الطريق لكسر إرادتهم وتركيعهم.
(1)
زارني قبل أيام أحد كبار محرر صحيفة ريبوبليكا الإيطالية, حيث حدثني عن تعاطف الإيطاليين مع محنة ونضال الشعب الفلسطيني. وقال: إن هناك شيئا واحدا يحول دون اتساع نطاق ذلك التعاطف, هو العمليات الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون بين الحين والآخر, وتؤدي إلي قتل أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء. وأضاف أن الشعب الإيطالي يحيره إقدام الشباب الفلسطيني علي تلغيم أنفسهم وتفجيرها وسط الإسرائيليين, وكثيرون عاجزون عن فهم حفاوة العالم العربي بمثل هذه العمليات, واعتبار هؤلاء الفتيان والفتيات شهداء, ثم قال بلهجة الصديق الناصح: إذا كنتم غير راغبين لأسباب مفهومة في إطلاق وصف الإرهابيين عليهم, فلماذا تعتبرونهم شهداء, في حين أن مصطلح الانتحاريين قد يكون محايدا, وهو ما يساعدكم علي كسب قطاعات أوسع في العالم الغربي.
مثل هذه التساؤلات والملاحظات حول العمليات الاستشهادية سمعتها من بعض الصحفيين اليابانيين, الذين جاءوا إلي القاهرة وذهبوا إلي بيروت لمحاولة فهم الظاهرة, ومقارنتها بما فعله الطيارون اليابانيون في أثناء الحرب العالمية الثانية, الذين فجروا أنفسهم بطائراتهم في سفن الأسطول الأمريكي, فيما عرف بعمليات كاميكاز.
وإذا كانت تلك تساؤلات أو ملاحظات بعض الصحفيين المتعاطفين أو المحايدين, فلك أن تتصور سيل المآخذ والتحفظات التي يثيرها الصحفيون الأمريكيون وأقرانهم في بعض العواصم الأخري, وكلها ترفض وتدين ذلك النوع من العمليات الفدائية, التي وصفها الأمريكي توماس فريدمان بأنها من قبيل الغباء والحماقة!( نيويورك تايمز ـ3/31).
من أسف أن بعض الكتاب العرب المتغربين وقعوا في المحظور, وانساقوا وراء الحملة التي يشنها الصحفيون الغربيون الموالون لإسرائيل, فوجهوا بدورهم سهام نقدهم للعمليات الاستشهادية, وقرأنا لأحدهم أخيرا مقالا تحت عنوان يحيا الموت مذهبا رسميا وشعبيا وملزما بالسكوت والإذعان( الحياة اللندنية4/10).
من مجمل ما سمعت وجدت أن الأمر تشوبه التباسات عديدة, بعضها يتعلق بنظرة المسلمين إلي الحياة الإنسانية, وزعم البعض أن الثقافة الإسلامية تستهين بتلك الحياة وتستسهل إهدارها. هناك أيضا التباس في فهم فكرة الشهادة موقعها في الخطاب الثقافي الإسلامي, والتباس ثالث يتعلق بالملابسات التي دفعت الفلسطينيين للجوء إلي مثل تلك العمليات.
لكي نستجلي هذه الأمور ونرفع الالتباس, فإننا سنجد أنفسنا مدفوعين إلي القيام بسياحة لا مفر منها في بعض عوالم الفكر وآفاق التاريخ القريب.
(2)
في نفسي شيء تجاه الناقدين للعمليات الاستشهادية لا أستطيع أن أكتمه, فضلا عن أني أحسب أن البوح به ضروري قبل الشروع في السياحة التي نحن بصددها, لأن عملية الاستجلاء موجهة بالدرجة الأولي إلي الذين التبست عليهم الأمور ويريدون أن يفهموا الظاهرة علي نحو صحيح, وهؤلاء قلة بين الخائضين في الموضوع. أما الكثرة الكاثرة من عناصر النخبة الناقدين والمنددين بالعمليات الاستشهادية فهم ممن عميت قلوبهم وفسدت ضمائرهم, وعرفوا الحق لكنهم أعرضوا عنه نفاقا واتباعا للهوي, الذي لا يكن سوي البغض للعرب والمسلمين بعامة.
إذ لابد أن يمتلئ المرء سخطا وغضبا حين يجد أولئك المنددين بالعمليات الاستشهادية يتجاهلون حقيقة الاحتلال الذي هو أس الداء ومصدر البلاء, فيسكتون عامدين عن السبب ولا يستحضرون سوي النتيجة, ومن ثم يصبون لومهم علي الضحية دون الجلاد, ثم يغضون الطرف عن كل الجرائم البشعة التي يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين, التي تمثل الإبادة والترويع عنوانا رئيسيا لها, ولا ترق قلوبهم إلا حين يرون قطرات الدم الإسرائيلي, بينما شلال الدم الفلسطيني لا يعني لديهم شيئا, ويزعجهم أن يفجر شاب أو فتاة نفسه في متجر أو حافلة انتقاما من الذين سرقوا حلمه وأذلوه, في حين لا تستوقفهم أسراب طائرات الأباتشي وإف16 وهي تهدم البيوت وتحصد أجيال الفلسطينيين.
يتضاعف السخط والغضب, ويتجلي النفاق الدولي حين يجد أن الدنيا قامت ولم تقعد حين هدمت جماعة طالبان تمثالي بوذا في باميان, وأصدرت منظمة اليونسكو بيانا أعلنت فيه أن تلك جريمة ضد الإنسانية, ودعت المجتمع الدولي للتدخل لوقفها, وتوالت عمليات الإدانة والتشهير بالخطوة الغبية التي اتخذتها الحكومة الأفغانية, حتي تمت تعبئة العالم ضد نظام كابول, لكن الجميع التزم الصمت وأصموا آذانهم وأغمضوا أعينهم حين أحرقت أجزاء من كنيسة المهد في بيت لحم ودمر العديد من المساجد, وحين هدمت ومحيت أحياء ومنعت سيارات الإسعاف من حمل الجرحي الذين تركوا ينزفون حتي فاضت أرواحهم في كل مدينة اجتاحتها القوات الإسرائيلية, وحين جاءت الجرافات الإسرائيلية وحملت جثث الفلسطينيين ثم ألقت بها في المجاري, وحين قطعت المياه والتيار الكهربائي والغاز عن عشرات الآلاف من الفلسطينيين.. إلخ.
كل هذه الجرائم وقعت علي مرأي ومسمع من الجميع, ورأي العالم صورها حية علي شاشات التليفزيون, لكن الجميع ـ خصوصا في واشنطن ـ مرروها واعتبروها دفاعا إسرائيليا مشروعا عن النفس, وظلوا علي اتهامهم للفلسطينيين الإرهابيين بأنهم مسئولون عما جري!! لقد ضنوا بكلمة إدانة واحدة علي جرائم جيش إسرائيل التي ترتكب علي مدار الساعة بحق الفلسطينيين, بينما يملأون الدنيا صياحا واحتجاجا إذا ما قام فلسطيني واحد بعملية فدائية هنا وهناك.
لقد هرول بعض أعضاء الكونجرس إلي مصر, وجاءت وفود من منظمات حقوق الإنسان, وأصدرت الولايات المتحدة قانونا للحريات الدينية, حين اعتدي أحد الحمقي علي كنيسة في صعيد مصر, وتوقفت مباحثات إعادة العلاقات بين الخرطوم وواشنطن, وسارع وفد من العسكريين الأمريكيين إلي زيارة السودان لتحري الموقف حين قتل17 مدنيا جنوبيا إثر غارة جوية علي ولاية الوحدة, لكن المذابح التي راح ضحيتها مئات لا يكاد يحصي عددها من الفلسطينيين منذ بداية حملة الاجتياح الإسرائيلية, وعمليات القصف والتدمير والإعدام, ذلك كله لم يحرك شيئا لدي تلك الجهات التي ما برحت تعبر عن الغيرة والاحتجاج والاستنفار كلما حدث مساس ولو علي سبيل الخطأ بحقوق الإنسان في العالم العربي. أما حين تعلق الأمر بإسرائيل, فإن الموقف اختلف تماما, وأصبحت كل جرائمها ضد الإنسانية مبررة ومفهومة ومغفورة!
ألا يضيف ذلك التجاهل أو الانسداد سببا إضافيا يبرر الرد بالعمليات الاستشهادية علي التواطؤ والنفاق الدوليين؟
(3)
إذا عدنا إلي سياحتنا المرجوة, وتابعنا مواضع الالتباس التي تحدثنا عنها, فلعلي أبدأ بتأكيد أن أحدا لا يستطيع أن يزايد علي الثقافة الإسلامية في احترام الحياة الإنسانية, والإعلاء من شأن الإنسان الذي قلت مرارا إنه في الخطاب الإسلامي مخلوق الله المختار الذي نفخ فيه من روحه, وسجدت له الملائكة, وسخرت كل موجودات الأرض لخدمته وإسعاده في الدنيا والآخرة, بعدما استخلف في الأرض لعمارة الكون وإشاعة الخير في الدنيا.
إن كل مكونات الكون كائنات من خلق الله, وهي تسبح بحمده طبقا لنص القرآن, ومن ثم فلها حق الكرامة والصيانة, وفي القرآن أيضا أن الحيوانات والطيور أمم أمثالكم, وفي الأحاديث أن قتل الحيوان بغير مبرر أو مصلحة إثم يعاقب عليه المرء يوم القيامة, فما بالك بقتل الإنسان؟
إن الانتحار يجرح إيمان المرء لأنه تعبير عن الضلال واليأس من رحمة الله وقدرته, في الوقت نفسه فإن من قتل نفسا ظلما وبغير حق فكأنما قتل الناس جميعا وفقا للتعبير القرآني, كيف والأمر كذلك أن يقال بأن المسلمين يستهينون بالحياة ولا يترددون في إهدارها؟
ولكي تستمر الحياة, فالنداء موجه إلي كل مؤمن أن: إذا قامت الساعة وفي يد أحد منكم فسيلة( نبتة صغيرة) فليغرسها, فإن استطاع ألا تقوم الساعة حتي يغرسها فليغرسها, وهو حديث نبوي يدعو بني الإنسان إلي أن يتشبثوا بإعمار الدنيا وإحيائها حتي آخر لحظة في عمر الأرض, حتي وإن لاحت إرهاصات الفزع الأكبر!
(4)
ما تدافع عنه الثقافة الإسلامية ليست أي حياة, وإنما هي الحياة التي يسود فيها الحق والعدل والحرية, ويستشعر الناس فيها العزة والكرامة, وذلك هو سبيل الله في المفهوم القرآني, حيث كل دفاع عن تلك القيم هو دفاع عن حقوق الله وإعلاء لكلمته. وكما أن علي المسلم أن يتشبث بإعمار الأرض حتي آخر لحظة, فإنه مأمور بأن يدافع عن حقه في الحياة الكريمة حتي آخر رمق, وهو ما فهمه الخليفة الثاني أبو بكر الصديق حين قال لقائد جيش المسلمين خالد بن الوليد وعبر عنه بقوله: احرص علي الموت توهب لك الحياة ذلك أن الذين يضحون بأرواحهم وهم يدافعون عن حقوقهم, لا يفعلون ذلك حبا في الموت, وإنما يفدون بأرواحهم وأجسامهم حلمهم في أن تعيش أمتهم حياة كريمة, وهي الحياة الحقيقية لبني الإنسان.
لأجل ذلك شرع الجهاد في صورته القتالية, واعتبر كل من يموت دفاعا عن الحق والعدل والكرامة شهيدا ومجاهدا في سبيل الله, وتعددت صور الترغيب في الشهادة, باعتبارها أسمي درجات البذل والعطاء, حيث وعد برضوان الله وجنته, حتي قالت الأحاديث النبوية إن الشهيد وحده دون كل أهل الجنة, هو الذي يتمني أن يرجع إلي الدنيا لكي يقتل فيها عشر مرات, لما يري من الكرامة, وقالت الأحاديث إنه يشفع في سبعين من أهله.
في لسان العرب أن الشهيد هو المحتضر, الذي تحضر الملائكة له, ويشهد عند انتقاله إلي ربه ما أعد له من نعيم, وتشهد روحه عند ربه بما قدمه في سبيل الله, وفي المعاجم الأخري أنه سمي شهيدا لقيامه بشهادة الحق في أمر الله, ولأنه يكون في الآخرة شهيدا علي الناس بأعمالهم, ولأنه يشهد الجنة.
في الموسوعة الفقهية أن المقتول في سبيل الله أطلق عليه وصف الشهيد الذي هو من أسماء الله, تمجيدا له وتعظيما, وأن الشهداء ثلاثة: شهيد دنيا وآخرة, وهو الذي يقاتل في سبيل الله, وشهيد دنيا, وهو من شاب عمله شيء من الأغراض الدنيوية, من منافسة أو عصبية أو غير ذلك, وشهيد آخرة, وهو من قتل مظلوما دون أن يقاتل, مثل الذين هدمت عليهم بيوتهم.
وعند فقهائنا المعاصرين, في مقدمتهم الشيخ يوسف القرضاوي, فإن من يفجر نفسه في العدو يحتل مكانة سامقة بين الشهداء, لأن المقاتل العادي حتي وإن حرص علي الشهادة, ربما راوده الأمل في أن يعود إلي أهله سالما, أما الذي يفجر نفسه فهو ذاهب إلي ربه منذ لحظة خروجه من بيته, ومدرك أنه ذاهب بغير رجعة, لذلك استحق أن يحتل مقاما أعلي وأكبر.
(5)
من الناحية التاريخية ينسي كثيرون أن النضال الفلسطيني منذ الثلاثينيات جرب كل صور المقاومة, وأن العمليات الاستشهادية تمثل حلقة متأخرة في مسيرة النضال, وقد لجأوا إليها باعتبارها ضرورة فرضتها ظروف مواجهة الاحتلال.
أذكر في هذا الصدد بأن انتفاضة عام87 لم تطلق فيها رصاصة من الجانب الفلسطيني, وإنما عرفت بانتفاضة الحجارة, التي رد عليها إسحاق رابين بتكسير عظام الشباب الفلسطينيين. غير أن المقاومة الفلسطينية لجأت إلي استخدام السلاح في غزة عام91, بعد أن نجحت الأجهزة الصهيونية في احتواء واستيعاب آثار تلك الانتفاضة, واستهدفت عمليات إطلاق الرصاص آنذاك الجنود والمستوطنين في القطاع.
في الشهر الأخير من عام92, أبعدت قوات الاحتلال415 من قيادات الحركة الإسلامية في فلسطين إلي مرج الزهور, وإزاء ذلك قررت كتائب القسام أن تلجأ إلي الرد بأسلوب العمليات الاستشهادية, ونظمت ما سمي بمسيرة الأكفان التي اتجهت صوب الحدود.
كانت السيارات المفخخة التي قادها فدائيون فلسطينيون هي الوسيلة التي اتبعت آنذاك, فقاد الشهيد ساهر حمد الله التمام في93/4/16 سيارة مفخخة اتجهت صوب مستوطنة ميحولا علي بعد15 كم من نهر الأردن, انفجرت بين حافلتين عسكريتين إسرائيليتين, وفي10/4 من العام نفسه قاد الشهيد سليمان زيدان سيارة أخري صدم بها حافلة عسكرية قرب مستوطنة بيت ايل قرب رام الله.
في هذه المرحلة كانت الأهداف العسكرية الإسرائيلية هي التي وجه إليها الفدائيون ضرباتهم, لكن الأمر اختلف حين عمدت السلطات الإسرائيلية إلي اغتيال بعض الرموز الفلسطينية, وبعد وقوع مذبحة الحرم الإبراهيمي في94/2/25, فردت المقاومة بعدة عمليات, استخدم أحدها حزاما ناسفا لأول مرة( في94/4/13), وكان بطلها الشهيد عمار عمارنة, الذ ي أوقع في الخضيرة خمسة قتلي بينهم جنود.
تواصلت العمليات الاستشهادية بين عامي94 و97, أي منذ مذبحة الحرم الإبراهيمي وحتي حفر الإسرائيليين لنفق تحت المسجد الأقصي, ثم هدأت وتيرتها في الفترة بين عامي98 و99 بسبب التعاون الأمني بين الأجهزة الفلسطينية والإسرائيلية, ثم عادت بقوة إثر اندلاع انتفاضة الأقصي.
من هذا التتابع نلاحظ أن ظهور العمليات الاستشهادية واكب مشاهد الفشل في التوصل إلي حل سياسي عادل, واستمرار التوسع في تكريس الاحتلال, وتصاعد عمليات القمع والحصار والتجويع, الأمر الذي فرض علي المقاومة الفلسطينية أن تلجأ إلي السلاح الوحيد الذي يمكن أن يمثل ردا موجعا علي مختلف الممارسات الإسرائيلية, حتي بدا أن العمليات الاستشهادية هي الحل الذي لم يجدوا عنه بديلا.
نلاحظ أيضا أن هذه العمليات بدأتها المقاومة الإسلامية, وتوجهت صوب الأهداف العسكرية الخالصة, ولكن المدي البعيد الذي ذهب إليه القهر والترويع الإسرائيليان استدعي توسيع نطاق الرد الفلسطيني, فوجهت المقاومة ضرباتها إلي العمق الإسرائيلي من ناحية, كما أن العمليات الاستشهادية لم تعد مقصورة علي المقاومة الإسلامية وحدها, من ناحية ثانية, وإنما صارت سلاحا ناجعا لردع الإسرائيليين, استخدمته الفصائل الوطنية الأخري, مثل كتائب الأقصي التابعة لمنظمة فتح, والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
إن من نكد الدنيا لاريب أن يطالب الضحايا بأن يوضحوا للآخرين باستمرار, لماذا وكيف يدافعون عن كرامتهم وشرف أمتهم.
الآن ندرك أن العمليات الاستشهادية هي الشيء الوحيد الذي أوجع الحكومة الإسرائيلية وحلفاءها, وأوصل إلي الجميع رسالة الغضب الفلسطيني باللغة التي يفهمونها. وهو ما يفسر لنا إلحاحهم علي وصف أبطال تلك العمليات الجسورة بالانتحاريين حينا, وبالإرهابيين في أحيان أخري كثيرة, وذلك الإلحاح ليس له إلا معني واحد هو: إنهم يريدون أن يجردوا العرب والمسلمين من السلاح الوحيد الذي تبقي لهم, للدفاع عن شرف أمتهم وكرامتها, لكي ينفتح الطريق لكسر إرادتهم وتركيعهم.
(1)
زارني قبل أيام أحد كبار محرر صحيفة ريبوبليكا الإيطالية, حيث حدثني عن تعاطف الإيطاليين مع محنة ونضال الشعب الفلسطيني. وقال: إن هناك شيئا واحدا يحول دون اتساع نطاق ذلك التعاطف, هو العمليات الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون بين الحين والآخر, وتؤدي إلي قتل أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء. وأضاف أن الشعب الإيطالي يحيره إقدام الشباب الفلسطيني علي تلغيم أنفسهم وتفجيرها وسط الإسرائيليين, وكثيرون عاجزون عن فهم حفاوة العالم العربي بمثل هذه العمليات, واعتبار هؤلاء الفتيان والفتيات شهداء, ثم قال بلهجة الصديق الناصح: إذا كنتم غير راغبين لأسباب مفهومة في إطلاق وصف الإرهابيين عليهم, فلماذا تعتبرونهم شهداء, في حين أن مصطلح الانتحاريين قد يكون محايدا, وهو ما يساعدكم علي كسب قطاعات أوسع في العالم الغربي.
مثل هذه التساؤلات والملاحظات حول العمليات الاستشهادية سمعتها من بعض الصحفيين اليابانيين, الذين جاءوا إلي القاهرة وذهبوا إلي بيروت لمحاولة فهم الظاهرة, ومقارنتها بما فعله الطيارون اليابانيون في أثناء الحرب العالمية الثانية, الذين فجروا أنفسهم بطائراتهم في سفن الأسطول الأمريكي, فيما عرف بعمليات كاميكاز.
وإذا كانت تلك تساؤلات أو ملاحظات بعض الصحفيين المتعاطفين أو المحايدين, فلك أن تتصور سيل المآخذ والتحفظات التي يثيرها الصحفيون الأمريكيون وأقرانهم في بعض العواصم الأخري, وكلها ترفض وتدين ذلك النوع من العمليات الفدائية, التي وصفها الأمريكي توماس فريدمان بأنها من قبيل الغباء والحماقة!( نيويورك تايمز ـ3/31).
من أسف أن بعض الكتاب العرب المتغربين وقعوا في المحظور, وانساقوا وراء الحملة التي يشنها الصحفيون الغربيون الموالون لإسرائيل, فوجهوا بدورهم سهام نقدهم للعمليات الاستشهادية, وقرأنا لأحدهم أخيرا مقالا تحت عنوان يحيا الموت مذهبا رسميا وشعبيا وملزما بالسكوت والإذعان( الحياة اللندنية4/10).
من مجمل ما سمعت وجدت أن الأمر تشوبه التباسات عديدة, بعضها يتعلق بنظرة المسلمين إلي الحياة الإنسانية, وزعم البعض أن الثقافة الإسلامية تستهين بتلك الحياة وتستسهل إهدارها. هناك أيضا التباس في فهم فكرة الشهادة موقعها في الخطاب الثقافي الإسلامي, والتباس ثالث يتعلق بالملابسات التي دفعت الفلسطينيين للجوء إلي مثل تلك العمليات.
لكي نستجلي هذه الأمور ونرفع الالتباس, فإننا سنجد أنفسنا مدفوعين إلي القيام بسياحة لا مفر منها في بعض عوالم الفكر وآفاق التاريخ القريب.
(2)
في نفسي شيء تجاه الناقدين للعمليات الاستشهادية لا أستطيع أن أكتمه, فضلا عن أني أحسب أن البوح به ضروري قبل الشروع في السياحة التي نحن بصددها, لأن عملية الاستجلاء موجهة بالدرجة الأولي إلي الذين التبست عليهم الأمور ويريدون أن يفهموا الظاهرة علي نحو صحيح, وهؤلاء قلة بين الخائضين في الموضوع. أما الكثرة الكاثرة من عناصر النخبة الناقدين والمنددين بالعمليات الاستشهادية فهم ممن عميت قلوبهم وفسدت ضمائرهم, وعرفوا الحق لكنهم أعرضوا عنه نفاقا واتباعا للهوي, الذي لا يكن سوي البغض للعرب والمسلمين بعامة.
إذ لابد أن يمتلئ المرء سخطا وغضبا حين يجد أولئك المنددين بالعمليات الاستشهادية يتجاهلون حقيقة الاحتلال الذي هو أس الداء ومصدر البلاء, فيسكتون عامدين عن السبب ولا يستحضرون سوي النتيجة, ومن ثم يصبون لومهم علي الضحية دون الجلاد, ثم يغضون الطرف عن كل الجرائم البشعة التي يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين, التي تمثل الإبادة والترويع عنوانا رئيسيا لها, ولا ترق قلوبهم إلا حين يرون قطرات الدم الإسرائيلي, بينما شلال الدم الفلسطيني لا يعني لديهم شيئا, ويزعجهم أن يفجر شاب أو فتاة نفسه في متجر أو حافلة انتقاما من الذين سرقوا حلمه وأذلوه, في حين لا تستوقفهم أسراب طائرات الأباتشي وإف16 وهي تهدم البيوت وتحصد أجيال الفلسطينيين.
يتضاعف السخط والغضب, ويتجلي النفاق الدولي حين يجد أن الدنيا قامت ولم تقعد حين هدمت جماعة طالبان تمثالي بوذا في باميان, وأصدرت منظمة اليونسكو بيانا أعلنت فيه أن تلك جريمة ضد الإنسانية, ودعت المجتمع الدولي للتدخل لوقفها, وتوالت عمليات الإدانة والتشهير بالخطوة الغبية التي اتخذتها الحكومة الأفغانية, حتي تمت تعبئة العالم ضد نظام كابول, لكن الجميع التزم الصمت وأصموا آذانهم وأغمضوا أعينهم حين أحرقت أجزاء من كنيسة المهد في بيت لحم ودمر العديد من المساجد, وحين هدمت ومحيت أحياء ومنعت سيارات الإسعاف من حمل الجرحي الذين تركوا ينزفون حتي فاضت أرواحهم في كل مدينة اجتاحتها القوات الإسرائيلية, وحين جاءت الجرافات الإسرائيلية وحملت جثث الفلسطينيين ثم ألقت بها في المجاري, وحين قطعت المياه والتيار الكهربائي والغاز عن عشرات الآلاف من الفلسطينيين.. إلخ.
كل هذه الجرائم وقعت علي مرأي ومسمع من الجميع, ورأي العالم صورها حية علي شاشات التليفزيون, لكن الجميع ـ خصوصا في واشنطن ـ مرروها واعتبروها دفاعا إسرائيليا مشروعا عن النفس, وظلوا علي اتهامهم للفلسطينيين الإرهابيين بأنهم مسئولون عما جري!! لقد ضنوا بكلمة إدانة واحدة علي جرائم جيش إسرائيل التي ترتكب علي مدار الساعة بحق الفلسطينيين, بينما يملأون الدنيا صياحا واحتجاجا إذا ما قام فلسطيني واحد بعملية فدائية هنا وهناك.
لقد هرول بعض أعضاء الكونجرس إلي مصر, وجاءت وفود من منظمات حقوق الإنسان, وأصدرت الولايات المتحدة قانونا للحريات الدينية, حين اعتدي أحد الحمقي علي كنيسة في صعيد مصر, وتوقفت مباحثات إعادة العلاقات بين الخرطوم وواشنطن, وسارع وفد من العسكريين الأمريكيين إلي زيارة السودان لتحري الموقف حين قتل17 مدنيا جنوبيا إثر غارة جوية علي ولاية الوحدة, لكن المذابح التي راح ضحيتها مئات لا يكاد يحصي عددها من الفلسطينيين منذ بداية حملة الاجتياح الإسرائيلية, وعمليات القصف والتدمير والإعدام, ذلك كله لم يحرك شيئا لدي تلك الجهات التي ما برحت تعبر عن الغيرة والاحتجاج والاستنفار كلما حدث مساس ولو علي سبيل الخطأ بحقوق الإنسان في العالم العربي. أما حين تعلق الأمر بإسرائيل, فإن الموقف اختلف تماما, وأصبحت كل جرائمها ضد الإنسانية مبررة ومفهومة ومغفورة!
ألا يضيف ذلك التجاهل أو الانسداد سببا إضافيا يبرر الرد بالعمليات الاستشهادية علي التواطؤ والنفاق الدوليين؟
(3)
إذا عدنا إلي سياحتنا المرجوة, وتابعنا مواضع الالتباس التي تحدثنا عنها, فلعلي أبدأ بتأكيد أن أحدا لا يستطيع أن يزايد علي الثقافة الإسلامية في احترام الحياة الإنسانية, والإعلاء من شأن الإنسان الذي قلت مرارا إنه في الخطاب الإسلامي مخلوق الله المختار الذي نفخ فيه من روحه, وسجدت له الملائكة, وسخرت كل موجودات الأرض لخدمته وإسعاده في الدنيا والآخرة, بعدما استخلف في الأرض لعمارة الكون وإشاعة الخير في الدنيا.
إن كل مكونات الكون كائنات من خلق الله, وهي تسبح بحمده طبقا لنص القرآن, ومن ثم فلها حق الكرامة والصيانة, وفي القرآن أيضا أن الحيوانات والطيور أمم أمثالكم, وفي الأحاديث أن قتل الحيوان بغير مبرر أو مصلحة إثم يعاقب عليه المرء يوم القيامة, فما بالك بقتل الإنسان؟
إن الانتحار يجرح إيمان المرء لأنه تعبير عن الضلال واليأس من رحمة الله وقدرته, في الوقت نفسه فإن من قتل نفسا ظلما وبغير حق فكأنما قتل الناس جميعا وفقا للتعبير القرآني, كيف والأمر كذلك أن يقال بأن المسلمين يستهينون بالحياة ولا يترددون في إهدارها؟
ولكي تستمر الحياة, فالنداء موجه إلي كل مؤمن أن: إذا قامت الساعة وفي يد أحد منكم فسيلة( نبتة صغيرة) فليغرسها, فإن استطاع ألا تقوم الساعة حتي يغرسها فليغرسها, وهو حديث نبوي يدعو بني الإنسان إلي أن يتشبثوا بإعمار الدنيا وإحيائها حتي آخر لحظة في عمر الأرض, حتي وإن لاحت إرهاصات الفزع الأكبر!
(4)
ما تدافع عنه الثقافة الإسلامية ليست أي حياة, وإنما هي الحياة التي يسود فيها الحق والعدل والحرية, ويستشعر الناس فيها العزة والكرامة, وذلك هو سبيل الله في المفهوم القرآني, حيث كل دفاع عن تلك القيم هو دفاع عن حقوق الله وإعلاء لكلمته. وكما أن علي المسلم أن يتشبث بإعمار الأرض حتي آخر لحظة, فإنه مأمور بأن يدافع عن حقه في الحياة الكريمة حتي آخر رمق, وهو ما فهمه الخليفة الثاني أبو بكر الصديق حين قال لقائد جيش المسلمين خالد بن الوليد وعبر عنه بقوله: احرص علي الموت توهب لك الحياة ذلك أن الذين يضحون بأرواحهم وهم يدافعون عن حقوقهم, لا يفعلون ذلك حبا في الموت, وإنما يفدون بأرواحهم وأجسامهم حلمهم في أن تعيش أمتهم حياة كريمة, وهي الحياة الحقيقية لبني الإنسان.
لأجل ذلك شرع الجهاد في صورته القتالية, واعتبر كل من يموت دفاعا عن الحق والعدل والكرامة شهيدا ومجاهدا في سبيل الله, وتعددت صور الترغيب في الشهادة, باعتبارها أسمي درجات البذل والعطاء, حيث وعد برضوان الله وجنته, حتي قالت الأحاديث النبوية إن الشهيد وحده دون كل أهل الجنة, هو الذي يتمني أن يرجع إلي الدنيا لكي يقتل فيها عشر مرات, لما يري من الكرامة, وقالت الأحاديث إنه يشفع في سبعين من أهله.
في لسان العرب أن الشهيد هو المحتضر, الذي تحضر الملائكة له, ويشهد عند انتقاله إلي ربه ما أعد له من نعيم, وتشهد روحه عند ربه بما قدمه في سبيل الله, وفي المعاجم الأخري أنه سمي شهيدا لقيامه بشهادة الحق في أمر الله, ولأنه يكون في الآخرة شهيدا علي الناس بأعمالهم, ولأنه يشهد الجنة.
في الموسوعة الفقهية أن المقتول في سبيل الله أطلق عليه وصف الشهيد الذي هو من أسماء الله, تمجيدا له وتعظيما, وأن الشهداء ثلاثة: شهيد دنيا وآخرة, وهو الذي يقاتل في سبيل الله, وشهيد دنيا, وهو من شاب عمله شيء من الأغراض الدنيوية, من منافسة أو عصبية أو غير ذلك, وشهيد آخرة, وهو من قتل مظلوما دون أن يقاتل, مثل الذين هدمت عليهم بيوتهم.
وعند فقهائنا المعاصرين, في مقدمتهم الشيخ يوسف القرضاوي, فإن من يفجر نفسه في العدو يحتل مكانة سامقة بين الشهداء, لأن المقاتل العادي حتي وإن حرص علي الشهادة, ربما راوده الأمل في أن يعود إلي أهله سالما, أما الذي يفجر نفسه فهو ذاهب إلي ربه منذ لحظة خروجه من بيته, ومدرك أنه ذاهب بغير رجعة, لذلك استحق أن يحتل مقاما أعلي وأكبر.
(5)
من الناحية التاريخية ينسي كثيرون أن النضال الفلسطيني منذ الثلاثينيات جرب كل صور المقاومة, وأن العمليات الاستشهادية تمثل حلقة متأخرة في مسيرة النضال, وقد لجأوا إليها باعتبارها ضرورة فرضتها ظروف مواجهة الاحتلال.
أذكر في هذا الصدد بأن انتفاضة عام87 لم تطلق فيها رصاصة من الجانب الفلسطيني, وإنما عرفت بانتفاضة الحجارة, التي رد عليها إسحاق رابين بتكسير عظام الشباب الفلسطينيين. غير أن المقاومة الفلسطينية لجأت إلي استخدام السلاح في غزة عام91, بعد أن نجحت الأجهزة الصهيونية في احتواء واستيعاب آثار تلك الانتفاضة, واستهدفت عمليات إطلاق الرصاص آنذاك الجنود والمستوطنين في القطاع.
في الشهر الأخير من عام92, أبعدت قوات الاحتلال415 من قيادات الحركة الإسلامية في فلسطين إلي مرج الزهور, وإزاء ذلك قررت كتائب القسام أن تلجأ إلي الرد بأسلوب العمليات الاستشهادية, ونظمت ما سمي بمسيرة الأكفان التي اتجهت صوب الحدود.
كانت السيارات المفخخة التي قادها فدائيون فلسطينيون هي الوسيلة التي اتبعت آنذاك, فقاد الشهيد ساهر حمد الله التمام في93/4/16 سيارة مفخخة اتجهت صوب مستوطنة ميحولا علي بعد15 كم من نهر الأردن, انفجرت بين حافلتين عسكريتين إسرائيليتين, وفي10/4 من العام نفسه قاد الشهيد سليمان زيدان سيارة أخري صدم بها حافلة عسكرية قرب مستوطنة بيت ايل قرب رام الله.
في هذه المرحلة كانت الأهداف العسكرية الإسرائيلية هي التي وجه إليها الفدائيون ضرباتهم, لكن الأمر اختلف حين عمدت السلطات الإسرائيلية إلي اغتيال بعض الرموز الفلسطينية, وبعد وقوع مذبحة الحرم الإبراهيمي في94/2/25, فردت المقاومة بعدة عمليات, استخدم أحدها حزاما ناسفا لأول مرة( في94/4/13), وكان بطلها الشهيد عمار عمارنة, الذ ي أوقع في الخضيرة خمسة قتلي بينهم جنود.
تواصلت العمليات الاستشهادية بين عامي94 و97, أي منذ مذبحة الحرم الإبراهيمي وحتي حفر الإسرائيليين لنفق تحت المسجد الأقصي, ثم هدأت وتيرتها في الفترة بين عامي98 و99 بسبب التعاون الأمني بين الأجهزة الفلسطينية والإسرائيلية, ثم عادت بقوة إثر اندلاع انتفاضة الأقصي.
من هذا التتابع نلاحظ أن ظهور العمليات الاستشهادية واكب مشاهد الفشل في التوصل إلي حل سياسي عادل, واستمرار التوسع في تكريس الاحتلال, وتصاعد عمليات القمع والحصار والتجويع, الأمر الذي فرض علي المقاومة الفلسطينية أن تلجأ إلي السلاح الوحيد الذي يمكن أن يمثل ردا موجعا علي مختلف الممارسات الإسرائيلية, حتي بدا أن العمليات الاستشهادية هي الحل الذي لم يجدوا عنه بديلا.
نلاحظ أيضا أن هذه العمليات بدأتها المقاومة الإسلامية, وتوجهت صوب الأهداف العسكرية الخالصة, ولكن المدي البعيد الذي ذهب إليه القهر والترويع الإسرائيليان استدعي توسيع نطاق الرد الفلسطيني, فوجهت المقاومة ضرباتها إلي العمق الإسرائيلي من ناحية, كما أن العمليات الاستشهادية لم تعد مقصورة علي المقاومة الإسلامية وحدها, من ناحية ثانية, وإنما صارت سلاحا ناجعا لردع الإسرائيليين, استخدمته الفصائل الوطنية الأخري, مثل كتائب الأقصي التابعة لمنظمة فتح, والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
إن من نكد الدنيا لاريب أن يطالب الضحايا بأن يوضحوا للآخرين باستمرار, لماذا وكيف يدافعون عن كرامتهم وشرف أمتهم.