مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
بكائية علي زمن الغضب
هويدي 26-3-2002

لشدة مايصاب المرء بالدهشة من بعض مايقرأ ويسمع في هذا الزمان‏,‏ فإنه يكاد يقتنع بأننا بصدد مشاهد من علامات الساعة الصغري‏,‏ تلك التي تنقلب فيها الأمور رأسا علي عقب‏,‏ إلي الحد الذي يحير الحليم ويخرص الكليم‏,‏ ويهز يقين الحكيم‏,‏ وهي دهشة مضاعفة إن شئت الدقة‏,‏ مرة إزاء ذات الحوادث التي تقع‏,‏ ومرة ثانية لان أناسا أسوياء من بني جلدتنا أصبحوا يعتبرونها أمورا عادية‏,‏ فيمرون عليها مرور الكرام‏,‏ ولا يستشعرون إزاءها انكارا أو دهشة‏!‏

‏(1)‏
لا أذكر إن كنت عبرت عن هذه الفكرة من قبل أم لا‏,‏ لكني لا أمل من تكرار القول إن حالي في هذا الزمان اصبح كحال الصحابي أنس بن مالك‏,‏ الذي انتابته الدهشة مما يجري حوله‏,‏ فقال لنفر من التابعين‏:‏ إنكم لتأتون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر‏,‏ كنا نعهدها علي عهد رسول الله من الموبقات هذه المقولة صرت ارددها بين الحين والآخر كلما وقعت عيناي علي عنوان أو سيرة واحدة من تلك الكبائر التي كنا نعدها في زماننا مما يصدم المرأ فتنتفض عروقه من الغضب وتستثير لديه مشاعر الاحتجاج والتحدي‏,‏ بينما أتلفت حولي بحثا عن صداها المفترض‏,‏ فلا أكاد أجد له أثرا‏,‏ كأنما زمن الكبرياء والغضب قد ولي‏,‏ واستبدل باستغراق عارم في الذهول والغيبوبة‏,‏ هون من شأن الكبائر حتي سوغها وأحلها واستصغر الموبقات‏,‏ فأحالها من اللمم الذي يغض الطرف عنه‏.‏
في عدد نيوزويك الأخير‏(3/26)‏ وعلي غلاف الطبعة العربية من المجلة نشرت صورا لاربعة جنرالات عراقيين من خصوم الرئيس العراقي صدام حسين المقيمين في الغرب‏,‏ رشحتهم الدوائر الأمريكية‏,‏ لكي يؤدي أحدهم ذات الدور الذي قام به في أفغانستان رئيس الوزراء الحالي‏,‏ حامد كرازاي‏,‏ المعروف بصلته الوثيقة بالمخابرات الأمريكية‏,‏ وهو من كان في السابق مستشارا لاحدي الشركات الأمريكية العاملة في استخراج نفط بحر قزوين‏,‏ وقد وقع عليه الاختيار حين تم تشكيل الحكومة الأفغانية المؤقتة في بون خلال ديسمبر الماضي‏.‏

قصدت إيراد هذه الاشارة الموجزة لما جري في أفغانستان لانها تجسد حجم المفارقات التي باتت تحدث في هذا الزمان‏,‏ فذلك بلد معروف بكبريائه الشديد‏,‏ ظل يجاهد عشرين عاما دفاعا عن استقلاله وكرامته‏,‏ ثم ينتهي به الحال علي تلك الصورة‏,‏ يحكمه نظام أتي به الأمريكان‏,‏ ورئيس للحكومة كان مستشارا لشركة نفط أمريكية عاملة في المنطقة‏,‏ ويعين الرجل وتشكل الحكومة كلها في بون وليس في كابول‏,‏ ويمر هذا كله وكأنه شيء عادي‏,‏ لاغرابة فيه ولاشذوذ‏,‏ بل ويمتدح ويوصف في أجهزة الإعلام بأنه تحرير لافغانستان‏!‏
يريد الأمريكيون أن يكرروا نفس التجربة في العراق‏,‏ يجهزون المعارضة ويعدونها لكي تكون الواجهة التي تستخدم لاسقاط نظام بغداد‏,‏ وفي الوقت ذاته يصنعون سيناريو المستقبل‏,‏ ويرتبون أوضاع وأوراق مابعد السقوط المرجو‏,‏ وفي المقدمة منها تشكيل حكومة جديدة من عناصر مضمونة الولاء ـ لها بطبيعة الحال ـ تمهيدا للاعلان عن تحرير العراق أيضا‏!‏

‏(2)‏
بجرأة واستخفاف غير مألوفين‏,‏ يعلن ذلك كله علي الملأ‏,‏ فنعرف أن الرئيس الأمريكي قرر تغيير نظام الحكم في بغداد‏,‏ في موعد سيحدده هو من جانبه ونقرأ أخبار الاجتماعات التي يعقدها مسئولو المخابرات المركزية مع المعارضين العراقيين‏,‏ وعمليات الاستطلاع الجارية في شمال البلاد‏,‏ ثم نطالع انباء مؤتمر المعارضين الذي دعت إليه الولايات المتحدة في المانيا ـ أيضا‏!‏ وتعمم نيوزويك صور الجنرالات الذي ستختار المخابرات المركزية واحدا منهم‏,‏ لكي يحكم العراق بعد أن يحقق المخطط الموضوع هدفه‏.‏
علي أيامنا ـ في الستينيات مثلا ـ كان ذلك كله يحدث من وراء ظهورنا‏,‏ ويتم ببعض الحياء وفي السر‏,‏ بحيث نفاجأ بحقائقه ونتائجه‏,‏ وقد يتطلب الأمر مرور عدة سنوات حتي نعرف ان هذا النظام أو ذاك سقط بعدما أنقلب عليه آخرون ممن كانت لهم علاقات بهذه الدولة الاجنبية‏,‏ أو تلك‏,‏ كنا نفر من اسم المخابرات المركزية فرار السليم من الأجرب‏,‏ وكان الناشط السياسي يجرم ويتم اغتياله أدبيا بمجرد أن يتهم بأن له علاقة بذلك الجهاز سييء السمعة‏,‏ بل إن هذه التهمة كانت عارا ومسبة‏,‏ يقاتل المرء لنفيها واثبات براءته منها بكل السب‏.‏

الآن مسح ذلك كله‏,‏ وأصبحت المخابرات المركزية تتحرك بشخوصها ورئيسها علي مسرح الأحداث في الشرق الأوسط عيانا جهارا‏,‏ دون حاجة إلي الاختفاء أو التنكر أو العمل من خلال العملاء‏,‏ في الوقت ذاته اصبح الذين تمولهم المخابرات المركزية الأمريكية مقبولين اجتماعيا وسياسيا‏,‏ ويتحركون بيننا بحسبانهم موظفين في جهات أجنبية‏,‏ شأنهم في ذلك شأن أي موظف في أي منظمة دولية او اغاثية‏,‏ واجترأت اجهزة المخابرات اكثر بحيث أصبحت تنشر في الصحف اعلانات عن حاجتها إلي موظفين عملاء يجيدون العربية‏!‏
والأمر كذلك‏,‏ فلم يعد غريبا ان يقوم نظام جديد علي أكتاف قيادات وطنية جاءت محمولة علي الدبابات الأمريكية‏,‏ ولم يعد يشين المرء أو ينال من قدره ان يكون ذا ارتباط مسبق مع أجهزة المخابرات الأجنبية‏,‏ أو ان يكون قد احتل موقعه بناء علي نصيحة الأصدقاء في واشنطن أو غيرها‏,‏ واعتبر ذلك رصيدا من الثقة يؤمن الدعم ويوفر المعاونات ويسهل من تحصيل القروض لحل مشاكل الناس الذين يريدون ان يعيشوا ويستمتعوا بالحياة كغيرهم‏,‏ بأي ثمن‏!‏
لقد تداخلت الخطوط وانمحت الفواصل بين العمالة والوطنية‏,‏ وبين الحلال والحرام في دنيا السياسة‏,‏ وأصبحت تلك الممارسات التي أمضينا سنوات شبابنا في ادانتها وإنكارها‏,‏ أنشطة عادية تتم في إطار الاختلاف في الاجتهاد السياسي والانفتاح علي الآخر والتعاون معه‏,‏ من اجل تحقيق المصالح العليا والمنافع المشتركة‏..‏ إلخ

‏(3)‏
لماذا نذهب بعيدا‏,‏ وماجري قبل عقد القمة العربية يعد نموذجا آخر لهذا الذي نتحدث عنه‏,‏ فحينا نقرأ أن للإدارة الأمريكية رأيا في القمة‏,‏ تنعقد أو لاتنعقد‏,‏ وأنها اعترضت في وقت سابق علي عقد لقاء قمة فلم يقدر له أن يتم‏,‏ وكانت الصحف قد نشرت أن واشنطن طلبت أن يصدر بيان بصيغة معينة عن اجتماع لوزراء الخارجية‏,‏ وتم لها ما أرادت ورغبت في ألا تدان سياستها في المنطقة‏,‏ وحدثت الاستجابة لتلك الرغبة‏,‏ ونشر أيضا أن السفراء الأمريكيين في بعض العواصم العربية‏,‏ اجروا اتصالات للتعرف علي جدول الأعمال المعروض علي القمة‏,‏ كما نشر أن بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي من أصول عربية سوف يحضرون الاجتماعات كمراقبين أو بصفة غير رسمية‏(!).‏
أيضا نشر أن الولايات المتحدة التي قدمت مشروع قرار مجلس الأمن الأخير‏(‏ رقم‏1397)‏ طلبت أن تتبني القمة ذلك القرار الخبيث‏,‏ الذي أشارت ديباجته في كلمتين إلي الدولة الفلسطينية‏,‏ ثم نصت بنوده علي مجموعة من الاجراءات تستهدف وقف الانتفاضة الفلسطينية‏,‏ وبذلك تحاصر المقاومة وتجهض الانتفاضة من كل صوب‏,‏ بحيث تقف ضدها وتدعو إلي إيقافها الأجهزة الأمنية الاسرائيلية والمخابرات المركزية وأجهزة السلطة الفلسطينية‏,‏ والقمة العربية أيضا ـ هل يمكن أن يخطر ذلك كله علي بال أي مواطن عربي يحتفظ بعقله وذاكرته؟

لا أقول إن ذلك ماسيحدث بالضرورة وأتمني أن تكذبه وتقاومه القمة العربية‏,‏ لكني أقول إن هذا ماتطلبه واشنطن الآن‏,‏ وتضغط علي العواصم العربية لتنفيذه‏.‏
ان القرار خدعة كبيرة‏,‏ ومطالبة القمة بتبنيه صفاقة لاريب‏,‏ اما اذا وقعت الواقعة وتم لواشنطن ما أرادت فلا نلام اذا ما اعتبرنا ذلك من علامات الساعة‏.‏
خذ أيضا خطة تينيت التي أصبح كل الأطراف يتحدثون عنها‏,‏ وكأنها طوق النجاة وأمل الشعب الفلسطيني والامة العربية في حل القضية وحسم الصراع ـ فهذه الخطة أعدت داخل مكاتب المخابرات المركزية الأمريكية‏,‏ والسيد جورج تينيت الذي ارتبطت الخطة باسمه هو رئيس ذلك الجهاز‏,‏ الذي جاءنا حينا من الدهر‏,‏ وعقد عدة اجتماعات في العواصم العربية‏,‏ واستقبل بصفة رسمية هنا وهناك‏,‏ وتناقلت وسائل الاعلام العربية أخبار تحركاته واجتماعاته التي كانت ـ إذا جاء ـ تحاط في زمن الكبرياء والحياء بالسرية والكتمان‏,‏ بل كان هو أو من يمثله يأتي متخفيا وداخلا من الابواب الخلفية‏,‏ وما كان له أن يلتقي إلا برؤساء بعض الأجهزة الأمنية‏,‏ في اطار ترتيبات مشبوهة‏,‏ كانت تتحول إلي فضيحة إذا ما انكشف أمرها‏,‏ لقد كان ظهوره في أي مكان بمثابة عورة واجبة الستر‏,‏ أما اجتماعاته وأنشطته فكانت شبهة وتهمة واجبة الإنكار والرد‏!‏

‏(4)‏
ظهر السيد تينيت في الأفق العربي في العام الماضي‏,‏ في إطار من البراءة‏,‏ ومرتديا ثياب ملائكة الرحمة‏,‏ وتم التعامل معه باعتباره رجلا محايدا ونزيها‏,‏ وفاعل خير ما أراد إلا وجه الله في مسعاه للتوسط بين الفلسطينيين والاسرائيليين‏,‏ لا أعرف كيف صدق بعضنا ذلك‏,‏ لكن الذي أعرفه أن عملية التصديق ما كان لها أن تتم إلا بعد تغييب العقل والوعي ومحو الذاكرة العربية‏.‏
أدي الرجل واجبه ولم يخب ظنون الذين بعثوه‏,‏ بعد أن لم يترددوا في أن يسلموا ملف أشرف واخطر قضية عربية‏,‏ لرأس أعتي وأخطر جهاز مخابرات في العالم‏,‏ وهو الجهاز الذي لم يبد مرة واحدة أي تعاطف مع قضايا الامة العربية العادلة‏,‏ وإنما ظل دائما واقفا في الموقف المعادي لها‏,‏ والمنحاز بصفة مستمرة للعدو الاسرائيلي‏.‏

لك أن تتوقع مضمون خطة السيد تينيت‏,‏ ولذلك فلن أفصل فيها‏,‏ لكني سأشير فقط إلي الكيفية التي تعاملت بها الخطة مع المقاومة الفلسطينية‏,‏ ومع المحتلين الإسرائيليين من مستوطنين ومتعصبين‏,‏ ذلك أن الخطة طالبت كل طرف بتعهدات معينة‏,‏ وكان أول ماطولبت به السلطة الفلسطينية‏:‏ هو توقيف واستجواب وسجن أعضاء المنظمات الراديكالية الذين تتهمهم إسرائيل بالتحضير لعمليات إرهابية وسلمت لائحة إلي السلطة الفلسطينية تتضمن عشرات من أسمائهم‏.‏
أما الطرف الاسرائيلي‏,‏ فقد أدرج طلبا مشابه في الترتيب الثالث ونص فيه علي اتخاذ التدابير اللازمة ضد مواطنيها المسئولين عن عمليات انتقام أو حض علي العنف ضد الفلسطينيين‏.‏

إذا قارنت بين النصين فستدرك إلي أي مدي تم اغتيال الحياد والنزاهة‏,‏ فمطلوب من الفلسطينيين اعتقال واستجواب وسجن الذين تتهمهم اسرائيل بالتحضير للعمليات الفدائية‏,‏ أي أنهم ممن لم يرتكبوا أفعالا محددة ولكن إسرائيل تتهمهم بالتحضير أو التفكير في تلك الافعال‏,‏ أما الإسرائيليون الذين يرتكبون جرائم الانتقام فعلا‏,‏ ويحرضون عليها‏,‏ فليس مطلوب من الحكومة الإسرائيلية‏,‏ اكثر من آتخاذ التدابير اللازمة ضدهم‏,‏ التي قد تكون مجرد لفت نظر أو غرامة أو حبس يوم في حالة الجريمة الجسيمة‏!‏
في النصين نجد أن المتهم الفلسطيني يعتقل ويسجن ويستجوب‏,‏ بينما الفاعل الإسرائيلي المدلل تتخذ إزاءه الاجراءات اللازمة فحسب‏!‏
صدق أو لاتصدق‏!‏

‏(5)‏
خذ أيضا التدخل الأمريكي السافر والمدهش في مناهج التعليم بالدول العربية والاسلامية‏,‏ من كان يصدق أن سفارات الولايات المتحدة يمكن أن تقدم طلبات ومذكرات رسمية إلي الجهات المعنية في بعض تلك الدول‏,‏ لتغيير مناهج دراسية بذاتها‏,‏ وتحديد‏(‏ وصفوه بأنه مجرد اقتراح‏!)‏ ساعات معينة لتدريس مناهج أخري؟ صحيح أننا في مصر عرفنا تدخلا في سياسة التعليم حين كان اللورد كرومر مندوبا ساميا للاحتلال البريطاني‏(1883‏ ـ‏1907‏ م‏)‏ لكن التدخل لم يذهب إلي ذلك المدي‏,‏ فضلا عن أن ذلك تم في ظل احتلال عسكري كامل‏,‏ وفي أواخر القرن التاسع عشر‏.‏
ثم من كان يصدق أن مثل هذه الطلبات الأمريكية استقبلت بتفهم في بعض العواصم‏,‏ وان المقترحات الواردة فيها أخذت بعين الاعتبار وجار الاستجابة لها في أقطار بذاتها‏,‏ بحيث تتم التعديلات المطلوبة ابتداء من العام الدراسي المقبل‏,‏ في حين حدثت استجابة فورية في أقطار أخري‏.‏

من كان يصدق أيضا أن تتناقل الصحف تصريحا للرئيس اليمني علي عبدالله صالح يقول فيه ـ ردا علي احتجاج البعض في اليمن علي ضم المعاهد الدينية إلي وزارة التعليم واخضاعها لاشراف الحكومة ـ إن مثل هذا القرار اذا لم يكن قد اتخذ في الوقت المناسب‏,‏ لتعرضت اليمن للقصف الأمريكي؟‏!‏
مثل هذه الخطوة اتخذت في باكستان أيضا‏,‏ حيث أخضعت المدارس الدينية لإشراف الدولة بطلب أمريكي حازم‏,‏ وبرغم أن المسئولين في الحكومة لم يصرحوا بذلك‏,‏ وإنما تناقلت الصحف فقط أن واشنطن قدمت مائة مليون دولار أمريكي لتطوير تلك المدارس وإحكام الاشراف الحكومي عليها‏,‏ فإننا لانستبعد أن يكون الاقتراح الأمريكي كان مصحوبا بتهديد مماثل لذلك الذي تلقته اليمن‏.‏
تلك أمور لم تخطر علي قلب بشر من قبل‏,‏ لا في مبدأ ارسالها من جانب الدول العظمي‏,‏ ولا في كيفية استقبالها من قبل الدول الأخري‏,‏ ومما يضاعف من دهشة المرء‏,‏ بالإضافة إلي تمرير مثل هذه الاخبار دون التوقف أمامها‏,‏ ان تلقي تلك الدعوات ترحيبا من جانب بعض الكتبة‏,‏ الذين مافتئوا يطالبوننا بأن نمتثل لما يطلب منا ونغير من أنفسنا‏,‏ وهو الحق الذي يراد به باطل لان تعليمنا يحتاج فعلا إلي تطوير ومراجعات واسعة النطاق‏,‏ ولكن ليس بطلب أمريكي‏,‏ وليس للاسباب والمقاصد التي يرجوها الامريكيون‏,‏ وهو مفجع لاريب أن نجد أنفسنا في هذا الزمن مضطرين إلي التركيز بمسلمات وبدهيات من هذا القبيل التي لايحتاج الوعي بها أكثر من مجرد الاحساس بالكرامة وتوفر الحد الأدني من الحس السليم‏.‏

‏(6)‏
لست في وارد الحديث عن اللوثة التي أصابت المؤسسات الأمريكية‏,‏ وانتقل بعض عدوها إلي المجتمع‏,‏ تلك التي أحدثت انقلابا علي الحقوق المدنية واهدارا للعديد من قيم وضمانات الحريات التي تصورناها ثابتة القدم هناك‏,‏ اضافة إلي غرور القوة الغاشمة الذي دفع واشنطن إلي التلويح باستخدام الاسلحة النووية ضد من تعتبرهم مارقين‏,‏ تلك انقلابات وانتكاسات سياسية يطول فيها الكلام‏,‏ لكني لن أتطرق لها الآن‏,‏ إنما يعنينا منها ذلك القدر من الاستقواء الذي أصبحت الولايات المتحدة من جرائه تمارس قدرا مذهلا من البلطجة‏,‏ حيث سمحت لنفسها باصدار تشريعات تحاكم بمقتضاها أي بلد في الكرة الأرضية وتحاصره‏,‏ وتمنع الدول الأخري ـ بما فيها الكبري منها ـ من التعامل معه‏(‏ كما حدث مع إيران والعراق‏)‏ كما أعطت الولايات المتحدة لنفسها حق تقسيم العالم إلي أبرار وأشرار‏,‏ وباسم الحرب علي الإرهاب سمحت لنفسها بمصادرة أموال أي مؤسسة في الكرة الأرضية‏,‏ وتوقيف واحتجاز أي شخص دون ذكر الأسباب‏,‏ ومراجعة حسابات وسجلات أي مؤسسة خيرية أو اغاثية في أي مكان بالعالم‏,‏ وما الذين احتجزوا في جوانتانامو من مختلف أنحاء العالم الإسلامي دون الاعلان عن هوياتهم او التهم المنسوبة اليهم‏,‏ إلا نموذج لتجليات تلك اللوثة بعيدة المدي‏.‏
هؤلاء المواطنون العرب والمسلمون تركوا أذلاء ومهدوري الكرامة في الأيدي الأمريكية‏,‏ ولم تسأل عنهم الدول التي ينتمون اليها‏,‏ وحين تبين أن أحد رفاقهم يحمل الجنسية الأمريكية وليس منسوبا إلي أية دولة عربية او اسلامية‏,‏ فإنه عومل معاملة مختلفة تماما‏,‏ ورد له بعض اعتباره الإنساني‏.‏

المدهش في الأمر ان الوحيدين الذين تحركوا ومازالوا يضغطون بشدة للسؤال عن رعاياهم واستردادهم هم الحكومات الغربية التي اعتقل نفر من أبنائها الذين يحملون جنسيتها‏,‏ وكانوا أصلا من المهاجرين العرب والمسلمين‏,‏ لكنهم اصبحوا بمضي الوقت مواطنين في تلك الدول التي تتوزع بين أوروبا وكندا واستراليا‏.‏
ليس هذا زمنا عجيبا يدفع أهلنا وأبناءنا لكي يشعروا بالأسف والندم لانهم لم يهاجروا‏,‏ ولم يحملوا جنسيات الدول الغربية المتطهرة من شبهة الانتماء العربي أو الاسلامي؟‏!‏
هل يمكن أن يأتي علينا زمان نستعجل فيه قيام الساعة ونتمناه‏,‏ لكي يخلصنا من وطأة الشعور بكل تلك الجرعات من الآسي والخجل؟‏!‏
أضافة تعليق