هويدي 19-3-2002
لا ينبغي أن نخدع أنفسنا ونتعلق بسراب متغيرات لا وجود لها, فما تشهده منطقتنا العربية الآن هو بالدقة ترتيب لتخدير الشعوب والأنظمة, يمهد للجراحة المنتظرة ضد العراق, وقد أفهم أن تنشط واشنطن لإنجاز محاولة التخدير, من خلال ما تصدره من إشارات أو من توفدهم من مبعوثين, لكن الذي لم أفهمه وأستغربه بشدة, أن ينضم بعضنا إلي فريق التخدير, لكي تحقق المحاولة مرادها, ومن ثم لكي تتكلل الجراحة بالنجاح الذي تنشده.
(1)
يراد لنا أن نبتلع الطعم ونصدق, أن ثمة تطورا إيجابيا في الموقف الأمريكي, وأن الاتصالات والضغوط العربية نجحت في حث واشنطن علي أن تخرج عن صمتها, وتتجاوز موقف المتفرج علي شلال الدم الفلسطيني, الذي أغرق الضفة والقطاع, والذين يسوقون تلك الفكرة يستندون إلي مجموعة من الشواهد هي:
* إن الرئيس بوش أعلن عن اهتمامه باستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وعبر عن ذلك بقراره إعادة الجنرال أنتوني زيني إلي المنطقة, لمواصلة جهود الوساطة بين الطرفين.
* أن عودة زيني تزامنت مع جولة أخري في المنطقة, قام بها نائب الرئيس ريتشارد تشيني, استهدفت إطلاع زعماء دولها علي خطط واشنطن المقبلة.
* إن واشنطن تحدثت عن تحميل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي, مسئولية العنف المتزايد, وكانت من قبل تنتقد السلطة الفلسطينية وحدها, كما أن الرئيس الأمريكي انتقد حكومة شارون, حين أشار إلي أن الإجراءات التي تتخذها إزاء الفلسطينيين غير مشجعة, وهو ما ترتب عليه انسحاب القوات الإسرائيلية من بعض مناطق السلطة الفلسطينية, التي كانت قد أعادت احتلالها.
* إن واشنطن أسهمت بدور فعال في قرار مجلس الأمن, الذي صدر في3/13 وأشار لأول مرة الي الدولة الفلسطينية, الأمر الذي أعطي مرجعية لإقامة الدولة ضمن وثائق الأمم المتحدة.
في قراءة هذه المؤشرات, يتعين علينا أن نفرق بين ما إذا كانت تصب في الفروع أو الأصول, وما إذا كانت من قبيل مراجعة التكتيك أو الاستراتيجية, ذلك أننا إذا دققنا فيها جيدا فسنجد أنها في حقيقة الأمر حزمة تلويحات وتحركات وكلمات, هي أقرب إلي الغواية والتسكين منها إلي العلاج, وإذا جاز لي أن استخدم وصفا أطلقته من قبل علي مثل هذه المحاولات, فقد أكرر القول إننا بصدد عناوين ومفردات جديدة في خطاب ترطيب الجوانح, الذي يمنحك شعورا زائفا بالراحة والأمل, ويشجعك علي النعاس لبعض الوقت ـ حبذا كل الوقت! ـ حتي تغفل عن حقيقة ما يجري من حولك.
(2)
سيفيدنا بلا ريب أن نتوقف لحظة أمام توقيت هذه الإشارات وسياقها, قبل أن نتطرق إلي تقويمها, في هذا الصدد لابد أن يلفت انتباهنا أن الإدارة الأمريكية ظلت طيلة الأسابيع الأخيرة تصم آذانها عن النداءات الصادرة عن القيادة الفلسطينية وبعض العواصم العربية, مطالبة إياها بتحمل مسئوليتها كراعية رئيسية لعملية السلام, ليس ذلك فحسب, وإنما عمدت تلك الإدارة إلي تشجيع وتسويغ الاجتياح والافتراس الإسرائيليين للأراضي والجماهير الفلسطينية, واعتبرت أن عمليات الاغتيال والمذابح اليومية والقصف والتدمير اليومية للبيوت والمقار الفلسطينية, هي من قبيل الدفاع عن النفس, وكان ذلك مما دفع الحكومة الإسرائيلية إلي التوسع في عمليات البطش والقتل, اطمئنانا إلي الشرعية التي أضفتها واشنطن علي ممارساتها, وابتداعها فكرة حق القاتل في الدفاع عن نفسه في مواجهة رفض الضحية الاستسلام لمصير القتل.
خلال تلك الأسابيع, وكما قيل بحق, أخذ شارون فرصته كاملة ليتمكن من تحقيق الانتصار علي الفلسطينيين, ويدفعهم إلي الزحف علي بطونهم ووجوههم والتمسح بقدميه, قابلين بما يقسمه لهم من ذل, ومهانة, واندثار من التاريخ, والجغرافيا.
لكن شارون, وجيش الاحتلال, وكل الترسانة العسكرية( الإسرائيلية) الأمريكية, لم تتمكن من إلحاق الهزيمة بالشعب الفلسطيني, بل وتلقت تلك الآلة المتوحشة ضربات أذهلتها, من عمليات اقتحام مباغتة للحواجز, إلي نسف دبابة الميركافا ـ فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية ـ إلي العمليات الاستشهادية, التي قام بها شباب وفتيات, ألحقوا أفدح الخسائر بالعدو, وأسقطوا رهانات أمنه, ونسفوا وعود شارون, وهدموا هيبة الجيش الذي اعتاد الانتصارات السهلة, بل وكانت إحدي المفاجآت أن يتمكن الفلسطينيون من صناعة أسلحة تهدد أمن المستعمرات الصهيونية.
بعد كل الوقت الذي منحته الإدارة الأمريكية لشارون, وحكومته الائتلافية, ولجنرالات جيش( الدفاع), والعجز, والإحباط الذي سببه الفلسطينيون لحكومة شارون, وعدم وجود إمكانية إلحاق الهزيمة بروح التحدي الفلسطينية, كان لابد أن تتدخل الإدارة الأمريكية لإنقاذ الموقف.
لقد أدركت واشنطن, وكل الأطراف الغربية ذات العلاقة, أن شارون هزم في معركة كسر الإرادة الفلسطينية, وأن سياسة العصا الغليظة فشلت في تحقيق مرادها, وأن التصعيد الإسرائيلي يقابل بتصعيد وعناد فلسطينيين, الأمر الذي يحمل إسرائيل بخسائر أكبر بكثير مما يتحمله الفلسطينيون, بالمعيار النسبي, لذلك فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الهدف من إيفاد الجنرال زيني إلي المنطقة, هو بالدرجة الأولي إنقاذ رئيس الوزراء الإسرائيلي من الوحل الذي غرق فيه, هو ومؤسسته العسكرية, ومحاولة احتواء الهزيمة الإسرائيلية وتفاقمها.
(3)
خذ أيضا موضوع الدولة الفلسطينية, الذي ورد في قرار مجلس الأمن الأخير( الصادر في3/13), وهو ما هلل له كثيرون وطنطنوا.
مثل هذه الطنطنة خير دليل علي نجاح عملية التخدير, التي أصابت البعض منا بمجرد التلويح بمصطلح الدولة الفلسطينية, لا أريد أن أعطي القرار صفرا في التقويم, لكني أزعم أن إعطاءه الدرجة النهائية, أو حتي أي علامة مرتفعة يوقعنا في مصيدة التخدير, بل في محظور التدليس علي الناس والترويج للأوهام الكاذبة.
بالنسبة لي, لا أستطيع أن أقاوم الشك في صيغة القرار ومقاصده, حتي قبل أن أقرأ سطرا واحدا فيه, لمجرد أن تكون الولايات المتحدة هي التي قدمته, في حين أنها وقفت في مجلس الأمن بالمرصاد لقمع ومصادرة أي قرار ينصف الفلسطينيين من أي باب, إذ من حق أي واحد لم يفقد ذاكرته بعد, أن يتوجس شرا ويتساءل: ما الذي يدعو الإدارة الأمريكية إلي الحديث عن الدولة الفلسطينية الآن ضمن قرار لمجلس الأمن, وما الذي يدفع واحدا مثل شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل ـ وهو من هو ـ إلي الترحيب بالقرار؟ إزاء تساؤلات من هذا القبيل فإن المرء لا يتردد في أن يقول ـ وهو مغمض العينين ـ إن القرار في نهاية المطاف, وفي أحسن فروضه, فيه من المصلحة الإسرائيلية أكثر مما فيه من المصلحة الفلسطينية.
حين قرأت القرار وجدته أسوأ بكثير مما ذهبت, وأدركت أنه أعطي الفلسطينيين كلاما في الهواء, وأعطي الإسرائيليين كل ما يريدون علي الأرض في الوقت الراهن ـ كيف؟
من حيث الشكل يلاحظ قاريء النص, أن كلمة الدولة الفلسطينية ألقيت بسرعة في سطر واحد, ثم تم العبور فوقها الي أمور أخري, تصب كلها في الصالح الإسرائيلي, حتي يبدو وكأن المصطلح ألقي للتمويه, وكان بمثابة قشرة الموز التي ينزلق العابر فوقها إلي ما هو أبعد وأسوأ.
لقد ورد مصطلح الدولة الفلسطينية في عبارة واحدة تقول: إذ يؤكد( مجلس الأمن) رؤية تتوخي منطقة تعيش فيها دولتان, إسرائيل وفلسطين جنبا إلي جنب, ضمن حدود آمنة ومعترف بها, هذا كل ما في الأمر, دون أي تحديد للأرض التي ستقوم عليها دولة, لا لآلية إقامتها, ولا لأي تكليف للأمين العام بمتابعة القرار وإطلاع المجلس علي خطوات تنفيذه في أي أجل مضروب, بل إن المرء يشك في جدية القرار لأنه لم ينص حتي علي انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة, حيث لا يعقل أن يتم القفز إلي فكرة الدولة علي أرض محتلة, ولم يطالب مجلس الأمن المحتلين بالجلاء عنها.
صحيح أن العرب بوسعهم إذا أرادوا أن يتغاضوا عن التمويه, ويعملوا علي تحويل الهزل في النص إلي جد, فيطالبون بسد الثغرات التي تخللت القرار, والمطالبة بتحديد الآلية والآجال والانسحاب, لكن ذلك شيء آخر, وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ستحول دونه, باستخدام سلاح الفيتو, ببساطة لأنها لو أرادت أن يؤخذ النص علي محمل الجد لفعلت, لكنها لم ترد لدوافع الأصل فيها عدم البراءة.
في الشكل أيضا نلاحظ في استهلال القرار, أنه أشار إلي جميع القرارات السابقة ذات الصلة, خاصة القرارين242(1967), و338(1973), لكنه تجاهل وأسقط تماما قرار التقسيم الصادر في سنة1947, تحت رقم(181) ـ لماذا ـ ؟, لأن القرار ينص علي إقامة دولة إسرائيل علي56% من أرض فلسطين, بينما هي الآن مقامة علي78% من الأرض, بزيادة22% عما أعطاه لها قرار التقسيم( الأمر الذي يعني أن التفاوض الآن يدور حول22% فقط من الأرض, بينما للفلسطينيين طبقا للقرار44% من الأرض), وهذا هو السر في استثناء قرار التقسيم من المرجعية, رغم أن السياق يشير إلي جميع القرارات السابقة.
(4)
الشق الأهم في القرار ـ والمراد الحقيقي له ـ يدعو بقدر غير خاف من الصراحة, إلي وقف الانتفاضة الفلسطينية, المؤرق الأكبر لإسرائيل, وللولايات المتحدة بالتالي, ذلك أن الفقرة التالية لقشرة الموز تقول إنه إذ يساور مجلس الأمن بالغ القلق إزاء استمرار أحداث العنف المأساوية التي وقعت منذ سبتمبر/أيلول2000, بخاصة الهجمات الأخيرة وتزايد عدد الإصابات, وإذ يشدد علي ضرورة أن يكفل جميع الأطراف المعنية سلامة المدنيين, وإذ يشدد أيضا علي ضرورة احترام قواعد القانون الإنساني المعترف بها عالميا.. وإذ يرحب بمساهمة الأمير عبدالله ولي عهد المملكة العربية السعودية, يطالب:
* بالوقف الفوري لجميع أعمال العنف, بما في ذلك جميع أعمال الإرهاب والاستفزاز والتحريض والتدمير.
* يدعو الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وقادتهما, إلي التعاون في تنفيذ خطة عمل تينيت وتوصيات تقرير ميتشيل, بهدف استئناف المفاوضات للتوصل إلي تسوية سياسية.
* يعرب عن تأييده جهود الأمين العام والجهات الأخري الرامية إلي مساعدة الطرفين علي وقف العنف واستئناف عملية السلام.
جوهر القرار إذن يكمن في ذلك التعبير عنبالغ القلق إزاء استمرار أحداث العنف التي وقعت منذ سبتمبر2000, الذي هو تاريخ انطلاق الانتفاضة, والمدنيون الذين تخشي الولايات المتحدة علي مصيرهم وتعني براحتهم وسلامتهم, ليسوا هم الفلسطينيين بطبيعة الحال, الذين لا نعرف أن الإدارة الأمريكية شغلت بهم يوما ما, لكنهم الإسرائيليون. وأعمال العنف والإرهاب والاستفزاز في الخطاب الأمريكي الذي نحفظ مفرداته, هي كل صور المقاومة الوطنية والإسلامية في فلسطين ولبنان, أما المذابح وعمليات القتل التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية وتأمر بها, وأما الغارات التي يقوم بها المستعمرون ضد الفلسطينيين العزل, فهي في الخطاب الأمريكي الرسمي دفاع عن النفس, مبرر ومشروع!
وقف الانتفاضة ـ أكرر ـ هو الهدف الجوهري للقرار الذي صفق له كثيرون في العالم العربي, أما الإشارة المائعة إلي الدولة الفلسطينية, فهي بالضبط القرص المخدر الذي ابتلعناه, حتي يغيبنا عن القصد الخبيث الكامن في ثنايا العبارات ظاهرة البراءة.
لا يقف الأمر عند هذا الحد, وإنما هناك ضغوط غربية تمارس بقوة الآن, تطالب القمة العربية المرتقبة في بيروت بتبني قرار مجلس الأمن بشقيه, المائع الذي يلوح بحكاية الدولة الفلسطينية, والقاطع والحازم الداعي إلي وقف الانتفاضة, وستكون مفارقة ما بعدها مفارقة, أن تمرر القمة العربية القرار, بعد أن تنطلي عليها حكاية الدولة الفلسطينية, بحيث تقف في النهاية إلي جانب المطالبة بوقف الانتفاضة, بدلا من تأكيد دعمها وتعزيز موارد الصندوق الذي خصصته في قمة سابقة لمساندة مناضليها.
(5)
إذا مضينا إلي أبعد في محاولة إزالة الأستار والأغشية, التي تغلف الحقيقة, فسندرك أن الموضوع الفلسطيني برمته لا يحتل أولوية في استراتيجية البيت الأبيض الآن أو أولوياته, وسنجد أن واشنطن أرادت بمساعيها الراهنة أن تصيب عدة عصافير بحجر واحد, فهي تريد انقاذ شارون من ورطته عبر وقف الانتفاضة, وإيهام الفلسطينيين والإسرائيليين بعودة عجلة مسيرة السلام إلي الدوران مرة أخري, وهي تعمل في الوقت ذاته, علي ترطيب جوانح العرب وإرضائهم بكلمات مجانية تدغدغ مشاعرهم, ولا تكلف الأمريكيين فضلا عن الإسرائيليين شيئا, ومرادها في هذا وذاك أن تهديء المنطقة وتقلل من الشغب فيها, لكي تنصرف إلي ضرب العراق مطمئنة إلي أن العالم العربي لن يتململ علي نحو يزعجها, ولن يفيق بسرعة من تأثير القرص المخدر المتعلق بالدولة الفلسطينية.
في حديث تليفزيوني جري بثه مساء السبت3/9, قال تشيني نائب الرئيس الأمريكي, إن زيارته للمنطقة مكرسة لبحث مسائل عدة, ومن الضروري ألا يفهم أن المسألة الفلسطينية ستحتل موقعا مركزيا في تلك المباحثات, وهو كلام واضح وصريح في التعبير عن هامشية الملف الفلسطيني في مقاصد زيارته( وفي استراتيجية البيت الأبيض بوجه عام إن شئت الدقة), ولسنا بحاجة بعد ذلك لأن يقال لنا إن ترتيب ضرب العراق هو هدف الزيارة ومحورها, وإن كل ما نشهده من إشارات وإيماءات مقصود به تهيئة الظروف المواتية لبلوغ ذلك الهدف.
هل هذا الذي يخططون له ويريدون, قدر مكتوب لا فكاك منه؟
إجابتي علي السؤال بالنفي, وإن ذلك كله يمكن أن يتغير, وينقلب رأسا علي عقب, إذا ما ارتفعت أصواتنا في أرجاء العالم العربي بالرفض والاستنكار والدعوة إلي مساندة الانتفاضة, حتي تحقق مرادها في دحر الاحتلال وانسحاب قواته الغازية, إنهم يدفعون استحقاقات بلوغ الحلم من دمائهم في فلسطين, فهل نحن مستعدون لدفع استحقاق مساندة نضالهم بما هو أهون بكثير مما يقدمون؟ وبماذا نفسر تقاعس البعض منا وحبس أصوات البعض الآخر؟
لا ينبغي أن نخدع أنفسنا ونتعلق بسراب متغيرات لا وجود لها, فما تشهده منطقتنا العربية الآن هو بالدقة ترتيب لتخدير الشعوب والأنظمة, يمهد للجراحة المنتظرة ضد العراق, وقد أفهم أن تنشط واشنطن لإنجاز محاولة التخدير, من خلال ما تصدره من إشارات أو من توفدهم من مبعوثين, لكن الذي لم أفهمه وأستغربه بشدة, أن ينضم بعضنا إلي فريق التخدير, لكي تحقق المحاولة مرادها, ومن ثم لكي تتكلل الجراحة بالنجاح الذي تنشده.
(1)
يراد لنا أن نبتلع الطعم ونصدق, أن ثمة تطورا إيجابيا في الموقف الأمريكي, وأن الاتصالات والضغوط العربية نجحت في حث واشنطن علي أن تخرج عن صمتها, وتتجاوز موقف المتفرج علي شلال الدم الفلسطيني, الذي أغرق الضفة والقطاع, والذين يسوقون تلك الفكرة يستندون إلي مجموعة من الشواهد هي:
* إن الرئيس بوش أعلن عن اهتمامه باستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وعبر عن ذلك بقراره إعادة الجنرال أنتوني زيني إلي المنطقة, لمواصلة جهود الوساطة بين الطرفين.
* أن عودة زيني تزامنت مع جولة أخري في المنطقة, قام بها نائب الرئيس ريتشارد تشيني, استهدفت إطلاع زعماء دولها علي خطط واشنطن المقبلة.
* إن واشنطن تحدثت عن تحميل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي, مسئولية العنف المتزايد, وكانت من قبل تنتقد السلطة الفلسطينية وحدها, كما أن الرئيس الأمريكي انتقد حكومة شارون, حين أشار إلي أن الإجراءات التي تتخذها إزاء الفلسطينيين غير مشجعة, وهو ما ترتب عليه انسحاب القوات الإسرائيلية من بعض مناطق السلطة الفلسطينية, التي كانت قد أعادت احتلالها.
* إن واشنطن أسهمت بدور فعال في قرار مجلس الأمن, الذي صدر في3/13 وأشار لأول مرة الي الدولة الفلسطينية, الأمر الذي أعطي مرجعية لإقامة الدولة ضمن وثائق الأمم المتحدة.
في قراءة هذه المؤشرات, يتعين علينا أن نفرق بين ما إذا كانت تصب في الفروع أو الأصول, وما إذا كانت من قبيل مراجعة التكتيك أو الاستراتيجية, ذلك أننا إذا دققنا فيها جيدا فسنجد أنها في حقيقة الأمر حزمة تلويحات وتحركات وكلمات, هي أقرب إلي الغواية والتسكين منها إلي العلاج, وإذا جاز لي أن استخدم وصفا أطلقته من قبل علي مثل هذه المحاولات, فقد أكرر القول إننا بصدد عناوين ومفردات جديدة في خطاب ترطيب الجوانح, الذي يمنحك شعورا زائفا بالراحة والأمل, ويشجعك علي النعاس لبعض الوقت ـ حبذا كل الوقت! ـ حتي تغفل عن حقيقة ما يجري من حولك.
(2)
سيفيدنا بلا ريب أن نتوقف لحظة أمام توقيت هذه الإشارات وسياقها, قبل أن نتطرق إلي تقويمها, في هذا الصدد لابد أن يلفت انتباهنا أن الإدارة الأمريكية ظلت طيلة الأسابيع الأخيرة تصم آذانها عن النداءات الصادرة عن القيادة الفلسطينية وبعض العواصم العربية, مطالبة إياها بتحمل مسئوليتها كراعية رئيسية لعملية السلام, ليس ذلك فحسب, وإنما عمدت تلك الإدارة إلي تشجيع وتسويغ الاجتياح والافتراس الإسرائيليين للأراضي والجماهير الفلسطينية, واعتبرت أن عمليات الاغتيال والمذابح اليومية والقصف والتدمير اليومية للبيوت والمقار الفلسطينية, هي من قبيل الدفاع عن النفس, وكان ذلك مما دفع الحكومة الإسرائيلية إلي التوسع في عمليات البطش والقتل, اطمئنانا إلي الشرعية التي أضفتها واشنطن علي ممارساتها, وابتداعها فكرة حق القاتل في الدفاع عن نفسه في مواجهة رفض الضحية الاستسلام لمصير القتل.
خلال تلك الأسابيع, وكما قيل بحق, أخذ شارون فرصته كاملة ليتمكن من تحقيق الانتصار علي الفلسطينيين, ويدفعهم إلي الزحف علي بطونهم ووجوههم والتمسح بقدميه, قابلين بما يقسمه لهم من ذل, ومهانة, واندثار من التاريخ, والجغرافيا.
لكن شارون, وجيش الاحتلال, وكل الترسانة العسكرية( الإسرائيلية) الأمريكية, لم تتمكن من إلحاق الهزيمة بالشعب الفلسطيني, بل وتلقت تلك الآلة المتوحشة ضربات أذهلتها, من عمليات اقتحام مباغتة للحواجز, إلي نسف دبابة الميركافا ـ فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية ـ إلي العمليات الاستشهادية, التي قام بها شباب وفتيات, ألحقوا أفدح الخسائر بالعدو, وأسقطوا رهانات أمنه, ونسفوا وعود شارون, وهدموا هيبة الجيش الذي اعتاد الانتصارات السهلة, بل وكانت إحدي المفاجآت أن يتمكن الفلسطينيون من صناعة أسلحة تهدد أمن المستعمرات الصهيونية.
بعد كل الوقت الذي منحته الإدارة الأمريكية لشارون, وحكومته الائتلافية, ولجنرالات جيش( الدفاع), والعجز, والإحباط الذي سببه الفلسطينيون لحكومة شارون, وعدم وجود إمكانية إلحاق الهزيمة بروح التحدي الفلسطينية, كان لابد أن تتدخل الإدارة الأمريكية لإنقاذ الموقف.
لقد أدركت واشنطن, وكل الأطراف الغربية ذات العلاقة, أن شارون هزم في معركة كسر الإرادة الفلسطينية, وأن سياسة العصا الغليظة فشلت في تحقيق مرادها, وأن التصعيد الإسرائيلي يقابل بتصعيد وعناد فلسطينيين, الأمر الذي يحمل إسرائيل بخسائر أكبر بكثير مما يتحمله الفلسطينيون, بالمعيار النسبي, لذلك فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الهدف من إيفاد الجنرال زيني إلي المنطقة, هو بالدرجة الأولي إنقاذ رئيس الوزراء الإسرائيلي من الوحل الذي غرق فيه, هو ومؤسسته العسكرية, ومحاولة احتواء الهزيمة الإسرائيلية وتفاقمها.
(3)
خذ أيضا موضوع الدولة الفلسطينية, الذي ورد في قرار مجلس الأمن الأخير( الصادر في3/13), وهو ما هلل له كثيرون وطنطنوا.
مثل هذه الطنطنة خير دليل علي نجاح عملية التخدير, التي أصابت البعض منا بمجرد التلويح بمصطلح الدولة الفلسطينية, لا أريد أن أعطي القرار صفرا في التقويم, لكني أزعم أن إعطاءه الدرجة النهائية, أو حتي أي علامة مرتفعة يوقعنا في مصيدة التخدير, بل في محظور التدليس علي الناس والترويج للأوهام الكاذبة.
بالنسبة لي, لا أستطيع أن أقاوم الشك في صيغة القرار ومقاصده, حتي قبل أن أقرأ سطرا واحدا فيه, لمجرد أن تكون الولايات المتحدة هي التي قدمته, في حين أنها وقفت في مجلس الأمن بالمرصاد لقمع ومصادرة أي قرار ينصف الفلسطينيين من أي باب, إذ من حق أي واحد لم يفقد ذاكرته بعد, أن يتوجس شرا ويتساءل: ما الذي يدعو الإدارة الأمريكية إلي الحديث عن الدولة الفلسطينية الآن ضمن قرار لمجلس الأمن, وما الذي يدفع واحدا مثل شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل ـ وهو من هو ـ إلي الترحيب بالقرار؟ إزاء تساؤلات من هذا القبيل فإن المرء لا يتردد في أن يقول ـ وهو مغمض العينين ـ إن القرار في نهاية المطاف, وفي أحسن فروضه, فيه من المصلحة الإسرائيلية أكثر مما فيه من المصلحة الفلسطينية.
حين قرأت القرار وجدته أسوأ بكثير مما ذهبت, وأدركت أنه أعطي الفلسطينيين كلاما في الهواء, وأعطي الإسرائيليين كل ما يريدون علي الأرض في الوقت الراهن ـ كيف؟
من حيث الشكل يلاحظ قاريء النص, أن كلمة الدولة الفلسطينية ألقيت بسرعة في سطر واحد, ثم تم العبور فوقها الي أمور أخري, تصب كلها في الصالح الإسرائيلي, حتي يبدو وكأن المصطلح ألقي للتمويه, وكان بمثابة قشرة الموز التي ينزلق العابر فوقها إلي ما هو أبعد وأسوأ.
لقد ورد مصطلح الدولة الفلسطينية في عبارة واحدة تقول: إذ يؤكد( مجلس الأمن) رؤية تتوخي منطقة تعيش فيها دولتان, إسرائيل وفلسطين جنبا إلي جنب, ضمن حدود آمنة ومعترف بها, هذا كل ما في الأمر, دون أي تحديد للأرض التي ستقوم عليها دولة, لا لآلية إقامتها, ولا لأي تكليف للأمين العام بمتابعة القرار وإطلاع المجلس علي خطوات تنفيذه في أي أجل مضروب, بل إن المرء يشك في جدية القرار لأنه لم ينص حتي علي انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة, حيث لا يعقل أن يتم القفز إلي فكرة الدولة علي أرض محتلة, ولم يطالب مجلس الأمن المحتلين بالجلاء عنها.
صحيح أن العرب بوسعهم إذا أرادوا أن يتغاضوا عن التمويه, ويعملوا علي تحويل الهزل في النص إلي جد, فيطالبون بسد الثغرات التي تخللت القرار, والمطالبة بتحديد الآلية والآجال والانسحاب, لكن ذلك شيء آخر, وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ستحول دونه, باستخدام سلاح الفيتو, ببساطة لأنها لو أرادت أن يؤخذ النص علي محمل الجد لفعلت, لكنها لم ترد لدوافع الأصل فيها عدم البراءة.
في الشكل أيضا نلاحظ في استهلال القرار, أنه أشار إلي جميع القرارات السابقة ذات الصلة, خاصة القرارين242(1967), و338(1973), لكنه تجاهل وأسقط تماما قرار التقسيم الصادر في سنة1947, تحت رقم(181) ـ لماذا ـ ؟, لأن القرار ينص علي إقامة دولة إسرائيل علي56% من أرض فلسطين, بينما هي الآن مقامة علي78% من الأرض, بزيادة22% عما أعطاه لها قرار التقسيم( الأمر الذي يعني أن التفاوض الآن يدور حول22% فقط من الأرض, بينما للفلسطينيين طبقا للقرار44% من الأرض), وهذا هو السر في استثناء قرار التقسيم من المرجعية, رغم أن السياق يشير إلي جميع القرارات السابقة.
(4)
الشق الأهم في القرار ـ والمراد الحقيقي له ـ يدعو بقدر غير خاف من الصراحة, إلي وقف الانتفاضة الفلسطينية, المؤرق الأكبر لإسرائيل, وللولايات المتحدة بالتالي, ذلك أن الفقرة التالية لقشرة الموز تقول إنه إذ يساور مجلس الأمن بالغ القلق إزاء استمرار أحداث العنف المأساوية التي وقعت منذ سبتمبر/أيلول2000, بخاصة الهجمات الأخيرة وتزايد عدد الإصابات, وإذ يشدد علي ضرورة أن يكفل جميع الأطراف المعنية سلامة المدنيين, وإذ يشدد أيضا علي ضرورة احترام قواعد القانون الإنساني المعترف بها عالميا.. وإذ يرحب بمساهمة الأمير عبدالله ولي عهد المملكة العربية السعودية, يطالب:
* بالوقف الفوري لجميع أعمال العنف, بما في ذلك جميع أعمال الإرهاب والاستفزاز والتحريض والتدمير.
* يدعو الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وقادتهما, إلي التعاون في تنفيذ خطة عمل تينيت وتوصيات تقرير ميتشيل, بهدف استئناف المفاوضات للتوصل إلي تسوية سياسية.
* يعرب عن تأييده جهود الأمين العام والجهات الأخري الرامية إلي مساعدة الطرفين علي وقف العنف واستئناف عملية السلام.
جوهر القرار إذن يكمن في ذلك التعبير عنبالغ القلق إزاء استمرار أحداث العنف التي وقعت منذ سبتمبر2000, الذي هو تاريخ انطلاق الانتفاضة, والمدنيون الذين تخشي الولايات المتحدة علي مصيرهم وتعني براحتهم وسلامتهم, ليسوا هم الفلسطينيين بطبيعة الحال, الذين لا نعرف أن الإدارة الأمريكية شغلت بهم يوما ما, لكنهم الإسرائيليون. وأعمال العنف والإرهاب والاستفزاز في الخطاب الأمريكي الذي نحفظ مفرداته, هي كل صور المقاومة الوطنية والإسلامية في فلسطين ولبنان, أما المذابح وعمليات القتل التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية وتأمر بها, وأما الغارات التي يقوم بها المستعمرون ضد الفلسطينيين العزل, فهي في الخطاب الأمريكي الرسمي دفاع عن النفس, مبرر ومشروع!
وقف الانتفاضة ـ أكرر ـ هو الهدف الجوهري للقرار الذي صفق له كثيرون في العالم العربي, أما الإشارة المائعة إلي الدولة الفلسطينية, فهي بالضبط القرص المخدر الذي ابتلعناه, حتي يغيبنا عن القصد الخبيث الكامن في ثنايا العبارات ظاهرة البراءة.
لا يقف الأمر عند هذا الحد, وإنما هناك ضغوط غربية تمارس بقوة الآن, تطالب القمة العربية المرتقبة في بيروت بتبني قرار مجلس الأمن بشقيه, المائع الذي يلوح بحكاية الدولة الفلسطينية, والقاطع والحازم الداعي إلي وقف الانتفاضة, وستكون مفارقة ما بعدها مفارقة, أن تمرر القمة العربية القرار, بعد أن تنطلي عليها حكاية الدولة الفلسطينية, بحيث تقف في النهاية إلي جانب المطالبة بوقف الانتفاضة, بدلا من تأكيد دعمها وتعزيز موارد الصندوق الذي خصصته في قمة سابقة لمساندة مناضليها.
(5)
إذا مضينا إلي أبعد في محاولة إزالة الأستار والأغشية, التي تغلف الحقيقة, فسندرك أن الموضوع الفلسطيني برمته لا يحتل أولوية في استراتيجية البيت الأبيض الآن أو أولوياته, وسنجد أن واشنطن أرادت بمساعيها الراهنة أن تصيب عدة عصافير بحجر واحد, فهي تريد انقاذ شارون من ورطته عبر وقف الانتفاضة, وإيهام الفلسطينيين والإسرائيليين بعودة عجلة مسيرة السلام إلي الدوران مرة أخري, وهي تعمل في الوقت ذاته, علي ترطيب جوانح العرب وإرضائهم بكلمات مجانية تدغدغ مشاعرهم, ولا تكلف الأمريكيين فضلا عن الإسرائيليين شيئا, ومرادها في هذا وذاك أن تهديء المنطقة وتقلل من الشغب فيها, لكي تنصرف إلي ضرب العراق مطمئنة إلي أن العالم العربي لن يتململ علي نحو يزعجها, ولن يفيق بسرعة من تأثير القرص المخدر المتعلق بالدولة الفلسطينية.
في حديث تليفزيوني جري بثه مساء السبت3/9, قال تشيني نائب الرئيس الأمريكي, إن زيارته للمنطقة مكرسة لبحث مسائل عدة, ومن الضروري ألا يفهم أن المسألة الفلسطينية ستحتل موقعا مركزيا في تلك المباحثات, وهو كلام واضح وصريح في التعبير عن هامشية الملف الفلسطيني في مقاصد زيارته( وفي استراتيجية البيت الأبيض بوجه عام إن شئت الدقة), ولسنا بحاجة بعد ذلك لأن يقال لنا إن ترتيب ضرب العراق هو هدف الزيارة ومحورها, وإن كل ما نشهده من إشارات وإيماءات مقصود به تهيئة الظروف المواتية لبلوغ ذلك الهدف.
هل هذا الذي يخططون له ويريدون, قدر مكتوب لا فكاك منه؟
إجابتي علي السؤال بالنفي, وإن ذلك كله يمكن أن يتغير, وينقلب رأسا علي عقب, إذا ما ارتفعت أصواتنا في أرجاء العالم العربي بالرفض والاستنكار والدعوة إلي مساندة الانتفاضة, حتي تحقق مرادها في دحر الاحتلال وانسحاب قواته الغازية, إنهم يدفعون استحقاقات بلوغ الحلم من دمائهم في فلسطين, فهل نحن مستعدون لدفع استحقاق مساندة نضالهم بما هو أهون بكثير مما يقدمون؟ وبماذا نفسر تقاعس البعض منا وحبس أصوات البعض الآخر؟