هويدي 5-3-2002
هذه ملاحظات وهوامش علي دفتر الكارثة, شجعني علي اثباتها بيان الرئيس حسني مبارك, الذي دعا فيه إلي عدم السماح لأي محاولة لإخفاء حقيقة ما جري, والي ضرورة محاسبة كل مسئول يثبت تقصيره او تراخيه في حقوق الناس.
(1)
الملاحظة الأولي أن عدد الضحايا يرجح له أن يكون اكبر بكثير من التقدير الذي أعلن, رغم أن373 قتيلا ليس بالعدد القليل. ذلك أن ركاب كل عربة يفترض أن يكون عددهم في حدود مائة شخص( في العربة96 مقعدا). ولكن واقع الحال يشير إلي أن الركاب يصل عددهم إلي ضعف هذا الرقم في الأيام العادية, حيث يتكدس البشر في كل عربة إلي الحد الذي يمتليء فيه الممر, بل والأرفف المخصصة للحقائب, وقد رأينا فيما نشره الأهرام يوم2/25 صورا لركاب تمددوا علي تلك الأرفف.أما في الأعياد الرئيسية, مثل عيدالأضحي, فإن عدد ركاب العربة الواحدة يصل إلي300 تقريبا, حيث يحرص مئات الألوف من العمال علي قضاء العطلة مع أهاليهم في أنحاء الصعيد, خاصة أن العرف جري علي إطالة تلك العطلات إلي فترة تتراوح بين أسبوع وأسبوعين. لاتسأل كيف ينحشر البشر داخل كل عربة, فذلك لغز يصعب حله وتصوره. لكن رقم300 راكب للعربة تداولته كل الصحف, وردده الشهود والخبراء, حتي أصبح متواترا بشكل يصعب التشكيك فيه.اذا انتبهنا إلي أن عربات القطار التي احترقت بكاملها كان عددها سبعا فمعني ذلك أن الركاب الذين تعرضوا للحريق كان عددهم حوالي2000 شخص, أو قل1500 اذا أردنا أن نذهب إلي أبعد في الاحتياط, وقد أعلن رسميا أن القتلي عددهم373, كما أعلن أن عدد الجرحي الذين أودعوا المستشفيات61 شخصا, بمجموع يصل إلي434 شخصا, وهو رقم يعادل اقل من ثلث ركاب العربات السبع, الأمر الذي يثير سؤالا كبيرا هو: هل نجا من الحريق ألف ومائة أو ألف وخمسمائة شخص؟
لم نقرأ أن عدد الناجين بهذا العدد الكبير, وإنما تحدثت الصحف عن آحاد من الناس, أو قل عشرات إن شئت المبالغة, كتبت لهم النجاة. وإذا صح هذا التحليل فانه يكرر السؤال بصيغة أخري متسائلا عن مصير اكثر من ألف راكب علي الأقل كانوا في العربات المحترقة.
تحتاج إجابة السؤال إلي تدقيق ومراجعة, الأمر الذي يضعنا أمام احتمال كبير لمضاعفة أعداد القتلي. وهو الاستنتاج الذي يردده بعض العاملين في هيئة السكة الحديد, وقد عبرت عنه صحيفة الوفد( عدد2/25) حيث نقلت علي صفحتها الأولي علي لسان بعض الناجين قولهم ان عدد الضحايا اكبر بكثير من الرقم الذي عممته وسائل الإعلام, وهو أيضا ما أشارت اليه جريدة الاهالي( في عدد2/27), حين ذكرت في عنوانها الرئيسي أن عدد ضحايا كارثة القطار أكبر من التقديرات الرسمية. وقد ذهبت صحيفة الأنباء الكويتية إلي ابعد, حين نشرت علي صفحتها الأولي في2/22 أن ضحايا عدد قطار الموت2100 شخص. ويلفت النظر في هذا الصدد إلي أن صحيفة القدس العربي اللندنية الصادرة في نفس اليوم ذكرت الرقم ذاته في تقدير عدد الضحايا, ونسبته الي مسئول في هيئة السكك الحديدية, بينما ذكرت شبكة تليفزيون
ZDFA
الالمانية في برنامج لها حول الكارثة ان عدد القتلي لايمكن ان يقل عن الف شخص( جريدة الوفد2/28)
(2)
حين يفكر المرء فيما جري يخطر علي باله السؤال التالي: أكان لابد أن تقع كارثة بذلك الحجم المروع, لكي ينتبه المعنيون بالأمر إلي تدهور حال قطارات الفقراء, وأنها لم تعد تصلح للاستخدام الآدمي؟
أن الصحف مابرحت تدق أجراس الإنذار خلال السنوات الأخيرة منبهة إلي خطورة الوضع في تلك القطارات البائسة, وحين يقلب المرء صفحات أي أرشيف صحفي يجد كما لافتا للنظر من تلك الكتابات في هذا الصدد, التي لم يكن لها صدي يذكر. من جانبي قمت بهذه العملية, وفوجئت بأن مفردات الكارثة التي مررنا بها كانت عناوين التحقيقات والاستطلاعات التي أعدها زملاؤنا وزميلاتنا خلال العقدين الماضيين, من تكدس القطارات بالركاب الي انعدام الخدمات فيها, إلي خلوها من متطلبات الأمان والسلامة وانتهاء لبؤس المقاعد وانتشار اللصوص والبلطجية بين الركاب.
ذلك كله كان معلوما, وما تحفل به الصحف هذه الأيام من تعليقات وتصريحات حول أوضاع عربات الدرجة الثالثة في المرفق ليس فيه خبر واحد جديد, ولا احسبه أضاف شيئا إلي معلومات القائمين علي الأمر في السكك الحديدية ولاذاكرة المواطن المتابع فضلا عن الذي يعاني. الجديد فقط هو النتائج التي ترتبت علي تراكم مشكلات المرفق وعدم العناية بحلها.
لابد من الاعتراف بأننا بصدد حالة إهمال شديد وجسيم لتلك القطارات التي يؤمها الفقراء في ربوع مصر. الدليل علي ذلك أن القطارات والعربات الأخري التي يرتادها القادرون تعامل معاملة مختلفة تماما, علي الأقل في إجراءات السلامة وضماناتها. ولست أوافق القائلين بأن نقص الموارد المالية هو السبب فيما آلت إليه حال عربات الدرجة الثالثة, ليس فقط لان تلك الموارد متوافرة بصورة نسبية فيما يخص قطارات القادرين,ولكن أيضا لأن تفكير المسئولين في وزارة النقل اتجه قبل أشهر قليلة إلي الدخول في مشروع لشراء قطار يعمل بين الإسكندرية وأسوان, لكي يقطع المسافة من أقصي البلاد إلي أقصاها في ثلاث ساعات فقط, وقد قدرت تكاليفة بعشرة مليارات دولار ـــ أكرر: عشرة مليارات دولار. وقيل وقتذاك ان المشروع ــ الذي تقدمت به مجموعة شركات أسبانية ــ سيقدم خدمة جليلة للسياحة والسياح في مصر.
في حدود علمي فان المشروع لم يتفق عليه بعد, لكن مجرد الاستعداد لبحثه ومناقشته وتوفير ذلك المبلغ المهول له, بالأقتراض أو بغير ذلك يعني أن هناك استعدادا لاحدود له لخدمة السياح, ولكن ذلك الاستعداد مفقود تماما في حالة قطارات الفقراء, الذين هم أهم وأولي من السياح. حيث لامانع من ضخ عشرة ملايين دولار, لشراء احدث قطارات في العالم لخدمة السياح(ولالزوم لها في حقيقة الأمر, حيث الموجود يؤدي الغرض وزيادة), وهناك مشكلة في تدبير120 مليون جنيه مصري( أي مايعادل24 مليون دولار في المتوسط) لتجديد1200 وحدة من عربات الدرجة الثالثة, كما ذكر الرئيس الجديد لهيئة السكك الحديدية.
لقد قرأت علي الصفحات الأولي من صحف صباح2/23 تصريحات لرئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد قال فيها إن الحكومة بصدد تخصيص اعتمادات إضافية لتوفير متطلبات الأمان والسلامة لجميع وسائل النقل, وتعميم انظمة التحكم في جميع القطارات, وذلك توجه إيجابي ورشيد لا ريب, لكنه يثير السؤال التالي: هل متطلبات الأمان والسلامة لوسائل النقل من الأمور التي يمكن تأجيلها لعدة سنوات, ولماذا سكتت كل الأجهزة والجهات المعنية بالموضوع علي القصور في ذلك الصدد طيلة السنوات التي خلت ؟
(3)
ملاحظتي الثالثة أن الكارثة تستدعي ماهو اكثر من ملف القطارات والسكك الحديدية, إذ أزعم أنها تأتي كاشفة لحقيقة القصور فيما يقدم للمواطن العادي, البسيط, من خدمات. في المدارس والمستشفيات والمساكن والطرق, وحظوظهم من مياه الشرب النقية والكهرباء والصرف الصحي وغير ذلك. وهي حظوظ متدنية بشكل عام, وأكثر تدنيا في صعيد مصر بوجه أخص, الذي يمثل قاع البلد بامتياز, علي حد تعبير الدكتور جمال حمدان رحمه الله.
اذكر ابتداء بمأساة حوادث الطرق وبأن مصر أصبحت تحتل رأس قائمة الدول التي تهدر فيها أرواح آلاف البشر علي الطرق البرية بالمجان كل عام.
ثم اكرر الدعوة إلي تقليب صفحات ملفات الأرشيف الصحفي المتعلقة بالخدمات التي تقدم للمواطنين البسطاء والفقراء. ذلك أني حين فعلتها وجدت أن تلك الملفات تتضمن مستويين من الكتابات, الأول تحدث عن الإنجازات, سواء تلك التي تأتي في سياق البيانات والتصريحات الرسمية, أو تلك التي تحفل بها الإعلانات المدفوعة, خصوصا بعدما استقر عرف في الصحف يقضي بتخصيص مساحات إعلانية لكل وزارة, تعبأ كل أسبوع بكل مايجمل الوجه ويشيد بالجهد ويهتف لمن يدفع قيمة الإعلان.
أما المستوي الآخر من الكتابات فهو يتضمن التحقيقات والاستطلاعات التي قام بها الصحفيون في إطار تصويرهم معاناة الناس ومحاولة الاقتراب من نبضهم. والصورة التي تقدمها تلك التحقيقات علي النقيض في الأغلب من تلك التي تسوقها التصريحات الرسمية وتطنطن بها الإعلانات.
ولعلي لا أبالغ اذا قلت أن المعاناة التي سجلتها الصور والتقارير الصحفية هي الأقرب إلي الحقيقة, ليس فقط لان الشكوي من تلك المعاناة علي كل لسان, ولكن أيضا لأنه لايمكن عقلا أن تكون قطارات الفقراء بذلك المستوي البائس من التدهور, بينما الخدمات الأخري تقدم لهم كاملة الأوصاف وخالية من أي عيب! ــ ولايستطيع أحد أن يتصور إمكانية أن يكون تردي خدمات النقل والمواصلات من قبيل القصور الاستثنائي والنشاز, وسط منظومة الخدمات المقدمة للناس والمرتفعة المستوي.
وكل من تابع مناقشات مجلس الشعب في يوم2/3, التي دارت حول أوضاع الأقاليم ومشكلات مصر الأخري, يجد في المحضر المسجل تصديقا لما نقول, وتأكيدا علي أن مرحلة ما بعد الانفتاح شهدت تراجعا للاهتمام بالشرائح الفقيرة, استصحب صعودا لافتا للنظر في مؤشرات الاهتمام بالقادرين والأغنياء.
هذا ليس اكتشافا, ولكنه واقع انتبهت إليه الحكومة ذاتها, بعد الدوي الذي أحدثته كارثة القطار. آية ذلك أننا قرأنا علي الصفحة الأولي من الأهرام(عدد25 فبراير) أن رئيس الوزراء سوف يعقد سلسلة من الاجتماعات مع وزراء الخدمات, لرفع مستوي خدمات المرافق المرتبطة بالحياة اليومية للجماهير. كما سيعقد اجتماعات أخري مع وزراء المجموعة الاقتصادية لتوفير الإعتمادات الإضافية المقدر توجيهها إلي الهيئات والمرافق لتحقيق هذا الغرض, مع الاهتمام بتوفير الخدمات الأساسية للمناطق المحرومة, ومن ثم تأمين الحياة الكريمة لغير القادرين. كما ستجري في الوقت ذاته مناقشة دعم دور الأجهزة الرقابية في تتبع وعلاج مظاهر القصور.. الخ.
يستشعر المرء راحة وغبطة حين يقرأ هذا الكلام, لكنه لايلبث أن يتساءل: أليس ذلك هو جوهر مهمة كل حكومة, بل هو مبرر وجود السلطة ذاتها؟ واذا لم تكن تلك الأمور هي شاغلها منذ وجدت, فما الذي كان يشغلها إذن؟!
(4)
ملاحظتي الرابعة أن التحرك الرسمي في التعامل مع الكارثة كان بطيئا بصورة نسبية, وان التصريحات الرسمية الأولي لم يحالفها التوفيق, بل كانت صادمة واستفزازية للرأي العام, وبوجه أخص لأهالي الضحايا.لقد احترق القطار عند منتصف ليلة الأربعاء(2/20), وأبلغت أجهزة الدولة بخبر الكارثة في الساعة الواحدة صباحا, الأمر الذي حرك أجهزة الإسعاف والإطفاء والشرطة, التي حاولت إنقاذ مايمكن إنقاذه, بعدما وقعت الواقعة.وباستثناء برقية العزاء التي وجهها الرئيس مبارك إلي أسر الضحايا, فلم يكن هناك تحرك اخر ذو بال طيلة يوم الأربعاء, حتي أن التليفزيون لم يفكر في تغيير برامجه, ولا التعبير عن حجم المأساة بأي شكل. فقد اكتفت نشراته الإخبارية بإذاعة الخبر وذكر أسماء المصابين والمستشفيات التي وزعوا عليها, بينما سهرات المساء تراوحت بين برامج تحدثت عن المشكلات المصرفية وقضية العنف بين الشباب, وبين مسلسل لن تسرق عمري وفيلم تليفزيوني عنوانه زواج علي ورق سوليفان, وانتهاء بمباراة بين فريقي البرازيل والدنمارك لكرة القدم!
لم تتحرك الدولة بشكل جاد ولم تعبر عن حزنها الحقيقي التي كانت الجنازة الجماعية رمزا له, إلا بعدما وجه الرئيس حسني مبارك بيانه إلي الأمة, وأعلن فيه رفضه لاية محاولة لإخفاء الحقيقة.
(5)
كان من الطبيعي والضروري أن يستقيل وزير النقل ومعه رئيس هيئة السكك الحديدية, إعمالا لمبدأ المسئولية الأدبية, الذي تطبقه الدول التي تحترم الرأي العام. وهذه خطوة متحضرة لاريب. تثير عندي مسألتين هما:
* أنني أخشي الوقوف عند هذا الحد, بحيث يظن أن المشكلة يمكن أن تحل بتغيير الرجلين, وقد أثارت هذا الهاجس عندي التحقيقات الصحفية التي نشرت بعد وقوع الكارثة, حيث قام بعض الصحفيين برحلات علي ذات الخط, وركبوا ذات القطار الذي يغادر القاهرة إلي أسوان قبل منتصف الليل, ووجدوا أن كل شيء كما هو, لم يتغير فيه شيء رغم مضي سبعة أيام علي الحادث, حتي طفايات الحريق التي لاتحتاج أكثر من قرار تنفيذي, لم يكلف أحد خاطره ويتولي تزويد عربات القطار بها. وشاهدنا في عدد الأهرام الصادر يوم2/25 مع واحد من تلك التحقيقات التي أشرت إليها, صورة لتكدس البشر في داخل عربات القطار, وبينها صورة لمكان طفاية الحريق, كان لايزال فارغا.
* المسألة الثانية أنني أتمني أن نرسي قيمة الحساب عن المسئولية الأدبية فضلا عن المادية والقانونية, بالنسبة لكل القيادات التي يثبت تقصير الأجهزة التابعة لها في القيام بمهامها, ناهيك عن القيادات ذاتها التي تعجز عن تحقيق الاهداف المرجوة منها. وإذا كانت هناك كوارث ظاهرة تصدم الرأي العام من خلال ارتفاع عدد الضحايا مثلا, فهناك كوارث أخري يظهر أثرها بعد حين, وكثيرا مايكون ضحيتها هو المجتمع بأسره والمستقبل في المدي القريب والبعيد, وهذه أيضا يتعين محاسبة المسئولين عنها بذات المعيار.
أن دروس الكارثة يمكن أن تكون اكثر من ذلك, وهي تحتاج إلي مناقشة موسعة يشارك فيها كل المخلصين من أبناء هذا الوطن, وإذا ما تحقق ذلك فربما تحولت الكارثة إلي فرصة, وأصبحت من نوع النوازل الضارة النافعة
جربوها مرة, وسترون أننا بعد الكارثة صرنا أكثر صحة وعافية مما كنا قبلها.
هذه ملاحظات وهوامش علي دفتر الكارثة, شجعني علي اثباتها بيان الرئيس حسني مبارك, الذي دعا فيه إلي عدم السماح لأي محاولة لإخفاء حقيقة ما جري, والي ضرورة محاسبة كل مسئول يثبت تقصيره او تراخيه في حقوق الناس.
(1)
الملاحظة الأولي أن عدد الضحايا يرجح له أن يكون اكبر بكثير من التقدير الذي أعلن, رغم أن373 قتيلا ليس بالعدد القليل. ذلك أن ركاب كل عربة يفترض أن يكون عددهم في حدود مائة شخص( في العربة96 مقعدا). ولكن واقع الحال يشير إلي أن الركاب يصل عددهم إلي ضعف هذا الرقم في الأيام العادية, حيث يتكدس البشر في كل عربة إلي الحد الذي يمتليء فيه الممر, بل والأرفف المخصصة للحقائب, وقد رأينا فيما نشره الأهرام يوم2/25 صورا لركاب تمددوا علي تلك الأرفف.أما في الأعياد الرئيسية, مثل عيدالأضحي, فإن عدد ركاب العربة الواحدة يصل إلي300 تقريبا, حيث يحرص مئات الألوف من العمال علي قضاء العطلة مع أهاليهم في أنحاء الصعيد, خاصة أن العرف جري علي إطالة تلك العطلات إلي فترة تتراوح بين أسبوع وأسبوعين. لاتسأل كيف ينحشر البشر داخل كل عربة, فذلك لغز يصعب حله وتصوره. لكن رقم300 راكب للعربة تداولته كل الصحف, وردده الشهود والخبراء, حتي أصبح متواترا بشكل يصعب التشكيك فيه.اذا انتبهنا إلي أن عربات القطار التي احترقت بكاملها كان عددها سبعا فمعني ذلك أن الركاب الذين تعرضوا للحريق كان عددهم حوالي2000 شخص, أو قل1500 اذا أردنا أن نذهب إلي أبعد في الاحتياط, وقد أعلن رسميا أن القتلي عددهم373, كما أعلن أن عدد الجرحي الذين أودعوا المستشفيات61 شخصا, بمجموع يصل إلي434 شخصا, وهو رقم يعادل اقل من ثلث ركاب العربات السبع, الأمر الذي يثير سؤالا كبيرا هو: هل نجا من الحريق ألف ومائة أو ألف وخمسمائة شخص؟
لم نقرأ أن عدد الناجين بهذا العدد الكبير, وإنما تحدثت الصحف عن آحاد من الناس, أو قل عشرات إن شئت المبالغة, كتبت لهم النجاة. وإذا صح هذا التحليل فانه يكرر السؤال بصيغة أخري متسائلا عن مصير اكثر من ألف راكب علي الأقل كانوا في العربات المحترقة.
تحتاج إجابة السؤال إلي تدقيق ومراجعة, الأمر الذي يضعنا أمام احتمال كبير لمضاعفة أعداد القتلي. وهو الاستنتاج الذي يردده بعض العاملين في هيئة السكة الحديد, وقد عبرت عنه صحيفة الوفد( عدد2/25) حيث نقلت علي صفحتها الأولي علي لسان بعض الناجين قولهم ان عدد الضحايا اكبر بكثير من الرقم الذي عممته وسائل الإعلام, وهو أيضا ما أشارت اليه جريدة الاهالي( في عدد2/27), حين ذكرت في عنوانها الرئيسي أن عدد ضحايا كارثة القطار أكبر من التقديرات الرسمية. وقد ذهبت صحيفة الأنباء الكويتية إلي ابعد, حين نشرت علي صفحتها الأولي في2/22 أن ضحايا عدد قطار الموت2100 شخص. ويلفت النظر في هذا الصدد إلي أن صحيفة القدس العربي اللندنية الصادرة في نفس اليوم ذكرت الرقم ذاته في تقدير عدد الضحايا, ونسبته الي مسئول في هيئة السكك الحديدية, بينما ذكرت شبكة تليفزيون
ZDFA
الالمانية في برنامج لها حول الكارثة ان عدد القتلي لايمكن ان يقل عن الف شخص( جريدة الوفد2/28)
(2)
حين يفكر المرء فيما جري يخطر علي باله السؤال التالي: أكان لابد أن تقع كارثة بذلك الحجم المروع, لكي ينتبه المعنيون بالأمر إلي تدهور حال قطارات الفقراء, وأنها لم تعد تصلح للاستخدام الآدمي؟
أن الصحف مابرحت تدق أجراس الإنذار خلال السنوات الأخيرة منبهة إلي خطورة الوضع في تلك القطارات البائسة, وحين يقلب المرء صفحات أي أرشيف صحفي يجد كما لافتا للنظر من تلك الكتابات في هذا الصدد, التي لم يكن لها صدي يذكر. من جانبي قمت بهذه العملية, وفوجئت بأن مفردات الكارثة التي مررنا بها كانت عناوين التحقيقات والاستطلاعات التي أعدها زملاؤنا وزميلاتنا خلال العقدين الماضيين, من تكدس القطارات بالركاب الي انعدام الخدمات فيها, إلي خلوها من متطلبات الأمان والسلامة وانتهاء لبؤس المقاعد وانتشار اللصوص والبلطجية بين الركاب.
ذلك كله كان معلوما, وما تحفل به الصحف هذه الأيام من تعليقات وتصريحات حول أوضاع عربات الدرجة الثالثة في المرفق ليس فيه خبر واحد جديد, ولا احسبه أضاف شيئا إلي معلومات القائمين علي الأمر في السكك الحديدية ولاذاكرة المواطن المتابع فضلا عن الذي يعاني. الجديد فقط هو النتائج التي ترتبت علي تراكم مشكلات المرفق وعدم العناية بحلها.
لابد من الاعتراف بأننا بصدد حالة إهمال شديد وجسيم لتلك القطارات التي يؤمها الفقراء في ربوع مصر. الدليل علي ذلك أن القطارات والعربات الأخري التي يرتادها القادرون تعامل معاملة مختلفة تماما, علي الأقل في إجراءات السلامة وضماناتها. ولست أوافق القائلين بأن نقص الموارد المالية هو السبب فيما آلت إليه حال عربات الدرجة الثالثة, ليس فقط لان تلك الموارد متوافرة بصورة نسبية فيما يخص قطارات القادرين,ولكن أيضا لأن تفكير المسئولين في وزارة النقل اتجه قبل أشهر قليلة إلي الدخول في مشروع لشراء قطار يعمل بين الإسكندرية وأسوان, لكي يقطع المسافة من أقصي البلاد إلي أقصاها في ثلاث ساعات فقط, وقد قدرت تكاليفة بعشرة مليارات دولار ـــ أكرر: عشرة مليارات دولار. وقيل وقتذاك ان المشروع ــ الذي تقدمت به مجموعة شركات أسبانية ــ سيقدم خدمة جليلة للسياحة والسياح في مصر.
في حدود علمي فان المشروع لم يتفق عليه بعد, لكن مجرد الاستعداد لبحثه ومناقشته وتوفير ذلك المبلغ المهول له, بالأقتراض أو بغير ذلك يعني أن هناك استعدادا لاحدود له لخدمة السياح, ولكن ذلك الاستعداد مفقود تماما في حالة قطارات الفقراء, الذين هم أهم وأولي من السياح. حيث لامانع من ضخ عشرة ملايين دولار, لشراء احدث قطارات في العالم لخدمة السياح(ولالزوم لها في حقيقة الأمر, حيث الموجود يؤدي الغرض وزيادة), وهناك مشكلة في تدبير120 مليون جنيه مصري( أي مايعادل24 مليون دولار في المتوسط) لتجديد1200 وحدة من عربات الدرجة الثالثة, كما ذكر الرئيس الجديد لهيئة السكك الحديدية.
لقد قرأت علي الصفحات الأولي من صحف صباح2/23 تصريحات لرئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد قال فيها إن الحكومة بصدد تخصيص اعتمادات إضافية لتوفير متطلبات الأمان والسلامة لجميع وسائل النقل, وتعميم انظمة التحكم في جميع القطارات, وذلك توجه إيجابي ورشيد لا ريب, لكنه يثير السؤال التالي: هل متطلبات الأمان والسلامة لوسائل النقل من الأمور التي يمكن تأجيلها لعدة سنوات, ولماذا سكتت كل الأجهزة والجهات المعنية بالموضوع علي القصور في ذلك الصدد طيلة السنوات التي خلت ؟
(3)
ملاحظتي الثالثة أن الكارثة تستدعي ماهو اكثر من ملف القطارات والسكك الحديدية, إذ أزعم أنها تأتي كاشفة لحقيقة القصور فيما يقدم للمواطن العادي, البسيط, من خدمات. في المدارس والمستشفيات والمساكن والطرق, وحظوظهم من مياه الشرب النقية والكهرباء والصرف الصحي وغير ذلك. وهي حظوظ متدنية بشكل عام, وأكثر تدنيا في صعيد مصر بوجه أخص, الذي يمثل قاع البلد بامتياز, علي حد تعبير الدكتور جمال حمدان رحمه الله.
اذكر ابتداء بمأساة حوادث الطرق وبأن مصر أصبحت تحتل رأس قائمة الدول التي تهدر فيها أرواح آلاف البشر علي الطرق البرية بالمجان كل عام.
ثم اكرر الدعوة إلي تقليب صفحات ملفات الأرشيف الصحفي المتعلقة بالخدمات التي تقدم للمواطنين البسطاء والفقراء. ذلك أني حين فعلتها وجدت أن تلك الملفات تتضمن مستويين من الكتابات, الأول تحدث عن الإنجازات, سواء تلك التي تأتي في سياق البيانات والتصريحات الرسمية, أو تلك التي تحفل بها الإعلانات المدفوعة, خصوصا بعدما استقر عرف في الصحف يقضي بتخصيص مساحات إعلانية لكل وزارة, تعبأ كل أسبوع بكل مايجمل الوجه ويشيد بالجهد ويهتف لمن يدفع قيمة الإعلان.
أما المستوي الآخر من الكتابات فهو يتضمن التحقيقات والاستطلاعات التي قام بها الصحفيون في إطار تصويرهم معاناة الناس ومحاولة الاقتراب من نبضهم. والصورة التي تقدمها تلك التحقيقات علي النقيض في الأغلب من تلك التي تسوقها التصريحات الرسمية وتطنطن بها الإعلانات.
ولعلي لا أبالغ اذا قلت أن المعاناة التي سجلتها الصور والتقارير الصحفية هي الأقرب إلي الحقيقة, ليس فقط لان الشكوي من تلك المعاناة علي كل لسان, ولكن أيضا لأنه لايمكن عقلا أن تكون قطارات الفقراء بذلك المستوي البائس من التدهور, بينما الخدمات الأخري تقدم لهم كاملة الأوصاف وخالية من أي عيب! ــ ولايستطيع أحد أن يتصور إمكانية أن يكون تردي خدمات النقل والمواصلات من قبيل القصور الاستثنائي والنشاز, وسط منظومة الخدمات المقدمة للناس والمرتفعة المستوي.
وكل من تابع مناقشات مجلس الشعب في يوم2/3, التي دارت حول أوضاع الأقاليم ومشكلات مصر الأخري, يجد في المحضر المسجل تصديقا لما نقول, وتأكيدا علي أن مرحلة ما بعد الانفتاح شهدت تراجعا للاهتمام بالشرائح الفقيرة, استصحب صعودا لافتا للنظر في مؤشرات الاهتمام بالقادرين والأغنياء.
هذا ليس اكتشافا, ولكنه واقع انتبهت إليه الحكومة ذاتها, بعد الدوي الذي أحدثته كارثة القطار. آية ذلك أننا قرأنا علي الصفحة الأولي من الأهرام(عدد25 فبراير) أن رئيس الوزراء سوف يعقد سلسلة من الاجتماعات مع وزراء الخدمات, لرفع مستوي خدمات المرافق المرتبطة بالحياة اليومية للجماهير. كما سيعقد اجتماعات أخري مع وزراء المجموعة الاقتصادية لتوفير الإعتمادات الإضافية المقدر توجيهها إلي الهيئات والمرافق لتحقيق هذا الغرض, مع الاهتمام بتوفير الخدمات الأساسية للمناطق المحرومة, ومن ثم تأمين الحياة الكريمة لغير القادرين. كما ستجري في الوقت ذاته مناقشة دعم دور الأجهزة الرقابية في تتبع وعلاج مظاهر القصور.. الخ.
يستشعر المرء راحة وغبطة حين يقرأ هذا الكلام, لكنه لايلبث أن يتساءل: أليس ذلك هو جوهر مهمة كل حكومة, بل هو مبرر وجود السلطة ذاتها؟ واذا لم تكن تلك الأمور هي شاغلها منذ وجدت, فما الذي كان يشغلها إذن؟!
(4)
ملاحظتي الرابعة أن التحرك الرسمي في التعامل مع الكارثة كان بطيئا بصورة نسبية, وان التصريحات الرسمية الأولي لم يحالفها التوفيق, بل كانت صادمة واستفزازية للرأي العام, وبوجه أخص لأهالي الضحايا.لقد احترق القطار عند منتصف ليلة الأربعاء(2/20), وأبلغت أجهزة الدولة بخبر الكارثة في الساعة الواحدة صباحا, الأمر الذي حرك أجهزة الإسعاف والإطفاء والشرطة, التي حاولت إنقاذ مايمكن إنقاذه, بعدما وقعت الواقعة.وباستثناء برقية العزاء التي وجهها الرئيس مبارك إلي أسر الضحايا, فلم يكن هناك تحرك اخر ذو بال طيلة يوم الأربعاء, حتي أن التليفزيون لم يفكر في تغيير برامجه, ولا التعبير عن حجم المأساة بأي شكل. فقد اكتفت نشراته الإخبارية بإذاعة الخبر وذكر أسماء المصابين والمستشفيات التي وزعوا عليها, بينما سهرات المساء تراوحت بين برامج تحدثت عن المشكلات المصرفية وقضية العنف بين الشباب, وبين مسلسل لن تسرق عمري وفيلم تليفزيوني عنوانه زواج علي ورق سوليفان, وانتهاء بمباراة بين فريقي البرازيل والدنمارك لكرة القدم!
لم تتحرك الدولة بشكل جاد ولم تعبر عن حزنها الحقيقي التي كانت الجنازة الجماعية رمزا له, إلا بعدما وجه الرئيس حسني مبارك بيانه إلي الأمة, وأعلن فيه رفضه لاية محاولة لإخفاء الحقيقة.
(5)
كان من الطبيعي والضروري أن يستقيل وزير النقل ومعه رئيس هيئة السكك الحديدية, إعمالا لمبدأ المسئولية الأدبية, الذي تطبقه الدول التي تحترم الرأي العام. وهذه خطوة متحضرة لاريب. تثير عندي مسألتين هما:
* أنني أخشي الوقوف عند هذا الحد, بحيث يظن أن المشكلة يمكن أن تحل بتغيير الرجلين, وقد أثارت هذا الهاجس عندي التحقيقات الصحفية التي نشرت بعد وقوع الكارثة, حيث قام بعض الصحفيين برحلات علي ذات الخط, وركبوا ذات القطار الذي يغادر القاهرة إلي أسوان قبل منتصف الليل, ووجدوا أن كل شيء كما هو, لم يتغير فيه شيء رغم مضي سبعة أيام علي الحادث, حتي طفايات الحريق التي لاتحتاج أكثر من قرار تنفيذي, لم يكلف أحد خاطره ويتولي تزويد عربات القطار بها. وشاهدنا في عدد الأهرام الصادر يوم2/25 مع واحد من تلك التحقيقات التي أشرت إليها, صورة لتكدس البشر في داخل عربات القطار, وبينها صورة لمكان طفاية الحريق, كان لايزال فارغا.
* المسألة الثانية أنني أتمني أن نرسي قيمة الحساب عن المسئولية الأدبية فضلا عن المادية والقانونية, بالنسبة لكل القيادات التي يثبت تقصير الأجهزة التابعة لها في القيام بمهامها, ناهيك عن القيادات ذاتها التي تعجز عن تحقيق الاهداف المرجوة منها. وإذا كانت هناك كوارث ظاهرة تصدم الرأي العام من خلال ارتفاع عدد الضحايا مثلا, فهناك كوارث أخري يظهر أثرها بعد حين, وكثيرا مايكون ضحيتها هو المجتمع بأسره والمستقبل في المدي القريب والبعيد, وهذه أيضا يتعين محاسبة المسئولين عنها بذات المعيار.
أن دروس الكارثة يمكن أن تكون اكثر من ذلك, وهي تحتاج إلي مناقشة موسعة يشارك فيها كل المخلصين من أبناء هذا الوطن, وإذا ما تحقق ذلك فربما تحولت الكارثة إلي فرصة, وأصبحت من نوع النوازل الضارة النافعة
جربوها مرة, وسترون أننا بعد الكارثة صرنا أكثر صحة وعافية مما كنا قبلها.