هويدي 5-2-2002
بعدما أعلن حربه علي محور الشر فإنه تعهد بإصلاح الكون, وأشهرها من ثم حملة للتأديب والتهذيب والإصلاح في طول الكرة الأرضية وعرضها, حتي رأينا الرئيس بوش في خطابه الأخير مرتديا مسوح رهبان البروتستانت, ومتحدثا بلغة قياصرة روما القديمة, الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة القلقة حول جدية تلك العروض ومآلاتها.
(1)
أتحدث عن خطاب حال الاتحاد السنوي الذي ألقاه الرئيس الأمريكي يوم الثلاثاء الماضي1/29, وبدا فيه متحدثا عن حال العالم, إن شئت فقل إن ذلك كان الشق الأكثر إثارة فيه, من حيث إنه كان مستقويا بأكثر مما ينبغي, ومشهرا هراوته بأطول ما ينبغي.
في خطابه قال: إن للولايات المتحدة في الوقت الراهن هدفين أساسيين هما: تصفية معسكرات الإرهاب وتقديم الإرهابيين للعدالة, ثم منع الأنظمة الراعية للإرهاب من تهديد الولايات المتحدة وأصدقائها وحلفائها. أشار في هذا السياق إلي محور الشر المتمثل في إيران والعراق وكوريا الشمالية, وإلي منظمات مثل: حركة حماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان وجيش محمد في باكستان. وقال: إن ثمة معسكرات للإرهابيين في12 بلدا, كما أن هناك عشرات الآلاف من الإرهابيين منتشرين في أنحاء العالم.
في تحذير غير خاف قال: إن بعض الدول تفتقر إلي الشجاعة في مواجهة الإرهاب, لكن يجب ألا يكون هناك أي شك في أن هذه الدول إذا لم تتصرف فإن أمريكا ستتصرف!
تحدث الرئيس الأمريكي باعتباره ضامنا وكفيلا لإسرائيل, وبحسبانها داخلة ضمن الأصدقاء والحلفاء, ومن ثم فإنه ـ كما رأيت ـ أدرج أهم منظمات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ضمن الجماعات الإرهابية, ووجه إنذارا لا مجال للبس فيه إلي كل من تسول له نفسه(!) تأييد المقاومة الفلسطينية أو تقديم أي دعم لها. إذ أنها بذلك تصبح طرفا راعيا للإرهاب ومحتضنا له, الأمر الذي يدرجها تلقائيا وبالضرورة ضمن المستهدفين, الذين سيحل عليهم العقاب المنتظر, في إطار حملة القضاء علي الإرهاب, التي ذكر أنها تكلف مليار دولار شهريا, بمعدل ثلاثين مليون دولار كل يوم.
(2)
ذلك عن التأديب في خطاب الرئيس الأمريكي, أما الجهد الذي وعد به علي صعيد التهذيب والإصلاح, وتعديل ما هو معوج في الكون, فإنه يشمل مجالات عدة, ذكر في مقدمتها: الحد من سلطة الدولة, واحترام المرأة, والدفاع عن الملكية الخاصة, وعن حرية التعبير, والمساواة أمام العدالة والتسامح الديني.( لاحظ انه لم يذكر حق تقرير المصير ولا الدفاع عن الاستقلال خشية الهاجس الفلسطيني)
وهو يدلل علي الدور الامريكي في الانجاز, استشهد بما حدث لعناصر القاعدة وجماعة طالبان الذين احتلوا أفغانستان حينا من الدهر, ثم أصبحوا الآن يحتلون زنازين في خليج جوانتانامو. ثم قال: حين اجتمعنا في آخر مرة بهذه القاعة( الكونجرس) كانت أمهات وبنات أفغانستان أسيرات في منازلهن, ممنوعات من العمل أو الذهاب إلي المدرسة, واليوم تحررت النساء, وبتن جزءا من حكومة أفغانستان الجديدة. وأعلن ترحيبه بالدكتورة سيما ثمر وزيرة شئون المرأة ونائبة رئيس الوزراء, التي دعيت خصيصا من كابول لتصبح عضوا في الوفد المرافق لرئيس الوزراء الأفغاني حميد كرازي, في إعلان مسرحي لإثبات صدق الإنجازات التي حققتها الحملة.
(3)
لأول وهلة يلاحظ المرء علي الخطاب أمرين هما: التبسيط الشديد, والاستقواء المفرط. فالرئيس الأمريكي شخص الموقف بحسبانه صراعا بين الخير والشر, والخير هو ما تمثله الولايات المتحدة بطبيعة الحال, والشر هو الآخر بوجه عام والإرهاب بوجه خاص. وهذا التشخيص ليس جديدا, ولكنه عبر عنه منذ اليوم الأول لوقوع الهجوم علي نيويورك وواشنطن, إذ ما برح يتحدث عن أن بلادنا شهدت الشر وأن مسئوليتنا أمام التاريخ هي الرد علي الهجوم والتخلص من الشر, وفي أكثر من مرة تحدث عن الفاعلين باعتبارهم صانعي الشر.( في المزامير: إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا).
هذا التبسيط والاختزال لا يتجاهل فقط كل التأثيرات السياسية والثقافية التي أسهمت في صنع المشهد, ولكنه أيضا يعكس رؤية الأصولية الدينية البروتستانتية في الولايات المتحدة, والتي يتنامي دورها ونفوذها بشكل لافت للنظر في إدارة الرئيس بوش. وهذه الأصوليات لا تري فيما جري سوي أنه صراع بين الخير والشر, وتعبر دائما عن رؤي قمعية وعنصرية لاستئصال الشر, والإسلام والمسلمون عند هؤلاء في مقدمة الشرور التي يتعين التصدي لها والخلاص منها.
وفي تصريحات القس بيلي جراهام وزميله القس جيري فولويل وثالثهم القس بات روبرتسون إشارات دائمة إلي هذا المعني. وللعلم فإن القس الأول ـ جراهام ـ هو الذي أقام صلاة الجنازة علي أرواح ضحايا الهجوم علي مركز التجارة العالمي, وفي موعظته التي ألقاها في المناسبة إلحاح علي ضرورة الإجهاز علي الشر, وتخليص العالم منه, وبات روبرتسون هو القائل بأن العالم الإسلامي مرتع لعمل الشيطان.
هذا اليمين الديني بتطرفه وعنصريته وكراهيته للإسلام والمسلمين, عقد تحالفا مشهودا مع اليمين السياسي, المتمثل فيما سمي المحافظين الجدد, يظهر أثره الآن بقوة في تركيبة الإدارة الأمريكية وفي لغة الخطاب السياسي الأمريكي. وهذا التحالف الخطر يمثل أحد أهم نقاط التحول في السياسة الأمريكية, وهو خطر لأنه يتبني شعارات الهيمنة الأمريكية المطلقة علي العالم, وضرورة تأديب الدول المارقة التي تتمرد علي تلك الهيمنة, كما يتبني شعار صراع الحضارات, ويذهب في الانحياز لمصلحة إسرائيل إلي أبعد مدي.
ممثلو ذلك التحالف يحتلون أهم مواقع التأثير في الإدارة الأمريكية الآن, فضلا عن أبرز المواقع في مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام, كما أن لهم حضورهم المؤثر في الكونجرس, وهم الذين يقفون وراء سياسة العصا الطويلة والقبضة الحديدية, وكانوا أول من وجه رسالة إلي الرئيس الأمريكي في20 سبتمبر الماضي, بعد تسعة أيام فقط من الهجوم علي مركز التجارة العالمي, تضمنت ترتيبا للأولويات التي يعتقدون أنه لابد من اعتمادها للانتصار في الحرب المفترضة ضد الإرهاب. أما عناوين تلك الرسالة, وفق الترتيب المقترح للمراحل المتتابعة, فهي: القضاء علي أسامة بن لادن ـ إسقاط النظام العراقي ـ تصفية حزب الله ـ تحجيم السلطة الفلسطينية, مع تأكيد الصداقة الثابتة بين إسرائيل والولايات المتحدة, مع الدعوة إلي زيادة مخصصات وزارة الدفاع في الموازنة العامة.( لاحظ أن أغلب هذه النقاط وردت في خطاب حالة الاتحاد)
(4)
هذه الخلفية تكمن وراء لغة الاستقواء المفرط التي تحدث بها الرئيس الأمريكي, فأطال عصاه وأشهر سيفه في وجه الجميع منذرا بأن واشنطن سوف تتصرف وتأخذ علي عاتقها ضرب الإرهاب وتصفية وجوده, إذ ترددت الدول التي أدرجتها الإدارة الأمريكية علي قوائمها السوداء, إذ لم يعد كافيا أن تكون الدولة ضد الإرهاب, وإنما عليها أن تمتثل لكل ما تريده منها واشنطن لاستئصاله, من تغيير مناهج التعليم إلي تصفية منظمات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
تقول العرب في أمثالها: من طالت عصاه قلت هيبته. وهذا ما حدث للرئيس بوش بعد إلقاء خطاب تأديب العصاة والمارقين, وتهذيب وإصلاح الكون, ذلك أنه بعدما ألقي خطابه تعرض لحملة نقد من أطراف متعددة, فقالت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت: إن إدارة الجمهوريين فقدت صوابها, وقال جاك سترو وزير خارجية بريطانيا: إن الخطاب متجه في الأغلب للاستهلاك الداخلي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس, وقال هوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا انه من نوع الخطابة الامريكية, ولايمكن ان تقرر دولة واحدة مشاكل العالم وحلولها. ولم يحمله المسئولون في الاتحاد الأوروبي والصين علي محمل الجد.
ليس ذلك فحسب, وإنما تعددت الكتابات في الصحف الأوروبية التي انتقدت الموقف الأمريكي من زاويتين بوجه أخص, الأولي أن واشنطن أقنعت حلفاءها الأوروبيين بصعوبة الدخول معها فيما سمي ائتلاف الحرب ضد الإرهاب, وبعدما تحقق لها ما أرادت, فإنها أدارت ظهرها للجميع وتصرفت بحرية واسعة في أفغانستان, دون أدني مشاركة من جانب حلفائها, أو من الأمم المتحدة, ولم تلجأ إلي أي منها إلا في ظل الضرورة القصوي.
النقطة الثانية أنه لم يكن هناك نقاش يذكر في واشنطن حول دقة تسمية الحملة ضد الإرهاب العالمي حربا, وذلك في تناقض صارخ مع الموقف الأوروبي, حيث تبدي الحكومات حساسية بالغة إزاء النتائج المترتبة علي ذلك, خصوصا تلك التي تتعلق بمعاملة السجناء أو مواثيق جنيف التي تحمي الضحايا المدنيين للنزاع المسلح, وبات واضحا أن الحكومة الأمريكية فضلت أن تبقي خياراتها مفتوحة فيما يتعلق بأسراها من طالبان والقاعدة, متجاهلة احتمال أن تكون قواتها الخاصة شاهدا علي ما قد يعتبر من الناحية الفنية, وحسب مواثيق جنيف, جرائم حرب.
(5)
أغلب الظن أن الذين لم يأخذوا كلام الرئيس الأمريكي علي محمل الجد يدركون أن الإنجازات التي تحدث عنها, ليست علي النحو الذي صوره, وأن الحملة التي شنتها واشنطن باسم محاربة الإرهاب مشكوك في نتائجها, وأنها قد تمثل ورطة للولايات المتحدة بأكثر منها محاولة لاستئصال الشر, كما يصورها الرئيس وإدارته.
دعك الآن من أن الهجوم الذي حدث في11 سبتمبر أفقد الولايات المتحدة قدرا من هيبتها, ذلك أن العملاق إذا تلقي صفعة قوية من صبي صغير, فإن أحدا لا يستطيع أن ينسي له ذلك, وحتي وإن دهسه العملاق في وقت لاحق ومزقه إربا. لكننا إذا نحينا ذلك جانبا وحاولنا أن نتبع الإنجاز الأمريكي في أفغانستان, فلابد أن نسجل أن الأمريكيين لم يذهبوا إلي هناك لكي يلحقوا البنات بالمدارس, أو يطلقوا سراح النساء من محبسهن في البيوت, أولكي يسمحوا للناس بحلق لحاهم والاستماع إلي الموسيقي والغناء, بل أضيف أن ذلك كله لم يؤرق الأمريكيين يوما ما, وهم الذين كانوا مستريحين إلي الدور الذي قام به نظام طالبان, إلي أن حدثت تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام1998, فمنذ ذلك الحين انقلبت السياسة الأمريكية بمعدل180 درجة, وأصبح الطالبانيون إرهابيين ومتطرفين ومخربين وغير ذلك.
لقد كان الهدف الأول للأمريكيين في حملتهم هو إلقاء القبض علي أسامة بن لادن والملا عمر, وذلك ما لم يتحقق إلي الآن, ثم أرادوا الانتقام من الأفغان وإسقاط نظام طالبان, وهذا ما حدث بتكلفة عالية أدت إلي قتل20 ألف أفغاني بسبب القصف حسب بعض التقديرات, فضلا عن فضيحة معاملة الأسري ممن قتلوا في قلعة جانجي أو نقلوا إلي جوانتانامو, وأرادوا إعادة الملك ظاهر شاه, وهو ما ترفضه بشدة مختلف القوي الأفغانية. ثم إنهم عملوا علي إقامة نظام جديد, صنعوه علي أيديهم في مؤتمر بون, وهو ما تحقق لهم, لكن هذا النظام ولد ضعيفا وهشا للغاية, خصوصا أنه أغمط البشتون حقوقهم, وهم الكتلة السكانية الأكبر في البلاد(45%) وسلم السلطة الحقيقية إلي الطاجيك, بل إلي جماعة بنشير وحدهم من دون الطاجيك التي ينتمي إليها أهم ثلاثة وزراء يحتلون وزارات: الدفاع, والداخلية, والخارجية.
ليس هذا فحسب, فقد قرأنا قبل أيام عن اشتباك مسلح في أثناء السباق علي وضع اليد علي خوست بين قوات وزير الدفاع الطاجيكي الجنرال محمد فهيم, وبين قوات نائبه الأوزبكي الجنرال عبدالرشيد دوستم, كما قرأنا هذا الأسبوع أخبارا عن القتال العنيف بين حاكم ولاية باكتيا المعين من قبل الرئيس السابق برهان الدين رباني, وحاكم آخر عينه رئيس الوزراء الحالي حميد كرازاي, ثم عن التوتر الحاصل بين مزار شريف وقندهار. فضلا عن عدم الاستقرار الذي يسود مناطق البشتون في الجنوب والشرق, وهي كلها مؤشرات تدل علي أن الاستقرار لم يتحقق بعد, وأن الحكومة التي تشكلت في بون لن تستطيع أن تستمر في مهمتها إلا في ظل استمرار وجود القوات الأمريكية وطائرات بي52, ولست أظن أن ذلك مما يستريح له الأمريكيون أو يتمنونه.
علي صعيد آخر, فإن التهديدات الأمريكية أدت إلي حدوث تقارب لم يخطر علي البال بين إيران والعراق, وهما الدولتان اللتان وضعهما الأمريكيون في خندق واحد, وقد تعددت صور ذلك التقارب حتي إن إيران دعت إلي عقد مؤتمر يبدأ غدا في طهران, لمناقشة مستقبل العراق واحتمالات غزوه بواسطة الأمريكيين. وليس من شك في أن تقارب الدولتين أو تحالفهما ـ نتيجة للضغوط والسياسات الأمريكية ـ يقلب موازين ومعادلات كثيرة في المنطقة, وهو ما لا يسعد واشنطن ومخططي سياستها الخارجية.
لقد مورست ضغوط أمريكية قوية علي الرئيس الباكستاني برويز مشرف طالت الجماعات الإسلامية ومناهج التعليم, وحين استجاب لها فإنه كسب الرضا الأمريكي الذي عبر عنه الرئيس بوش في خطابه, لكنه خسر قطاعات عريضة من شعبه, حتي أصبحت باكستان تغلي ومرشحة للانفجار في أي وقت, ولا أعرف بأي معيار يمكن أن يعد ذلك إنجازا يستحق الفخار به.
إن الحرب التي يقودها الرئيس بوش علي جبهات عريضة, عسكرية وثقافية وأمنية, تظل أوسع بكثير من حدود القوة الأمريكية, التي لم تنجز الكثير علي الأرض في أفغانستان وحدها, فما بالك بها وقد امتدت إلي أركان الكرة الأرضية الأربعة. لكن يبدو أن غرور القوة يفقد صاحبه صواب النظر, وهو ذاته الغرور الذي حذر منه قبل أكثر من ثلاثين عاما مؤلف كتاب القياصرة القادمون الفرنسي أموري رينكور, وقد تنبأ فيه بمخاطر ذلك النزوع القيصري في الولايات المتحدة, الذي يفني روح الحضارة الغربية, حين ينقلب فيه السحر علي الساحر!
بعدما أعلن حربه علي محور الشر فإنه تعهد بإصلاح الكون, وأشهرها من ثم حملة للتأديب والتهذيب والإصلاح في طول الكرة الأرضية وعرضها, حتي رأينا الرئيس بوش في خطابه الأخير مرتديا مسوح رهبان البروتستانت, ومتحدثا بلغة قياصرة روما القديمة, الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة القلقة حول جدية تلك العروض ومآلاتها.
(1)
أتحدث عن خطاب حال الاتحاد السنوي الذي ألقاه الرئيس الأمريكي يوم الثلاثاء الماضي1/29, وبدا فيه متحدثا عن حال العالم, إن شئت فقل إن ذلك كان الشق الأكثر إثارة فيه, من حيث إنه كان مستقويا بأكثر مما ينبغي, ومشهرا هراوته بأطول ما ينبغي.
في خطابه قال: إن للولايات المتحدة في الوقت الراهن هدفين أساسيين هما: تصفية معسكرات الإرهاب وتقديم الإرهابيين للعدالة, ثم منع الأنظمة الراعية للإرهاب من تهديد الولايات المتحدة وأصدقائها وحلفائها. أشار في هذا السياق إلي محور الشر المتمثل في إيران والعراق وكوريا الشمالية, وإلي منظمات مثل: حركة حماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان وجيش محمد في باكستان. وقال: إن ثمة معسكرات للإرهابيين في12 بلدا, كما أن هناك عشرات الآلاف من الإرهابيين منتشرين في أنحاء العالم.
في تحذير غير خاف قال: إن بعض الدول تفتقر إلي الشجاعة في مواجهة الإرهاب, لكن يجب ألا يكون هناك أي شك في أن هذه الدول إذا لم تتصرف فإن أمريكا ستتصرف!
تحدث الرئيس الأمريكي باعتباره ضامنا وكفيلا لإسرائيل, وبحسبانها داخلة ضمن الأصدقاء والحلفاء, ومن ثم فإنه ـ كما رأيت ـ أدرج أهم منظمات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ضمن الجماعات الإرهابية, ووجه إنذارا لا مجال للبس فيه إلي كل من تسول له نفسه(!) تأييد المقاومة الفلسطينية أو تقديم أي دعم لها. إذ أنها بذلك تصبح طرفا راعيا للإرهاب ومحتضنا له, الأمر الذي يدرجها تلقائيا وبالضرورة ضمن المستهدفين, الذين سيحل عليهم العقاب المنتظر, في إطار حملة القضاء علي الإرهاب, التي ذكر أنها تكلف مليار دولار شهريا, بمعدل ثلاثين مليون دولار كل يوم.
(2)
ذلك عن التأديب في خطاب الرئيس الأمريكي, أما الجهد الذي وعد به علي صعيد التهذيب والإصلاح, وتعديل ما هو معوج في الكون, فإنه يشمل مجالات عدة, ذكر في مقدمتها: الحد من سلطة الدولة, واحترام المرأة, والدفاع عن الملكية الخاصة, وعن حرية التعبير, والمساواة أمام العدالة والتسامح الديني.( لاحظ انه لم يذكر حق تقرير المصير ولا الدفاع عن الاستقلال خشية الهاجس الفلسطيني)
وهو يدلل علي الدور الامريكي في الانجاز, استشهد بما حدث لعناصر القاعدة وجماعة طالبان الذين احتلوا أفغانستان حينا من الدهر, ثم أصبحوا الآن يحتلون زنازين في خليج جوانتانامو. ثم قال: حين اجتمعنا في آخر مرة بهذه القاعة( الكونجرس) كانت أمهات وبنات أفغانستان أسيرات في منازلهن, ممنوعات من العمل أو الذهاب إلي المدرسة, واليوم تحررت النساء, وبتن جزءا من حكومة أفغانستان الجديدة. وأعلن ترحيبه بالدكتورة سيما ثمر وزيرة شئون المرأة ونائبة رئيس الوزراء, التي دعيت خصيصا من كابول لتصبح عضوا في الوفد المرافق لرئيس الوزراء الأفغاني حميد كرازي, في إعلان مسرحي لإثبات صدق الإنجازات التي حققتها الحملة.
(3)
لأول وهلة يلاحظ المرء علي الخطاب أمرين هما: التبسيط الشديد, والاستقواء المفرط. فالرئيس الأمريكي شخص الموقف بحسبانه صراعا بين الخير والشر, والخير هو ما تمثله الولايات المتحدة بطبيعة الحال, والشر هو الآخر بوجه عام والإرهاب بوجه خاص. وهذا التشخيص ليس جديدا, ولكنه عبر عنه منذ اليوم الأول لوقوع الهجوم علي نيويورك وواشنطن, إذ ما برح يتحدث عن أن بلادنا شهدت الشر وأن مسئوليتنا أمام التاريخ هي الرد علي الهجوم والتخلص من الشر, وفي أكثر من مرة تحدث عن الفاعلين باعتبارهم صانعي الشر.( في المزامير: إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا).
هذا التبسيط والاختزال لا يتجاهل فقط كل التأثيرات السياسية والثقافية التي أسهمت في صنع المشهد, ولكنه أيضا يعكس رؤية الأصولية الدينية البروتستانتية في الولايات المتحدة, والتي يتنامي دورها ونفوذها بشكل لافت للنظر في إدارة الرئيس بوش. وهذه الأصوليات لا تري فيما جري سوي أنه صراع بين الخير والشر, وتعبر دائما عن رؤي قمعية وعنصرية لاستئصال الشر, والإسلام والمسلمون عند هؤلاء في مقدمة الشرور التي يتعين التصدي لها والخلاص منها.
وفي تصريحات القس بيلي جراهام وزميله القس جيري فولويل وثالثهم القس بات روبرتسون إشارات دائمة إلي هذا المعني. وللعلم فإن القس الأول ـ جراهام ـ هو الذي أقام صلاة الجنازة علي أرواح ضحايا الهجوم علي مركز التجارة العالمي, وفي موعظته التي ألقاها في المناسبة إلحاح علي ضرورة الإجهاز علي الشر, وتخليص العالم منه, وبات روبرتسون هو القائل بأن العالم الإسلامي مرتع لعمل الشيطان.
هذا اليمين الديني بتطرفه وعنصريته وكراهيته للإسلام والمسلمين, عقد تحالفا مشهودا مع اليمين السياسي, المتمثل فيما سمي المحافظين الجدد, يظهر أثره الآن بقوة في تركيبة الإدارة الأمريكية وفي لغة الخطاب السياسي الأمريكي. وهذا التحالف الخطر يمثل أحد أهم نقاط التحول في السياسة الأمريكية, وهو خطر لأنه يتبني شعارات الهيمنة الأمريكية المطلقة علي العالم, وضرورة تأديب الدول المارقة التي تتمرد علي تلك الهيمنة, كما يتبني شعار صراع الحضارات, ويذهب في الانحياز لمصلحة إسرائيل إلي أبعد مدي.
ممثلو ذلك التحالف يحتلون أهم مواقع التأثير في الإدارة الأمريكية الآن, فضلا عن أبرز المواقع في مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام, كما أن لهم حضورهم المؤثر في الكونجرس, وهم الذين يقفون وراء سياسة العصا الطويلة والقبضة الحديدية, وكانوا أول من وجه رسالة إلي الرئيس الأمريكي في20 سبتمبر الماضي, بعد تسعة أيام فقط من الهجوم علي مركز التجارة العالمي, تضمنت ترتيبا للأولويات التي يعتقدون أنه لابد من اعتمادها للانتصار في الحرب المفترضة ضد الإرهاب. أما عناوين تلك الرسالة, وفق الترتيب المقترح للمراحل المتتابعة, فهي: القضاء علي أسامة بن لادن ـ إسقاط النظام العراقي ـ تصفية حزب الله ـ تحجيم السلطة الفلسطينية, مع تأكيد الصداقة الثابتة بين إسرائيل والولايات المتحدة, مع الدعوة إلي زيادة مخصصات وزارة الدفاع في الموازنة العامة.( لاحظ أن أغلب هذه النقاط وردت في خطاب حالة الاتحاد)
(4)
هذه الخلفية تكمن وراء لغة الاستقواء المفرط التي تحدث بها الرئيس الأمريكي, فأطال عصاه وأشهر سيفه في وجه الجميع منذرا بأن واشنطن سوف تتصرف وتأخذ علي عاتقها ضرب الإرهاب وتصفية وجوده, إذ ترددت الدول التي أدرجتها الإدارة الأمريكية علي قوائمها السوداء, إذ لم يعد كافيا أن تكون الدولة ضد الإرهاب, وإنما عليها أن تمتثل لكل ما تريده منها واشنطن لاستئصاله, من تغيير مناهج التعليم إلي تصفية منظمات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
تقول العرب في أمثالها: من طالت عصاه قلت هيبته. وهذا ما حدث للرئيس بوش بعد إلقاء خطاب تأديب العصاة والمارقين, وتهذيب وإصلاح الكون, ذلك أنه بعدما ألقي خطابه تعرض لحملة نقد من أطراف متعددة, فقالت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت: إن إدارة الجمهوريين فقدت صوابها, وقال جاك سترو وزير خارجية بريطانيا: إن الخطاب متجه في الأغلب للاستهلاك الداخلي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس, وقال هوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا انه من نوع الخطابة الامريكية, ولايمكن ان تقرر دولة واحدة مشاكل العالم وحلولها. ولم يحمله المسئولون في الاتحاد الأوروبي والصين علي محمل الجد.
ليس ذلك فحسب, وإنما تعددت الكتابات في الصحف الأوروبية التي انتقدت الموقف الأمريكي من زاويتين بوجه أخص, الأولي أن واشنطن أقنعت حلفاءها الأوروبيين بصعوبة الدخول معها فيما سمي ائتلاف الحرب ضد الإرهاب, وبعدما تحقق لها ما أرادت, فإنها أدارت ظهرها للجميع وتصرفت بحرية واسعة في أفغانستان, دون أدني مشاركة من جانب حلفائها, أو من الأمم المتحدة, ولم تلجأ إلي أي منها إلا في ظل الضرورة القصوي.
النقطة الثانية أنه لم يكن هناك نقاش يذكر في واشنطن حول دقة تسمية الحملة ضد الإرهاب العالمي حربا, وذلك في تناقض صارخ مع الموقف الأوروبي, حيث تبدي الحكومات حساسية بالغة إزاء النتائج المترتبة علي ذلك, خصوصا تلك التي تتعلق بمعاملة السجناء أو مواثيق جنيف التي تحمي الضحايا المدنيين للنزاع المسلح, وبات واضحا أن الحكومة الأمريكية فضلت أن تبقي خياراتها مفتوحة فيما يتعلق بأسراها من طالبان والقاعدة, متجاهلة احتمال أن تكون قواتها الخاصة شاهدا علي ما قد يعتبر من الناحية الفنية, وحسب مواثيق جنيف, جرائم حرب.
(5)
أغلب الظن أن الذين لم يأخذوا كلام الرئيس الأمريكي علي محمل الجد يدركون أن الإنجازات التي تحدث عنها, ليست علي النحو الذي صوره, وأن الحملة التي شنتها واشنطن باسم محاربة الإرهاب مشكوك في نتائجها, وأنها قد تمثل ورطة للولايات المتحدة بأكثر منها محاولة لاستئصال الشر, كما يصورها الرئيس وإدارته.
دعك الآن من أن الهجوم الذي حدث في11 سبتمبر أفقد الولايات المتحدة قدرا من هيبتها, ذلك أن العملاق إذا تلقي صفعة قوية من صبي صغير, فإن أحدا لا يستطيع أن ينسي له ذلك, وحتي وإن دهسه العملاق في وقت لاحق ومزقه إربا. لكننا إذا نحينا ذلك جانبا وحاولنا أن نتبع الإنجاز الأمريكي في أفغانستان, فلابد أن نسجل أن الأمريكيين لم يذهبوا إلي هناك لكي يلحقوا البنات بالمدارس, أو يطلقوا سراح النساء من محبسهن في البيوت, أولكي يسمحوا للناس بحلق لحاهم والاستماع إلي الموسيقي والغناء, بل أضيف أن ذلك كله لم يؤرق الأمريكيين يوما ما, وهم الذين كانوا مستريحين إلي الدور الذي قام به نظام طالبان, إلي أن حدثت تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام1998, فمنذ ذلك الحين انقلبت السياسة الأمريكية بمعدل180 درجة, وأصبح الطالبانيون إرهابيين ومتطرفين ومخربين وغير ذلك.
لقد كان الهدف الأول للأمريكيين في حملتهم هو إلقاء القبض علي أسامة بن لادن والملا عمر, وذلك ما لم يتحقق إلي الآن, ثم أرادوا الانتقام من الأفغان وإسقاط نظام طالبان, وهذا ما حدث بتكلفة عالية أدت إلي قتل20 ألف أفغاني بسبب القصف حسب بعض التقديرات, فضلا عن فضيحة معاملة الأسري ممن قتلوا في قلعة جانجي أو نقلوا إلي جوانتانامو, وأرادوا إعادة الملك ظاهر شاه, وهو ما ترفضه بشدة مختلف القوي الأفغانية. ثم إنهم عملوا علي إقامة نظام جديد, صنعوه علي أيديهم في مؤتمر بون, وهو ما تحقق لهم, لكن هذا النظام ولد ضعيفا وهشا للغاية, خصوصا أنه أغمط البشتون حقوقهم, وهم الكتلة السكانية الأكبر في البلاد(45%) وسلم السلطة الحقيقية إلي الطاجيك, بل إلي جماعة بنشير وحدهم من دون الطاجيك التي ينتمي إليها أهم ثلاثة وزراء يحتلون وزارات: الدفاع, والداخلية, والخارجية.
ليس هذا فحسب, فقد قرأنا قبل أيام عن اشتباك مسلح في أثناء السباق علي وضع اليد علي خوست بين قوات وزير الدفاع الطاجيكي الجنرال محمد فهيم, وبين قوات نائبه الأوزبكي الجنرال عبدالرشيد دوستم, كما قرأنا هذا الأسبوع أخبارا عن القتال العنيف بين حاكم ولاية باكتيا المعين من قبل الرئيس السابق برهان الدين رباني, وحاكم آخر عينه رئيس الوزراء الحالي حميد كرازاي, ثم عن التوتر الحاصل بين مزار شريف وقندهار. فضلا عن عدم الاستقرار الذي يسود مناطق البشتون في الجنوب والشرق, وهي كلها مؤشرات تدل علي أن الاستقرار لم يتحقق بعد, وأن الحكومة التي تشكلت في بون لن تستطيع أن تستمر في مهمتها إلا في ظل استمرار وجود القوات الأمريكية وطائرات بي52, ولست أظن أن ذلك مما يستريح له الأمريكيون أو يتمنونه.
علي صعيد آخر, فإن التهديدات الأمريكية أدت إلي حدوث تقارب لم يخطر علي البال بين إيران والعراق, وهما الدولتان اللتان وضعهما الأمريكيون في خندق واحد, وقد تعددت صور ذلك التقارب حتي إن إيران دعت إلي عقد مؤتمر يبدأ غدا في طهران, لمناقشة مستقبل العراق واحتمالات غزوه بواسطة الأمريكيين. وليس من شك في أن تقارب الدولتين أو تحالفهما ـ نتيجة للضغوط والسياسات الأمريكية ـ يقلب موازين ومعادلات كثيرة في المنطقة, وهو ما لا يسعد واشنطن ومخططي سياستها الخارجية.
لقد مورست ضغوط أمريكية قوية علي الرئيس الباكستاني برويز مشرف طالت الجماعات الإسلامية ومناهج التعليم, وحين استجاب لها فإنه كسب الرضا الأمريكي الذي عبر عنه الرئيس بوش في خطابه, لكنه خسر قطاعات عريضة من شعبه, حتي أصبحت باكستان تغلي ومرشحة للانفجار في أي وقت, ولا أعرف بأي معيار يمكن أن يعد ذلك إنجازا يستحق الفخار به.
إن الحرب التي يقودها الرئيس بوش علي جبهات عريضة, عسكرية وثقافية وأمنية, تظل أوسع بكثير من حدود القوة الأمريكية, التي لم تنجز الكثير علي الأرض في أفغانستان وحدها, فما بالك بها وقد امتدت إلي أركان الكرة الأرضية الأربعة. لكن يبدو أن غرور القوة يفقد صاحبه صواب النظر, وهو ذاته الغرور الذي حذر منه قبل أكثر من ثلاثين عاما مؤلف كتاب القياصرة القادمون الفرنسي أموري رينكور, وقد تنبأ فيه بمخاطر ذلك النزوع القيصري في الولايات المتحدة, الذي يفني روح الحضارة الغربية, حين ينقلب فيه السحر علي الساحر!