هويدي 15-1-2001
يشكر للسيدة لورا بوش قرينة الرئيس الأمريكي, اهتمامها بالمرأة الأفغانية, فذلك شعور من جانبها طيب نقدره, لكن الذي نخشاه أن تدعي المرأة الأفغانية الي الخروج من أصولية طالبان, لكي تدخل في الأصولية التغريبية, بمعني أن تنتقل من تطرف الي تطرف آخر معاكس وهو ما يعقد الإشكال ولا يحله, ويعيد أفغانستان الي نقطة الصفر في مشكلة خيارها الحضاري, وهو المشكل الذي لم يحل هناك منذ أكثر من ثمانين عاما.
(1)
هذه الفكرة عرضتها في الأسبوع الماضي علي ندوة تنمية وإعادة بناء أفغانستان, التي عقدت في طهران( في اللغة الفارسية يستخدمون كلمة توسعة العربية في التعبير عن التنمية), إذ كانت ورقتي معنية بالبعد الثقافي في قضية التنمية, التي يتصورها كثيرون مقصورة علي مجرد توفير الخدمات وتمهيد الطرق وتشغيل المصانع ومد شبكة الهواتف..الخ, وتلك أمور مهمة لا ريب, لكن الذي لا يقل عنها أهمية هو المشروع الحضاري الذي يصب فيه ذلك كله.
أغلب الذين حضروا الندوة, التي دعا إليها مركز الدراسات السياسية والدولية بالخارجية الإيرانية, كانوا من أهل الاقتصاد والتجارة ورجال الأعمال, وكنت من القلة المتواضعة المنسوبة الي عالم الفكر, حيث لم يزد عددنا علي أربعة أشخاص, من بين مائة مشارك, ما بين متحدث وخبير دولي وباحث عن فرصة للمشاركة في حملة إعمار أفغانستان, وكان الوفد الأفغاني قد ضم ثمانية أشخاص من الفنيين الذين تقدمهم وزيرا التجارة والأشغال العامة.
شجعني علي تناول الموضوع, الذي أدركت أن صدور كثيرين من أهل الاقتصاد والصناعة وأضرابهم تضيق به, ما وقعت عليه في الصحف من أخبار وتقارير, تحدث بعضها عن اهتمام السيدة لورا بوش بالنهوض بالمرأة الأفغانية( ألا توجد في العالم العربي شخصية مؤهلة للنهوض بتلك الرسالة؟!), كما تناقل البعض الآخر تصريحات لرئيسة الحركة النسائية في أفغانستان السيدة أمينة فضالي, دعت فيها نساء بلدها الي خلع البرقع الذي يغطي وجوههن, وتصريحات مسئولي الحكومة الأفغانية التي دعوا فيها الموظفين الي تهذيب لحاهم وارتداء الملابس الغربية( القدس العربي ـ12/21).
وإذ أفاضت تقارير أخري عديدة في الحديث عن بدء عصر التنوير في أفغانستان( هكذا مرة واحدة وخلال أسابيع قليلة من سقوط نظام طالبان), فإنني خشيت من أن نكون بصدد خدعة إعلامية أوقعنا في شركها مراسلو الصحف الغربية, الذين لم يقصروا في تزيين وتلميع كل ما استجد في أفغانستان, وإقناعنا أنها بالحملة العسكرية الأمريكية خرجت من الظلمات الي النور, ومن جحيم طالبان الي جنة الأمريكان!
لم يكن الأمر بالنسبة لي نوعا من التدليس والتزييف فحسب, وإنما بدا أخطر من ذلك بكثير, حيث وجدته تجديدا للمأزق الحضاري الذي واجه أفغانستان منذ اتجهت صوب التحديث, عقب الحرب العالمية الأولي, ومن ثم فقد خشيت أن يعيد التاريخ نفسه, فتتكرر مآسيه وفواجعه, وتظل أفغانستان تخرج من حفرة لكي تقع في بئر!
(2)
زعمت أن التاريخ الأفغاني يقدم للجميع ـ وللنخبة الأفغانية بوجه خاص ـ دروسا يتعين استيعابها, وأن غض الطرف عن تلك الدروس, أو التعامل معها بخفة يعد من الكبائر التي لا تغتفر, فذلك البلد العريق قدر له أن يجرب ثلاثة نماذج من الأصوليات, التي فشلت جميعها علي أرضه, وأرجو أن يغفر لي القاريء استخدام مصطلح الأصولية بمعناه الذي شاع في زماننا حتي فرض علي ألسنتنا وأفهامنا رغما عنا, وهو المعني الذي ربط بينها وبين الغلو والجمود وضيق الأفق, وما شاكل ذلك من نقائص ورذائل نستعيذ بالله منها.
الأصوليات الثلاث التي عنيتها قامت اثنتان منها علي الاقتلاع فكان الفشل مصيرهما, أما الثالثة فقد قامت علي الاسترجاع فلحقت بسابقتيها, أما كيف ولماذا, فإليك القصة باختصار.
في عام1919 م تولي الملك في أفغانستان أمان الله خان, خلفا لأبيه حبيب الله الذي ثار عليه الأفغان وقتلوه لأنه لم يناصر تركيا ويقف الي جوارها, وآثر أن يقف محايدا أثناء الحرب العالمية الأولي(1914 ـ1919 م), فور توليه الحكم سعي أمان الله الي النهوض ببلاده وإعلان استقلالها والحصول علي الاعتراف الدولي بها, في هذا السياق قام الملك في عام1928 بزيارة طويلة للخارج استغرقت سبعة أشهر, كان خلالها بدول عدة, كان من بينها الهند وتركيا ومصر وفرنسا وايطاليا والاتحاد السوفيتي وانجلترا, وبدا الرجل مبهورا بالتجربة الغربية, خصوصا بما فعله كمال أتاتورك في تركيا, ومن ثم قرر أن يحذو حذوه, وأن يعمل علي نقل النموذج الغربي الي أفغانستان, وأن يفرضه علي الناس, تماما كما فعل أتاتورك, بنفس درجة الاندفاع والغلو.
فور عودته بدأ خطوات التحديث فأصدر تعليماته بنزع حجاب المرأة بزعم إطلاق حريتها من القيود التي كبلتها, حتي قال ذات مرة: إن للمرأة أن تطلق الرصاص علي زوجها, اذا عارض حريتها ولم يكن وحده في ذلك, ولكن زوجته ثريا دأبت علي تبني تلك الدعوة في مقالات كتبتها, ونشرت في صحيفة أمان أفغانستان, أمر الملك أيضا بإلغاء ومنع ارتداء الأزياء الشعبية, ودعا الناس الي ارتداء الأزياء الغربية, وألزم أعضاء البرلمان بأن يحضروا الجلسات وهم يرتدون ثياب الفرنجة, وذهب في الغلو الي أبعد, حيث أمر أن يتبادل الناس السلام علي الطريقة الغربية, برفع قبعة الرأس ووضعها في مكانها!
في الوقت ذاته, أصدر أوامره بتقييد نشاط العلماء الذين تخرجوا في جامعة ديوبند بالهند, وهي الجامعة الإسلامية التي كانت مزدهرة في زمانها, ثم جمدت بعد ذلك وتبنت إنشاء المدارس الدينية, التي تخرجت فيها عناصر طالبان في وقت لاحق.
أكثر من ذلك, فإن الملك أمان الله اقترح علي البرلمان في جلسته المنعقدة في1928/8/26 م أن يصدر قانونا يمنع تعدد الزوجات ويحدد عمرا معينا للزواج, وأن يقرر اعتبار العطلة يوم الخميس بدلا من الجمعة!
هذه الإجراءات صدمت الشعب الأفغاني المعروف بصلابته في التدين, فما كان من العلماء إلا أن اجتمعوا, وأعلنوا كفر الملك ووجوب خلعه, فثار الشعب ضده, وهو ما شجع أحد المتمردين علي السلطة علي الزحف علي كابول, والاستيلاء علي السلطة, الأمر الذي انتهي بهروب الملك وتقويض عرشه, وكانت تلك نهاية الأصولية التغريبية التي تبناها أمان الله طيلة عشر سنوات.
(3)
النموذج الأصولي الثاني الذي فشل في أفغانستان, حاول الشيوعيون فرضه علي البلاد طيلة عشر سنوات كبيسة أخري( من1979 ـ1989 م), وهو أسوأ من سابقه, فضلا عن أنه كان محكوما عليه بالفشل من البداية لأن النموذج التغريبي الذي قاده الملك أمان الله كان بمثابة اقتلاع حضاري بالدرجة الأولي, أما النموذج الشيوعي فقد كان من قبيل الاقتلاع العقيدي, واذا كان المجتمع الأفغاني وعلماؤه قد ثاروا في وجه التغريب, ولم يمهلوا أمان الله أشهرا حتي أطيح به, فإن ثورتهم علي النظام الشيوعي بدت أمرا طبيعيا ومفروغا منه, وزاد الطين بلة أن الانقلاب الشيوعي استصحب في وقت لاحق احتلالا سوفيتيا, الأمر الذي سوغ شرعية الجهاد ضد النظام الغاصب وحليفه الغازي.
هوية النظام الجديدة وحدها كانت كفيلة برفض المجتمع له, ولا أعرف كيف تصورت عناصر النخبة الأفغانية من قادة جناحي الحزب الشيوعي الراية( برشم) والشعب( خلق), أنهم يستطيعون تطبيق الماركسية في بلد شديد التدين وصعب المراس كأفغانستان, وهي مفارقة أن كانت أبرز محاولتين لتطبيق الشيوعية في العالم الإسلامي في منطقتين من أكثر أقطاره محافظة وتدينا, هما أفغانستان واليمن الجنوبي, والمفارقة دالة علي مدي غيبوبة تلك النخب وانفصالها عن الإدراك العام( الضمير العام أدق) في المجتمعات التي تنتسب إليها.
طوال تلك العشرية السوداء( كما يقول الجزائريون) كانت كلمة شيوعي أو كوميونيست ـ هكذا ينطقونها في أفغانستان ـ تعني شيطانا رجيما, لابد من الاستعاذة بالله من شره, والتخلص منه بأي طريقة, بسبب من ذلك فإنه لم يذكر خير للتجربة, ولم ينس الناس أن الشيوعيين حين جاءوا الي السلطة ألغوا آذان الصلوات من الإذاعة, وزجوا بألوف الناشطين الإسلاميين في السجون, وأعدموا مئات منهم بتهمة أنهم ينتمون الي الإخوان المسلمين.
كان طبيعيا والأمر كذلك, أن يفشل النظام وأن تدفن التجربة في الرمال الأفغانية, في إعلان آخر عن فشل محاولة الاقتلاع عبر الأصولية الماركسية.
(4)
بعد فشل نموذجي الاقتلاع من خلال النموذج الغربي, أو تطبيق النظام الشيوعي, شهدت أفغانستان نموذجا ثالثا علي الاسترجاع البائس, تمثل في الأصولية الدينية التي تجسدت في حركة طالبان, وهي التي ظهرت في الأفق ـ في قندهار ـ عام94, واستولت علي السلطة في كابول عام96, وأسقط نظامها علي النحو المعروف في عام2001 ـ أي أنها حكمت أفغانستان طيلة خمس سنوات.
ثقافة الأصوليين الذين حكموا أفغانستان في التجربتين السابقتين كانت من خارج المكان, أما ثقافة الطالبانيين فقد جاءت من عمق المكان, ولكن من خارج الزمان, والأولون أخطأوا التشخيص وعالجوا أزمة أفغانستان بدواء رفضه المجتمع وقاومه بشدة, والآخرون صح تشخيصهم, لكنهم عالجوا الجسم بدواء انتهت مدة صلاحيته ـ كيف؟
الأولون ممن قالوا إن التغريب هو الحل, أو الشيوعية هي الحل, وفرضوا حلولهم علي المجتمع بقوة السلطة وبأساليب خلت من الذكاء الاجتماعي, انتهوا علي النحو الذي عرفناه, أما جماعة طالبان فقد جاءوا رافعين راية الإسلام, فاحتفي بهم المجتمع في البداية, بحكم استجابتهم لأشواقه الإيمانية, لكن الحل الذي قدموه أثبت عجزه عن علاج القضايا الحياتية للناس, وإن لبي أشواقهم الإيمانية بصورة أو أخري, إلا أنه أصبح بمعني الوقت عبئا علي أشواقهم العملية ـ لماذا؟
يعلم كثيرون أن عناصر طالبان تخرجت في المدارس الدينية المعروفة باسم ديوبندية نسبة الي بلدة ديوبند في الهند, وهي المدارس التي تأسست منذ150 عاما, في محاولة لاستنهاض همة المسلمين إثر فشلهم في ثورة الاستقلال بالهند, كما أنها كانت ردا علي جهود مدرسة عليكره التي أسسها السر سيد أحمد خان, واعتبرت موالية للانجليز وساعية لتمييع الدين, عبر اهمال العلوم الدينية والتركيز علي العلوم العصرية, في الوقت ذاته فإنها قامت بالتصدي للانحرافات العقيدية التي شاعت في شبه القارة الهندية, وكانت القاديانية من تجلياتها, حيث أعلنت نبوة مؤسسها غلام أحمد قاديان, وأبطلت فريضة الجهاد ضد الاستعمار البريطاني.
الخلاصة أن تلك المدارس الديوبندية كانت استجابة لظروف تاريخية معينة, ومن ثم فإنها أسست مناهجها لكي تفي بمتطلبات ذلك الظرف الذي كان التفلت من الدين محوره الأساسي, واذ قامت تلك المدارس بدورها بكفاءة آنذاك, إلا أنها لم تطور مناهجها حين تغير الظرف التاريخي, وظلت الي نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين, تغذي طلابها بثقافة ومناهج القرن التاسع عشر, الأمر الذي يسوغ لنا القول إن حركة طالبان قدمت للمجتمع الأفغاني دواء انتهت مدة صلاحيته, وحين تولت السلطة فإنها ظلت تحارب علي جبهة التفلت من الدين, بذات الأسلوب المفتقر الي الذكاء الاجتماعي, وعجزت عن أن تقدم شيئا خارج ذلك الإطار, فلا أحسنت إقامة الدين, ولا أقامت شيئا يذكر في الدنيا, ذلك أن المشروع الثقافي الذي خرجوا من عباءته كان معنيا بأمور معينة تدور في ذلك الالتزام الديني, ولم تكن إقامة الدنيا من شواغله, ولكي يسدوا ذلك النقص حين تولوا السلطة فإنهم وظفوا معارفهم الدينية المتواضعة في استرجاع بائس لتجارب الماضي, في عصور التخلف والتدهور, فكان الفشل نصيبهم, وهو فشل لاحت بوادره قبل الحملة العسكرية الأمريكية, وكانت الحملة بمثابة إجراء طوي صفحتهم, حتي شبهتها بقرار فصل تلميذ من الصف, بعدما كان قد تكرر رسوبه عدة سنوات.
(5)
درس التجارب الثلاث يقول للجميع ـ في أفغانستان كما في غيرها ـ إن المجتمع لا يمكن أن يستقيم أمره ويسترد عافيته اذا استورد نموذجا من خارج المكان أو الزمان, وأي محاولة من ذلك القبيل محكوم عليها بالفشل, لكن نموذجه لابد أن يخرج من تربته واستنباتا من جذوره, ولكي تنمو شجرته وتخضر أوراقها فلا مفر من أن يترعرع النموذج في الهواء الطلق, منفتحا علي ما حوله ومستفيدا من خبرات غيره, ومتحريا الخير والحكمة حيثما وجدا.
حين قلت هذا الكلام في ندوة طهران, كنت مدركا لأمرين, أولهما أن النخبة التي تحكم أفغانستان مستجلبة من الخارج في أغلبها, وكلها تقلدت مناصبها باختيار أو رضا من جانب الولايات المتحدة, وهو ما يخشي أن يكون مقدمة لاستدعاء نموذج التغريب الأول, أما الأمر الثاني فهو أن أفغانستان في المرحلة الراهنة أقرب الي مريض في غرفة الانعاش, لا يفكر أحد من أهله كيف سيعيش في المستقبل, وإنما كل ما يشغلهم هو أن ينجو من الموت ويخرج من غرفة الانعاش سليما وسائرا علي قدميه.
مع ذلك فقد قلت ما عندي, من باب إبراء الذمة, الذي أحسبه كان نوعا من الأذان في مالطة!
يشكر للسيدة لورا بوش قرينة الرئيس الأمريكي, اهتمامها بالمرأة الأفغانية, فذلك شعور من جانبها طيب نقدره, لكن الذي نخشاه أن تدعي المرأة الأفغانية الي الخروج من أصولية طالبان, لكي تدخل في الأصولية التغريبية, بمعني أن تنتقل من تطرف الي تطرف آخر معاكس وهو ما يعقد الإشكال ولا يحله, ويعيد أفغانستان الي نقطة الصفر في مشكلة خيارها الحضاري, وهو المشكل الذي لم يحل هناك منذ أكثر من ثمانين عاما.
(1)
هذه الفكرة عرضتها في الأسبوع الماضي علي ندوة تنمية وإعادة بناء أفغانستان, التي عقدت في طهران( في اللغة الفارسية يستخدمون كلمة توسعة العربية في التعبير عن التنمية), إذ كانت ورقتي معنية بالبعد الثقافي في قضية التنمية, التي يتصورها كثيرون مقصورة علي مجرد توفير الخدمات وتمهيد الطرق وتشغيل المصانع ومد شبكة الهواتف..الخ, وتلك أمور مهمة لا ريب, لكن الذي لا يقل عنها أهمية هو المشروع الحضاري الذي يصب فيه ذلك كله.
أغلب الذين حضروا الندوة, التي دعا إليها مركز الدراسات السياسية والدولية بالخارجية الإيرانية, كانوا من أهل الاقتصاد والتجارة ورجال الأعمال, وكنت من القلة المتواضعة المنسوبة الي عالم الفكر, حيث لم يزد عددنا علي أربعة أشخاص, من بين مائة مشارك, ما بين متحدث وخبير دولي وباحث عن فرصة للمشاركة في حملة إعمار أفغانستان, وكان الوفد الأفغاني قد ضم ثمانية أشخاص من الفنيين الذين تقدمهم وزيرا التجارة والأشغال العامة.
شجعني علي تناول الموضوع, الذي أدركت أن صدور كثيرين من أهل الاقتصاد والصناعة وأضرابهم تضيق به, ما وقعت عليه في الصحف من أخبار وتقارير, تحدث بعضها عن اهتمام السيدة لورا بوش بالنهوض بالمرأة الأفغانية( ألا توجد في العالم العربي شخصية مؤهلة للنهوض بتلك الرسالة؟!), كما تناقل البعض الآخر تصريحات لرئيسة الحركة النسائية في أفغانستان السيدة أمينة فضالي, دعت فيها نساء بلدها الي خلع البرقع الذي يغطي وجوههن, وتصريحات مسئولي الحكومة الأفغانية التي دعوا فيها الموظفين الي تهذيب لحاهم وارتداء الملابس الغربية( القدس العربي ـ12/21).
وإذ أفاضت تقارير أخري عديدة في الحديث عن بدء عصر التنوير في أفغانستان( هكذا مرة واحدة وخلال أسابيع قليلة من سقوط نظام طالبان), فإنني خشيت من أن نكون بصدد خدعة إعلامية أوقعنا في شركها مراسلو الصحف الغربية, الذين لم يقصروا في تزيين وتلميع كل ما استجد في أفغانستان, وإقناعنا أنها بالحملة العسكرية الأمريكية خرجت من الظلمات الي النور, ومن جحيم طالبان الي جنة الأمريكان!
لم يكن الأمر بالنسبة لي نوعا من التدليس والتزييف فحسب, وإنما بدا أخطر من ذلك بكثير, حيث وجدته تجديدا للمأزق الحضاري الذي واجه أفغانستان منذ اتجهت صوب التحديث, عقب الحرب العالمية الأولي, ومن ثم فقد خشيت أن يعيد التاريخ نفسه, فتتكرر مآسيه وفواجعه, وتظل أفغانستان تخرج من حفرة لكي تقع في بئر!
(2)
زعمت أن التاريخ الأفغاني يقدم للجميع ـ وللنخبة الأفغانية بوجه خاص ـ دروسا يتعين استيعابها, وأن غض الطرف عن تلك الدروس, أو التعامل معها بخفة يعد من الكبائر التي لا تغتفر, فذلك البلد العريق قدر له أن يجرب ثلاثة نماذج من الأصوليات, التي فشلت جميعها علي أرضه, وأرجو أن يغفر لي القاريء استخدام مصطلح الأصولية بمعناه الذي شاع في زماننا حتي فرض علي ألسنتنا وأفهامنا رغما عنا, وهو المعني الذي ربط بينها وبين الغلو والجمود وضيق الأفق, وما شاكل ذلك من نقائص ورذائل نستعيذ بالله منها.
الأصوليات الثلاث التي عنيتها قامت اثنتان منها علي الاقتلاع فكان الفشل مصيرهما, أما الثالثة فقد قامت علي الاسترجاع فلحقت بسابقتيها, أما كيف ولماذا, فإليك القصة باختصار.
في عام1919 م تولي الملك في أفغانستان أمان الله خان, خلفا لأبيه حبيب الله الذي ثار عليه الأفغان وقتلوه لأنه لم يناصر تركيا ويقف الي جوارها, وآثر أن يقف محايدا أثناء الحرب العالمية الأولي(1914 ـ1919 م), فور توليه الحكم سعي أمان الله الي النهوض ببلاده وإعلان استقلالها والحصول علي الاعتراف الدولي بها, في هذا السياق قام الملك في عام1928 بزيارة طويلة للخارج استغرقت سبعة أشهر, كان خلالها بدول عدة, كان من بينها الهند وتركيا ومصر وفرنسا وايطاليا والاتحاد السوفيتي وانجلترا, وبدا الرجل مبهورا بالتجربة الغربية, خصوصا بما فعله كمال أتاتورك في تركيا, ومن ثم قرر أن يحذو حذوه, وأن يعمل علي نقل النموذج الغربي الي أفغانستان, وأن يفرضه علي الناس, تماما كما فعل أتاتورك, بنفس درجة الاندفاع والغلو.
فور عودته بدأ خطوات التحديث فأصدر تعليماته بنزع حجاب المرأة بزعم إطلاق حريتها من القيود التي كبلتها, حتي قال ذات مرة: إن للمرأة أن تطلق الرصاص علي زوجها, اذا عارض حريتها ولم يكن وحده في ذلك, ولكن زوجته ثريا دأبت علي تبني تلك الدعوة في مقالات كتبتها, ونشرت في صحيفة أمان أفغانستان, أمر الملك أيضا بإلغاء ومنع ارتداء الأزياء الشعبية, ودعا الناس الي ارتداء الأزياء الغربية, وألزم أعضاء البرلمان بأن يحضروا الجلسات وهم يرتدون ثياب الفرنجة, وذهب في الغلو الي أبعد, حيث أمر أن يتبادل الناس السلام علي الطريقة الغربية, برفع قبعة الرأس ووضعها في مكانها!
في الوقت ذاته, أصدر أوامره بتقييد نشاط العلماء الذين تخرجوا في جامعة ديوبند بالهند, وهي الجامعة الإسلامية التي كانت مزدهرة في زمانها, ثم جمدت بعد ذلك وتبنت إنشاء المدارس الدينية, التي تخرجت فيها عناصر طالبان في وقت لاحق.
أكثر من ذلك, فإن الملك أمان الله اقترح علي البرلمان في جلسته المنعقدة في1928/8/26 م أن يصدر قانونا يمنع تعدد الزوجات ويحدد عمرا معينا للزواج, وأن يقرر اعتبار العطلة يوم الخميس بدلا من الجمعة!
هذه الإجراءات صدمت الشعب الأفغاني المعروف بصلابته في التدين, فما كان من العلماء إلا أن اجتمعوا, وأعلنوا كفر الملك ووجوب خلعه, فثار الشعب ضده, وهو ما شجع أحد المتمردين علي السلطة علي الزحف علي كابول, والاستيلاء علي السلطة, الأمر الذي انتهي بهروب الملك وتقويض عرشه, وكانت تلك نهاية الأصولية التغريبية التي تبناها أمان الله طيلة عشر سنوات.
(3)
النموذج الأصولي الثاني الذي فشل في أفغانستان, حاول الشيوعيون فرضه علي البلاد طيلة عشر سنوات كبيسة أخري( من1979 ـ1989 م), وهو أسوأ من سابقه, فضلا عن أنه كان محكوما عليه بالفشل من البداية لأن النموذج التغريبي الذي قاده الملك أمان الله كان بمثابة اقتلاع حضاري بالدرجة الأولي, أما النموذج الشيوعي فقد كان من قبيل الاقتلاع العقيدي, واذا كان المجتمع الأفغاني وعلماؤه قد ثاروا في وجه التغريب, ولم يمهلوا أمان الله أشهرا حتي أطيح به, فإن ثورتهم علي النظام الشيوعي بدت أمرا طبيعيا ومفروغا منه, وزاد الطين بلة أن الانقلاب الشيوعي استصحب في وقت لاحق احتلالا سوفيتيا, الأمر الذي سوغ شرعية الجهاد ضد النظام الغاصب وحليفه الغازي.
هوية النظام الجديدة وحدها كانت كفيلة برفض المجتمع له, ولا أعرف كيف تصورت عناصر النخبة الأفغانية من قادة جناحي الحزب الشيوعي الراية( برشم) والشعب( خلق), أنهم يستطيعون تطبيق الماركسية في بلد شديد التدين وصعب المراس كأفغانستان, وهي مفارقة أن كانت أبرز محاولتين لتطبيق الشيوعية في العالم الإسلامي في منطقتين من أكثر أقطاره محافظة وتدينا, هما أفغانستان واليمن الجنوبي, والمفارقة دالة علي مدي غيبوبة تلك النخب وانفصالها عن الإدراك العام( الضمير العام أدق) في المجتمعات التي تنتسب إليها.
طوال تلك العشرية السوداء( كما يقول الجزائريون) كانت كلمة شيوعي أو كوميونيست ـ هكذا ينطقونها في أفغانستان ـ تعني شيطانا رجيما, لابد من الاستعاذة بالله من شره, والتخلص منه بأي طريقة, بسبب من ذلك فإنه لم يذكر خير للتجربة, ولم ينس الناس أن الشيوعيين حين جاءوا الي السلطة ألغوا آذان الصلوات من الإذاعة, وزجوا بألوف الناشطين الإسلاميين في السجون, وأعدموا مئات منهم بتهمة أنهم ينتمون الي الإخوان المسلمين.
كان طبيعيا والأمر كذلك, أن يفشل النظام وأن تدفن التجربة في الرمال الأفغانية, في إعلان آخر عن فشل محاولة الاقتلاع عبر الأصولية الماركسية.
(4)
بعد فشل نموذجي الاقتلاع من خلال النموذج الغربي, أو تطبيق النظام الشيوعي, شهدت أفغانستان نموذجا ثالثا علي الاسترجاع البائس, تمثل في الأصولية الدينية التي تجسدت في حركة طالبان, وهي التي ظهرت في الأفق ـ في قندهار ـ عام94, واستولت علي السلطة في كابول عام96, وأسقط نظامها علي النحو المعروف في عام2001 ـ أي أنها حكمت أفغانستان طيلة خمس سنوات.
ثقافة الأصوليين الذين حكموا أفغانستان في التجربتين السابقتين كانت من خارج المكان, أما ثقافة الطالبانيين فقد جاءت من عمق المكان, ولكن من خارج الزمان, والأولون أخطأوا التشخيص وعالجوا أزمة أفغانستان بدواء رفضه المجتمع وقاومه بشدة, والآخرون صح تشخيصهم, لكنهم عالجوا الجسم بدواء انتهت مدة صلاحيته ـ كيف؟
الأولون ممن قالوا إن التغريب هو الحل, أو الشيوعية هي الحل, وفرضوا حلولهم علي المجتمع بقوة السلطة وبأساليب خلت من الذكاء الاجتماعي, انتهوا علي النحو الذي عرفناه, أما جماعة طالبان فقد جاءوا رافعين راية الإسلام, فاحتفي بهم المجتمع في البداية, بحكم استجابتهم لأشواقه الإيمانية, لكن الحل الذي قدموه أثبت عجزه عن علاج القضايا الحياتية للناس, وإن لبي أشواقهم الإيمانية بصورة أو أخري, إلا أنه أصبح بمعني الوقت عبئا علي أشواقهم العملية ـ لماذا؟
يعلم كثيرون أن عناصر طالبان تخرجت في المدارس الدينية المعروفة باسم ديوبندية نسبة الي بلدة ديوبند في الهند, وهي المدارس التي تأسست منذ150 عاما, في محاولة لاستنهاض همة المسلمين إثر فشلهم في ثورة الاستقلال بالهند, كما أنها كانت ردا علي جهود مدرسة عليكره التي أسسها السر سيد أحمد خان, واعتبرت موالية للانجليز وساعية لتمييع الدين, عبر اهمال العلوم الدينية والتركيز علي العلوم العصرية, في الوقت ذاته فإنها قامت بالتصدي للانحرافات العقيدية التي شاعت في شبه القارة الهندية, وكانت القاديانية من تجلياتها, حيث أعلنت نبوة مؤسسها غلام أحمد قاديان, وأبطلت فريضة الجهاد ضد الاستعمار البريطاني.
الخلاصة أن تلك المدارس الديوبندية كانت استجابة لظروف تاريخية معينة, ومن ثم فإنها أسست مناهجها لكي تفي بمتطلبات ذلك الظرف الذي كان التفلت من الدين محوره الأساسي, واذ قامت تلك المدارس بدورها بكفاءة آنذاك, إلا أنها لم تطور مناهجها حين تغير الظرف التاريخي, وظلت الي نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين, تغذي طلابها بثقافة ومناهج القرن التاسع عشر, الأمر الذي يسوغ لنا القول إن حركة طالبان قدمت للمجتمع الأفغاني دواء انتهت مدة صلاحيته, وحين تولت السلطة فإنها ظلت تحارب علي جبهة التفلت من الدين, بذات الأسلوب المفتقر الي الذكاء الاجتماعي, وعجزت عن أن تقدم شيئا خارج ذلك الإطار, فلا أحسنت إقامة الدين, ولا أقامت شيئا يذكر في الدنيا, ذلك أن المشروع الثقافي الذي خرجوا من عباءته كان معنيا بأمور معينة تدور في ذلك الالتزام الديني, ولم تكن إقامة الدنيا من شواغله, ولكي يسدوا ذلك النقص حين تولوا السلطة فإنهم وظفوا معارفهم الدينية المتواضعة في استرجاع بائس لتجارب الماضي, في عصور التخلف والتدهور, فكان الفشل نصيبهم, وهو فشل لاحت بوادره قبل الحملة العسكرية الأمريكية, وكانت الحملة بمثابة إجراء طوي صفحتهم, حتي شبهتها بقرار فصل تلميذ من الصف, بعدما كان قد تكرر رسوبه عدة سنوات.
(5)
درس التجارب الثلاث يقول للجميع ـ في أفغانستان كما في غيرها ـ إن المجتمع لا يمكن أن يستقيم أمره ويسترد عافيته اذا استورد نموذجا من خارج المكان أو الزمان, وأي محاولة من ذلك القبيل محكوم عليها بالفشل, لكن نموذجه لابد أن يخرج من تربته واستنباتا من جذوره, ولكي تنمو شجرته وتخضر أوراقها فلا مفر من أن يترعرع النموذج في الهواء الطلق, منفتحا علي ما حوله ومستفيدا من خبرات غيره, ومتحريا الخير والحكمة حيثما وجدا.
حين قلت هذا الكلام في ندوة طهران, كنت مدركا لأمرين, أولهما أن النخبة التي تحكم أفغانستان مستجلبة من الخارج في أغلبها, وكلها تقلدت مناصبها باختيار أو رضا من جانب الولايات المتحدة, وهو ما يخشي أن يكون مقدمة لاستدعاء نموذج التغريب الأول, أما الأمر الثاني فهو أن أفغانستان في المرحلة الراهنة أقرب الي مريض في غرفة الانعاش, لا يفكر أحد من أهله كيف سيعيش في المستقبل, وإنما كل ما يشغلهم هو أن ينجو من الموت ويخرج من غرفة الانعاش سليما وسائرا علي قدميه.
مع ذلك فقد قلت ما عندي, من باب إبراء الذمة, الذي أحسبه كان نوعا من الأذان في مالطة!