هويدي 1-1-2001
خبرة الأسبوع الماضي ترشحه بامتياز لأن يكون أسبوع الغضب, ذلك أنني منذ نشرت مقال الثلاثاء الماضي, الذي كان عنوانه خيولنا التي لا تصهل, والأصداء تتوالي معبرة عن عديد من الانفعالات, التي أراد أصحابها التأكيد من خلالها, علي أن مخزون الغضب الشعبي إزاء ما يفعل بالأمة وما يراد لها لا حدود له, وأن المشكلة ليست في وجود الغضب ولكنها في انعدام فرص التعبير عنه أحيانا, أو في كلفته الباهظة في ظل الخرائط العربية الراهنة, في أحيان كثيرة, وفي بعض الرسائل خليط من مشاعر الحيرة والحزن, عبر عنها نفر من الكاتبين الذين أثاروا السؤال التالي: ما الذي نفعله حين لا تتاح لنا فرص التعبير المشروع, وحين نرفض المغامرة بانتهاج سبيل آخر غير مشروع؟
تحتاج كومة الرسائل الي تحليل يرصد معالم أزمة جيل من الشباب والمهنيين مشحون بالغيرة والحماس والغضب, لكن ذلك كله مخزون في أعماقه, ولا تتاح له فرصة كافية للتصريف أو التنفيس, غير أن ذلك ما يخرج عن اختصاصي, وثمة جهات أخري أجدر بأن تنهض به, أرجو ألا تكون أجهزة الأمن من بينها.
بين كم الرسائل التي تلقيتها, وجدت أن ما كتبه الدكتور أحمد كمال أبوالمجد المفكر المعروف ووزير الإعلام الأسبق, يعبر عما يجيش في صدور كثيرين, فضلا عن أنه يدعو الي تعبير سلمي عن الغضب, ينفض عن الناس شعورهم بالاكتئاب والحزن, ويتيح لهم أن يفصحوا عما حبسوه وراكموه في أعماقهم, بحيث يسمعون أصواتهم للملأ, خصوصا أولئك الذين توهموا أن أمتنا بلا صوت, وأن خيارها الامتثال والانصياع, ولا خيار آخر أمامها.
لا يحتاج الدكتور أبوالمجد لأن أقدمه,
وهذا مقاله الذي كتبه علي شكل رسالة إلي, يقدم رؤيته للمأزق الذي تعيشه الأمة الآن.
طالعت مقالك المنشور بعدد الأهرام يوم الثلاثاء الماضي, تحت عنوان: خيولنا التي لا تصهل, ووجدته ينضح بمشاعر الألم والأسف والشكوي مما آل إليه حال أمتنا العربية والإسلامية, عقب الزلزال الهائل الذي تعرضت له مسيرة التاريخ الإنساني, ومسيرة العلاقات الدولية كلها, وهو الزلزال الذي بدأ يوم الحادي عشر من سبتمبر الماضي, الذي مازالت تداعياته وآثاره تتجلي يوما بعد يوم, متمثلة في وضع جميع العرب والمسلمين في قفص اتهام رهيب لا يكاد يسمح لهم معه بالدفاع عن أنفسهم, وهو اتهام تجاوز ـ بآماد بعيدة ـ دائرة الحدث الرهيب الذي وقع ليتحول إلي ما يشبه الإدانة الكاملة لكل ما هو عربي ومسلم.. وقد اختتمت مقالك بعبارة تستحق أن يتوقف عندها جميع المثقفين العرب والمسلمين وهي قولك: إن ذلك السكون المخيم علي الشارع العربي يوحي للآخرين بأنهم بصدد أمة تبلدت ومات فيها الشعور والإحساس, ونزعت منها القدرة علي الغضب, الأمر الذي يغريهم بالمضي الي ما هو أبعد في استقوائهم واستكبارهم, وهو ما يفتح شهيتهم لقصف أي بلد عربي لا تروق لهم سياسته, ولن يعدموا ذريعة لتبرير ذلك القصف.
والذي دعاني الي كتابة هذه الرسالة هو ـ بالتحديد ـ هذه الإشارة الي أن الموقف السلبي المستكين لشعوبنا العربية والإسلامية يمكن ـ فعلا ـ أن يكون مشجعا لسياسة التوسع في ضرب المزيد من الدول العربية والإسلامية, وزاد من إحساسي بالحاجة الي التعديل السريع لهذا الموقف السلبي المحزن, انني أتيح لي كذلك أن أطلع علي مقالين بالغي الأهمية, لكاتبين أمريكيين شغلا المثقفين علي امتداد العالم كله خلال السنوات العشر الأخيرة, والمقالان منشوران في مجلة نيوزويك الصادرة( باللغة العربية) يوم25 ديسمبر2001, ومنشوران كذلك( باللغة الانجليزية) في عدد خاص من المجلة( ديسمبر2001 ـ فبراير2002).. أما المقال الأول فللباحث السياسي المعروف صمويل هانتنجتون.. وعنوانه: عصر حروب المسلمين.. وأما المقال الثاني فللباحث الذي لا يقل عنه شهرة فرانسيس فوكوياما.. وعنوانه: هدفهم العالم المعاصر.. والمقالان يحتاجان الي تحليل ونقد وتعقيب مفصل, لا تتسع له هذه الرسالة, وهو تعقيب أرجو أن أعود إليه في مقال مستقل إن شاء الله.
أول ما يلفت النظر في المقالين, أن مواضع الالتقاء والتماس بين فكر الكاتبين والرؤية العامة التي يصدران عنها قد صارت واضحة ومتعددة.. وأن المقالين, في مجموعهما, والأثر الحتمي المترتب عليها, لا يخدمان قضية الحوار والتعايش والسلام التي تصور للجميع أنها قضية العصر.. وأنهما يستخدمان تعبيرات ومفردات بالغة الحدة والسوء والسلبية في وصف العرب والمسلمين وحضارتهم, وهي تعبيرات من شأنها أن تستدعي مزيدا من التباعد والجفاء, وأن تفتح الباب لصراعات حضارية وسياسية لا مصلحة فيها لأحد.. فمقال هانتنجتون يصف العصر الذي نعيش فيه بأنه عصر حروب المسلمين, أما مقال فوكوياما فعنوانه: هدفهم العالم المعاصر.. موحيا بأن المسلمين هم العدو وأنهم في حالة خصومة مطلقة مع سائر الأمم والشعوب, وقد أضيف الي هذا العنوان عنوان آخر يقول: العدو الحقيقي الإسلاميون الأصوليون, الذين لا يطيقون التنوع والمعارضة أصبحوا فاشيي هذا العصر وهذا ما نحاربه, ورغم بعض العبارات التي حاول بها فوكوياما تقييد هذه الأحكام العامة المرسلة والمطلقة, فإنه لا يلبث أن يعود الي التنبيه لخطر المسلمين في دائرة أوسع من دائرة الإرهاب, فيقول: إن بحر
الفاشية الإسلامية الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا أيدلوجيا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية, وينتقل فوكوياما من قضية الإرهاب التي هي موضوع البحث, ليخوض في أدق وأخص أمور الثقافة للأمتين العربية والإسلامية.. فيقرر أن: علي المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلي وضع سلمي مع الحداثة, خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني..., ويضيف أنه يمكن تصنيف الفكر الوهابي بسهولة علي أنه إسلامية فاشية, ويدلل علي ذلك بأن: هناك كتاب دراسي إجباري للصف العاشر يشرح أنه يجب علي المسلمين أن يخلصوا لبعضهم البعض, وأن يعتبروا الكفار أعداءهم.. ولم يروج السعوديون هذه العقيدة في الشرق الأوسط فحسب, بل في الولايات المتحدة أيضا..... وهكذا يصدر فوكوياما حكما صارما ضد دولة عربية مسلمة, من شأنه أن يوجد لدي القاريء شعورا حادا بالخصومة والعداء تجاه شعب عربي مسلم.. وذلك استنادا الي نص أسيء فهمه, أغلب الظن أنه النص القرآني الكريم, الذي يقرر أن المؤمنون بعضهم أولياء بعض.. وخلافا لهانتنجتون, الذي وضع يده بقدر كبير من الموضوعية علي مساهمة بعض السياسات ـ الغربية عموما والأمريكية بصفة خاصة ـ في إيجاد حالة من الإحباط والغضب لدي العرب والمسلمين, فهو يشير صراحة الي أن من أسباب الشعور بالظلم والامتعاض تجاه الغرب الامبريالية الغربية وسيطرتها علي العالم الإسلامي خلال معظم سنوات القرن العشرين, كما أنه وليد سياسات غربية معينة بينها العمليات الأمريكية ضد العراق منذ عام1991, والعلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.. كذلك انتبه هانتنجتون في خاتمة مقاله, الي حقيقة مهمة جديرة بأن يستفيد منها أصحاب القرار في السياسة الأمريكية, وذلك حين قرر أنه: كلما ازداد وطال استخدام الولايات المتحدة وحلفائها للقوة العسكرية ضد أعدائهم, ستتوسع ردود الفعل الإسلامية وتمسي أكثر حدة, فاعتداءات11 سبتمبر ولدت الوحدة في صفوف الغرب, والضربة الطويلة ردا عليها قد تولد وحدة في صفوف المسلمين..
(2)
الذي أهدف إليه من هذه الملاحظات كلها, هو التنبيه إلي أمرين:
أولهما: أن التعددية الثقافية التي صارت جزءا أساسيا من أجزاء الخطاب, الذي ينادي بالحوار بين الحضارات ويدعو إلي التواصل بين الشعوب.. تقتضي حدا أدني من احترام الخصوصيات الثقافية, واحترام ما يمكن أن نسميه السيادة الثقافية للشعوب.. أما إصدار أحكام بالإدانة علي ثقافة ما لأنها مختلفة عن ثقافة دولة أكثر قوة أو غني أو نفوذا, فإنه يصيب قضية التواصل بين الشعوب في مقتل, ويفتح الباب لهيمنة ثقافية لاشك فيها.. لهذا فإن التدخل في البرامج الدراسية للدول العربية والإسلامية, والذي أشرت إليه في مقالك دون أن تحدد الدولة العربية التي طلب منها ذلك, وإن كان هذا الطلب ـ فيما نعلم ـ في طريقه الي أكثر الدول العربية والإسلامية.. هذا التدخل ينبغي أن يقابل بالرفض. فإن قبوله سوف يفتح الباب ـ بالضرورة ـ لصور أخري من التدخل, تمتزج فيها الرؤي الثقافية بالمواقف والمصالح السياسية والاقتصادية, وهو أمر لا يجوز التردد في رفضه.. ولكن ما تقدم جميعه لا يجوز أن يؤدي بنا إلي المكابرة وإنكار الحقائق في شأن الكثير من أوضاعنا الثقافية, وما يتعلق بالخطاب السياسي والخطاب الديني السائدين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية..
وقد لا يعرف فوكوياما وهانتنجتون, وغيرهما من الباحثين, فضلا عن الساسة والحكام في الغرب, أن هناك ملحمة ثقافية قائمة منذ سنوات عديدة داخل المجتمعات العربية والإسلامية.. وأن هناك دعوة أصيلة يزداد أنصارها يوما بعد يوم لإصلاح الشأن الثقافي والتعليمي, ولمراجعة الخطاب الديني السائد في ضوء مآلاته وآثاره علي العقل العربي والوجدان المسلم.. ولكن هذه الملحمة تظل شأنا عربيا وإسلاميا نتجه إليه طوعا واختيارا, إيمانا بضرورته وشدة الحاجة إليه لمباشرة نهضة عربية وإسلامية شاملة.. لا لمجرد تحسين صورة العرب والمسلمين لدي الآخرين غربيين وغير غربيين.. وهذا بدوره ـ حديث طويل ـ أرجو أن أعود إليه في مقال قريب ـ فأمره ـ فيما أري لا يحتمل الإرجاء ولا يحتمل المكابرة.. كما أنه ـ قبل ذلك كله ـ لا يحتمل المجاملة, والسكوت علي العوج الذي يبدأ فكريا وثقافيا لينتهي باسطا ذراعيه علي الحياة العربية والإسلامية كلها.. وقد استبق الحديث المفصل عن ضرورة مراجعة الخطاب الديني السائد لأقرر أنه قد صار من فروض العين علي جميع علماء المسلمين ومثقفيهم ودعاتهم, أن يستنقذوا الجيل كله من خطاب يملأ حياة الناس ضيقا وحرجا وانقباضا, ويغري الشباب إغراء شديدا باعتزال المجتمع ومخاصمة الدنيا ومعاداة الآخرين, والانشغال بظواهر النصوص عن مقاصدها الكلية, ليردهم إلي الحياة الإسلامية السوية, حياة الحركة والانتعاش والبهجة والتواصل مع الدنيا كلها.. والسعي ـ في تواضع ورفق ورحمة ـ لإحياء قيم التكافل والتراحم والتسامح والعطاء.. وهي القيم الكفيلة بأن تجعل من كل مؤمن ومؤمنة رحمة مهداة إلي كل من حولهم من شعوب الدنيا علي اختلاف أديانها وثقافاتها, تأسيا بنبيهم الذي أرسله رب الناس للناس ليكون رحمة للعالمين.
الأمر الآخر الذي أختم به هذه الرسالة.. هو الاستجابة لما ناديت به في مقالك من ضرورة تحرك الشعوب العربية والإسلامية, تعبيرا عن حقيقة موقفها من الآخرين, وادانتها للعنف والتصادم والإرهاب إدانة تصدر عن موقف حضاري أصيل, ولا تصدر عن رغبة طارئة في مجاملة الآخرين أو ارضائهم.. وأنا أدعو ـ في وضوح وبساطة ـ إلي خروج مسيرات شعبية مسالمة هادئة, تقدر المسئولية وتدرك دقة الموقف وخطورته, وتعرف بكل دقة مضمون الرسالة التي تريد إبلاغها للعالم كله.. ويرفع المشاركون فيها عددا من الشعارات والعبارات التي تساعد علي تصحيح الفهم الخاطيء لهم ولثقافتهم, وهو الفهم الذي روجت له في دأب وإصرار دوائر نعرفها حق المعرفة ونفهم بواعثها فيما تسعي إليه من إيجاد تناقض وعداء بين العرب والمسلمين من ناحية, وسائر شعوب الدنيا وفي مقدمتها الشعوب الأوروبية والأمريكية من ناحية أخري.. ومن أمثلة هذه الشعارات والعبارات:
1 ـ العرب والمسلمون شركاء في مسيرة التعايش والتواصل والسلام.
2ـ أين أمريكا التي عرفناها؟؟.. أين مباديء الثورة الأمريكية؟؟.. ومباديء الدستور الأمريكي؟؟.
3 ـ حروب إسرائيل وعدوانها علي العرب عبء ثقيل علي الشعب الأمريكي.
4 ـ الشهداء الفلسطينيون ضحايا إرهاب الدولة وليسوا إرهابيين ولا معتدين..
5 ـ المسلمون ليسوا طالبان.. وليسوا تنظيم القاعدة.. ولا شبكات الإرهاب.
6 ـ الانتفاضة الفلسطينية دفاع مشروع ضد قهر الاحتلال الإسرائيلي.
الإصرار علي عداوتنا.
7ـ الفلسطينيون يذبحون كل يوم, ومساكنهم تهدم علي رءوسهم.. فأين الضمير العالمي؟؟.. وأين مباديء الأمم المتحدة؟؟.. بل أين الأمم المتحدة؟؟.
8 ـ الفيتو الأمريكي ظلم للشعب الفلسطيني.. وإهانة لجميع العرب والمسلمين.. وإساءة لصورة أمريكا في العالم.
إنني أدرك تماما أن هناك خشية من أن تؤدي أسباب الغضب المكبوت, والإحساس بالظلم والقهر في مواجهة الاستقواء علي العرب والمسلمين, إلي صعوبة المحافظة علي نظام تلك المسيرات وحمايتها من تسلل بعض من يغلبهم الغضب أو بعض من لا يقدرون المسئولية, ولا يدركون صعوبة الموقف الذي تجتازه أمتنا.. ولكن تقدير كاتب هذه السطور أن هذه لحظة تاريخية شديدة الخصوصية, تقتضي التوحد التام بين الحكومات وشعوبها في وجه حملة ضارية لا تفرق بين الحكومات والشعوب.. وفي تقديره كذلك, أن من شأن هذه المسيرات, حين تبرأ مما يعكر صفوها أو يفسد أمرها.. أن تفتح الأعين في كل مكان إلي أن الشعوب العربية والمسلمة شعوب صديقة مسالمة.. ولكن من حق وجهها أن يكفهر, ومن حق صوتها أن يعلو في وجه ظلم بلغ فيه السيل الزبي, وتجاوز فيه القهر آخر المدي.
وإذا تعذر لسبب أو آخر تحقيق هذا الاقتراح, فثمة اقتراح بديل لا ينطوي علي شيء من المحاذير والمخاوف التي قد يثيرها الاقتراح الأول.. وهو أن تدعو منظمات المجتمع المدني, وجميع الأحزاب السياسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي, إلي خمس دقائق من الصمت, تتوقف خلالها جميع الأعمال.. وترفع فيها الأعلام حاملة هذه النداءات والشعارات, وتدعي لشهودها أجهزة الإعلام العالمية والمحلية.. وذلك حتي تصل هذه الرسالة إلي العالم كله.. تصحح الصورة, وتعبر عن الغضب المشروع, والإحباط الذي يفسر كثيرا من الأمور.. كما تعبر عن الموقف العربي والإسلامي الأصيل في استنكار العنف والإرهاب بصورهما كلها.. وعن الإحساس الصادق بأننا مع الدنيا كلها في خندق واحد, يتطلع للأمن والاستقرار والسلام الذي لا يتحقق له الاستمرار, إلا في ظل من العدل والإنصاف.
ولله تعالي عاقبة الأمور..
خبرة الأسبوع الماضي ترشحه بامتياز لأن يكون أسبوع الغضب, ذلك أنني منذ نشرت مقال الثلاثاء الماضي, الذي كان عنوانه خيولنا التي لا تصهل, والأصداء تتوالي معبرة عن عديد من الانفعالات, التي أراد أصحابها التأكيد من خلالها, علي أن مخزون الغضب الشعبي إزاء ما يفعل بالأمة وما يراد لها لا حدود له, وأن المشكلة ليست في وجود الغضب ولكنها في انعدام فرص التعبير عنه أحيانا, أو في كلفته الباهظة في ظل الخرائط العربية الراهنة, في أحيان كثيرة, وفي بعض الرسائل خليط من مشاعر الحيرة والحزن, عبر عنها نفر من الكاتبين الذين أثاروا السؤال التالي: ما الذي نفعله حين لا تتاح لنا فرص التعبير المشروع, وحين نرفض المغامرة بانتهاج سبيل آخر غير مشروع؟
تحتاج كومة الرسائل الي تحليل يرصد معالم أزمة جيل من الشباب والمهنيين مشحون بالغيرة والحماس والغضب, لكن ذلك كله مخزون في أعماقه, ولا تتاح له فرصة كافية للتصريف أو التنفيس, غير أن ذلك ما يخرج عن اختصاصي, وثمة جهات أخري أجدر بأن تنهض به, أرجو ألا تكون أجهزة الأمن من بينها.
بين كم الرسائل التي تلقيتها, وجدت أن ما كتبه الدكتور أحمد كمال أبوالمجد المفكر المعروف ووزير الإعلام الأسبق, يعبر عما يجيش في صدور كثيرين, فضلا عن أنه يدعو الي تعبير سلمي عن الغضب, ينفض عن الناس شعورهم بالاكتئاب والحزن, ويتيح لهم أن يفصحوا عما حبسوه وراكموه في أعماقهم, بحيث يسمعون أصواتهم للملأ, خصوصا أولئك الذين توهموا أن أمتنا بلا صوت, وأن خيارها الامتثال والانصياع, ولا خيار آخر أمامها.
لا يحتاج الدكتور أبوالمجد لأن أقدمه,
وهذا مقاله الذي كتبه علي شكل رسالة إلي, يقدم رؤيته للمأزق الذي تعيشه الأمة الآن.
طالعت مقالك المنشور بعدد الأهرام يوم الثلاثاء الماضي, تحت عنوان: خيولنا التي لا تصهل, ووجدته ينضح بمشاعر الألم والأسف والشكوي مما آل إليه حال أمتنا العربية والإسلامية, عقب الزلزال الهائل الذي تعرضت له مسيرة التاريخ الإنساني, ومسيرة العلاقات الدولية كلها, وهو الزلزال الذي بدأ يوم الحادي عشر من سبتمبر الماضي, الذي مازالت تداعياته وآثاره تتجلي يوما بعد يوم, متمثلة في وضع جميع العرب والمسلمين في قفص اتهام رهيب لا يكاد يسمح لهم معه بالدفاع عن أنفسهم, وهو اتهام تجاوز ـ بآماد بعيدة ـ دائرة الحدث الرهيب الذي وقع ليتحول إلي ما يشبه الإدانة الكاملة لكل ما هو عربي ومسلم.. وقد اختتمت مقالك بعبارة تستحق أن يتوقف عندها جميع المثقفين العرب والمسلمين وهي قولك: إن ذلك السكون المخيم علي الشارع العربي يوحي للآخرين بأنهم بصدد أمة تبلدت ومات فيها الشعور والإحساس, ونزعت منها القدرة علي الغضب, الأمر الذي يغريهم بالمضي الي ما هو أبعد في استقوائهم واستكبارهم, وهو ما يفتح شهيتهم لقصف أي بلد عربي لا تروق لهم سياسته, ولن يعدموا ذريعة لتبرير ذلك القصف.
والذي دعاني الي كتابة هذه الرسالة هو ـ بالتحديد ـ هذه الإشارة الي أن الموقف السلبي المستكين لشعوبنا العربية والإسلامية يمكن ـ فعلا ـ أن يكون مشجعا لسياسة التوسع في ضرب المزيد من الدول العربية والإسلامية, وزاد من إحساسي بالحاجة الي التعديل السريع لهذا الموقف السلبي المحزن, انني أتيح لي كذلك أن أطلع علي مقالين بالغي الأهمية, لكاتبين أمريكيين شغلا المثقفين علي امتداد العالم كله خلال السنوات العشر الأخيرة, والمقالان منشوران في مجلة نيوزويك الصادرة( باللغة العربية) يوم25 ديسمبر2001, ومنشوران كذلك( باللغة الانجليزية) في عدد خاص من المجلة( ديسمبر2001 ـ فبراير2002).. أما المقال الأول فللباحث السياسي المعروف صمويل هانتنجتون.. وعنوانه: عصر حروب المسلمين.. وأما المقال الثاني فللباحث الذي لا يقل عنه شهرة فرانسيس فوكوياما.. وعنوانه: هدفهم العالم المعاصر.. والمقالان يحتاجان الي تحليل ونقد وتعقيب مفصل, لا تتسع له هذه الرسالة, وهو تعقيب أرجو أن أعود إليه في مقال مستقل إن شاء الله.
أول ما يلفت النظر في المقالين, أن مواضع الالتقاء والتماس بين فكر الكاتبين والرؤية العامة التي يصدران عنها قد صارت واضحة ومتعددة.. وأن المقالين, في مجموعهما, والأثر الحتمي المترتب عليها, لا يخدمان قضية الحوار والتعايش والسلام التي تصور للجميع أنها قضية العصر.. وأنهما يستخدمان تعبيرات ومفردات بالغة الحدة والسوء والسلبية في وصف العرب والمسلمين وحضارتهم, وهي تعبيرات من شأنها أن تستدعي مزيدا من التباعد والجفاء, وأن تفتح الباب لصراعات حضارية وسياسية لا مصلحة فيها لأحد.. فمقال هانتنجتون يصف العصر الذي نعيش فيه بأنه عصر حروب المسلمين, أما مقال فوكوياما فعنوانه: هدفهم العالم المعاصر.. موحيا بأن المسلمين هم العدو وأنهم في حالة خصومة مطلقة مع سائر الأمم والشعوب, وقد أضيف الي هذا العنوان عنوان آخر يقول: العدو الحقيقي الإسلاميون الأصوليون, الذين لا يطيقون التنوع والمعارضة أصبحوا فاشيي هذا العصر وهذا ما نحاربه, ورغم بعض العبارات التي حاول بها فوكوياما تقييد هذه الأحكام العامة المرسلة والمطلقة, فإنه لا يلبث أن يعود الي التنبيه لخطر المسلمين في دائرة أوسع من دائرة الإرهاب, فيقول: إن بحر
الفاشية الإسلامية الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا أيدلوجيا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية, وينتقل فوكوياما من قضية الإرهاب التي هي موضوع البحث, ليخوض في أدق وأخص أمور الثقافة للأمتين العربية والإسلامية.. فيقرر أن: علي المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلي وضع سلمي مع الحداثة, خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني..., ويضيف أنه يمكن تصنيف الفكر الوهابي بسهولة علي أنه إسلامية فاشية, ويدلل علي ذلك بأن: هناك كتاب دراسي إجباري للصف العاشر يشرح أنه يجب علي المسلمين أن يخلصوا لبعضهم البعض, وأن يعتبروا الكفار أعداءهم.. ولم يروج السعوديون هذه العقيدة في الشرق الأوسط فحسب, بل في الولايات المتحدة أيضا..... وهكذا يصدر فوكوياما حكما صارما ضد دولة عربية مسلمة, من شأنه أن يوجد لدي القاريء شعورا حادا بالخصومة والعداء تجاه شعب عربي مسلم.. وذلك استنادا الي نص أسيء فهمه, أغلب الظن أنه النص القرآني الكريم, الذي يقرر أن المؤمنون بعضهم أولياء بعض.. وخلافا لهانتنجتون, الذي وضع يده بقدر كبير من الموضوعية علي مساهمة بعض السياسات ـ الغربية عموما والأمريكية بصفة خاصة ـ في إيجاد حالة من الإحباط والغضب لدي العرب والمسلمين, فهو يشير صراحة الي أن من أسباب الشعور بالظلم والامتعاض تجاه الغرب الامبريالية الغربية وسيطرتها علي العالم الإسلامي خلال معظم سنوات القرن العشرين, كما أنه وليد سياسات غربية معينة بينها العمليات الأمريكية ضد العراق منذ عام1991, والعلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.. كذلك انتبه هانتنجتون في خاتمة مقاله, الي حقيقة مهمة جديرة بأن يستفيد منها أصحاب القرار في السياسة الأمريكية, وذلك حين قرر أنه: كلما ازداد وطال استخدام الولايات المتحدة وحلفائها للقوة العسكرية ضد أعدائهم, ستتوسع ردود الفعل الإسلامية وتمسي أكثر حدة, فاعتداءات11 سبتمبر ولدت الوحدة في صفوف الغرب, والضربة الطويلة ردا عليها قد تولد وحدة في صفوف المسلمين..
(2)
الذي أهدف إليه من هذه الملاحظات كلها, هو التنبيه إلي أمرين:
أولهما: أن التعددية الثقافية التي صارت جزءا أساسيا من أجزاء الخطاب, الذي ينادي بالحوار بين الحضارات ويدعو إلي التواصل بين الشعوب.. تقتضي حدا أدني من احترام الخصوصيات الثقافية, واحترام ما يمكن أن نسميه السيادة الثقافية للشعوب.. أما إصدار أحكام بالإدانة علي ثقافة ما لأنها مختلفة عن ثقافة دولة أكثر قوة أو غني أو نفوذا, فإنه يصيب قضية التواصل بين الشعوب في مقتل, ويفتح الباب لهيمنة ثقافية لاشك فيها.. لهذا فإن التدخل في البرامج الدراسية للدول العربية والإسلامية, والذي أشرت إليه في مقالك دون أن تحدد الدولة العربية التي طلب منها ذلك, وإن كان هذا الطلب ـ فيما نعلم ـ في طريقه الي أكثر الدول العربية والإسلامية.. هذا التدخل ينبغي أن يقابل بالرفض. فإن قبوله سوف يفتح الباب ـ بالضرورة ـ لصور أخري من التدخل, تمتزج فيها الرؤي الثقافية بالمواقف والمصالح السياسية والاقتصادية, وهو أمر لا يجوز التردد في رفضه.. ولكن ما تقدم جميعه لا يجوز أن يؤدي بنا إلي المكابرة وإنكار الحقائق في شأن الكثير من أوضاعنا الثقافية, وما يتعلق بالخطاب السياسي والخطاب الديني السائدين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية..
وقد لا يعرف فوكوياما وهانتنجتون, وغيرهما من الباحثين, فضلا عن الساسة والحكام في الغرب, أن هناك ملحمة ثقافية قائمة منذ سنوات عديدة داخل المجتمعات العربية والإسلامية.. وأن هناك دعوة أصيلة يزداد أنصارها يوما بعد يوم لإصلاح الشأن الثقافي والتعليمي, ولمراجعة الخطاب الديني السائد في ضوء مآلاته وآثاره علي العقل العربي والوجدان المسلم.. ولكن هذه الملحمة تظل شأنا عربيا وإسلاميا نتجه إليه طوعا واختيارا, إيمانا بضرورته وشدة الحاجة إليه لمباشرة نهضة عربية وإسلامية شاملة.. لا لمجرد تحسين صورة العرب والمسلمين لدي الآخرين غربيين وغير غربيين.. وهذا بدوره ـ حديث طويل ـ أرجو أن أعود إليه في مقال قريب ـ فأمره ـ فيما أري لا يحتمل الإرجاء ولا يحتمل المكابرة.. كما أنه ـ قبل ذلك كله ـ لا يحتمل المجاملة, والسكوت علي العوج الذي يبدأ فكريا وثقافيا لينتهي باسطا ذراعيه علي الحياة العربية والإسلامية كلها.. وقد استبق الحديث المفصل عن ضرورة مراجعة الخطاب الديني السائد لأقرر أنه قد صار من فروض العين علي جميع علماء المسلمين ومثقفيهم ودعاتهم, أن يستنقذوا الجيل كله من خطاب يملأ حياة الناس ضيقا وحرجا وانقباضا, ويغري الشباب إغراء شديدا باعتزال المجتمع ومخاصمة الدنيا ومعاداة الآخرين, والانشغال بظواهر النصوص عن مقاصدها الكلية, ليردهم إلي الحياة الإسلامية السوية, حياة الحركة والانتعاش والبهجة والتواصل مع الدنيا كلها.. والسعي ـ في تواضع ورفق ورحمة ـ لإحياء قيم التكافل والتراحم والتسامح والعطاء.. وهي القيم الكفيلة بأن تجعل من كل مؤمن ومؤمنة رحمة مهداة إلي كل من حولهم من شعوب الدنيا علي اختلاف أديانها وثقافاتها, تأسيا بنبيهم الذي أرسله رب الناس للناس ليكون رحمة للعالمين.
الأمر الآخر الذي أختم به هذه الرسالة.. هو الاستجابة لما ناديت به في مقالك من ضرورة تحرك الشعوب العربية والإسلامية, تعبيرا عن حقيقة موقفها من الآخرين, وادانتها للعنف والتصادم والإرهاب إدانة تصدر عن موقف حضاري أصيل, ولا تصدر عن رغبة طارئة في مجاملة الآخرين أو ارضائهم.. وأنا أدعو ـ في وضوح وبساطة ـ إلي خروج مسيرات شعبية مسالمة هادئة, تقدر المسئولية وتدرك دقة الموقف وخطورته, وتعرف بكل دقة مضمون الرسالة التي تريد إبلاغها للعالم كله.. ويرفع المشاركون فيها عددا من الشعارات والعبارات التي تساعد علي تصحيح الفهم الخاطيء لهم ولثقافتهم, وهو الفهم الذي روجت له في دأب وإصرار دوائر نعرفها حق المعرفة ونفهم بواعثها فيما تسعي إليه من إيجاد تناقض وعداء بين العرب والمسلمين من ناحية, وسائر شعوب الدنيا وفي مقدمتها الشعوب الأوروبية والأمريكية من ناحية أخري.. ومن أمثلة هذه الشعارات والعبارات:
1 ـ العرب والمسلمون شركاء في مسيرة التعايش والتواصل والسلام.
2ـ أين أمريكا التي عرفناها؟؟.. أين مباديء الثورة الأمريكية؟؟.. ومباديء الدستور الأمريكي؟؟.
3 ـ حروب إسرائيل وعدوانها علي العرب عبء ثقيل علي الشعب الأمريكي.
4 ـ الشهداء الفلسطينيون ضحايا إرهاب الدولة وليسوا إرهابيين ولا معتدين..
5 ـ المسلمون ليسوا طالبان.. وليسوا تنظيم القاعدة.. ولا شبكات الإرهاب.
6 ـ الانتفاضة الفلسطينية دفاع مشروع ضد قهر الاحتلال الإسرائيلي.
الإصرار علي عداوتنا.
7ـ الفلسطينيون يذبحون كل يوم, ومساكنهم تهدم علي رءوسهم.. فأين الضمير العالمي؟؟.. وأين مباديء الأمم المتحدة؟؟.. بل أين الأمم المتحدة؟؟.
8 ـ الفيتو الأمريكي ظلم للشعب الفلسطيني.. وإهانة لجميع العرب والمسلمين.. وإساءة لصورة أمريكا في العالم.
إنني أدرك تماما أن هناك خشية من أن تؤدي أسباب الغضب المكبوت, والإحساس بالظلم والقهر في مواجهة الاستقواء علي العرب والمسلمين, إلي صعوبة المحافظة علي نظام تلك المسيرات وحمايتها من تسلل بعض من يغلبهم الغضب أو بعض من لا يقدرون المسئولية, ولا يدركون صعوبة الموقف الذي تجتازه أمتنا.. ولكن تقدير كاتب هذه السطور أن هذه لحظة تاريخية شديدة الخصوصية, تقتضي التوحد التام بين الحكومات وشعوبها في وجه حملة ضارية لا تفرق بين الحكومات والشعوب.. وفي تقديره كذلك, أن من شأن هذه المسيرات, حين تبرأ مما يعكر صفوها أو يفسد أمرها.. أن تفتح الأعين في كل مكان إلي أن الشعوب العربية والمسلمة شعوب صديقة مسالمة.. ولكن من حق وجهها أن يكفهر, ومن حق صوتها أن يعلو في وجه ظلم بلغ فيه السيل الزبي, وتجاوز فيه القهر آخر المدي.
وإذا تعذر لسبب أو آخر تحقيق هذا الاقتراح, فثمة اقتراح بديل لا ينطوي علي شيء من المحاذير والمخاوف التي قد يثيرها الاقتراح الأول.. وهو أن تدعو منظمات المجتمع المدني, وجميع الأحزاب السياسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي, إلي خمس دقائق من الصمت, تتوقف خلالها جميع الأعمال.. وترفع فيها الأعلام حاملة هذه النداءات والشعارات, وتدعي لشهودها أجهزة الإعلام العالمية والمحلية.. وذلك حتي تصل هذه الرسالة إلي العالم كله.. تصحح الصورة, وتعبر عن الغضب المشروع, والإحباط الذي يفسر كثيرا من الأمور.. كما تعبر عن الموقف العربي والإسلامي الأصيل في استنكار العنف والإرهاب بصورهما كلها.. وعن الإحساس الصادق بأننا مع الدنيا كلها في خندق واحد, يتطلع للأمن والاستقرار والسلام الذي لا يتحقق له الاستمرار, إلا في ظل من العدل والإنصاف.
ولله تعالي عاقبة الأمور..