هويدي 25-12-2001
هذا الذي يحدث الآن يفوق كل خيال: المدي الذي ذهب إليه الاستقواء الأمريكي, والصمت المطبق علي الشارع العربي, وإذا كان الاستقواء يدهشنا, فإن الصمت بما يوحي به من استسلام واستضعاف يصدمنا ويحيرنا, الأمر الذي يجدد طرح السؤال: هل مات الشارع العربي أم أن صوته الذي انحبس؟.. نحن الذين استفز كبرياءنا في خمسينيات القرن الماضي صدور كتاب العرب ظاهرة صوتية, ثم فوجئنا في مستهل القرن الجديد بأنهم تخلوا عن تلك القشة التي تعلقوا بها في إثبات الوجود, حتي أصبحوا أقرب إلي الظاهرة الجغرافية, منسوبة إلي المكان ومقطوعة الصلة بالزمان.
(1)
خلال الأسابيع الأخيرة, حمل السفير الأمريكي في إحدي العواصم العربية مذكرة مكتوبة من حكومته إلي المسئولين في القطر الشقيق, طلبت اتخاذ إجراءات محددة لتجفيف ينابيع التطرف والإرهاب, وركزت المذكرة علي مناهج التعليم الديني بوجه أخص, حيث دعت إلي اختصار ساعات تدريس مواد العلوم الدينية من20 ساعة في الأسبوع إلي أربع ساعات فقط, وبحيث لا يتجاوز تدريس تلك المواد حدود الأمور العبادية المباشرة, التي تنصب علي علاقة المرء بربه, الأمر الذي يعني استبعاد كل ما يتعلق بنظم المعاملات والحياة العامة, وعلاقة المسلمين بغيرهم من المناهج, كما طلبت الرسالة أن يبادر المسئولون عن قطاع التربية والتعليم, إلي مراجعة كل كتب العلوم الدينية في ضوء تلك المقترحات, وعلي وجه السرعة, بحيث تطبق المناهج الجديدة ابتداء من العام الدراسي المقبل.
في حدود علمي, فإن الرسالة خضعت للدراسة والمناقشة علي أعلي المستويات في القطر الشقيق, وأن توجيهات صدرت لاتخاذ إجراءات تنفيذها, استجابة للرغبة الأمريكية, وحتي لا تتجه الأمور إلي ما هو أسوأ, إذا ما تم التقاعس في تلبية تلك الرغبة.
أضم هذه المعلومة إلي ما سبق أن ذكرت في الأسبوع الماضي, عن مطالبات أمريكية لبعض الحكومات العربية والإسلامية بمراجعة وتنقيح مناهج التعليم الديني في مدارسها, واستبعاد ما يظن أنه يشكل مدارك التلاميذ ومعارفهم علي نحو لا تستريح له السياسات الأمريكية, من قبيل ما يتعلق بالجهاد مثلا, أو ما يذكر بجرائم وممارسات بني إسرائيل, ولن أستغرب أن تشمل المطالبة لاحقا إجراء تنقيح مماثل في كتب التاريخ, لحذف كل ما يتعلق بصلاح الدين واسترداده لبيت المقدس, فذلك مطلب إسرائيلي قديم وملح, أشرت إليه في كتابات سابقة, ذلك طبعا إلي جانب المطالب الأخري التقليدية التي يدعون فيها إلي تحسين صورة إسرائيل في وجدان الأجيال الجديدة, أما صورة العرب المتوحشين والأوغاد في الكتب المدرسية الإسرائيلية, فلن تمس بطبيعة الحال!
ما لفت نظري في المذكرة الأمريكية, أنها لم تكتف بطلب المراجعة والتنقيح في هذا المدي إلي ما هو أبعد بكثير, حيث حددت ساعات الدراسة, والإطار الذي ينبغي أن تتم المراجعة في حدوده, حتي يظن المرء أنهم بعد ذلك سيحددون أسماء بذواتها للقيام بمهمة التدريس, ويستبعدون أسماء أخري, أو أنهم سيطلبون من المدرسين حلق لحاهم, ويفرضون عليهم أزياء معينة!
(2)
القتل بغير حساب في أفغانستان ـ يوم السبت12/22 ـ نشرت الصحف أن الطائرات الأمريكية قصفت موكبا من14 سيارة كانت متجهة إلي كابول, مما أدي إلي وقوع مذبحة راح ضحيتها65 شخصا, ولم يكن أولئك الأشخاص أفرادا عاديين, ولا أعداء من تنظيم القاعدة أو حركة طالبان, وإنما كانوا من زعماء القبائل وشيوخها وقادة المجاهدين السابقين, الذين اعتزموا المشاركة في الاحتفال بتنصيب الحكومة الجديدة في العاصمة الأفغانية.
كيف تعاملت واشنطن مع الخبر؟
أعلنت المتحدثة باسم وزارة الدفاع فيكتوريا كلارك, أن الوزارة لا علم لها بما أوردته وكالة الأنباء الأفغانية بشأن الموضوع, في حين تحدث وزير الدفاع دونالد رامسفيلد عن قصف موكب معاد مما أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلي وتدمير عدة عربات.
القصف تم بطريق الخطأ بطبيعة الحال, وقد استخفت به واشنطن كما رأيت, فلم تجد ضرورة للاعتراف بما حدث أو الاعتذار عنه, ومثل هذه الأخطاء التي أدت إلي مذابح في أفغانستان تقع يوما بعد يوم, وهي لم تميز بين حلفاء وأعداء, وحظ الأخيرين منها موفور لاريب.
لقد استبيحت الدماء علي نحو غير مسبوق, حتي دماء الأسري الذين شاء حظهم التعس أن يقعوا في أيدي من لايرحم, وتم ذلك في ظل إهدار معلن لكل الأعراف والقوانين الدولية, ولم يقصر القادة الأمريكيون ولا قادة التحالف الشمالي في الدعوة إلي التخلص من أولئك الأسري, وقد ردد الدعوة في روما رئيس الوزراء الجديد حميد قرضاي, الذي كان قد ذهب للقاء الملك السابق قبل تسلمه رسميا للسلطة.
ما جري في قلعة جانجي بالقرب من مزار شريف, حين قصفت الطائرات الأمريكية تمردا للأسري أدي إلي قتل نحو600 شخص, كان120 منهم لايزالون مربوطين بالحبال, يمثل استجابة أمينة للدعوة إلي التخلص من أولئك الإرهابيين.
في صحيفة الحياة اللندنية( عدد12/22) أن بعض المنظمات الإنسانية, مثل أطباء بلا حدود, ومنظمة العفو الدولية, وهيومان رايتس ووتش, أبدت قلقها إزاء ظروف اعتقال الأسري في أفغانستان ومصيرهم, وقد ازدادت مخاوف تلك المنظمات من وقوع انتهاكات وتصفيات جسدية, بعد المجزرة التي طالت أكثر من600 أسير أجنبي في قلعة جانجي, وبعد اكتشاف جثث عشرات الأسري الذين قتلوا خنقا بحسب شهادات أوردتها صحيفة نيويورك تايمز.
(3)
يحقق رجال المخابرات الأمريكية الآن, مع سبعة آلاف أسير, حسب تصريح المتحدث باسم قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة, كينتون كيث( الأهرام12/22), وليس معروفا علي وجه الدقة كم عدد العرب والمسلمين غير الأفغان من بين هؤلاء, الذين رأينا صور بعضهم حين عرضوا علي الصحفيين, وهم أذلاء ومربوطون بالحبال, ولكن لقطة عرضتها قناة الجزيرة كشفت عن هوية واحد منهم, تبين أنه كويتي اسمه محمد العنزي ولا يزيد عمره علي15 عاما, وله قصة مثيرة نشرتها الصحف الكويتية تستحق أن تروي, إذ حسبما ذكرت صحيفة الرأي العام( في يومي18 و12/19), فإن الفتي محمد اصطحب أبوه هادي العنزي, الذي قرر الانضمام إلي جماعة طالبان والدفاع عنهم ضد الحملة العسكرية الأمريكية, والأب كان ضابط شرطة برتبة رائد, تقاعد في10/10 الماضي ورقي إلي رتبة مقدم, وفي اليوم التالي مباشرة(10/11, اي بعد4 ايام من بدء القصف الامريكي,) سافر إلي أفغانستان ومعه ابنه محمد, وقرر أن يقاتل مع العرب الذين اعتصموا بالكهوف والجبال. وفي تورا بورا استشهد الأب وتم أسر الابن.
في12/19 نشرت صحيفة الرأي العام أن أسرة المقدم هادي العتري رفضت استقبال التعزية في فقيدهم, وأن أشقاءه قالوا لمندوب الصحيفة إنهم يستحقون التهنئة, لأن أخاهم مات شهيدا, وقد رفع رأس أسرته عاليا, وفي العدد نفسه, نشرت الأسرة إعلانا علي ربع صفحة جاء فيه ما يلي: أبناء عبدالرحمن فيحان شريان العنزي يزفون إلي الأمة الإسلامية نبأ استشهاد ابنهم المجاهد البطل هادي عبدالرحمن فيحان العنزي, الذي أسلم روحه الطاهرة إلي ربها في شهر رمضان المبارك, أثناء نصرته للمستضعفين, ودفاعا عن العقيدة وحياض الإسلام في أفغانستان ـ إنا لله وإنا إليه راجعون.
للقصة دلالات مهمة ليست خافية, لكن يعنيني منها في السياق الذي نحن بصدده, أن بين العرب الذين قتلوا أو أسروا, وتعرضوا للإذلال والتعذيب والخنق, رجالا من طراز هادي العنزي لا علاقة لهم بالإرهاب أو بأي جماعة أو تنظيم, ولكنهم ظنوا أن قتالهم إلي جانب طالبان هو نوع من النصرة للمستضعفين والدفاع عن الإسلام, وبصرف النظر عن خطأ اعتقادهم أو صوابه, فإنهم في النهاية يظلون رجالا أصحاب قضية ضحوا بحياتهم في سبيلها.
لا تكمن المأساة فقط في تجاهل العالم العربي لأبنائه الذين قتلوا أو أسروا في أفغانستان, ولكن أيضا في سكوته علي مصير زوجاتهم وبناتهم وأبنائهم, الذين شردتهم الحرب ولاحقتهم المذلة, وتعرض البعض منهم للخطف أو الاغتصاب.
مخجل ومحزن هذا الصمت لاريب, لكنه يتحول إلي فضيحة في حق منظمات حقوق الإنسان في العالم العربي, التي كان الظن أنها أول من يرفع الصوت ويحرك القضية, لكننا لم نسمع لها صوتا, في تحيز ربما للحسابات السياسية علي حساب الاعتبارات الإنسانية, وإذ اختفت منظماتنا العربية من المشهد في تلك اللحظة, فإننا لم نسمع سوي صوت المنظمات الدولية التي سبقت الإشارة إليها.
(4)
القتل في فلسطين بغير حساب أيضا, برخصة أمريكية مفتوحة, والأدهي من ذلك أنه يتم في العلن, وسط ذهول الجميع وصمتهم المدهش. والاستقواء الذي تحدثت عنه تبدي في أمور عدة, أخص بالذكر منها ما يلي:
* التحول في الخطاب السياسي الأمريكي المؤيد بشكل صريح للقمع الوحشي, الذي يمارسه شارون وحكومته, واعتبار ذلك نوعا من الدفاع عن النفس, الأمر الذي بدا وكأنه إلغاء لمبدأ دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي, الأطول في التاريخ والوحيد من نوعه في عالم اليوم, في هذا السياق اعتبرت واشنطن أن حماس والجهاد منظمتان ارهابيتان, وأنذرت الرئيس عرفات بضرورة القضاء عليهما وتفكيك وإغلاق كل المؤسسات التابعة لهما, حتي تلك التي تقوم بوظائف إغاثية واجتماعية.
* بشكل مواز, استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو للمرة الثانية لمنع مجلس الأمن من إصدار قرار دولي بإرسال قوات لحماية الفلسطينيين من الهجمات الإسرائيلية, وعمليات التدمير والقتل المستمرة.
* أصدر البيت الأبيض قرارا بتجميد أموال المنظمات الأمريكية العاملة في مجال إغاثة الفلسطينيين, وبرر متحدث رسمي ذلك الإجراء قائلا: إن تلك المنظمات ترعي أبناء الشهداء وعوائلهم, وكأن المطلوب في عرف الدولة المتحضرة والعظمي, أن يشرد هؤلاء ويتم تجويعهم عقابا لهم علي أفعال آبائهم.
* لأول مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي, طلبت دول الاتحاد من الرئيس عرفات تفكيك بنية منظمتي حماس والجهاد, في توصيف غير مسبوق من جانب الدول الأوروبية اعتبر المنظمتين ارهابيتين, ونشرت الصحف أن ذلك التحول تم بضغط أمريكي, وأن ذلك الضغط ذهب إلي حد أن وزير الخارجية الأمريكية كولن باول طلب من وزراء خارجية الدول الأوروبية, الامتناع عن استقبال عرفات في هذه المرحلة( الشرق الأوسط12/11).
في ظل ذلك التحول أطلقت يد رئيس الحكومة الإسرائيلية, حتي تجاوز الخطوط التي كانت حمراء في السابق, ومن بينها عدم المساس بالسلطة الفلسطينية, التي قرر تقويضها وحدد إقامة الرئيس عرفات ومنعه من الحركة, وكان من بينها أيضا عدم احتلال أراضي المنطقة( أ) الخاضعة بالكامل ـ نظريا ـ للسلطة, فاحتل منها شارون ما شاء وأعمل فيها ما استطاعه من ترويع وتخريب, في اطاحة فجة لكل ما تبقي من اتفاقيات أوسلو.
إن شئت فقل: إن جوهر هذا الموقف تمثل في مد المعركة ضد الإرهاب من أفغانستان إلي فلسطين, وقيام الولايات المتحدة بدور رئيسي علي طول تلك الجبهة.
(5)
حين غرق الشارع الفلسطيني في الدم, وعمدت القوات الإسرائيلية إلي قتل أطفال المدارس فضلا عن الرموز والشيوخ, تحركت مجموعة من أعضاء الحركة الدولية للتضامن مع الشعب الفلسطيني, وذهبت إلي رام الله للتعبير عن احتجاجها, ورأينا في صحف12/19 صورة لأعضاء تلك الحركة, وقد تمددوا علي الأرض أمام مصفحة إسرائيلية, رمزا لذلك الاحتجاج.
قرأنا أيضا أن مجموعة من النسوة اليهوديات الفرنسيات, من ذوات الاتجاهات الليبرالية واليسارية, قررن تنظيم تظاهرات نصف شهرية في منطقة لي هال بالعاصمة باريس, للإعلان عن رفض سياسة الاغتيالات الإسرائيلية, ورفض الاحتلال للأراضي الفلسطينية, وطبقا لما نشرته الحياة في12/18, فإن أعضاء تلك المجموعة التي أطلقت علي نفسها اسم المتشحات بالسواد, قررن الاستمرار في التظاهرة, وتجميع أكبر عدد ممكن من النساء العربيات كل أسبوعين, لحين زوال الاحتلال الإسرائيلي.
حينما يقرأ المرء هذه التقارير, ويتلفت حوله باحثا عن الصدي الأهلي في المنطقة العربية, تفجعه حقيقة الصمت المطبق علي جنبات ذلك الشارع, بطوله وعرضه, ولايكاد يري حضورا جماهيريا يذكر إلا في مواكب الجنازات اليومية في الأرض المحتلة.
خطورة هذه الظاهرة تكمن أولا في ذاتها, وكونها تعبر عن واقع بائس, فقدت فيه الجماهير والمنظمات الأهلية القدرة علي التعبير عن مجرد الاحتجاج والغضب, ولو بطرق سلمية, في حدود الظاهرة الصوتية ـ وهو مشهد يذكرنا بحالة الموات التي عاشها سكان بغداد في أواخر العصر العباسي الثاني, حين اجتاحها التتار وقتذاك, وفعلوا الأفاعيل بأهلها, الذين استسلموا علي نحو مذهل لكل ما فعل بهم, الأمر الذي صدم ابن الأثير صاحب الكامل في التاريخ وأبكاه, حتي كتب قائلا إنه تمني لو أن أمه لم تلده لكي يعيش ذلك اليوم الأسود الذي رأي فيه وقائع تلك المأساة الفظيعة.
الوجه الآخر لخطورة الظاهرة يتمثل في أن ذلك السكون المخيم علي الشارع العربي, يوحي للآخرين بأنهم بصدد أمة تبلدت, ومات فيها الشعور والإحساس, ونزعت منها القدرة علي الغضب, الأمر الذي يغريهم بالمضي إلي ما هو أبعد في استقوائهم واستكبارهم, وهو ما يفتح شهيتهم لقصف أي بلد عربي لا تروق لهم سياسته, ولن يعدموا ذريعة لتبرير ذلك القصف, وربما لا يكترثون أصلا بتقديم الذرائع.
السؤال الكبير الذي يثيره هذا المشهد هو: ما الذي أصاب الشارع العربي حتي انتهي أمره إلي تلك النهاية المحزنة, التي أخرجته من معادلة التأثير في الداخل والخارج؟, يطل علينا السؤال بقوة في هذه اللحظات التي نحن أحوج ما نكون فيها إلي سماع صوت الجماهير العربية, لكي تقول كلمتها فيما يجري علي الساحة الواسعة الممتدة من أفغانستان إلي فلسطين, لظني أن ذلك لو حدث لسارت الأمور سيرا آخر يقينا.
الإجابة عن السؤال مفتوحة ويلح علي في هذا الصدد مثل بدوي لا أمل من التنبيه إلي مضمونه ودلالته, يقول إن الخيل المخصية لا تصهل ـ تري هل يجيب المثل عن السؤال؟
هذا الذي يحدث الآن يفوق كل خيال: المدي الذي ذهب إليه الاستقواء الأمريكي, والصمت المطبق علي الشارع العربي, وإذا كان الاستقواء يدهشنا, فإن الصمت بما يوحي به من استسلام واستضعاف يصدمنا ويحيرنا, الأمر الذي يجدد طرح السؤال: هل مات الشارع العربي أم أن صوته الذي انحبس؟.. نحن الذين استفز كبرياءنا في خمسينيات القرن الماضي صدور كتاب العرب ظاهرة صوتية, ثم فوجئنا في مستهل القرن الجديد بأنهم تخلوا عن تلك القشة التي تعلقوا بها في إثبات الوجود, حتي أصبحوا أقرب إلي الظاهرة الجغرافية, منسوبة إلي المكان ومقطوعة الصلة بالزمان.
(1)
خلال الأسابيع الأخيرة, حمل السفير الأمريكي في إحدي العواصم العربية مذكرة مكتوبة من حكومته إلي المسئولين في القطر الشقيق, طلبت اتخاذ إجراءات محددة لتجفيف ينابيع التطرف والإرهاب, وركزت المذكرة علي مناهج التعليم الديني بوجه أخص, حيث دعت إلي اختصار ساعات تدريس مواد العلوم الدينية من20 ساعة في الأسبوع إلي أربع ساعات فقط, وبحيث لا يتجاوز تدريس تلك المواد حدود الأمور العبادية المباشرة, التي تنصب علي علاقة المرء بربه, الأمر الذي يعني استبعاد كل ما يتعلق بنظم المعاملات والحياة العامة, وعلاقة المسلمين بغيرهم من المناهج, كما طلبت الرسالة أن يبادر المسئولون عن قطاع التربية والتعليم, إلي مراجعة كل كتب العلوم الدينية في ضوء تلك المقترحات, وعلي وجه السرعة, بحيث تطبق المناهج الجديدة ابتداء من العام الدراسي المقبل.
في حدود علمي, فإن الرسالة خضعت للدراسة والمناقشة علي أعلي المستويات في القطر الشقيق, وأن توجيهات صدرت لاتخاذ إجراءات تنفيذها, استجابة للرغبة الأمريكية, وحتي لا تتجه الأمور إلي ما هو أسوأ, إذا ما تم التقاعس في تلبية تلك الرغبة.
أضم هذه المعلومة إلي ما سبق أن ذكرت في الأسبوع الماضي, عن مطالبات أمريكية لبعض الحكومات العربية والإسلامية بمراجعة وتنقيح مناهج التعليم الديني في مدارسها, واستبعاد ما يظن أنه يشكل مدارك التلاميذ ومعارفهم علي نحو لا تستريح له السياسات الأمريكية, من قبيل ما يتعلق بالجهاد مثلا, أو ما يذكر بجرائم وممارسات بني إسرائيل, ولن أستغرب أن تشمل المطالبة لاحقا إجراء تنقيح مماثل في كتب التاريخ, لحذف كل ما يتعلق بصلاح الدين واسترداده لبيت المقدس, فذلك مطلب إسرائيلي قديم وملح, أشرت إليه في كتابات سابقة, ذلك طبعا إلي جانب المطالب الأخري التقليدية التي يدعون فيها إلي تحسين صورة إسرائيل في وجدان الأجيال الجديدة, أما صورة العرب المتوحشين والأوغاد في الكتب المدرسية الإسرائيلية, فلن تمس بطبيعة الحال!
ما لفت نظري في المذكرة الأمريكية, أنها لم تكتف بطلب المراجعة والتنقيح في هذا المدي إلي ما هو أبعد بكثير, حيث حددت ساعات الدراسة, والإطار الذي ينبغي أن تتم المراجعة في حدوده, حتي يظن المرء أنهم بعد ذلك سيحددون أسماء بذواتها للقيام بمهمة التدريس, ويستبعدون أسماء أخري, أو أنهم سيطلبون من المدرسين حلق لحاهم, ويفرضون عليهم أزياء معينة!
(2)
القتل بغير حساب في أفغانستان ـ يوم السبت12/22 ـ نشرت الصحف أن الطائرات الأمريكية قصفت موكبا من14 سيارة كانت متجهة إلي كابول, مما أدي إلي وقوع مذبحة راح ضحيتها65 شخصا, ولم يكن أولئك الأشخاص أفرادا عاديين, ولا أعداء من تنظيم القاعدة أو حركة طالبان, وإنما كانوا من زعماء القبائل وشيوخها وقادة المجاهدين السابقين, الذين اعتزموا المشاركة في الاحتفال بتنصيب الحكومة الجديدة في العاصمة الأفغانية.
كيف تعاملت واشنطن مع الخبر؟
أعلنت المتحدثة باسم وزارة الدفاع فيكتوريا كلارك, أن الوزارة لا علم لها بما أوردته وكالة الأنباء الأفغانية بشأن الموضوع, في حين تحدث وزير الدفاع دونالد رامسفيلد عن قصف موكب معاد مما أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلي وتدمير عدة عربات.
القصف تم بطريق الخطأ بطبيعة الحال, وقد استخفت به واشنطن كما رأيت, فلم تجد ضرورة للاعتراف بما حدث أو الاعتذار عنه, ومثل هذه الأخطاء التي أدت إلي مذابح في أفغانستان تقع يوما بعد يوم, وهي لم تميز بين حلفاء وأعداء, وحظ الأخيرين منها موفور لاريب.
لقد استبيحت الدماء علي نحو غير مسبوق, حتي دماء الأسري الذين شاء حظهم التعس أن يقعوا في أيدي من لايرحم, وتم ذلك في ظل إهدار معلن لكل الأعراف والقوانين الدولية, ولم يقصر القادة الأمريكيون ولا قادة التحالف الشمالي في الدعوة إلي التخلص من أولئك الأسري, وقد ردد الدعوة في روما رئيس الوزراء الجديد حميد قرضاي, الذي كان قد ذهب للقاء الملك السابق قبل تسلمه رسميا للسلطة.
ما جري في قلعة جانجي بالقرب من مزار شريف, حين قصفت الطائرات الأمريكية تمردا للأسري أدي إلي قتل نحو600 شخص, كان120 منهم لايزالون مربوطين بالحبال, يمثل استجابة أمينة للدعوة إلي التخلص من أولئك الإرهابيين.
في صحيفة الحياة اللندنية( عدد12/22) أن بعض المنظمات الإنسانية, مثل أطباء بلا حدود, ومنظمة العفو الدولية, وهيومان رايتس ووتش, أبدت قلقها إزاء ظروف اعتقال الأسري في أفغانستان ومصيرهم, وقد ازدادت مخاوف تلك المنظمات من وقوع انتهاكات وتصفيات جسدية, بعد المجزرة التي طالت أكثر من600 أسير أجنبي في قلعة جانجي, وبعد اكتشاف جثث عشرات الأسري الذين قتلوا خنقا بحسب شهادات أوردتها صحيفة نيويورك تايمز.
(3)
يحقق رجال المخابرات الأمريكية الآن, مع سبعة آلاف أسير, حسب تصريح المتحدث باسم قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة, كينتون كيث( الأهرام12/22), وليس معروفا علي وجه الدقة كم عدد العرب والمسلمين غير الأفغان من بين هؤلاء, الذين رأينا صور بعضهم حين عرضوا علي الصحفيين, وهم أذلاء ومربوطون بالحبال, ولكن لقطة عرضتها قناة الجزيرة كشفت عن هوية واحد منهم, تبين أنه كويتي اسمه محمد العنزي ولا يزيد عمره علي15 عاما, وله قصة مثيرة نشرتها الصحف الكويتية تستحق أن تروي, إذ حسبما ذكرت صحيفة الرأي العام( في يومي18 و12/19), فإن الفتي محمد اصطحب أبوه هادي العنزي, الذي قرر الانضمام إلي جماعة طالبان والدفاع عنهم ضد الحملة العسكرية الأمريكية, والأب كان ضابط شرطة برتبة رائد, تقاعد في10/10 الماضي ورقي إلي رتبة مقدم, وفي اليوم التالي مباشرة(10/11, اي بعد4 ايام من بدء القصف الامريكي,) سافر إلي أفغانستان ومعه ابنه محمد, وقرر أن يقاتل مع العرب الذين اعتصموا بالكهوف والجبال. وفي تورا بورا استشهد الأب وتم أسر الابن.
في12/19 نشرت صحيفة الرأي العام أن أسرة المقدم هادي العتري رفضت استقبال التعزية في فقيدهم, وأن أشقاءه قالوا لمندوب الصحيفة إنهم يستحقون التهنئة, لأن أخاهم مات شهيدا, وقد رفع رأس أسرته عاليا, وفي العدد نفسه, نشرت الأسرة إعلانا علي ربع صفحة جاء فيه ما يلي: أبناء عبدالرحمن فيحان شريان العنزي يزفون إلي الأمة الإسلامية نبأ استشهاد ابنهم المجاهد البطل هادي عبدالرحمن فيحان العنزي, الذي أسلم روحه الطاهرة إلي ربها في شهر رمضان المبارك, أثناء نصرته للمستضعفين, ودفاعا عن العقيدة وحياض الإسلام في أفغانستان ـ إنا لله وإنا إليه راجعون.
للقصة دلالات مهمة ليست خافية, لكن يعنيني منها في السياق الذي نحن بصدده, أن بين العرب الذين قتلوا أو أسروا, وتعرضوا للإذلال والتعذيب والخنق, رجالا من طراز هادي العنزي لا علاقة لهم بالإرهاب أو بأي جماعة أو تنظيم, ولكنهم ظنوا أن قتالهم إلي جانب طالبان هو نوع من النصرة للمستضعفين والدفاع عن الإسلام, وبصرف النظر عن خطأ اعتقادهم أو صوابه, فإنهم في النهاية يظلون رجالا أصحاب قضية ضحوا بحياتهم في سبيلها.
لا تكمن المأساة فقط في تجاهل العالم العربي لأبنائه الذين قتلوا أو أسروا في أفغانستان, ولكن أيضا في سكوته علي مصير زوجاتهم وبناتهم وأبنائهم, الذين شردتهم الحرب ولاحقتهم المذلة, وتعرض البعض منهم للخطف أو الاغتصاب.
مخجل ومحزن هذا الصمت لاريب, لكنه يتحول إلي فضيحة في حق منظمات حقوق الإنسان في العالم العربي, التي كان الظن أنها أول من يرفع الصوت ويحرك القضية, لكننا لم نسمع لها صوتا, في تحيز ربما للحسابات السياسية علي حساب الاعتبارات الإنسانية, وإذ اختفت منظماتنا العربية من المشهد في تلك اللحظة, فإننا لم نسمع سوي صوت المنظمات الدولية التي سبقت الإشارة إليها.
(4)
القتل في فلسطين بغير حساب أيضا, برخصة أمريكية مفتوحة, والأدهي من ذلك أنه يتم في العلن, وسط ذهول الجميع وصمتهم المدهش. والاستقواء الذي تحدثت عنه تبدي في أمور عدة, أخص بالذكر منها ما يلي:
* التحول في الخطاب السياسي الأمريكي المؤيد بشكل صريح للقمع الوحشي, الذي يمارسه شارون وحكومته, واعتبار ذلك نوعا من الدفاع عن النفس, الأمر الذي بدا وكأنه إلغاء لمبدأ دفاع الفلسطينيين عن أنفسهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي, الأطول في التاريخ والوحيد من نوعه في عالم اليوم, في هذا السياق اعتبرت واشنطن أن حماس والجهاد منظمتان ارهابيتان, وأنذرت الرئيس عرفات بضرورة القضاء عليهما وتفكيك وإغلاق كل المؤسسات التابعة لهما, حتي تلك التي تقوم بوظائف إغاثية واجتماعية.
* بشكل مواز, استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو للمرة الثانية لمنع مجلس الأمن من إصدار قرار دولي بإرسال قوات لحماية الفلسطينيين من الهجمات الإسرائيلية, وعمليات التدمير والقتل المستمرة.
* أصدر البيت الأبيض قرارا بتجميد أموال المنظمات الأمريكية العاملة في مجال إغاثة الفلسطينيين, وبرر متحدث رسمي ذلك الإجراء قائلا: إن تلك المنظمات ترعي أبناء الشهداء وعوائلهم, وكأن المطلوب في عرف الدولة المتحضرة والعظمي, أن يشرد هؤلاء ويتم تجويعهم عقابا لهم علي أفعال آبائهم.
* لأول مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي, طلبت دول الاتحاد من الرئيس عرفات تفكيك بنية منظمتي حماس والجهاد, في توصيف غير مسبوق من جانب الدول الأوروبية اعتبر المنظمتين ارهابيتين, ونشرت الصحف أن ذلك التحول تم بضغط أمريكي, وأن ذلك الضغط ذهب إلي حد أن وزير الخارجية الأمريكية كولن باول طلب من وزراء خارجية الدول الأوروبية, الامتناع عن استقبال عرفات في هذه المرحلة( الشرق الأوسط12/11).
في ظل ذلك التحول أطلقت يد رئيس الحكومة الإسرائيلية, حتي تجاوز الخطوط التي كانت حمراء في السابق, ومن بينها عدم المساس بالسلطة الفلسطينية, التي قرر تقويضها وحدد إقامة الرئيس عرفات ومنعه من الحركة, وكان من بينها أيضا عدم احتلال أراضي المنطقة( أ) الخاضعة بالكامل ـ نظريا ـ للسلطة, فاحتل منها شارون ما شاء وأعمل فيها ما استطاعه من ترويع وتخريب, في اطاحة فجة لكل ما تبقي من اتفاقيات أوسلو.
إن شئت فقل: إن جوهر هذا الموقف تمثل في مد المعركة ضد الإرهاب من أفغانستان إلي فلسطين, وقيام الولايات المتحدة بدور رئيسي علي طول تلك الجبهة.
(5)
حين غرق الشارع الفلسطيني في الدم, وعمدت القوات الإسرائيلية إلي قتل أطفال المدارس فضلا عن الرموز والشيوخ, تحركت مجموعة من أعضاء الحركة الدولية للتضامن مع الشعب الفلسطيني, وذهبت إلي رام الله للتعبير عن احتجاجها, ورأينا في صحف12/19 صورة لأعضاء تلك الحركة, وقد تمددوا علي الأرض أمام مصفحة إسرائيلية, رمزا لذلك الاحتجاج.
قرأنا أيضا أن مجموعة من النسوة اليهوديات الفرنسيات, من ذوات الاتجاهات الليبرالية واليسارية, قررن تنظيم تظاهرات نصف شهرية في منطقة لي هال بالعاصمة باريس, للإعلان عن رفض سياسة الاغتيالات الإسرائيلية, ورفض الاحتلال للأراضي الفلسطينية, وطبقا لما نشرته الحياة في12/18, فإن أعضاء تلك المجموعة التي أطلقت علي نفسها اسم المتشحات بالسواد, قررن الاستمرار في التظاهرة, وتجميع أكبر عدد ممكن من النساء العربيات كل أسبوعين, لحين زوال الاحتلال الإسرائيلي.
حينما يقرأ المرء هذه التقارير, ويتلفت حوله باحثا عن الصدي الأهلي في المنطقة العربية, تفجعه حقيقة الصمت المطبق علي جنبات ذلك الشارع, بطوله وعرضه, ولايكاد يري حضورا جماهيريا يذكر إلا في مواكب الجنازات اليومية في الأرض المحتلة.
خطورة هذه الظاهرة تكمن أولا في ذاتها, وكونها تعبر عن واقع بائس, فقدت فيه الجماهير والمنظمات الأهلية القدرة علي التعبير عن مجرد الاحتجاج والغضب, ولو بطرق سلمية, في حدود الظاهرة الصوتية ـ وهو مشهد يذكرنا بحالة الموات التي عاشها سكان بغداد في أواخر العصر العباسي الثاني, حين اجتاحها التتار وقتذاك, وفعلوا الأفاعيل بأهلها, الذين استسلموا علي نحو مذهل لكل ما فعل بهم, الأمر الذي صدم ابن الأثير صاحب الكامل في التاريخ وأبكاه, حتي كتب قائلا إنه تمني لو أن أمه لم تلده لكي يعيش ذلك اليوم الأسود الذي رأي فيه وقائع تلك المأساة الفظيعة.
الوجه الآخر لخطورة الظاهرة يتمثل في أن ذلك السكون المخيم علي الشارع العربي, يوحي للآخرين بأنهم بصدد أمة تبلدت, ومات فيها الشعور والإحساس, ونزعت منها القدرة علي الغضب, الأمر الذي يغريهم بالمضي إلي ما هو أبعد في استقوائهم واستكبارهم, وهو ما يفتح شهيتهم لقصف أي بلد عربي لا تروق لهم سياسته, ولن يعدموا ذريعة لتبرير ذلك القصف, وربما لا يكترثون أصلا بتقديم الذرائع.
السؤال الكبير الذي يثيره هذا المشهد هو: ما الذي أصاب الشارع العربي حتي انتهي أمره إلي تلك النهاية المحزنة, التي أخرجته من معادلة التأثير في الداخل والخارج؟, يطل علينا السؤال بقوة في هذه اللحظات التي نحن أحوج ما نكون فيها إلي سماع صوت الجماهير العربية, لكي تقول كلمتها فيما يجري علي الساحة الواسعة الممتدة من أفغانستان إلي فلسطين, لظني أن ذلك لو حدث لسارت الأمور سيرا آخر يقينا.
الإجابة عن السؤال مفتوحة ويلح علي في هذا الصدد مثل بدوي لا أمل من التنبيه إلي مضمونه ودلالته, يقول إن الخيل المخصية لا تصهل ـ تري هل يجيب المثل عن السؤال؟