فهد بن صالح العجلان
كانت قضية (المعجزات) في مرحلة زمنيةٍ قريبة من أسخن القضايا التي أربكت عدداً من المؤلفين والمفكرين في الفكر الإسلامي المعاصر.
قبل هذه المرحلة، لم يكن مكوث قضية المعجزات في دائرة القضايا الشرعية البدهية يثير أي إشكال، حيث إنها من دلائل صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - كما قال ربنا - تعالى - عن موقف كثيرٍ من الكفار {وَإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] وقد قصَّ الله - تعالى - في القرآن الكريم عدداً من معجزات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كمعجزة موسى وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - قال - تعالى -: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] وقال أيضاً: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْـمَوْتَى بِإذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] كما اختص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة تضافرت في تأكيدها الروايات الصحيحة.
كان القلق ناتجاً من هبوب موجة استنكارات عنيفة من المثقفين الغربيين عن حال المعجزات التي ما عادت جذابة للعقل الغربي، فهي لديهم أقرب لفكر الخرافات والأساطير التي تجاوزها الزمان، فما عادت مستساغة في زمن تأليه العقل، وتقديس الفكر المادي التجريبي، غدت معه المعجزات مادة تندُّر واستهجان من رجالات الغرب، وكنز أسئلة يلاحقون بها من يلتقون به من العلماء والمثقفين المسلمين.
هذا المزاج الغربي صاحبه حال إلحاد وجحود عن الدين لدى أوساط كثيرٍ من المثقفين المسلمين، بما عزز في وعي كثير من المؤلفين ضرورة تقديم خطاب عقلاني مناسب يحفظون فيه الدين الإسلامي من سياط النقد الغربي، ويحمون شباب الإسلام من حال التفلت عن الدين، فكان لا بدَّ من إعادة قراءة التراث الإسلامي؛ لتخليصه من قصص المعجزات التي غدت معيبة في تلك اللحظة.
كتب حينها محمد حسين هيكل كتابه الشهير (حياة محمد) جرَّد فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من كافة الآثار والسنن الواردة في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وجعل معجزته الوحيدة هي القرآن الكريم فقط، وقد قدَّم له أحد العلماء المشهورين ووافقه فيما ذهب إليه.
وأما الروايات الصحيحة فلا اعتبار لها لأن (مضرة الروايات التي لا يقرُّها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة).[1] فضرورة الواقع تفرض تجاوز مثل هذه الأخبار (ولو أنهم – أي رواة الحديث- عاشوا إلى زماننا هذا ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حُجَّة على الإسلام وأهله لالتزموا ما جاء به القرآن الكريم)[2].
وكان المزاج العصري الرافض لقضية المعجزات حاضراً حتى في تفسير آيات القرآن الكريم، فالآيات التي تتضمن معجزات سابقة يتم التعامل معها بطريقة تزيل عنها وصف الإعجاز حتى تكون حكماً معتاداً على وفق سنن الطبيعة، كمثل تفسير هلاك الفيل بالطير الأبابيل الوارد في كتاب الله {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ 3تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ 4 فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 3 - 5] بأنها جراثيم الطاعون إذ لا مانع من تسميتها طيوراً، أو أنهم قد أصيبوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى ماتوا، فالطير الأبابيل إنما هو بعوض أو ذباب ناقل للأمراض.[3]
وحتى ما لم يصبه التحريف من المعجزات السابقة، فلم يسلم من حال التهوين منها كتفسير المعجزات السابقة بأنها أدلة مناسبة لضعفاء العقول؛ فكانت المعجزات (لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان).[4]
وعلى نفس المنوال جرى الكلام على بقية المعجزات الواردة في القرآن الكريم، وتبع ذلك تأويل عدد من المغيبات التي لا يتقبلها المزاج المادي الغربي كتأويل الملائكة بأنها قوى وأرواح مودعة في الكائنات الحية وهي قوى الطبيعة، وتأويل الشيطان بأنه ما يدفع إلى الشر، ومن النتيجة البدهية بعدها أن يتم تأويل وإنكار أخبار الدجال والسحر ونزول عيسى وأشراط الساعة وغيرها[5].
هذه الحال آلمت عدداً من العلماء الذين شعروا أنها حال عبث وتحريف لأحكام الإسلام، وجزموا بأنها ثمرة انهزام أمام مدِّ الثقافة الغربية، فكتب في تلك الحقبة بكل قوة وثبات شيخ الإسلام مصطفى صبري موسوعته الشهيرة (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) ومن الملفت للنظر أن أغلب مباحث هذا الكتاب كانت في مناقشة قضايا الغيب والمعجزة بما يكشف عن حجم تأثير وقلق هذه القضية في تلك المرحلة.
لم تكن الحركة النشطة آنذاك لتأويل المعجزات نابعة من رفضِ للشريعة أو انتقاص من مكانتها؛ بل ظاهر جداً أن الحفاظ على الإسلام والدفاع عن حرماته، والخوف عليه وضرورة تقديم صورة حسنة إلى الغرب هو الهاجس العميق الذي كان يسكن قلوب كثيرٍ ممَّن تأثر بهذه الموجة، فهم يشعرون كما يقول السيد رشيد رضا: «إن المعجزات هي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر»[6]
وكانت قلوبهم معلقة بهداية الغربيين، ولو وصل ذلك إلى تجاوز خطير بلغ حدَّ القول: «إنه لولا حكاية القرآن الكريم لآيات الله التي أيدَ بها موسى وعيسى - عليهما السلام - لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر واهتداؤوهم به أعمُّ وأسرع)[7].
طبعاً هذا لا ينفي خضوع العقل لسطوة المفاهيم الغربية لحد القول (ممَّا يدلُّ على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا بكل المعجزات السابقة وهو وإن كان تهوراً منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه للاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي).[8]
ومضت تلك الحقبة، ورصد التاريخ مقولاتها وإشكالاتها التي تكشف عن طبيعة المؤثرات التي كانت توجه الفكر الإسلامي.
فتش الآن عن حضور قضية المعجزات في الفكر الإسلامي المعاصر، هل سؤال المعجزة من القضايا القلقة والأسئلة المشكلة التي تتزاحم الدراسات والمؤتمرات في مناقشتها وإزالة الشبهات عنها؟
المسلم المعاصر الآن يدرك بوضوح أن هذا السؤال – وإن بقي حاضراً عند بعض الفئات- فما عاد له ذاك التأثير، ولا تكاد كثير من البحوث والدراسات الإسلامية المعاصرة تتطرق للموضوع من الأساس، وربَّما يشدُّ المسلم حاجبيه متعجباً من حال التحفز والتعسف في تأويل المعجزات، فلا يجد في الأمر ما يستحق كل هذا.
إنه قلق مرحلة زمنية، وضغط حال مؤقتة، ضعف دافعه فذهبت معه كافة الإشكالات المصاحبة له.
وعاش الفكر الإسلامي بعده مراحل زمنية أخرى انتعشت فيه قضايا أخرى وأحدثت من الإرباك ما أحدثته المعجزة في تلك الفترة، فجاءت قضية الاشتراكية والقومية وغيرها، وتكرر في كل قضية منها نفس المشهد: تشكيك في الأحكام الشرعية المعارضة لهذه الهزات المؤقتة، يتبعه استنكار شائع، ثم حركة تأويل وتعسف من قبل بعض الناس، ثم لا يسلم من الخطأ فيها بعض أهل العلم والفضل.
حين تضع هذه الصور التاريخية أمام عينيك وتدقق النظر فيها يتجلى لك هذا المعنى العظيم:
ضرورة (الاستمساك بالأصول الشرعية والمحكمات الإسلامية) وأهمية (التماسك المنهجي في الأخذ بأحكام الإسلام) وألَّا يخضع المسلم لضغط مرحلة زمنية ما، فتكون سبباً لتحريف الأحكام والعبث بالتصورات وإحداث أشكال التلفيق بين مفاهيم الإسلام والمفاهيم المزاحمة، فالعبرة باتباع الحق وليس بموافقة المزاج العام، فهذا المزاج والجو العام عرضة للتقلبات السريعة والهزات العنيفة فلا يليق بمَن يعظِّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -خاصة من أهل العلم المؤتمنين على بيان الشريعة- أن يكون ضغط هذا المزاج مؤثراً على تصوراته ومفاهيمه الشرعية.
إنك حين تتحدث عن قضايا شرعية فأنت تتحدث في الدين الذي يريده الله للناس جميعاً، فلا تكن حبيس اللحظة الراهنة التي تعيشها، وأسير الفضاء الذي يحيط بك ، فلعل من يقرأ كتابك ممن يعيش في أزمنة لاحقة وأمكنة مختلفة هم أضعاف من قرأه وكان متفهماً لحالة القلق التي عاشها الكاتب، ولعل هذا يفسر بعض حالات الشذوذ الفكري والفقهي التي نستنكرها ونتعجب من صدورها.
إن الرؤية التي تكون أمام منظار المسلم هي (البحث عن مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم) وخارطة التفكير لديه يجب أن تكون السير خلف الدلائل الشرعية، والابتعاد عن أي صوارف عارضة.
فالمنهج الشرعي في إصابة الحق ليس مرتبطاً بكثرة قال - تعالى -: {وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وقال أيضاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ومن المفاهيم المتقررة في وعي المسلم مفهوم الطائفة المستمسكة بالحق التي: (ما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) ومن مأثور الصحابة : (الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك) فرسوخ هذا المعنى في وعي المسلم يجعل البحث عن الحق هو المعيار الوحيد الذي يبدد كل المؤثرات التي تضغط على العقل المسلم.
ثم إن عوارض كثيرة تصرف المسلم عن إصابة الحق، ومن المهم أن يجتهد كل مسلم في محاولة التخلص من كافة دوافعها قدر المستطاع، ومنها العوارض المتعلقة بالواقع الذي لا يتقبل بعض الأحكام الشرعية، فمثل هذا الواقع يدفع المسلم لئن يتخففَ من بعض الصرامة العلمية الواجبة، وهو من جنس الهوى الذي نهت الشريعة عنه قال - تعالى -: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
إن الدفاع عن الإسلام، وضرورة تقديم صورة حسنة له، وضرورة حماية الشباب من الانحراف مقاصد نبيلة وغايات شريفة؛ لكنها لا تبرر التهاون في تحريف أي حكم شرعي، كما أن التحرز من ضغط اللحظة الراهنة لا يعني إهمال الاجتهاد المبني على المنهج الفقهي في الوقائع المتجددة للنظر في متغيراتها وأوصافها المؤثرة، وما يطرأ عليها من ضرورة أو حاجة، فهذا اجتهاد في الواقع وليس خضوعاً لضغط لحظة راهنة.
ضغط اللحظة الراهنة موجود في كل زمان ومكان، وهو دافع عميق لتجاوز عدد من الأحكام الشرعية التي لا تنجسم مع اللحظة الراهنة، ليس لأن الدليل لا يدلُّ عليها، ولا لأن العقل لا ينصرها؛ بل لأن المزاج العام لا يجعل لدلائلها ذاك الوهج المقبول، فيجد المسلم ضغطاً عميقاً في نفسه، يجعله يتخفف من الصرامة العلمية ومنهجية التحري والتدقيق المطلوبة، فإنْ كانت لمن قبلنا لحظات مع المعجزات والاشتراكية والقومية، فإن لحظتنا الراهنة قد اندفعت نحو مفاهيم أخر، ما زالت تمارس عبثها في عقول كثير من المسلمين، فأعملوا عقولهم في أحكام الإسلام تلفيقاً وتأويلاً وتغييراً برؤية غير علمية، ولا منسجمة مع الأصول والقواعد الشرعية، وهي مرحلة زمنية لا بدَّ أن تنتهي فيتضح من كان سائراً مع النص وبراهينه ودلائله ممَّن وقع تحت أسر ضغط لحظةٍ راهنةٍ قد انتهت!
:: عدد مجلة البيان 299 شهر رجب 1433هـ
[1] حياة محمد 54.
[2] حياة محمد 54.
[3] انظر بعض هذه الأقوال في منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير للدكتور فهد الرومي 722-724.
[4] تفسير المنار 1/315.
[5] انظر عدداً من هذه التأويلات في: التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة 394-400.
[6] تفسير المنار 11/155.
[7] تفسير المنار 11/159.
[8] الإسلام والمدنية لفريد وجدي 71-72 نقلاً عن منهج المدرسة العقلية الحديثة 549
*البيان
كانت قضية (المعجزات) في مرحلة زمنيةٍ قريبة من أسخن القضايا التي أربكت عدداً من المؤلفين والمفكرين في الفكر الإسلامي المعاصر.
قبل هذه المرحلة، لم يكن مكوث قضية المعجزات في دائرة القضايا الشرعية البدهية يثير أي إشكال، حيث إنها من دلائل صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - كما قال ربنا - تعالى - عن موقف كثيرٍ من الكفار {وَإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] وقد قصَّ الله - تعالى - في القرآن الكريم عدداً من معجزات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كمعجزة موسى وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - قال - تعالى -: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه: 69] وقال أيضاً: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْـمَوْتَى بِإذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] كما اختص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة تضافرت في تأكيدها الروايات الصحيحة.
كان القلق ناتجاً من هبوب موجة استنكارات عنيفة من المثقفين الغربيين عن حال المعجزات التي ما عادت جذابة للعقل الغربي، فهي لديهم أقرب لفكر الخرافات والأساطير التي تجاوزها الزمان، فما عادت مستساغة في زمن تأليه العقل، وتقديس الفكر المادي التجريبي، غدت معه المعجزات مادة تندُّر واستهجان من رجالات الغرب، وكنز أسئلة يلاحقون بها من يلتقون به من العلماء والمثقفين المسلمين.
هذا المزاج الغربي صاحبه حال إلحاد وجحود عن الدين لدى أوساط كثيرٍ من المثقفين المسلمين، بما عزز في وعي كثير من المؤلفين ضرورة تقديم خطاب عقلاني مناسب يحفظون فيه الدين الإسلامي من سياط النقد الغربي، ويحمون شباب الإسلام من حال التفلت عن الدين، فكان لا بدَّ من إعادة قراءة التراث الإسلامي؛ لتخليصه من قصص المعجزات التي غدت معيبة في تلك اللحظة.
كتب حينها محمد حسين هيكل كتابه الشهير (حياة محمد) جرَّد فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من كافة الآثار والسنن الواردة في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وجعل معجزته الوحيدة هي القرآن الكريم فقط، وقد قدَّم له أحد العلماء المشهورين ووافقه فيما ذهب إليه.
وأما الروايات الصحيحة فلا اعتبار لها لأن (مضرة الروايات التي لا يقرُّها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة).[1] فضرورة الواقع تفرض تجاوز مثل هذه الأخبار (ولو أنهم – أي رواة الحديث- عاشوا إلى زماننا هذا ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حُجَّة على الإسلام وأهله لالتزموا ما جاء به القرآن الكريم)[2].
وكان المزاج العصري الرافض لقضية المعجزات حاضراً حتى في تفسير آيات القرآن الكريم، فالآيات التي تتضمن معجزات سابقة يتم التعامل معها بطريقة تزيل عنها وصف الإعجاز حتى تكون حكماً معتاداً على وفق سنن الطبيعة، كمثل تفسير هلاك الفيل بالطير الأبابيل الوارد في كتاب الله {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ 3تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ 4 فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 3 - 5] بأنها جراثيم الطاعون إذ لا مانع من تسميتها طيوراً، أو أنهم قد أصيبوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى ماتوا، فالطير الأبابيل إنما هو بعوض أو ذباب ناقل للأمراض.[3]
وحتى ما لم يصبه التحريف من المعجزات السابقة، فلم يسلم من حال التهوين منها كتفسير المعجزات السابقة بأنها أدلة مناسبة لضعفاء العقول؛ فكانت المعجزات (لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان).[4]
وعلى نفس المنوال جرى الكلام على بقية المعجزات الواردة في القرآن الكريم، وتبع ذلك تأويل عدد من المغيبات التي لا يتقبلها المزاج المادي الغربي كتأويل الملائكة بأنها قوى وأرواح مودعة في الكائنات الحية وهي قوى الطبيعة، وتأويل الشيطان بأنه ما يدفع إلى الشر، ومن النتيجة البدهية بعدها أن يتم تأويل وإنكار أخبار الدجال والسحر ونزول عيسى وأشراط الساعة وغيرها[5].
هذه الحال آلمت عدداً من العلماء الذين شعروا أنها حال عبث وتحريف لأحكام الإسلام، وجزموا بأنها ثمرة انهزام أمام مدِّ الثقافة الغربية، فكتب في تلك الحقبة بكل قوة وثبات شيخ الإسلام مصطفى صبري موسوعته الشهيرة (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) ومن الملفت للنظر أن أغلب مباحث هذا الكتاب كانت في مناقشة قضايا الغيب والمعجزة بما يكشف عن حجم تأثير وقلق هذه القضية في تلك المرحلة.
لم تكن الحركة النشطة آنذاك لتأويل المعجزات نابعة من رفضِ للشريعة أو انتقاص من مكانتها؛ بل ظاهر جداً أن الحفاظ على الإسلام والدفاع عن حرماته، والخوف عليه وضرورة تقديم صورة حسنة إلى الغرب هو الهاجس العميق الذي كان يسكن قلوب كثيرٍ ممَّن تأثر بهذه الموجة، فهم يشعرون كما يقول السيد رشيد رضا: «إن المعجزات هي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر»[6]
وكانت قلوبهم معلقة بهداية الغربيين، ولو وصل ذلك إلى تجاوز خطير بلغ حدَّ القول: «إنه لولا حكاية القرآن الكريم لآيات الله التي أيدَ بها موسى وعيسى - عليهما السلام - لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر واهتداؤوهم به أعمُّ وأسرع)[7].
طبعاً هذا لا ينفي خضوع العقل لسطوة المفاهيم الغربية لحد القول (ممَّا يدلُّ على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا بكل المعجزات السابقة وهو وإن كان تهوراً منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه للاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي).[8]
ومضت تلك الحقبة، ورصد التاريخ مقولاتها وإشكالاتها التي تكشف عن طبيعة المؤثرات التي كانت توجه الفكر الإسلامي.
فتش الآن عن حضور قضية المعجزات في الفكر الإسلامي المعاصر، هل سؤال المعجزة من القضايا القلقة والأسئلة المشكلة التي تتزاحم الدراسات والمؤتمرات في مناقشتها وإزالة الشبهات عنها؟
المسلم المعاصر الآن يدرك بوضوح أن هذا السؤال – وإن بقي حاضراً عند بعض الفئات- فما عاد له ذاك التأثير، ولا تكاد كثير من البحوث والدراسات الإسلامية المعاصرة تتطرق للموضوع من الأساس، وربَّما يشدُّ المسلم حاجبيه متعجباً من حال التحفز والتعسف في تأويل المعجزات، فلا يجد في الأمر ما يستحق كل هذا.
إنه قلق مرحلة زمنية، وضغط حال مؤقتة، ضعف دافعه فذهبت معه كافة الإشكالات المصاحبة له.
وعاش الفكر الإسلامي بعده مراحل زمنية أخرى انتعشت فيه قضايا أخرى وأحدثت من الإرباك ما أحدثته المعجزة في تلك الفترة، فجاءت قضية الاشتراكية والقومية وغيرها، وتكرر في كل قضية منها نفس المشهد: تشكيك في الأحكام الشرعية المعارضة لهذه الهزات المؤقتة، يتبعه استنكار شائع، ثم حركة تأويل وتعسف من قبل بعض الناس، ثم لا يسلم من الخطأ فيها بعض أهل العلم والفضل.
حين تضع هذه الصور التاريخية أمام عينيك وتدقق النظر فيها يتجلى لك هذا المعنى العظيم:
ضرورة (الاستمساك بالأصول الشرعية والمحكمات الإسلامية) وأهمية (التماسك المنهجي في الأخذ بأحكام الإسلام) وألَّا يخضع المسلم لضغط مرحلة زمنية ما، فتكون سبباً لتحريف الأحكام والعبث بالتصورات وإحداث أشكال التلفيق بين مفاهيم الإسلام والمفاهيم المزاحمة، فالعبرة باتباع الحق وليس بموافقة المزاج العام، فهذا المزاج والجو العام عرضة للتقلبات السريعة والهزات العنيفة فلا يليق بمَن يعظِّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -خاصة من أهل العلم المؤتمنين على بيان الشريعة- أن يكون ضغط هذا المزاج مؤثراً على تصوراته ومفاهيمه الشرعية.
إنك حين تتحدث عن قضايا شرعية فأنت تتحدث في الدين الذي يريده الله للناس جميعاً، فلا تكن حبيس اللحظة الراهنة التي تعيشها، وأسير الفضاء الذي يحيط بك ، فلعل من يقرأ كتابك ممن يعيش في أزمنة لاحقة وأمكنة مختلفة هم أضعاف من قرأه وكان متفهماً لحالة القلق التي عاشها الكاتب، ولعل هذا يفسر بعض حالات الشذوذ الفكري والفقهي التي نستنكرها ونتعجب من صدورها.
إن الرؤية التي تكون أمام منظار المسلم هي (البحث عن مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم) وخارطة التفكير لديه يجب أن تكون السير خلف الدلائل الشرعية، والابتعاد عن أي صوارف عارضة.
فالمنهج الشرعي في إصابة الحق ليس مرتبطاً بكثرة قال - تعالى -: {وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وقال أيضاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ومن المفاهيم المتقررة في وعي المسلم مفهوم الطائفة المستمسكة بالحق التي: (ما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) ومن مأثور الصحابة : (الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك) فرسوخ هذا المعنى في وعي المسلم يجعل البحث عن الحق هو المعيار الوحيد الذي يبدد كل المؤثرات التي تضغط على العقل المسلم.
ثم إن عوارض كثيرة تصرف المسلم عن إصابة الحق، ومن المهم أن يجتهد كل مسلم في محاولة التخلص من كافة دوافعها قدر المستطاع، ومنها العوارض المتعلقة بالواقع الذي لا يتقبل بعض الأحكام الشرعية، فمثل هذا الواقع يدفع المسلم لئن يتخففَ من بعض الصرامة العلمية الواجبة، وهو من جنس الهوى الذي نهت الشريعة عنه قال - تعالى -: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
إن الدفاع عن الإسلام، وضرورة تقديم صورة حسنة له، وضرورة حماية الشباب من الانحراف مقاصد نبيلة وغايات شريفة؛ لكنها لا تبرر التهاون في تحريف أي حكم شرعي، كما أن التحرز من ضغط اللحظة الراهنة لا يعني إهمال الاجتهاد المبني على المنهج الفقهي في الوقائع المتجددة للنظر في متغيراتها وأوصافها المؤثرة، وما يطرأ عليها من ضرورة أو حاجة، فهذا اجتهاد في الواقع وليس خضوعاً لضغط لحظة راهنة.
ضغط اللحظة الراهنة موجود في كل زمان ومكان، وهو دافع عميق لتجاوز عدد من الأحكام الشرعية التي لا تنجسم مع اللحظة الراهنة، ليس لأن الدليل لا يدلُّ عليها، ولا لأن العقل لا ينصرها؛ بل لأن المزاج العام لا يجعل لدلائلها ذاك الوهج المقبول، فيجد المسلم ضغطاً عميقاً في نفسه، يجعله يتخفف من الصرامة العلمية ومنهجية التحري والتدقيق المطلوبة، فإنْ كانت لمن قبلنا لحظات مع المعجزات والاشتراكية والقومية، فإن لحظتنا الراهنة قد اندفعت نحو مفاهيم أخر، ما زالت تمارس عبثها في عقول كثير من المسلمين، فأعملوا عقولهم في أحكام الإسلام تلفيقاً وتأويلاً وتغييراً برؤية غير علمية، ولا منسجمة مع الأصول والقواعد الشرعية، وهي مرحلة زمنية لا بدَّ أن تنتهي فيتضح من كان سائراً مع النص وبراهينه ودلائله ممَّن وقع تحت أسر ضغط لحظةٍ راهنةٍ قد انتهت!
:: عدد مجلة البيان 299 شهر رجب 1433هـ
[1] حياة محمد 54.
[2] حياة محمد 54.
[3] انظر بعض هذه الأقوال في منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير للدكتور فهد الرومي 722-724.
[4] تفسير المنار 1/315.
[5] انظر عدداً من هذه التأويلات في: التجديد في الفكر الإسلامي لعدنان أمامة 394-400.
[6] تفسير المنار 11/155.
[7] تفسير المنار 11/159.
[8] الإسلام والمدنية لفريد وجدي 71-72 نقلاً عن منهج المدرسة العقلية الحديثة 549
*البيان