هويدي 18-12-2001
في البداية لم آخذ علي محمل الجد التصريحات الأمريكية التي تحدثت عن حرب طويلة الأمد ضد الإرهاب, قد تستمر عشرة أو عشرين عاما, وكان ظني أن هدف الحرب هو تصفية الجماعات الإرهابية وتفكيك شبكاتها, التي ذكرت مصادر الاستخبارات الغربية أنها مبثوثة في عدة أنحاء مختلفة من العالم, غير أن التقارير التي تتابعت في وقت لاحق أقنعتني بأنني أخطأت التقدير, وأن الجبهة التي قررت واشنطن أن تخوض حربها المفترضة عليها أوسع بكثير مما ظننت, وحين أدركت ذلك, اعتبرت خطئي هينا بالمقارنة لأن الأمريكيين ارتكبوا ما هو أفدح, حيث أعلنوا حربهم علي الجبهة الغلط!
(1)
ألفت النظر ابتداء إلي أن التقارير الصحفية لم ترسم الصورة كاملة, لكنها نقلت إلينا الجانب من الصورة الذي أمكن رصده والتقاط قسماته, وبرغم محدوديته النسبية فإنه يظل كاشفا عن الكيفية التي فكر بها الأمريكيون في الأمر, ففي يوم12/8 نشرت صحيفة ذي نيوز الباكستانية أنه وضعت في مطار كراتشي كاميرات فيديو مربوطة بمكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة, لكي تمكن السلطات الأمريكية من مراقبة الحركة في المطار, والتعرف علي الأشخاص الذين تلاحقهم.
هذه الكاميرات نصبت في ممرات المطار وقاعات الإقلاع, وبواسطة نظام خاص للأقمار الصناعية, إن جميع صور الركاب تنقل مباشرة من كراتشي إلي الولايات المتحدة, حيث يقارنها مكتب التحقيقات الفيدرالي( إف. بي. آي) مع بنوك المعلومات لديه خلال ثوان أو دقائق معدودة, وفي ضوء تلك المقارنة يمكن أن يعد المسافر مشتبها فيه ويحتجز قبل صعود الطائرة, وهو ما يسري بذات القدر علي القادمين, بحيث يمكن أن يشك في أي قادم ويحتجز قبل مغادرته المطار.
قالت الصحيفة الباكستانية: إن أشخاصا عدة أوقفوا في المطار بفضل ذلك النظام, ومنهم مسافر كان قادما من توربات( في الجنوب الغربي, عند الحدود بين باكستان وإيران), وبمجرد وصوله إلي كراتشي تم التحفظ عليه واقتيد في شاحنة صغيرة إلي مكان مجهول.
في هذا النموذج كشفت صحيفة ذي نيوز عن أمر لم يكن معلوما من قبل, وذلك النظام الذي طبق في ميناء جوي يظن أن العناصر المطلوبة يمكن أن تمر به, لا يستبعد تعميمه علي مطارات أخري, وفي شائعات سمعتها عن وجود شيء من هذا القبيل علي الأقل في مطار صنعاء, وميناء عدن, وفي مطار مقديشيو بالصومال, وهي مواقع يظن أنها تمثل معابر للمشتبه فيهم من جانب السلطات الأمريكية.
في ظل هذه الأجواء لم يعد السؤال عن حدود السيادة واردا, إذ منذ أعلنت واشنطن حربها الكونية ضد الإرهاب( الذي يهدد مصالحها فقط), وحذرت الجميع من أن الذين لن يقفوا معها فإنهم سيعتبرون منضمين إلي معسكر الإرهاب, عندئذ أصبح السماح بدخول أي شخص مطلوب أمريكيا إلي أي بلد في العالم, بمثابة إيواء للإرهاب يعرض المتصدي له لما لا يتمناه أو يحمد عقباه!
(2)
لأن باكستان بلد مفتوح نسبيا, فقد تسربت إلي الصحافة أنباء أخري عن دور قررت الولايات المتحدة أن تمارسه للرقابة علي التعليم الديني, بحيث تشمل تلك الرقابة الأساتذة والطلاب ومناهج التعليم ونوعية الكتب التي تدرس للطلاب, وواضح من ذلك الدور أن واشنطن قررت أن تدس أنفها وتتدخل في صلب العملية التعليمية, خصوصا في الشق المتعلق بالثقافة الإسلامية وتشكيل الإدراك الديني.
علي مدي يومي9 و10 من شهر ديسمبر الحالي نشرت بعض الصحف العربية معلومات في هذا الصدد من أهمها ما يلي:
* أن السلطات الباكستانية ستقيم بواسطة أموال أمريكية بنك معلومات حول طلاب المدارس القرآنية( التي تخرج فيها شباب طالبان) يعمل علي تأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس ملتحق بها.
* ستدفع الولايات المتحدة مبلغا إجماليا بقيمة100 مليون دولار إلي باكستان لإطلاق برنامج رقابة علي تلك المدارس التي يقدر عددها بسبعة آلاف مدرسة, تضم الآن ما بين ثلاثة أرباع المليون ومليون طالب.
* ستكون من أهداف البرنامج الذي تشرف عليه وزارتا الداخلية والشئون الدينية الرقابة علي منشورات تلك المدارس ودور النشر التابعة لها, ويقضي البرنامج بتشكيل خلية خاصة من أجهزة الاستخبارات الباكستانية تدرب أشخاصا للتسلل إلي المدارس ورصد كل ما يجري في داخلها.
* من المتفق عليه أيضا أن يوجه جزء من المبلغ المقدم من الولايات المتحدة إلي إدخال مواد دراسية جديدة في تلك المدارس التي لم تكن تدرس سوي القرآن الكريم, وسيكون علي المدرسين أن يوافقوا علي الخضوع لدورات تدريبية لمتابعة البرامج الجديدة, والذين يرفضون ذلك سيفصلون من وظائفهم.
وعلي نحو تدريجي سيتم إدماج المدارس القرآنية مع المدارس الأخري( المدنية), وإخضاعها بالتالي للإشراف الرسمي المباشر, وسيصدر في هذا الصدد قانون يسجل كل مدرسة لدي الجهات الرسمية, وتقضي شروط تسجيل المدرسة بأن تقوم بإغلاق جميع مصادر التمويل الخاصة بها المحلية والأجنبية, إذ المعروف أن المدارس القانونية كانت تعتمد علي تبرعات الخيرين, وانها تتكفل بإعاشة تلاميذها, الأمر الذي جذب إليها أعدادا كبيرة من الفقراء, الذين لا تتوافر لهم فرص التعليم في المدارس الحكومية.
(3)
ليس دقيقا أن ذلك كله مقصور علي باكستان بسبب دور تلك المدارس في تفريخ الشباب الذين انضووا تحت لواء حركة طالبان, لكن تلك سياسة عامة اتبعتها الولايات المتحدة في العديد من الدول الأخري, ولها هدف واحد هو إحكام السيطرة علي منافذ الإدراك العام في العالم العربي والإسلامي.
إليك طائفة من الأخبار التي عكست ذلك التوجه, ونشرتها الصحف خلال الأسبوعين الأخيرين.
* في12/8 بدأ وفد أمريكي ضم عشرة مسئولين من وزارتي الخزانة والخارجية ومجلس الأمن القومي لقاءات في الرياض مع عدد من المسئولين السعوديين للتعرف علي الجهود التي تبذلها المملكة في التصدي للإرهاب. ونشرت الحياة اللندنية تصريحا علي لسان مصدر سعودي قال فيه: إن المملكة وافقت علي استقبال الوفد الأمريكي في إطار الحوار بين البلدين حول سبل مكافحة الإرهاب, وأنها عرضت علي الوفد الإجراءات المتخذة في مراقبة أموال التبرعات التي تقدمها الجمعيات الخيرية السعودية للمسلمين أفرادا وجمعيات في الخارج( عدد تلك الجمعيات231 جمعية تجمع تبرعات سنوية بما يعادل265 مليون دولار).
علي صعيد آخر ذكرت مصادر سعودية أن وزارة التربية والتعليم تجري الآن عملية مراجعة وتنقيح للكتب الدراسية التي تتعلق بالثقافة الإسلامية, بهدف التثبت من توافقها مع التوجه العام الذي يهدف إلي التصدي لمختلف أشكال التطرف والإرهاب.
* في12/6 ذكرت صحيفة القدس العربي أن وزير العدل والشئون الإسلامية بدولة الإمارات الشيخ محمد بن نخيرة الظاهري قال في محاضرة ألقاها بـمركز زايد للتنسيق والمتابعة: إنه بعد حوادث11 سبتمبر اتخذت الوزارة إجراءات استهدفت توحيد الخطب في المساجد وفرض الرقابة عليها. فقد بدأت الوزارة في توزيع خطب مكتوبة علي أئمة المساجد يجري إعدادها في إطار رؤية معينة تحددها جهة مسئولة في الدولة, بحيث تتناول بشكل عام الأمور التي تهم الناس في عباداتهم ودنياهم. في الوقت نفسه فإن الوزارة وضعت ضوابط وشكلت لجانا تمتحن كل شخص يود أن يلقي محاضرات بالمساجد, وإذا ما ثبت نجاحه وأهليته لذلك, تمنحه الوزارة بطاقة أو تصريحا ليؤدي تلك المهمة. علي صعيد آخر فإن قيودا فرضت علي جمع التبرعات من الناس, للتعرف علي مصادر التمويل, والأوعية: الجهات التي تتوجه إليها تلك التبرعات.
* في12/14 نقلت صحيفة الشرق الأوسط علي لسان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح قوله في لقاء له مع حشد من علماء البلاد: إن قرار الحكومة إلغاء المعاهد العلمية( الدينية) التي كانت تتبع الحركة الإسلامية, وإخضاعها لسيطرة وتوجيه الحكومة, جنب اليمن ضربة أمريكية عقب هجمات11 سبتمبر. وأضاف أنه سافر بنفسه إلي واشنطن لكي يوضح الصورة ويجنب اليمن ذلك الخطر.
* في12/17 نشرت الشرق الأوسط أن البرلمان المغربي سينظر خلال أسابيع قليلة مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي يقنن لأول مرة التنصت والتقاط المكالمات الهاتفية وتسجيلها, ضمن إجراءات أخري منها رفع السن القانونية الجنائية إلي18 سنة عوضا عن16, وفي وقت لاحق زار المبعوث الأمريكي إلي الشرق الأوسط العاصمة المغربية الرباط, حيث ناقش مع المسئولين في الحكومة الإجراءات المفترض اتخاذها لمكافحة الإرهاب والتصدي للأصولية.
(4)
تلك مجرد نماذج لما يجري ترتيبه وما تسرب إلي الصحف, وليس من شك في أن هناك آفاقا ومساحات أخري لم يسلط عليها الضوء بعد لسبب أو آخر, ولأن العالم الإسلامي مترامي الأطراف فإننا لن نبالغ إذا قلنا إن عملية الترتيب تتجاوز الأقطار التي أشرنا إليها, الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إن ما توافر لنا فضلا عن أنه يكشف عن طبيعة واتجاهات الريح التي هبت علينا عقب الحادي عشر من سبتمبر, فإنه أيضا يمثل الجزء الذي ظهر من جبل الثلج, ونرجو ألا يكون ما خفي منه أعظم.
في التصريحات الغربية ما يساعدنا علي أن نفهم المراد بالضبط, حيث لم يعد في الأمر سر. ففي بداية الشهر الحالي نصح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الزعماء والمسئولين في الدول الإسلامية بأن يعملوا جاهدين علي أن يهيمن الإسلام العادي أو الرئيسي( استخدم مصطلح
MainStream)
بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتي أنحاء العالم, وهو كلام لم يفت معلقا مثل الأستاذ جميل مطر, فكتب في الحياة اللندنية( عدد12/5) متسائلا: لنفترض أن قادة الإسلام العادي لم يفلحوا في قمع الإسلام غير العادي الذي لا يحظي برضا قادة الغرب, فهل سيتدخل التحالف الغربي لفرض إرادته في كل مكان ينشط فيه ذلك الإسلام غير المرغوب فيه؟ وهل يمكن أن تعني تلك النصيحة أن تتجاوز الحملة الراهنة قضية الإرهاب, وتنصرف إلي فرض إصلاح ديني من خارج الإسلام علي أمة المسلمين؟ أم أن قيادة الحملة سوف تستعين بقيادة إسلامية متفهمة لرغبات الغرب وتصوراته للإسلام العادي, وتطلب منها تقديم لائحة بالمذاهب والفرق والجماعات غير العادية, التي بمواصفات الإسلام المرغوب فيه, وبعدها تتولي قيادة الحملة ملاحقة تلك الجماعات, ومطالبة الدول المختلفة بالقضاء عليها, وإنذارها بالعقاب إن لم تفعل ذلك.
الفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي كولين باول في شهر نوفمبر الماضي, في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي, حيث أشار في عدة مواقع إلي تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم علي أساس من قيم معينة, تمس التكوين الثقافي والعقيدي والسياسي لتلك المجتمعات.
لسنا في حقيقة الأمر بصدد حملة ضد الإسلام, لكننا بإزاء سعي حثيث لصياغة إسلام معدل إذا جاز التعبير ترضي عنه قوي الهيمنة الأمريكية والأوروربية, ذلك أن الانتصار العسكري الساحق الذي حققته تلك القويفتح شهيتها للذهاب إلي ما هو أبعد أفقيا ورأسيا, إذ كما قد يغريها ذلك بضرب أقطار أخري مثل الصومال أو العراق, فإنه شجعها علي محاولة التدخل ـ الجراحي أحيانا ـ لصياغة إسلام يجنبها في نهاية المطاف احتمالات التعرض لهجوم كذلك الذي استهدف الولايات المتحدة, أو هكذا يتمنون علي الأقل.
(5)
ذلك بالضبط هو الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الأمريكيون ومن لف لفهم.. لماذا؟
أولا: لأنهم ـ كأي مستكبر ـ تصوروا أن المسلمين وحدهم الذين ينبغي أن يتغيروا, ولم يفكروا في النظر في المرآة لكي يروا ماذا فيهم بدوره ينبغي أن يراجع أو يتغير, الأمر الذي يعبر عن عجز مدهش في التناول الموضوعي والجاد مع المشهد.
ثانيا: لأنهم حصروا المشكلة في الدين وتجاهلوا الحاصل في الدنيا, خصوصا عالم السياسة, وبعض ذلك يتعلق بمظالم من جانبهم, وبعضهم وثيق الصلة بمظالم عندنا, وهذه وتلك تشكل الخلفية التي تشكل بؤر التطرف والإرهاب, والتربة التي تنبت الشوك والمر, وهذا التجاهل شجعهم علي التركيز علي التعاليم والمعتقدات وأعماهم عن إصلاح السياسات.
ثالثا: لأننا إذا سلمنا بالحاجة إلي الإصلاح الديني, فإن ذلك الإصلاح يفقد شرعيته إذا كان مفروضا من الخارج, ثم إن ذلك الإصلاح لا يتم في فراغ, لأنه وثيق الصلة بالتحولات الاجتماعية والسياسية في كل بلد, وبالخصوصية الثقافية لكل بلد, ثم إنه يتعذر تجهيزه وترويجه بأسلوب تيك أواي, لأن الأفكار لا تصنع حسب الطلب, وإنما أحيانا تستجيب لمقتضيات الواقع ولا يكتب لها الحياة والنمو إلا إذا خرجت من رحمه.
رابعا: لأن ذلك الإسلام المعدل الذي يريدون لن يستطيع أن ينال من حاكمية المرجعية الأساسية المتمثلة في القرآن والسنة, وإسقاط الجهاد مثلا من الكتب المدرسية أو التهوين من شأنه, لن يطوي الصفحة أو يستأصل القيمة من الوجدان الإسلامي, كما أن تأويل النصوص لغرض ما لن يحول دون أن يأتي لكي يؤلها في اتجاه معاكس.
خامسا: لأن التجربة أثبتت أن سياسة تجفيف الينابيع أفقدت الثقة في القائمين عليها, بأكثر مما قلصت مساحة التدين عند المتلقين لها, كما أثبتت أن الناس حين يدركون حقيقة التجفيف الذي يصيب الينابيع, فإنهم سرعان ما يتحولون إلي ينابيع أخري تشبع أرواحهم وتستجيب لأشواقهم.
سادسا: لأن خبرات أربعة عقود من الاشتباك والكر والفر أثبتت أن علاج التطرف لا يكون إلا بتشجيع الاعتدال, شريطة ألا يكون ذلك بمواصفات أمريكية!
اللهم إنا نسألك أن تلطف بنا فيما علمنا, وأن تجنبنا شرور ما لم نعلم.
في البداية لم آخذ علي محمل الجد التصريحات الأمريكية التي تحدثت عن حرب طويلة الأمد ضد الإرهاب, قد تستمر عشرة أو عشرين عاما, وكان ظني أن هدف الحرب هو تصفية الجماعات الإرهابية وتفكيك شبكاتها, التي ذكرت مصادر الاستخبارات الغربية أنها مبثوثة في عدة أنحاء مختلفة من العالم, غير أن التقارير التي تتابعت في وقت لاحق أقنعتني بأنني أخطأت التقدير, وأن الجبهة التي قررت واشنطن أن تخوض حربها المفترضة عليها أوسع بكثير مما ظننت, وحين أدركت ذلك, اعتبرت خطئي هينا بالمقارنة لأن الأمريكيين ارتكبوا ما هو أفدح, حيث أعلنوا حربهم علي الجبهة الغلط!
(1)
ألفت النظر ابتداء إلي أن التقارير الصحفية لم ترسم الصورة كاملة, لكنها نقلت إلينا الجانب من الصورة الذي أمكن رصده والتقاط قسماته, وبرغم محدوديته النسبية فإنه يظل كاشفا عن الكيفية التي فكر بها الأمريكيون في الأمر, ففي يوم12/8 نشرت صحيفة ذي نيوز الباكستانية أنه وضعت في مطار كراتشي كاميرات فيديو مربوطة بمكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة, لكي تمكن السلطات الأمريكية من مراقبة الحركة في المطار, والتعرف علي الأشخاص الذين تلاحقهم.
هذه الكاميرات نصبت في ممرات المطار وقاعات الإقلاع, وبواسطة نظام خاص للأقمار الصناعية, إن جميع صور الركاب تنقل مباشرة من كراتشي إلي الولايات المتحدة, حيث يقارنها مكتب التحقيقات الفيدرالي( إف. بي. آي) مع بنوك المعلومات لديه خلال ثوان أو دقائق معدودة, وفي ضوء تلك المقارنة يمكن أن يعد المسافر مشتبها فيه ويحتجز قبل صعود الطائرة, وهو ما يسري بذات القدر علي القادمين, بحيث يمكن أن يشك في أي قادم ويحتجز قبل مغادرته المطار.
قالت الصحيفة الباكستانية: إن أشخاصا عدة أوقفوا في المطار بفضل ذلك النظام, ومنهم مسافر كان قادما من توربات( في الجنوب الغربي, عند الحدود بين باكستان وإيران), وبمجرد وصوله إلي كراتشي تم التحفظ عليه واقتيد في شاحنة صغيرة إلي مكان مجهول.
في هذا النموذج كشفت صحيفة ذي نيوز عن أمر لم يكن معلوما من قبل, وذلك النظام الذي طبق في ميناء جوي يظن أن العناصر المطلوبة يمكن أن تمر به, لا يستبعد تعميمه علي مطارات أخري, وفي شائعات سمعتها عن وجود شيء من هذا القبيل علي الأقل في مطار صنعاء, وميناء عدن, وفي مطار مقديشيو بالصومال, وهي مواقع يظن أنها تمثل معابر للمشتبه فيهم من جانب السلطات الأمريكية.
في ظل هذه الأجواء لم يعد السؤال عن حدود السيادة واردا, إذ منذ أعلنت واشنطن حربها الكونية ضد الإرهاب( الذي يهدد مصالحها فقط), وحذرت الجميع من أن الذين لن يقفوا معها فإنهم سيعتبرون منضمين إلي معسكر الإرهاب, عندئذ أصبح السماح بدخول أي شخص مطلوب أمريكيا إلي أي بلد في العالم, بمثابة إيواء للإرهاب يعرض المتصدي له لما لا يتمناه أو يحمد عقباه!
(2)
لأن باكستان بلد مفتوح نسبيا, فقد تسربت إلي الصحافة أنباء أخري عن دور قررت الولايات المتحدة أن تمارسه للرقابة علي التعليم الديني, بحيث تشمل تلك الرقابة الأساتذة والطلاب ومناهج التعليم ونوعية الكتب التي تدرس للطلاب, وواضح من ذلك الدور أن واشنطن قررت أن تدس أنفها وتتدخل في صلب العملية التعليمية, خصوصا في الشق المتعلق بالثقافة الإسلامية وتشكيل الإدراك الديني.
علي مدي يومي9 و10 من شهر ديسمبر الحالي نشرت بعض الصحف العربية معلومات في هذا الصدد من أهمها ما يلي:
* أن السلطات الباكستانية ستقيم بواسطة أموال أمريكية بنك معلومات حول طلاب المدارس القرآنية( التي تخرج فيها شباب طالبان) يعمل علي تأمين معلومات أساسية عن كل طالب ومدرس ملتحق بها.
* ستدفع الولايات المتحدة مبلغا إجماليا بقيمة100 مليون دولار إلي باكستان لإطلاق برنامج رقابة علي تلك المدارس التي يقدر عددها بسبعة آلاف مدرسة, تضم الآن ما بين ثلاثة أرباع المليون ومليون طالب.
* ستكون من أهداف البرنامج الذي تشرف عليه وزارتا الداخلية والشئون الدينية الرقابة علي منشورات تلك المدارس ودور النشر التابعة لها, ويقضي البرنامج بتشكيل خلية خاصة من أجهزة الاستخبارات الباكستانية تدرب أشخاصا للتسلل إلي المدارس ورصد كل ما يجري في داخلها.
* من المتفق عليه أيضا أن يوجه جزء من المبلغ المقدم من الولايات المتحدة إلي إدخال مواد دراسية جديدة في تلك المدارس التي لم تكن تدرس سوي القرآن الكريم, وسيكون علي المدرسين أن يوافقوا علي الخضوع لدورات تدريبية لمتابعة البرامج الجديدة, والذين يرفضون ذلك سيفصلون من وظائفهم.
وعلي نحو تدريجي سيتم إدماج المدارس القرآنية مع المدارس الأخري( المدنية), وإخضاعها بالتالي للإشراف الرسمي المباشر, وسيصدر في هذا الصدد قانون يسجل كل مدرسة لدي الجهات الرسمية, وتقضي شروط تسجيل المدرسة بأن تقوم بإغلاق جميع مصادر التمويل الخاصة بها المحلية والأجنبية, إذ المعروف أن المدارس القانونية كانت تعتمد علي تبرعات الخيرين, وانها تتكفل بإعاشة تلاميذها, الأمر الذي جذب إليها أعدادا كبيرة من الفقراء, الذين لا تتوافر لهم فرص التعليم في المدارس الحكومية.
(3)
ليس دقيقا أن ذلك كله مقصور علي باكستان بسبب دور تلك المدارس في تفريخ الشباب الذين انضووا تحت لواء حركة طالبان, لكن تلك سياسة عامة اتبعتها الولايات المتحدة في العديد من الدول الأخري, ولها هدف واحد هو إحكام السيطرة علي منافذ الإدراك العام في العالم العربي والإسلامي.
إليك طائفة من الأخبار التي عكست ذلك التوجه, ونشرتها الصحف خلال الأسبوعين الأخيرين.
* في12/8 بدأ وفد أمريكي ضم عشرة مسئولين من وزارتي الخزانة والخارجية ومجلس الأمن القومي لقاءات في الرياض مع عدد من المسئولين السعوديين للتعرف علي الجهود التي تبذلها المملكة في التصدي للإرهاب. ونشرت الحياة اللندنية تصريحا علي لسان مصدر سعودي قال فيه: إن المملكة وافقت علي استقبال الوفد الأمريكي في إطار الحوار بين البلدين حول سبل مكافحة الإرهاب, وأنها عرضت علي الوفد الإجراءات المتخذة في مراقبة أموال التبرعات التي تقدمها الجمعيات الخيرية السعودية للمسلمين أفرادا وجمعيات في الخارج( عدد تلك الجمعيات231 جمعية تجمع تبرعات سنوية بما يعادل265 مليون دولار).
علي صعيد آخر ذكرت مصادر سعودية أن وزارة التربية والتعليم تجري الآن عملية مراجعة وتنقيح للكتب الدراسية التي تتعلق بالثقافة الإسلامية, بهدف التثبت من توافقها مع التوجه العام الذي يهدف إلي التصدي لمختلف أشكال التطرف والإرهاب.
* في12/6 ذكرت صحيفة القدس العربي أن وزير العدل والشئون الإسلامية بدولة الإمارات الشيخ محمد بن نخيرة الظاهري قال في محاضرة ألقاها بـمركز زايد للتنسيق والمتابعة: إنه بعد حوادث11 سبتمبر اتخذت الوزارة إجراءات استهدفت توحيد الخطب في المساجد وفرض الرقابة عليها. فقد بدأت الوزارة في توزيع خطب مكتوبة علي أئمة المساجد يجري إعدادها في إطار رؤية معينة تحددها جهة مسئولة في الدولة, بحيث تتناول بشكل عام الأمور التي تهم الناس في عباداتهم ودنياهم. في الوقت نفسه فإن الوزارة وضعت ضوابط وشكلت لجانا تمتحن كل شخص يود أن يلقي محاضرات بالمساجد, وإذا ما ثبت نجاحه وأهليته لذلك, تمنحه الوزارة بطاقة أو تصريحا ليؤدي تلك المهمة. علي صعيد آخر فإن قيودا فرضت علي جمع التبرعات من الناس, للتعرف علي مصادر التمويل, والأوعية: الجهات التي تتوجه إليها تلك التبرعات.
* في12/14 نقلت صحيفة الشرق الأوسط علي لسان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح قوله في لقاء له مع حشد من علماء البلاد: إن قرار الحكومة إلغاء المعاهد العلمية( الدينية) التي كانت تتبع الحركة الإسلامية, وإخضاعها لسيطرة وتوجيه الحكومة, جنب اليمن ضربة أمريكية عقب هجمات11 سبتمبر. وأضاف أنه سافر بنفسه إلي واشنطن لكي يوضح الصورة ويجنب اليمن ذلك الخطر.
* في12/17 نشرت الشرق الأوسط أن البرلمان المغربي سينظر خلال أسابيع قليلة مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي يقنن لأول مرة التنصت والتقاط المكالمات الهاتفية وتسجيلها, ضمن إجراءات أخري منها رفع السن القانونية الجنائية إلي18 سنة عوضا عن16, وفي وقت لاحق زار المبعوث الأمريكي إلي الشرق الأوسط العاصمة المغربية الرباط, حيث ناقش مع المسئولين في الحكومة الإجراءات المفترض اتخاذها لمكافحة الإرهاب والتصدي للأصولية.
(4)
تلك مجرد نماذج لما يجري ترتيبه وما تسرب إلي الصحف, وليس من شك في أن هناك آفاقا ومساحات أخري لم يسلط عليها الضوء بعد لسبب أو آخر, ولأن العالم الإسلامي مترامي الأطراف فإننا لن نبالغ إذا قلنا إن عملية الترتيب تتجاوز الأقطار التي أشرنا إليها, الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إن ما توافر لنا فضلا عن أنه يكشف عن طبيعة واتجاهات الريح التي هبت علينا عقب الحادي عشر من سبتمبر, فإنه أيضا يمثل الجزء الذي ظهر من جبل الثلج, ونرجو ألا يكون ما خفي منه أعظم.
في التصريحات الغربية ما يساعدنا علي أن نفهم المراد بالضبط, حيث لم يعد في الأمر سر. ففي بداية الشهر الحالي نصح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الزعماء والمسئولين في الدول الإسلامية بأن يعملوا جاهدين علي أن يهيمن الإسلام العادي أو الرئيسي( استخدم مصطلح
MainStream)
بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتي أنحاء العالم, وهو كلام لم يفت معلقا مثل الأستاذ جميل مطر, فكتب في الحياة اللندنية( عدد12/5) متسائلا: لنفترض أن قادة الإسلام العادي لم يفلحوا في قمع الإسلام غير العادي الذي لا يحظي برضا قادة الغرب, فهل سيتدخل التحالف الغربي لفرض إرادته في كل مكان ينشط فيه ذلك الإسلام غير المرغوب فيه؟ وهل يمكن أن تعني تلك النصيحة أن تتجاوز الحملة الراهنة قضية الإرهاب, وتنصرف إلي فرض إصلاح ديني من خارج الإسلام علي أمة المسلمين؟ أم أن قيادة الحملة سوف تستعين بقيادة إسلامية متفهمة لرغبات الغرب وتصوراته للإسلام العادي, وتطلب منها تقديم لائحة بالمذاهب والفرق والجماعات غير العادية, التي بمواصفات الإسلام المرغوب فيه, وبعدها تتولي قيادة الحملة ملاحقة تلك الجماعات, ومطالبة الدول المختلفة بالقضاء عليها, وإنذارها بالعقاب إن لم تفعل ذلك.
الفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي كولين باول في شهر نوفمبر الماضي, في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي, حيث أشار في عدة مواقع إلي تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم علي أساس من قيم معينة, تمس التكوين الثقافي والعقيدي والسياسي لتلك المجتمعات.
لسنا في حقيقة الأمر بصدد حملة ضد الإسلام, لكننا بإزاء سعي حثيث لصياغة إسلام معدل إذا جاز التعبير ترضي عنه قوي الهيمنة الأمريكية والأوروربية, ذلك أن الانتصار العسكري الساحق الذي حققته تلك القويفتح شهيتها للذهاب إلي ما هو أبعد أفقيا ورأسيا, إذ كما قد يغريها ذلك بضرب أقطار أخري مثل الصومال أو العراق, فإنه شجعها علي محاولة التدخل ـ الجراحي أحيانا ـ لصياغة إسلام يجنبها في نهاية المطاف احتمالات التعرض لهجوم كذلك الذي استهدف الولايات المتحدة, أو هكذا يتمنون علي الأقل.
(5)
ذلك بالضبط هو الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الأمريكيون ومن لف لفهم.. لماذا؟
أولا: لأنهم ـ كأي مستكبر ـ تصوروا أن المسلمين وحدهم الذين ينبغي أن يتغيروا, ولم يفكروا في النظر في المرآة لكي يروا ماذا فيهم بدوره ينبغي أن يراجع أو يتغير, الأمر الذي يعبر عن عجز مدهش في التناول الموضوعي والجاد مع المشهد.
ثانيا: لأنهم حصروا المشكلة في الدين وتجاهلوا الحاصل في الدنيا, خصوصا عالم السياسة, وبعض ذلك يتعلق بمظالم من جانبهم, وبعضهم وثيق الصلة بمظالم عندنا, وهذه وتلك تشكل الخلفية التي تشكل بؤر التطرف والإرهاب, والتربة التي تنبت الشوك والمر, وهذا التجاهل شجعهم علي التركيز علي التعاليم والمعتقدات وأعماهم عن إصلاح السياسات.
ثالثا: لأننا إذا سلمنا بالحاجة إلي الإصلاح الديني, فإن ذلك الإصلاح يفقد شرعيته إذا كان مفروضا من الخارج, ثم إن ذلك الإصلاح لا يتم في فراغ, لأنه وثيق الصلة بالتحولات الاجتماعية والسياسية في كل بلد, وبالخصوصية الثقافية لكل بلد, ثم إنه يتعذر تجهيزه وترويجه بأسلوب تيك أواي, لأن الأفكار لا تصنع حسب الطلب, وإنما أحيانا تستجيب لمقتضيات الواقع ولا يكتب لها الحياة والنمو إلا إذا خرجت من رحمه.
رابعا: لأن ذلك الإسلام المعدل الذي يريدون لن يستطيع أن ينال من حاكمية المرجعية الأساسية المتمثلة في القرآن والسنة, وإسقاط الجهاد مثلا من الكتب المدرسية أو التهوين من شأنه, لن يطوي الصفحة أو يستأصل القيمة من الوجدان الإسلامي, كما أن تأويل النصوص لغرض ما لن يحول دون أن يأتي لكي يؤلها في اتجاه معاكس.
خامسا: لأن التجربة أثبتت أن سياسة تجفيف الينابيع أفقدت الثقة في القائمين عليها, بأكثر مما قلصت مساحة التدين عند المتلقين لها, كما أثبتت أن الناس حين يدركون حقيقة التجفيف الذي يصيب الينابيع, فإنهم سرعان ما يتحولون إلي ينابيع أخري تشبع أرواحهم وتستجيب لأشواقهم.
سادسا: لأن خبرات أربعة عقود من الاشتباك والكر والفر أثبتت أن علاج التطرف لا يكون إلا بتشجيع الاعتدال, شريطة ألا يكون ذلك بمواصفات أمريكية!
اللهم إنا نسألك أن تلطف بنا فيما علمنا, وأن تجنبنا شرور ما لم نعلم.