هويدي 27-11-2001
لا تسعدنا بحال, تلك التقارير التي تلقيناها من العواصم الغربية في الآونة الأخيرة, مشيرة الي أن بعض الدول الكبري بصدد الانتساب إلي العالم الثالث, وأنها استوفت أوراق اعتمادها باتخاذ خطوات فعالة علي صعيد الاعتداء علي الحريات المدنية وتقنين القمع, وقد كان آخر ما يخطر علي بال المرء, أن تلجأ تلك البلدان التي مابرحت تعيرنا به, وتتباهي أمامنا بأنها قلاع الحرية والديمقراطية, إلي أساليب من ذلك القبيل, تأثرا بصدمة الحادي عشر من سبتمبر, الأمر الذي يعني ـ عند الحد الأدني ـ أنها ليست محصنة ضد رياح البطش, وأن استعدادها لافتراس الآخر لا حدود له, وأن ما تطنطن به دفاعا عن حقوق الانسان ليس آخر كلام!
[1]
لم أصدق عيني حيث قرأت ذات صباح, أن أحد زعماء الأحزاب في الدنمارك, طالب أثناء الانتخابات التي جرت هناك في الأسبوع الماضي, ببيع الفتيات الدنماركيات المسلمات أو المقيمات بصفة غير شرعية في البلاد إلي إحدي دول أمريكا اللاتينية, ثم بإقامة معسكرات اعتقال يوضع فيها المهاجرون المسلمون, تمهيدا لتطهير البلاد منهم, وطردهم إلي خارج حدودها!
هذا الكلام قيل في بلد ديمقراطي محترم, وسمعه كثيرون من السياسيين والمثقفين, لكنه لم يثر حفيظة أحد منهم, بل بدا أن ثمة قبولا عاما له, بدليل أن اليمين الدنماركي الذي يتبني أمثال تلك المقولات, حقق فوزا كبيرا في الانتخابات, وتولي السلطة بناء علي ذلك, وهي التي تمنعت عليه طيلة سبعين عاما.
لم أصدق أيضا تلك التقارير التي تحدثت عن التفهم الأمريكي لعمليات القتل والتعذيب الوحشية, التي ارتكبتها قوات التحالف الشمالي في مزار شريف وكابول وقندوز, كما أنني لم أصدق التصريحات الأمريكية التي حبذت التخلص من المقاتلين الأجانب في صفوف طالبان, والتي لا تعني سوي الاجهاز عليهم بأي وسيلة, ذلك أن المرء لا يستطيع أن يكتم دهشته إزاء تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد, وإعلانه صراحة رفض قبول أسري من عناصر القاعدة, وهي التصريحات التي كانت تعبيرا عن موقف أمريكي حال دون توقيع الاتفاق بين قوات طالبان المحاصرة في المدينة, وبين قيادة التحالف الشمالي.
هذا الكلام لو صدر عن مسئول في حكومة بوروندي أو زائير, لاستهجنه العالم المتحضر, ولأدانته مختلف المنظمات الدولية المختصة بحقوق الإنسان, باعتباره يمثل انتهاكا للقانون الدولي ولميثاق جنيف الخاص بمعاملة سجناء الحرب, الصادر في سنة1949 م, ذلك أن مباديء القانون الدولي تحرم قتل الأشخاص الذين يقعون في الأسر, وقد حوكم رئيس وزراء اليابان ووزير الخارجية وحملا بالمسئولية الجنائية بعد الحرب العالمية الأولي, لأنهما أخفقا في منع أو معاقبة الجرائم التي ارتكبتها القوات اليابانية ضد أسري الحرب, واعتمد المبدأ نفسه في محاكمة رئيس وزراء رواندا السابق كامباندا, حيث حمل بالمسئولية عن الجرائم التي ارتكبت في البلاد سنة1994.
[2]
إن قواعد القانون الدولي تعرض للمساءلة الجنائية, كل المسئولين الأمريكيين والانجليز الذين حرضوا علي التخلص من الأسري, أو علموا بالمذابح التي ارتكبت بحقهم وتقاعسوا عن ايقافها في حين كان ذلك بمقدورهم, لكن تلك القواعد لا تطبق إلا علي المهزومين والضعفاء فقط, أما الدول الكبري الأعضاء في مجلس الأمن, والذين ينصبون أنفسهم أوصياء علي الشرعية الدولية, فهم فوق القانون وفوق الحساب!
لقد أعلن قادة قوات التحالف الشمالي, أنهم سوف يسمحون لقوات طالبان المحاصرة بالخروج لكنهم سيقتلون كل الكلاب العرب والشيشان والباكستانيين الذين يحاربون معهم ـ( الحياة اللندنية11/21) ـ وهو كلام استقبل بصمت في بعض العواصم الأوروبية, وبارتياح في عواصم أخري, وكانت واشنطن ولندن من تلك العواصم الأخيرة للأسف, وذهبت هباء تحذيرات مفوضة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة, ماري روبنسون, واحتجاجات بعض الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان, لسببين جوهريين, أولهما أن المذابح تمت تحت رعاية الولايات المتحدة, وثانيهما إن دم المسلمين رخيص وأرواحهم لا بواكي لها!
ثمة لغة ومعايير جديدة, برزت في ظل الانقلاب الكوني الذي أعقب صدمة الحادي عشر من سبتمبر, وجاء بيانه الأول من واشنطن معلنا علي الملأ أنه: من ليس معنا فهو مع الإرهاب, وليس هناك موقف ثالث, وفي أعقاب ذلك البيان, قررت واشنطن أن تتولي بنفسها إجراء الفرز وتحديد الأخيار والأشرار في العالم, فأصدرت أوامرها بإلقاء القبض علي أناس يعيشون في مختلف أنحاء العالم, وكان لهم ما أرادوا, وقررت تجميد أموال آخرين, أشخاص وجمعيات وشركات, وكلهم من أبناء الدول العربية والإسلامية, وفي بعض الأقطار أرسلت رجالها كي يراقبوا الداخلين والخارجين من المطارات والموانيء, وتم لهم أيضا ما أرادوا, وطلبت من الجامعات الأوروبية أن توافيها بأسماء وملفات الدارسين العرب والمسلمين فيها, ولم يتأخر أحد في الاستجابة للطلب, ولم يقف الأمر عند ذلك الحد.. لأن الذي حدث في الداخل كان شيئا غير مسبوق.
[3]
يتحدث البعض في الولايات المتحدة عن زحف كابوس الفاشية علي البلاد, وعودة المكارثية بأجوائها القمعية ومشاعر الخوف التي أشاعتها بين الناس بين عامي46 و52, وحتي لا يظن أحد أن الكلام فيه شيء من المبالغة, فإنني ألفت النظر إلي أن الكلام عن احتمالات الفاشية في الولايات المتحدة, كان موضوع مقالة كتبها القس المعمداني كرستن هو لمجرين, كان عنوانها: كابوس الفاشية خطر حقيقي علي أمريكا بأكثر مما نتصور, وهذا المعني ردده كاتب مرموق مثل ويليام سافاير في مقالة أخري بعنوان: تحذير اليمين من مراكمة المزيد من الصلاحيات الديكتاتورية, وفي السياق بدأ بعض المعلقين يتحدثون عن الرئاسة الامبراطورية التي يحاول الرئيس بوش ممارستها, وكان المؤرخ آرثر شيليسنجر قد صك هذا المصطلح في عام73 لوصف محاولات الرئيس نيكسون توسيع صلاحياته, وتمكينه من تحدي السلطة التشريعية.
من أهم الخطوات التي تم اتخاذها بالولايات المتحدة في أعقاب11 سبتمبر ما يلي:
* إعلان الطواريء: وإصدار قانون يسمح بإلقاء القبض علي أي إنسان من الاعراق الأخري بطبيعة الحال, واحتجازه لمدد طويلة غير محددة, دون توجيه اتهام أو مواجهته بأدلة احتجازه, وبمقتضي ذلك القانون, تم احتجاز1200 شخص, لم تعرف أسماؤهم, ولا التهم الموجهة إليهم, وحين وجه سبعة من أعضاء الكونجرس رسالة إلي جون اشكروفت( المدعي العام) طلبوا فيها معلومات عن المعتقلين, فإنه لم يرد عليهم, وحين بعثت إليه المجموعة ذاتها بخطاب متابعة ثان, فإنه تجاهلهم أيضا, ورفض أن يقدم عن المعتقلين أي معلومات.
* صدر أمر لمكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحقيق مع أكثر من خمسة آلاف شخص, تتراوح أعمارهم بين18 و35 سنة, وغالبيتهم من أصحاب البشرة السمراء شرق الأوسطيين والمسلمين, كما يقول أحد الصحفيين, وهو نوع من الاستهداف العرقي الصريح المخالف للقانون والدستور.
* صدر أمر رئاسي بتشكيل محكمة عسكرية تقوم بمحاكمة المتهمين بأعمال إرهابية, بدلا من المحاكم المدنية العادية, وهي خطوة غير مسبوقة لم تحدث منذ50 سنة, وستعتمد تلك المحاكم علي حفنة من الضباط, يتولون حفظ المعلومات والإشراف علي التحقيقات, وسيكون بوسع المحكمة في هذه الحالة الانتقال الي خارج البلاد, أي أنها ستعمل في داخل الولايات المتحدة وخارجها.
* خولت السلطات الأمنية, فضلا عن حرية التفتيش والاحتجاز, حق التنصت علي الهواتف والبريد الالكتروني للأفراد الذين يشك فيهم, كما أنها أجازت التنصت علي مكالمات المحامين مع موكليهم الموقوفين, بمن فيهم أولئك الذين أوقفوا بدون أن توجه إليهم تهمة بارتكاب أية جناية كلما كان ذلك ضروريا لمنع الإرهاب.
[4]
نشرت الفايننشيال تايمز( عدد10/30) تقريرا تحدثت فيه عن المعاملة السيئة التي يلقاها العرب المحتجزون في الولايات المتحدة, ونقلت عن بيان لمنظمة العفو الدولية قوله: إن المحتجزين لم يسمح لهم بالاتصال بمحاميهم, وهو الحق الذي يكفله الدستور الأمريكي للجميع, ثم أن هؤلاء ـ في مركز نيويورك الرئيسي ـ قدم إليهم طعام مما يحرمه عليهم دينهم( لحم خنزير), كما تم احتجازهم داخل زنزانات باردة, لم تتوافر لهم فيها أغطية كافية, فضلا عن إخضاعهم للتفتيش الذاتي مرتين في اليوم الواحد, مع تقييد أيديهم وأرجلهم بالأغلال.
هذه الأوضاع اليائسة نددت بها المنظمات المدافعة عن الحقوق المدنية, ووصفتها منظمة العفو الدولية بأنها تعد في نواح كثيرة, أسوأ من الطريقة التي يعامل بها المدانون بارتكاب جرائم جنائية, في حين أنهم مجرد محتجزين دون أي اتهام!
لكن ذلك كله في كفة, والدعوة إلي استخدام التعذيب مع المحتجزين أو المتهمين في كفة أخري, إذ بعدما أجاز مجلس الشيوخ قانون مكافحة الإرهاب بأغلبية98 صوتا مقابل صوت واحد, بدأ الحديث عن استخدام وسائل الضغط والتعذيب بدعوي تحريك التحقيقات التي لم تتقدم في أكبر جريمة في تاريخ الولايات المتحدة, كما ذكرت نيوزويك في عدد10/6, حيث نشرت مقالا فاضحا ـ من الناحية التاريخية ـ كان عنوانه حان وقت التفكير في استخدام التعذيب.
كاتب المقال ـ جوناثان آلتر ـ استشهد بالإسرائيليين وما سماه أخلاقيات التعذيب عندهم(!), وكيف أنهم اضطروا إلي إجازته في نهاية المطاف, بعد إذن القاضي, كما استشهد بأستاذ للقانون في جامعة هارفارد ـ اسمه ألن ديرشوفيتش ـ زعم أنه ظل معارضا لتعذيب المتهمين طيلة عشرين عاما, لكنه رضخ نسبيا في نهاية المطاف, وأقر بإمكانية التعذيب بعد موافقة القاضي, إذا كان القيام به ضروريا لخدمة التحقيق, وليس للحكم علي المتهم, وخلص الكاتب في النهاية, إلي أن بعض التعذيب قد ينجح ويحقق الهدف المراد منه, ودلل علي ذلك باستعراض بعض الفوائد التي أسفر عنها التعذيب حينما أجرته عدة دول, عربية وغير عربية, ثم اختتم مقالته بما يلي: إننا لا نستطيع جعل التعذيب الجسدي قانونيا, فذلك يتنافي مع المباديء الأمريكية( ؟!) ولكننا عندما نتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان في العالم, فلابد أن نفتح أعيننا علي بعض الإجراءات لمحاربة الإرهاب, مثل موافقة المحكمة علي التعذيب النفسي خلال الاستجواب, ثم أنه يجب أن نفكر في تحويل بعض المتهمين إلي حلفائنا الأقل حساسية, حتي لو كان ذلك يبدو نفاقا(!).
[5]
لم تترك الولايات المتحدة شيئا مما كانت تأخذه علي دول العالم الثالث لم تفعله, صحيح أن ثمة اختلافات كبيرة في أمور أخري, ولكن في الشق الأمني الذي يمارس باسم مكافحة الإرهاب, فإن أداء الإدارة الأمريكية لم يختلف عما عليه الحال في الانتهاكات التي يشهدها العالم الثالث إلا في الدرجة فقط. أما النوع فقد بقي واحدا!
علق ويليام سافاير علي قرارات الحكومة الأمريكية قائلا: في قراره سييء السمعة إعلان حالة الطواريء, تجاهل بوش مباديء القانون والقواعد التي تحكم الأدلة, والتي هي في صميم نظام العدالة الأمريكي, لقد استولي علي سلطات عدة ليتجنب المحاكم, وأنشأ محكمة عسكرية يتولاها مجموعة من الضباط بوسعهم محاكمة أي شخص لمجرد الزعم بأنهم أعضاء في منظمات إرهابية... ولم تعد السلطة القضائية وهيئة المحلفين المستقلة حاجزا بين الحكومة والمتهم, والسلطة التنفيذية هي الآن المحقق والمدعي والقاضي, وهيئة المحلفين, والسجان والجلاد.
في ذات الاتجاه, كتبت داناميل بابنك في الواشنطن بوست( عدد11/20) قائلة: إن هجمات سبتمبر الإرهابية والحرب في أفغانستان عجلت باندفاع إدارة بوش لتعزيز الصلاحيات الرئاسية, معطية إياه سيطرة علي الحكومة تتجاوز تلك التي تمتع بها أي رئيس في مرحلة مابعد فضيحة ووترجيت, وتنافس حتي تلك التي كانت لدي الرئيس روزفلت, نتيجة لذلك, ذكر تيم لينش مدير مشروع دراسات العدالة الجنائية في معهد كاتو, إن السلطات التي يتمتع بها الرئيس بوش اليوم مدهشة, ففرد واحد سيقرر هل توسع الحرب لتشمل العراق, وفرد واحد سيقرر مدي الخصوصيات التي سيحتفظ بها المواطنون.
[6]
بريطانيا سارت علي ذات الدرب, فقد بدأت بإعلان حالة الطواريء وأدخلت تعديلات علي قانون مكافحة الإرهاب, وطلب وزير الداخلية ديفيد بلانكيت من مجلس العموم, أن تعلق مؤقتا المادة الخامسة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان, التي تمنح الحرية لأي شخص, وتمنع اعتقاله بدون محاكمة.
أخطر ما في التعديل الذي أضيف الي قانون مكافحة الإرهاب, انه يسمح باعتقال المشتبه فيهم من الأشخاص الذين يشك في علاقتهم بالمنظمات الإرهابية لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد دون محاكمة, وهؤلاء يودعون في سجون خاصة تحت حراسة مشددة, ولسلطات الهجرة أن تراجع موقفهم كل ستة أشهر, وإما أن توصي بإطلاقهم أو استمرار حبسهم لستة أشهر أخري.
حينما نوقش وزير الداخلية في الموضوع, قال في ندوة تليفزيونية إنه لايمكن أن نعرض أمتنا للخطر, مقابل افتراض حسن النية في الجميع, والتمسك بالحريات المدنية, وأضاف أن الإجراءات التي تم اعتمادها استثنائيا, وستستخدم ضد مهاجرين من بلدان يمنع القانون الأوروبي إعادتهم إليها, لأنها تطبق عقوبة الإعدام.
وفي تعليقه علي التعديل وعلي كلام الوزير, قال جون وادهام مدير منظمة ليبرتي: إن هذه الخطوة تمثل خرقا جوهريا لسيادة القانون, ولحقوقنا وقيمنا البريطانية.
هذا الذي حدث في الولايات المتحدة وبريطانيا, طبق بدرجة أو بأخري في ألمانيا, وبسبيله إلي التطبيق في بقية الدول الأوروبية, الأمر الذي يعكس ـ لأول مرة ـ هرولة غريبة باتجاه العالم الثالث في انتهاكات لحقوق الإنسان, ويعكس في الوقت نفسه, ذلك المفهوم الذي ساد في بعض الدوائر الأوروبية في القرن التاسع عشر القاضي بأن حقوق الإنسان هي ليست لكل من هب ودب في العالم, وإنما هي في حقيقة الأمر للإنسان الأبيض وحده, وهو ما أعلنه صراحة رئيس الوزراء الفرنسي جول فيري في عام1885.
مرحبا بالوافدين الجدد الي منتدي العالم الثالث!
لا تسعدنا بحال, تلك التقارير التي تلقيناها من العواصم الغربية في الآونة الأخيرة, مشيرة الي أن بعض الدول الكبري بصدد الانتساب إلي العالم الثالث, وأنها استوفت أوراق اعتمادها باتخاذ خطوات فعالة علي صعيد الاعتداء علي الحريات المدنية وتقنين القمع, وقد كان آخر ما يخطر علي بال المرء, أن تلجأ تلك البلدان التي مابرحت تعيرنا به, وتتباهي أمامنا بأنها قلاع الحرية والديمقراطية, إلي أساليب من ذلك القبيل, تأثرا بصدمة الحادي عشر من سبتمبر, الأمر الذي يعني ـ عند الحد الأدني ـ أنها ليست محصنة ضد رياح البطش, وأن استعدادها لافتراس الآخر لا حدود له, وأن ما تطنطن به دفاعا عن حقوق الانسان ليس آخر كلام!
[1]
لم أصدق عيني حيث قرأت ذات صباح, أن أحد زعماء الأحزاب في الدنمارك, طالب أثناء الانتخابات التي جرت هناك في الأسبوع الماضي, ببيع الفتيات الدنماركيات المسلمات أو المقيمات بصفة غير شرعية في البلاد إلي إحدي دول أمريكا اللاتينية, ثم بإقامة معسكرات اعتقال يوضع فيها المهاجرون المسلمون, تمهيدا لتطهير البلاد منهم, وطردهم إلي خارج حدودها!
هذا الكلام قيل في بلد ديمقراطي محترم, وسمعه كثيرون من السياسيين والمثقفين, لكنه لم يثر حفيظة أحد منهم, بل بدا أن ثمة قبولا عاما له, بدليل أن اليمين الدنماركي الذي يتبني أمثال تلك المقولات, حقق فوزا كبيرا في الانتخابات, وتولي السلطة بناء علي ذلك, وهي التي تمنعت عليه طيلة سبعين عاما.
لم أصدق أيضا تلك التقارير التي تحدثت عن التفهم الأمريكي لعمليات القتل والتعذيب الوحشية, التي ارتكبتها قوات التحالف الشمالي في مزار شريف وكابول وقندوز, كما أنني لم أصدق التصريحات الأمريكية التي حبذت التخلص من المقاتلين الأجانب في صفوف طالبان, والتي لا تعني سوي الاجهاز عليهم بأي وسيلة, ذلك أن المرء لا يستطيع أن يكتم دهشته إزاء تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد, وإعلانه صراحة رفض قبول أسري من عناصر القاعدة, وهي التصريحات التي كانت تعبيرا عن موقف أمريكي حال دون توقيع الاتفاق بين قوات طالبان المحاصرة في المدينة, وبين قيادة التحالف الشمالي.
هذا الكلام لو صدر عن مسئول في حكومة بوروندي أو زائير, لاستهجنه العالم المتحضر, ولأدانته مختلف المنظمات الدولية المختصة بحقوق الإنسان, باعتباره يمثل انتهاكا للقانون الدولي ولميثاق جنيف الخاص بمعاملة سجناء الحرب, الصادر في سنة1949 م, ذلك أن مباديء القانون الدولي تحرم قتل الأشخاص الذين يقعون في الأسر, وقد حوكم رئيس وزراء اليابان ووزير الخارجية وحملا بالمسئولية الجنائية بعد الحرب العالمية الأولي, لأنهما أخفقا في منع أو معاقبة الجرائم التي ارتكبتها القوات اليابانية ضد أسري الحرب, واعتمد المبدأ نفسه في محاكمة رئيس وزراء رواندا السابق كامباندا, حيث حمل بالمسئولية عن الجرائم التي ارتكبت في البلاد سنة1994.
[2]
إن قواعد القانون الدولي تعرض للمساءلة الجنائية, كل المسئولين الأمريكيين والانجليز الذين حرضوا علي التخلص من الأسري, أو علموا بالمذابح التي ارتكبت بحقهم وتقاعسوا عن ايقافها في حين كان ذلك بمقدورهم, لكن تلك القواعد لا تطبق إلا علي المهزومين والضعفاء فقط, أما الدول الكبري الأعضاء في مجلس الأمن, والذين ينصبون أنفسهم أوصياء علي الشرعية الدولية, فهم فوق القانون وفوق الحساب!
لقد أعلن قادة قوات التحالف الشمالي, أنهم سوف يسمحون لقوات طالبان المحاصرة بالخروج لكنهم سيقتلون كل الكلاب العرب والشيشان والباكستانيين الذين يحاربون معهم ـ( الحياة اللندنية11/21) ـ وهو كلام استقبل بصمت في بعض العواصم الأوروبية, وبارتياح في عواصم أخري, وكانت واشنطن ولندن من تلك العواصم الأخيرة للأسف, وذهبت هباء تحذيرات مفوضة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة, ماري روبنسون, واحتجاجات بعض الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان, لسببين جوهريين, أولهما أن المذابح تمت تحت رعاية الولايات المتحدة, وثانيهما إن دم المسلمين رخيص وأرواحهم لا بواكي لها!
ثمة لغة ومعايير جديدة, برزت في ظل الانقلاب الكوني الذي أعقب صدمة الحادي عشر من سبتمبر, وجاء بيانه الأول من واشنطن معلنا علي الملأ أنه: من ليس معنا فهو مع الإرهاب, وليس هناك موقف ثالث, وفي أعقاب ذلك البيان, قررت واشنطن أن تتولي بنفسها إجراء الفرز وتحديد الأخيار والأشرار في العالم, فأصدرت أوامرها بإلقاء القبض علي أناس يعيشون في مختلف أنحاء العالم, وكان لهم ما أرادوا, وقررت تجميد أموال آخرين, أشخاص وجمعيات وشركات, وكلهم من أبناء الدول العربية والإسلامية, وفي بعض الأقطار أرسلت رجالها كي يراقبوا الداخلين والخارجين من المطارات والموانيء, وتم لهم أيضا ما أرادوا, وطلبت من الجامعات الأوروبية أن توافيها بأسماء وملفات الدارسين العرب والمسلمين فيها, ولم يتأخر أحد في الاستجابة للطلب, ولم يقف الأمر عند ذلك الحد.. لأن الذي حدث في الداخل كان شيئا غير مسبوق.
[3]
يتحدث البعض في الولايات المتحدة عن زحف كابوس الفاشية علي البلاد, وعودة المكارثية بأجوائها القمعية ومشاعر الخوف التي أشاعتها بين الناس بين عامي46 و52, وحتي لا يظن أحد أن الكلام فيه شيء من المبالغة, فإنني ألفت النظر إلي أن الكلام عن احتمالات الفاشية في الولايات المتحدة, كان موضوع مقالة كتبها القس المعمداني كرستن هو لمجرين, كان عنوانها: كابوس الفاشية خطر حقيقي علي أمريكا بأكثر مما نتصور, وهذا المعني ردده كاتب مرموق مثل ويليام سافاير في مقالة أخري بعنوان: تحذير اليمين من مراكمة المزيد من الصلاحيات الديكتاتورية, وفي السياق بدأ بعض المعلقين يتحدثون عن الرئاسة الامبراطورية التي يحاول الرئيس بوش ممارستها, وكان المؤرخ آرثر شيليسنجر قد صك هذا المصطلح في عام73 لوصف محاولات الرئيس نيكسون توسيع صلاحياته, وتمكينه من تحدي السلطة التشريعية.
من أهم الخطوات التي تم اتخاذها بالولايات المتحدة في أعقاب11 سبتمبر ما يلي:
* إعلان الطواريء: وإصدار قانون يسمح بإلقاء القبض علي أي إنسان من الاعراق الأخري بطبيعة الحال, واحتجازه لمدد طويلة غير محددة, دون توجيه اتهام أو مواجهته بأدلة احتجازه, وبمقتضي ذلك القانون, تم احتجاز1200 شخص, لم تعرف أسماؤهم, ولا التهم الموجهة إليهم, وحين وجه سبعة من أعضاء الكونجرس رسالة إلي جون اشكروفت( المدعي العام) طلبوا فيها معلومات عن المعتقلين, فإنه لم يرد عليهم, وحين بعثت إليه المجموعة ذاتها بخطاب متابعة ثان, فإنه تجاهلهم أيضا, ورفض أن يقدم عن المعتقلين أي معلومات.
* صدر أمر لمكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحقيق مع أكثر من خمسة آلاف شخص, تتراوح أعمارهم بين18 و35 سنة, وغالبيتهم من أصحاب البشرة السمراء شرق الأوسطيين والمسلمين, كما يقول أحد الصحفيين, وهو نوع من الاستهداف العرقي الصريح المخالف للقانون والدستور.
* صدر أمر رئاسي بتشكيل محكمة عسكرية تقوم بمحاكمة المتهمين بأعمال إرهابية, بدلا من المحاكم المدنية العادية, وهي خطوة غير مسبوقة لم تحدث منذ50 سنة, وستعتمد تلك المحاكم علي حفنة من الضباط, يتولون حفظ المعلومات والإشراف علي التحقيقات, وسيكون بوسع المحكمة في هذه الحالة الانتقال الي خارج البلاد, أي أنها ستعمل في داخل الولايات المتحدة وخارجها.
* خولت السلطات الأمنية, فضلا عن حرية التفتيش والاحتجاز, حق التنصت علي الهواتف والبريد الالكتروني للأفراد الذين يشك فيهم, كما أنها أجازت التنصت علي مكالمات المحامين مع موكليهم الموقوفين, بمن فيهم أولئك الذين أوقفوا بدون أن توجه إليهم تهمة بارتكاب أية جناية كلما كان ذلك ضروريا لمنع الإرهاب.
[4]
نشرت الفايننشيال تايمز( عدد10/30) تقريرا تحدثت فيه عن المعاملة السيئة التي يلقاها العرب المحتجزون في الولايات المتحدة, ونقلت عن بيان لمنظمة العفو الدولية قوله: إن المحتجزين لم يسمح لهم بالاتصال بمحاميهم, وهو الحق الذي يكفله الدستور الأمريكي للجميع, ثم أن هؤلاء ـ في مركز نيويورك الرئيسي ـ قدم إليهم طعام مما يحرمه عليهم دينهم( لحم خنزير), كما تم احتجازهم داخل زنزانات باردة, لم تتوافر لهم فيها أغطية كافية, فضلا عن إخضاعهم للتفتيش الذاتي مرتين في اليوم الواحد, مع تقييد أيديهم وأرجلهم بالأغلال.
هذه الأوضاع اليائسة نددت بها المنظمات المدافعة عن الحقوق المدنية, ووصفتها منظمة العفو الدولية بأنها تعد في نواح كثيرة, أسوأ من الطريقة التي يعامل بها المدانون بارتكاب جرائم جنائية, في حين أنهم مجرد محتجزين دون أي اتهام!
لكن ذلك كله في كفة, والدعوة إلي استخدام التعذيب مع المحتجزين أو المتهمين في كفة أخري, إذ بعدما أجاز مجلس الشيوخ قانون مكافحة الإرهاب بأغلبية98 صوتا مقابل صوت واحد, بدأ الحديث عن استخدام وسائل الضغط والتعذيب بدعوي تحريك التحقيقات التي لم تتقدم في أكبر جريمة في تاريخ الولايات المتحدة, كما ذكرت نيوزويك في عدد10/6, حيث نشرت مقالا فاضحا ـ من الناحية التاريخية ـ كان عنوانه حان وقت التفكير في استخدام التعذيب.
كاتب المقال ـ جوناثان آلتر ـ استشهد بالإسرائيليين وما سماه أخلاقيات التعذيب عندهم(!), وكيف أنهم اضطروا إلي إجازته في نهاية المطاف, بعد إذن القاضي, كما استشهد بأستاذ للقانون في جامعة هارفارد ـ اسمه ألن ديرشوفيتش ـ زعم أنه ظل معارضا لتعذيب المتهمين طيلة عشرين عاما, لكنه رضخ نسبيا في نهاية المطاف, وأقر بإمكانية التعذيب بعد موافقة القاضي, إذا كان القيام به ضروريا لخدمة التحقيق, وليس للحكم علي المتهم, وخلص الكاتب في النهاية, إلي أن بعض التعذيب قد ينجح ويحقق الهدف المراد منه, ودلل علي ذلك باستعراض بعض الفوائد التي أسفر عنها التعذيب حينما أجرته عدة دول, عربية وغير عربية, ثم اختتم مقالته بما يلي: إننا لا نستطيع جعل التعذيب الجسدي قانونيا, فذلك يتنافي مع المباديء الأمريكية( ؟!) ولكننا عندما نتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان في العالم, فلابد أن نفتح أعيننا علي بعض الإجراءات لمحاربة الإرهاب, مثل موافقة المحكمة علي التعذيب النفسي خلال الاستجواب, ثم أنه يجب أن نفكر في تحويل بعض المتهمين إلي حلفائنا الأقل حساسية, حتي لو كان ذلك يبدو نفاقا(!).
[5]
لم تترك الولايات المتحدة شيئا مما كانت تأخذه علي دول العالم الثالث لم تفعله, صحيح أن ثمة اختلافات كبيرة في أمور أخري, ولكن في الشق الأمني الذي يمارس باسم مكافحة الإرهاب, فإن أداء الإدارة الأمريكية لم يختلف عما عليه الحال في الانتهاكات التي يشهدها العالم الثالث إلا في الدرجة فقط. أما النوع فقد بقي واحدا!
علق ويليام سافاير علي قرارات الحكومة الأمريكية قائلا: في قراره سييء السمعة إعلان حالة الطواريء, تجاهل بوش مباديء القانون والقواعد التي تحكم الأدلة, والتي هي في صميم نظام العدالة الأمريكي, لقد استولي علي سلطات عدة ليتجنب المحاكم, وأنشأ محكمة عسكرية يتولاها مجموعة من الضباط بوسعهم محاكمة أي شخص لمجرد الزعم بأنهم أعضاء في منظمات إرهابية... ولم تعد السلطة القضائية وهيئة المحلفين المستقلة حاجزا بين الحكومة والمتهم, والسلطة التنفيذية هي الآن المحقق والمدعي والقاضي, وهيئة المحلفين, والسجان والجلاد.
في ذات الاتجاه, كتبت داناميل بابنك في الواشنطن بوست( عدد11/20) قائلة: إن هجمات سبتمبر الإرهابية والحرب في أفغانستان عجلت باندفاع إدارة بوش لتعزيز الصلاحيات الرئاسية, معطية إياه سيطرة علي الحكومة تتجاوز تلك التي تمتع بها أي رئيس في مرحلة مابعد فضيحة ووترجيت, وتنافس حتي تلك التي كانت لدي الرئيس روزفلت, نتيجة لذلك, ذكر تيم لينش مدير مشروع دراسات العدالة الجنائية في معهد كاتو, إن السلطات التي يتمتع بها الرئيس بوش اليوم مدهشة, ففرد واحد سيقرر هل توسع الحرب لتشمل العراق, وفرد واحد سيقرر مدي الخصوصيات التي سيحتفظ بها المواطنون.
[6]
بريطانيا سارت علي ذات الدرب, فقد بدأت بإعلان حالة الطواريء وأدخلت تعديلات علي قانون مكافحة الإرهاب, وطلب وزير الداخلية ديفيد بلانكيت من مجلس العموم, أن تعلق مؤقتا المادة الخامسة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان, التي تمنح الحرية لأي شخص, وتمنع اعتقاله بدون محاكمة.
أخطر ما في التعديل الذي أضيف الي قانون مكافحة الإرهاب, انه يسمح باعتقال المشتبه فيهم من الأشخاص الذين يشك في علاقتهم بالمنظمات الإرهابية لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد دون محاكمة, وهؤلاء يودعون في سجون خاصة تحت حراسة مشددة, ولسلطات الهجرة أن تراجع موقفهم كل ستة أشهر, وإما أن توصي بإطلاقهم أو استمرار حبسهم لستة أشهر أخري.
حينما نوقش وزير الداخلية في الموضوع, قال في ندوة تليفزيونية إنه لايمكن أن نعرض أمتنا للخطر, مقابل افتراض حسن النية في الجميع, والتمسك بالحريات المدنية, وأضاف أن الإجراءات التي تم اعتمادها استثنائيا, وستستخدم ضد مهاجرين من بلدان يمنع القانون الأوروبي إعادتهم إليها, لأنها تطبق عقوبة الإعدام.
وفي تعليقه علي التعديل وعلي كلام الوزير, قال جون وادهام مدير منظمة ليبرتي: إن هذه الخطوة تمثل خرقا جوهريا لسيادة القانون, ولحقوقنا وقيمنا البريطانية.
هذا الذي حدث في الولايات المتحدة وبريطانيا, طبق بدرجة أو بأخري في ألمانيا, وبسبيله إلي التطبيق في بقية الدول الأوروبية, الأمر الذي يعكس ـ لأول مرة ـ هرولة غريبة باتجاه العالم الثالث في انتهاكات لحقوق الإنسان, ويعكس في الوقت نفسه, ذلك المفهوم الذي ساد في بعض الدوائر الأوروبية في القرن التاسع عشر القاضي بأن حقوق الإنسان هي ليست لكل من هب ودب في العالم, وإنما هي في حقيقة الأمر للإنسان الأبيض وحده, وهو ما أعلنه صراحة رئيس الوزراء الفرنسي جول فيري في عام1885.
مرحبا بالوافدين الجدد الي منتدي العالم الثالث!