هويدي 20-11-2001
التحذير واجب من التسرع والخفة في قراءة الحدث الأفغاني. ففي حدود ما نعلم ـ مثلا ـ فإن الولايات المتحدة لم تحشد حشودها ولم تستخدم عضلاتها العسكرية, بما في ذلك القذيفة التي يصل وزن الواحدة منها إلي1500 رطل, لكي تمكن الناس في كابول من حلق لحاهم التي ألزمتهم حركة طالبان بإطالتها, أو لكي تنطلق الموسيقي من الإذاعة الأفغانية بعد طول احتباس, ولا حتي لكي تكون أفغانستان هي المسرح الذي تنفذ عليه الحلقة الرابعة من مسلسل رامبو. إنما الذي أرادته الولايات المتحدة شيء آخر لم يتحقق بعد, إذ طالمابقي أسامة بن لادن والملا عمر من الأحياء, لم يقبض عليهما أو لم يقض عليهما, فإن نتائج الحملة من وجهة النظر الأمريكية لن تزيد علي صفر.
(1)
بسبب من ذلك فإنني أدعو الذين اعتبروا سقوط كابول ومدن أخري انتصارا في الحرب, إلي أن يتريثوا قليلا, إلا إذا كان تهليلهم منصبا علي التحالف الشمالي الذي هو المستفيد الوحيد مما جري حتي الآن, ذلك أن ما يجري علي الأرض الأفغانية الآن معركتان لا معركة واحدة. الأولي يقودها الأمريكيون وهدفها بن لادن والملا عمر وأتباعهما. أما الثانية فهي معركة قوات التحالف الشمالي التي تريد أن تستعيد سلطانها الذي انتزعته منها حركة طالبان خلال زحفها علي كابول, الذي بدأ من قندهار في عام94, وحقق مراده بالاستيلاء علي العاصمة في عام96. صحيح أن ثمة علاقة بين الحربين, فالولايات المتحدة لكي تحقق مرادها وقفت وراء قوات التحالف الشمالي ومكنتها من أن تنجز خلال خمسة أسابيع ما عجزت عن تحقيقه في خمس سنوات. لكن من الصحيح أيضا أن قوات التحالف لها أجندة مختلفة, وإذا كان الأمريكيون قد استخدموهم, فإن ذلك لا ينفي أنهم بدورهم استخدموا الأمريكيين. والدليل علي ذلك أن الأمريكيين والأمم المتحدة طلبوا من قيادة التحالف ألا تدخل كابول قبل الاتفاق علي شكل الحكومة الجديدة, لكن القيادة لم تمتثل للطلب ودخلت العاصمة, وجاء برهان الدين رباني رئيس الجمهورية السابق لكي يباشر السلطة في المدينة.
الدليل الثاني أن الأمريكيين وحلفاءهم بالاتفاق مع الأمم المتحدة رتبوا أن تذهب قوات دولية إلي العاصمة, ووصلت بعض طلائع تلك القوات إلي مطار العاصمة فعلا, لكن قيادة التحالف أعلنت أنها ليست بحاجة إلي قوات دولية وأن ما هو متوافر منها في أطراف كابول غير مرحب به, وهو موجود علي غير رغبتنا.
لقد اعتبر الأمريكيون أن إسقاط نظام طالبان خطوة باتجاه تضييق الخناق علي الرجلين بن لادن والملا عمر وأتباعهما, تمهد للانقضاض عليهما, ومن ثم لبلوغ الهدف الأول للعملية العسكرية. لذلك فإن الأمريكيين لا يزال أمامهم مجهود آخر عليهم أن يبذلوه لبلوغ هدفهم. ومن المفارقات في هذا الصدد أن بعض الصحف العربية وصفت ما تحقق حتي الآن بأنه انتصار, بينما نقلت وكالة رويتر علي لسان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير( في11/15) قوله: إن أهدافنا لم تتحقق بعد!
(2)
لقد ملأت صحف الأسبوع الماضي وتصدرت نشرات الأخبار العالمية صور بعض الأفغان في كابول وقد احتشدوا أمام أحد محال الحلاقة للتخلص من لحاهم, وصورة شاب أفغاني مبتهج يصافح فتاة كشفت عن وجهها, في لقطة أخري من لقطات إزالة آثار العدوان الطالباني, وشاب آخر فتح صدره فكشف عن قميص داخلي ارتداه ظهرت عليه صورة مطبوعة لفتاة جميلة, كان صاحبنا قد أخفاها في طيات ثيابه في ظل النظام البائد. وبشرتنا التقارير الصحفية بأن الأصوات النسائية عادت إلي الإذاعة, وأن الموسيقي أصبحت تصدح في أرجاء العاصمة, وأن الشباب لم يخفوا فرحتهم بزوال الكابوس فلم يتوقفوا عن الغناء والرقص في الليلة الأولي لوصول قوات التحالف.
وليس من شك عندي في أن نظام طالبان ـبالحماقات العديدة التي ارتكبها ومنها تدخله في سلوكيات الناس وحياتهم الشخصيةـ ظل يمثل عبئا علي المجتمع. وكنت أحد الذين كتبوا في عام98 أنهم فعلوا كل ما ينبغي أن يتجنبه دعاة المشروع الإسلامي, وأن النظام الذي أقاموه لا تتوافر له مقومات الاستمرار, ومن ثم فإنه مؤقت في كل أحواله. ولا أخفي أنني ما تمنيت أن يسقط النظام بالصواريخ الأمريكية. كما لم يخطر علي بالي يوما ما أن يكون الآتون هم أنفسهم أركان النظام الذي انقلبت عليه طالبان وطردته من كابول من قبل. بل اعتقدت أن طالبان يمثلون مرحلة انتقالية تفتح الطريق لعودة الاستقرار إلي ذلك البلد الشجاع والعنيد, والمعتز بدينه أبدا.
بعد الذي صار فقد أصبحنا مطالبين ليس فقط بتجنب التسرع والخفة في قراءة الحدث الأفغاني, ولكن أيضا بالتسلح بالحيطة والحذر. لأن الأخبار والصور التي تخرج من هناك كلها موجهة, وتحت السيطرة الغربية منذ دخلت قوات التحالف, وامتلأت العاصمة والمدن الرئيسية بالمراسلين الغربيين. وهم الذين تصورا ـ مثلا ـ أن مشكلة أفغانستان تكمن في اللحية والبرقع الذي يغطي الوجه, غير عارفين بأن تلك هيئة الأفغاني العادي خارج العاصمة ـ والعواصم في بلادنا لها وضع خاص ـ والذين زاروا أفغانستان قبل حكم المجاهدين أو الطالبانيين ـ أي في المرحلة الشيوعية أو الملكية, وقد كنت واحدا منهم, يدركون ذلك جيدا, فلم يكن في قندهار أو أوزجان رجل غير ملتح, ولم تكن هناك امرأة كاشفة الوجه, وحماقة جماعة طالبان أنها ألزمت الناس جميعا بتقاليد هذه الهيئة, وأنها نسبت موقفها إلي المرجعية الشرعية والدينية.
مفهوم أن تحاول بعض الأبواق تصوير كل التحولات التي تحدث علي أيديهم بحسبانها انتصارا, وهي بحاجة إلي ذلك بعدما طال انتظار الناس لثمار حملتهم العسكرية, وبدأ البعض يتململون ويتظاهرون ضد الحرب, لذلك نفهم لماذا هللوا لحلق اللحي ونزع البراقع وبث الموسيقي, ولماذا أيضا سكتت عن الفظائع الوحشية التي ارتكبتها القوات القادمة من الشمال علي الأرض. لكن الذي يتعذر فهمه هو سهولة استسلامنا للخطاب الإعلامي الغربي الذي يريد أن يصور الحاصل بحسبانه معركة بين الخير والشر, وأن أي شيء غير جماعة طالبان الأشرار هو خير وبركة!
(3)
في الدراسة التي نشرت لي في أول الشهر الحالي بمجلة وجهات نظر, قلت إن نظام طالبان سقط بالفعل, وإن الأمريكيين بما فعلوه بحقهم قدموا لهم خدمة من حيث لا يحتسبون, ذلك أن النظام كان قد وصل إلي درجة من الانسداد السياسي, لم يكن أمامه مخرج منها.
إذ كان قد وصل إلي مرحلة الجمود أو الإفلاس, بحيث إنه لم يعد قادرا علي أن يقدم شيئا للبلد الذي يتحكم بمقدراته منذ خمس سنوات, ذلك أنهم بعدما أعادوا الاستقرار إلي البلاد في عام96, لم يستطيعوا أن يتقدموا خطوة واحدة إلي الأمام, وحين جاء القصف الأمريكي في السابع من أكتوبر الماضي فإنه أعفاهم من مسئولية الدولة, وأتاح لهم أن يقوموا بالمهمة الجهادية التي يعرفون عنها أكثر مما يعرفون عن السياسة والإدارة, وبدلا من أن ينتهوا سياسيين فاشلين, فقد توافرت لهم الفرصة لكي يعودوا مجاهدين أو ينتهوا شهداء, وهذه نهاية أفضل بمراحل من الأولي.
هناك احتمالات عدة أمام طالبان الآن, أن يقتل الملا عمر فتنحل الحركة, التي ليس لها رجل ثان يرشح لخلافته, إذ بمقتله ينفرط العقد وتتشرذم الحركة, حيث تعود بعض عناصرها إلي الأحزاب التي جاءت منها, وأهمها الحزب الإسلامي بقيادة المولوي محمد يونس خالص, وحزب الانقلاب الإسلامي بقيادة مولوي محمد نبي محمدي.
الاحتمال الثاني أن يظل الملا عمر ورجاله معتصمين بالجبال ومحتمين ببعض القبائل البشتونية والجماعات الباكستانية المؤيدة لهم, وبذلك يصبحون شوكة في خاصرة النظام الجديد, وسيمثل الاختلاف بين عناصر التحالف أو الاقتتال غير المستبعد بينها ـ الذي سنتحدث عنه لاحقا ـ عنصر قوة لهم. كما أن سلوك النظام الجديد في كابول قد يعزز من موقف طالبان, خصوصا إذا لم يراع ذلك النظام مشاعر المتدينين المحافظين وهم الأغلبية في البلاد, إذ أن استفزاز تلك المشاعر من شأنه أن يوسع من دائرة السخط علي الوضع الجديد, ولا ننسي أن المدارس الدينية في مناطق الحدود الجنوبية لأفغانستان مازالت حافلة بأجيال من الشباب لا يختلفون عن الطالبانيين في شيء, وهذه المدارس عددها الآن نحو700 مدرسة, لو أن في كل واحدة منها70 تلميذا لوجدنا أن هناك نصف مليون شاب مرشحون للحاق بالطالبانيين في الجبال.
الاحتمال الثالث أن ينقلب البشتون علي طالبان, سواء بسبب الحساسيات القبلية, حيث لم تكن عدة قبائل سعيدة باحتكار القندهاريين للسلطة, أو نتيجة لمحاولات الأمريكيين والشمال شراء زعماء القبائل بملايين الدولارات, الأمر الذي سيجعل الحركة بلا أنصار, مما يسهل للأمريكيين الانقضاض عليها.
الاحتمال الرابع الذي يقوم علي حدوث انشقاق داخل طالبان, بين المعتدلين والمتطرفين, استبعد في الأغلب, لأن فكرة إشراك المعتدلين في الحكومة الجديدة تلقي معارضة قوية من جانب إيران وروسيا, والامريكتين, وبعد أن تراجع نفوذهم علي الأرض فلم يعد التحالف يهتم بإشراكهم في السلطة, خصوصا أن أمامه بدائل بشتونية أخري يمكن المراهنة عليها.
ذلك كله يفترض أن الوضع في باكستان ثابت ولم يتغير, أما إذا حدث أي انقلاب في الوضع السياسي الباكستاني, وهو ليس مستبعدا بعدما استولي التحالف الشمالي علي كابول, مما أضعف من موقف الرئيس مشرف كثيرا, وانعكس ذلك علي انتقادات الصحف الباكستانية له. إذا حدث ذلك الانقلاب فإن المعادلة ستتغير لمصلحة طالبان بدرجة كبيرة, ولو في المدي القصير.
الخلاصة أنه إذا لم يحدث تغير سياسي كبير في باكستان, فإن احتمالات استمرار طالبان ضعيفة, ولن تتركها الولايات المتحدة تمر, لأن في ذلك هزيمة لها لن تقبل بها.
(4)
المشكلة ليست في طالبان وحدها, وإنما في النظام البديل لها, أولا لأن الخصومات كبيرة بين جماعات التحالف نفسها, وثانيا لأن الدول المحيطة بأفغانستان ليست علي رأي واحد بالنسبة لشكل النظام الجديد, وإنما لها رؤاها المتعارضة, وثالثا لأنه إذا تم قتل أسامة بن لادن والملا عمر, فلن تكترث الولايات المتحدة بمصير أفغانستان, وستتركها لصراعات أهلها, ولن يعنيها استقرار البلد أو احتراقه.
إن قيادة التحالف الشمالي الآن معقودة للرئيس برهان الدين رباني, وهو طاجيكي, وأغلب المحيطين به من الطاجيك, بينما أفغانستان يحكمها البشتون منذ تأسيس الدولة في القرن الثامن عشر وطيلة القرنين الماضيين.
من ناحية أخري فإن التحالف قائم أساسا علي الأقليات, خصوصا الطاجيك والأوزبك والشيعة الهزارة والإسماعيلية, أما البشتون الذين يمثلون الأغلبية فليسوا ممثلين بشكل كاف فيه, رغم أن نسبتهم45% من السكان. ولا ننسي أن طالبان نجحت في تحركها عام94 لأن زعماء المجاهدين ظلوا يتقاتلون فيما بينهم طيلة سنتين كاملتين: قلب الدين حكمتيار البشتوني من ناحية, ورباني وأحمد شاه مسعود الطاجيكيان من ناحية ثانية, والجنرال عبدالرشيد دوستم الأوزبكي من ناحية ثالثة, وحزب الوحدة الشيعي من ناحية رابعة, وإسماعيل خان الإسماعيلي من ناحية خامسة.
هذه المرارات القديمة لم تنمح, لكن آثارها مازالت باقية, وما جمع بين تلك الفئات جميعها سوي أن حركة طالبان خلعتهم وانتزعت السلطة من أيديهم, فتحالفوا ليس لأنهم متآلفون, ولكن لأنهم تأذوا من صعود طالبان, من ثم فخصومتهم لطالبان طغت علي الحزازات القائمة بينهم, وزوال تلك الخصومة كفيل بإظهار الحزازات علي السطح مرة أخري.
لقد كان برهان الدين رباني أول القادة الواصلين إلي كابول في الأسبوع الماضي, فتولي تسيير الأمور مؤقتا. وجاءت عناصر حزب الوحدة الشيعي فأقامت حاجزا عند حي الشيعة في العاصمة, وقالت التقارير الصحفية: إن هناك قوات أخري تابعة للتحالف الشمالي في طريقها إلي كابول, التي سيحاول الأوزبك أخذ حصتهم منها, الأمر الذي سيعرض المدينة للتقسيم, ولن يسكت البشتون بطبيعة الحال, وهم الذين سيصرون علي أن يفوزوا بالحصة الأكبر, وسيقاتلون دون ذلك لاريب.
ذلك في داخل العاصمة وحدها. أما ما يحدث خارجها فهو شيء مماثل, بمعني أن كل حاكم أو قائد زعيم قبيلة في منطقة, سوف يحاول الاستئثار بها, كما حدث في مزار شريف وجلال أباد مثلا, الأمر الذي سيفتح الباب لإشاعة الفوضي في البلاد.
(5)
موقف الجيران لا يمكن تجاهله في المشهد, فباكستان تعارض أي حكومة في كابول غير موالية لها أو متفاهمة معها, لذك فهي بالمطلق ضد حكومة رباني والطاجيك. والهند متعاطفة مع الطاجيك, ومع أي حكومة تزعج باكستان. إيران مؤيدة للطاجيك وداعمة للشيعة. روسيا مرحبة بهم أيضا, وقد سارعت إلي تأييد حكومتهم علي نحو أزعج الأمريكان. أوزبكستان تقف وراء الجنرال دوستم قائد ميليشيات الأوزبك.
الملك ظاهر شاه رغم أنه بشتوني وتقف وراءه الولايات المتحدة والدول الغربية والأمم المتحدة, فإن كبر سنه واعتلال صحته هما مصدر ضعفه الأول, لأن الجميع يعرفون أن الرجل لن يحكم, لكن الذي سيحكم هم مستشاروه وأبناؤه. في الوقت نفسه فباكستان تعارض عودته, لأنه كان علي علاقة سيئة بها ويعتبرها محتلة لأراضي بشتونستان. والرئيس رباني غير مرحب به, لأنه وفريقه يقولون إن أفغانستان لم تحارب طيلة الفترة الماضية لكي تعود الملكية مرة أخري.
في الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة لا تثق كثيرا في رباني وحكمتيار, والأخير هاجم التدخل الأمريكي, وحاول أن يجمع البشتون من حوله, وطلب لذلك مساعدات من بعض الدول العربية و الإسلامية لكنه لم ينجح في محاولته.
أما الإشكال الكبير في الوضع الجديد فيكمن في أنه سيظل في كل أحواله محسوبا علي الحملة العسكرية الأمريكية, الأمر الذي سيجعله محلا للشبهة والاتهام. لذلك فإن الذين حققوا أي إنجاز بواسطة الأمريكان تحولوا إلي ضائقين بهم ومتبرمين من وجودهم في اللحظة التي قعدوا فيها علي مقاعدهم, وصعدوا بأقدامهم علي سلم السلطة من جديد.
وفي ظل وفرة السلاح في أيدي الجميع, فما أسرع أن يسحب كل فصيل سلاحه لكي يعزز موقفه ويرفع حصته ويحقق تطلعاته, الأمر الذي يرشح كلمة الفوضي لكي تكون عنوانا عريضا لأفغانستان القادمة.
التحذير واجب من التسرع والخفة في قراءة الحدث الأفغاني. ففي حدود ما نعلم ـ مثلا ـ فإن الولايات المتحدة لم تحشد حشودها ولم تستخدم عضلاتها العسكرية, بما في ذلك القذيفة التي يصل وزن الواحدة منها إلي1500 رطل, لكي تمكن الناس في كابول من حلق لحاهم التي ألزمتهم حركة طالبان بإطالتها, أو لكي تنطلق الموسيقي من الإذاعة الأفغانية بعد طول احتباس, ولا حتي لكي تكون أفغانستان هي المسرح الذي تنفذ عليه الحلقة الرابعة من مسلسل رامبو. إنما الذي أرادته الولايات المتحدة شيء آخر لم يتحقق بعد, إذ طالمابقي أسامة بن لادن والملا عمر من الأحياء, لم يقبض عليهما أو لم يقض عليهما, فإن نتائج الحملة من وجهة النظر الأمريكية لن تزيد علي صفر.
(1)
بسبب من ذلك فإنني أدعو الذين اعتبروا سقوط كابول ومدن أخري انتصارا في الحرب, إلي أن يتريثوا قليلا, إلا إذا كان تهليلهم منصبا علي التحالف الشمالي الذي هو المستفيد الوحيد مما جري حتي الآن, ذلك أن ما يجري علي الأرض الأفغانية الآن معركتان لا معركة واحدة. الأولي يقودها الأمريكيون وهدفها بن لادن والملا عمر وأتباعهما. أما الثانية فهي معركة قوات التحالف الشمالي التي تريد أن تستعيد سلطانها الذي انتزعته منها حركة طالبان خلال زحفها علي كابول, الذي بدأ من قندهار في عام94, وحقق مراده بالاستيلاء علي العاصمة في عام96. صحيح أن ثمة علاقة بين الحربين, فالولايات المتحدة لكي تحقق مرادها وقفت وراء قوات التحالف الشمالي ومكنتها من أن تنجز خلال خمسة أسابيع ما عجزت عن تحقيقه في خمس سنوات. لكن من الصحيح أيضا أن قوات التحالف لها أجندة مختلفة, وإذا كان الأمريكيون قد استخدموهم, فإن ذلك لا ينفي أنهم بدورهم استخدموا الأمريكيين. والدليل علي ذلك أن الأمريكيين والأمم المتحدة طلبوا من قيادة التحالف ألا تدخل كابول قبل الاتفاق علي شكل الحكومة الجديدة, لكن القيادة لم تمتثل للطلب ودخلت العاصمة, وجاء برهان الدين رباني رئيس الجمهورية السابق لكي يباشر السلطة في المدينة.
الدليل الثاني أن الأمريكيين وحلفاءهم بالاتفاق مع الأمم المتحدة رتبوا أن تذهب قوات دولية إلي العاصمة, ووصلت بعض طلائع تلك القوات إلي مطار العاصمة فعلا, لكن قيادة التحالف أعلنت أنها ليست بحاجة إلي قوات دولية وأن ما هو متوافر منها في أطراف كابول غير مرحب به, وهو موجود علي غير رغبتنا.
لقد اعتبر الأمريكيون أن إسقاط نظام طالبان خطوة باتجاه تضييق الخناق علي الرجلين بن لادن والملا عمر وأتباعهما, تمهد للانقضاض عليهما, ومن ثم لبلوغ الهدف الأول للعملية العسكرية. لذلك فإن الأمريكيين لا يزال أمامهم مجهود آخر عليهم أن يبذلوه لبلوغ هدفهم. ومن المفارقات في هذا الصدد أن بعض الصحف العربية وصفت ما تحقق حتي الآن بأنه انتصار, بينما نقلت وكالة رويتر علي لسان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير( في11/15) قوله: إن أهدافنا لم تتحقق بعد!
(2)
لقد ملأت صحف الأسبوع الماضي وتصدرت نشرات الأخبار العالمية صور بعض الأفغان في كابول وقد احتشدوا أمام أحد محال الحلاقة للتخلص من لحاهم, وصورة شاب أفغاني مبتهج يصافح فتاة كشفت عن وجهها, في لقطة أخري من لقطات إزالة آثار العدوان الطالباني, وشاب آخر فتح صدره فكشف عن قميص داخلي ارتداه ظهرت عليه صورة مطبوعة لفتاة جميلة, كان صاحبنا قد أخفاها في طيات ثيابه في ظل النظام البائد. وبشرتنا التقارير الصحفية بأن الأصوات النسائية عادت إلي الإذاعة, وأن الموسيقي أصبحت تصدح في أرجاء العاصمة, وأن الشباب لم يخفوا فرحتهم بزوال الكابوس فلم يتوقفوا عن الغناء والرقص في الليلة الأولي لوصول قوات التحالف.
وليس من شك عندي في أن نظام طالبان ـبالحماقات العديدة التي ارتكبها ومنها تدخله في سلوكيات الناس وحياتهم الشخصيةـ ظل يمثل عبئا علي المجتمع. وكنت أحد الذين كتبوا في عام98 أنهم فعلوا كل ما ينبغي أن يتجنبه دعاة المشروع الإسلامي, وأن النظام الذي أقاموه لا تتوافر له مقومات الاستمرار, ومن ثم فإنه مؤقت في كل أحواله. ولا أخفي أنني ما تمنيت أن يسقط النظام بالصواريخ الأمريكية. كما لم يخطر علي بالي يوما ما أن يكون الآتون هم أنفسهم أركان النظام الذي انقلبت عليه طالبان وطردته من كابول من قبل. بل اعتقدت أن طالبان يمثلون مرحلة انتقالية تفتح الطريق لعودة الاستقرار إلي ذلك البلد الشجاع والعنيد, والمعتز بدينه أبدا.
بعد الذي صار فقد أصبحنا مطالبين ليس فقط بتجنب التسرع والخفة في قراءة الحدث الأفغاني, ولكن أيضا بالتسلح بالحيطة والحذر. لأن الأخبار والصور التي تخرج من هناك كلها موجهة, وتحت السيطرة الغربية منذ دخلت قوات التحالف, وامتلأت العاصمة والمدن الرئيسية بالمراسلين الغربيين. وهم الذين تصورا ـ مثلا ـ أن مشكلة أفغانستان تكمن في اللحية والبرقع الذي يغطي الوجه, غير عارفين بأن تلك هيئة الأفغاني العادي خارج العاصمة ـ والعواصم في بلادنا لها وضع خاص ـ والذين زاروا أفغانستان قبل حكم المجاهدين أو الطالبانيين ـ أي في المرحلة الشيوعية أو الملكية, وقد كنت واحدا منهم, يدركون ذلك جيدا, فلم يكن في قندهار أو أوزجان رجل غير ملتح, ولم تكن هناك امرأة كاشفة الوجه, وحماقة جماعة طالبان أنها ألزمت الناس جميعا بتقاليد هذه الهيئة, وأنها نسبت موقفها إلي المرجعية الشرعية والدينية.
مفهوم أن تحاول بعض الأبواق تصوير كل التحولات التي تحدث علي أيديهم بحسبانها انتصارا, وهي بحاجة إلي ذلك بعدما طال انتظار الناس لثمار حملتهم العسكرية, وبدأ البعض يتململون ويتظاهرون ضد الحرب, لذلك نفهم لماذا هللوا لحلق اللحي ونزع البراقع وبث الموسيقي, ولماذا أيضا سكتت عن الفظائع الوحشية التي ارتكبتها القوات القادمة من الشمال علي الأرض. لكن الذي يتعذر فهمه هو سهولة استسلامنا للخطاب الإعلامي الغربي الذي يريد أن يصور الحاصل بحسبانه معركة بين الخير والشر, وأن أي شيء غير جماعة طالبان الأشرار هو خير وبركة!
(3)
في الدراسة التي نشرت لي في أول الشهر الحالي بمجلة وجهات نظر, قلت إن نظام طالبان سقط بالفعل, وإن الأمريكيين بما فعلوه بحقهم قدموا لهم خدمة من حيث لا يحتسبون, ذلك أن النظام كان قد وصل إلي درجة من الانسداد السياسي, لم يكن أمامه مخرج منها.
إذ كان قد وصل إلي مرحلة الجمود أو الإفلاس, بحيث إنه لم يعد قادرا علي أن يقدم شيئا للبلد الذي يتحكم بمقدراته منذ خمس سنوات, ذلك أنهم بعدما أعادوا الاستقرار إلي البلاد في عام96, لم يستطيعوا أن يتقدموا خطوة واحدة إلي الأمام, وحين جاء القصف الأمريكي في السابع من أكتوبر الماضي فإنه أعفاهم من مسئولية الدولة, وأتاح لهم أن يقوموا بالمهمة الجهادية التي يعرفون عنها أكثر مما يعرفون عن السياسة والإدارة, وبدلا من أن ينتهوا سياسيين فاشلين, فقد توافرت لهم الفرصة لكي يعودوا مجاهدين أو ينتهوا شهداء, وهذه نهاية أفضل بمراحل من الأولي.
هناك احتمالات عدة أمام طالبان الآن, أن يقتل الملا عمر فتنحل الحركة, التي ليس لها رجل ثان يرشح لخلافته, إذ بمقتله ينفرط العقد وتتشرذم الحركة, حيث تعود بعض عناصرها إلي الأحزاب التي جاءت منها, وأهمها الحزب الإسلامي بقيادة المولوي محمد يونس خالص, وحزب الانقلاب الإسلامي بقيادة مولوي محمد نبي محمدي.
الاحتمال الثاني أن يظل الملا عمر ورجاله معتصمين بالجبال ومحتمين ببعض القبائل البشتونية والجماعات الباكستانية المؤيدة لهم, وبذلك يصبحون شوكة في خاصرة النظام الجديد, وسيمثل الاختلاف بين عناصر التحالف أو الاقتتال غير المستبعد بينها ـ الذي سنتحدث عنه لاحقا ـ عنصر قوة لهم. كما أن سلوك النظام الجديد في كابول قد يعزز من موقف طالبان, خصوصا إذا لم يراع ذلك النظام مشاعر المتدينين المحافظين وهم الأغلبية في البلاد, إذ أن استفزاز تلك المشاعر من شأنه أن يوسع من دائرة السخط علي الوضع الجديد, ولا ننسي أن المدارس الدينية في مناطق الحدود الجنوبية لأفغانستان مازالت حافلة بأجيال من الشباب لا يختلفون عن الطالبانيين في شيء, وهذه المدارس عددها الآن نحو700 مدرسة, لو أن في كل واحدة منها70 تلميذا لوجدنا أن هناك نصف مليون شاب مرشحون للحاق بالطالبانيين في الجبال.
الاحتمال الثالث أن ينقلب البشتون علي طالبان, سواء بسبب الحساسيات القبلية, حيث لم تكن عدة قبائل سعيدة باحتكار القندهاريين للسلطة, أو نتيجة لمحاولات الأمريكيين والشمال شراء زعماء القبائل بملايين الدولارات, الأمر الذي سيجعل الحركة بلا أنصار, مما يسهل للأمريكيين الانقضاض عليها.
الاحتمال الرابع الذي يقوم علي حدوث انشقاق داخل طالبان, بين المعتدلين والمتطرفين, استبعد في الأغلب, لأن فكرة إشراك المعتدلين في الحكومة الجديدة تلقي معارضة قوية من جانب إيران وروسيا, والامريكتين, وبعد أن تراجع نفوذهم علي الأرض فلم يعد التحالف يهتم بإشراكهم في السلطة, خصوصا أن أمامه بدائل بشتونية أخري يمكن المراهنة عليها.
ذلك كله يفترض أن الوضع في باكستان ثابت ولم يتغير, أما إذا حدث أي انقلاب في الوضع السياسي الباكستاني, وهو ليس مستبعدا بعدما استولي التحالف الشمالي علي كابول, مما أضعف من موقف الرئيس مشرف كثيرا, وانعكس ذلك علي انتقادات الصحف الباكستانية له. إذا حدث ذلك الانقلاب فإن المعادلة ستتغير لمصلحة طالبان بدرجة كبيرة, ولو في المدي القصير.
الخلاصة أنه إذا لم يحدث تغير سياسي كبير في باكستان, فإن احتمالات استمرار طالبان ضعيفة, ولن تتركها الولايات المتحدة تمر, لأن في ذلك هزيمة لها لن تقبل بها.
(4)
المشكلة ليست في طالبان وحدها, وإنما في النظام البديل لها, أولا لأن الخصومات كبيرة بين جماعات التحالف نفسها, وثانيا لأن الدول المحيطة بأفغانستان ليست علي رأي واحد بالنسبة لشكل النظام الجديد, وإنما لها رؤاها المتعارضة, وثالثا لأنه إذا تم قتل أسامة بن لادن والملا عمر, فلن تكترث الولايات المتحدة بمصير أفغانستان, وستتركها لصراعات أهلها, ولن يعنيها استقرار البلد أو احتراقه.
إن قيادة التحالف الشمالي الآن معقودة للرئيس برهان الدين رباني, وهو طاجيكي, وأغلب المحيطين به من الطاجيك, بينما أفغانستان يحكمها البشتون منذ تأسيس الدولة في القرن الثامن عشر وطيلة القرنين الماضيين.
من ناحية أخري فإن التحالف قائم أساسا علي الأقليات, خصوصا الطاجيك والأوزبك والشيعة الهزارة والإسماعيلية, أما البشتون الذين يمثلون الأغلبية فليسوا ممثلين بشكل كاف فيه, رغم أن نسبتهم45% من السكان. ولا ننسي أن طالبان نجحت في تحركها عام94 لأن زعماء المجاهدين ظلوا يتقاتلون فيما بينهم طيلة سنتين كاملتين: قلب الدين حكمتيار البشتوني من ناحية, ورباني وأحمد شاه مسعود الطاجيكيان من ناحية ثانية, والجنرال عبدالرشيد دوستم الأوزبكي من ناحية ثالثة, وحزب الوحدة الشيعي من ناحية رابعة, وإسماعيل خان الإسماعيلي من ناحية خامسة.
هذه المرارات القديمة لم تنمح, لكن آثارها مازالت باقية, وما جمع بين تلك الفئات جميعها سوي أن حركة طالبان خلعتهم وانتزعت السلطة من أيديهم, فتحالفوا ليس لأنهم متآلفون, ولكن لأنهم تأذوا من صعود طالبان, من ثم فخصومتهم لطالبان طغت علي الحزازات القائمة بينهم, وزوال تلك الخصومة كفيل بإظهار الحزازات علي السطح مرة أخري.
لقد كان برهان الدين رباني أول القادة الواصلين إلي كابول في الأسبوع الماضي, فتولي تسيير الأمور مؤقتا. وجاءت عناصر حزب الوحدة الشيعي فأقامت حاجزا عند حي الشيعة في العاصمة, وقالت التقارير الصحفية: إن هناك قوات أخري تابعة للتحالف الشمالي في طريقها إلي كابول, التي سيحاول الأوزبك أخذ حصتهم منها, الأمر الذي سيعرض المدينة للتقسيم, ولن يسكت البشتون بطبيعة الحال, وهم الذين سيصرون علي أن يفوزوا بالحصة الأكبر, وسيقاتلون دون ذلك لاريب.
ذلك في داخل العاصمة وحدها. أما ما يحدث خارجها فهو شيء مماثل, بمعني أن كل حاكم أو قائد زعيم قبيلة في منطقة, سوف يحاول الاستئثار بها, كما حدث في مزار شريف وجلال أباد مثلا, الأمر الذي سيفتح الباب لإشاعة الفوضي في البلاد.
(5)
موقف الجيران لا يمكن تجاهله في المشهد, فباكستان تعارض أي حكومة في كابول غير موالية لها أو متفاهمة معها, لذك فهي بالمطلق ضد حكومة رباني والطاجيك. والهند متعاطفة مع الطاجيك, ومع أي حكومة تزعج باكستان. إيران مؤيدة للطاجيك وداعمة للشيعة. روسيا مرحبة بهم أيضا, وقد سارعت إلي تأييد حكومتهم علي نحو أزعج الأمريكان. أوزبكستان تقف وراء الجنرال دوستم قائد ميليشيات الأوزبك.
الملك ظاهر شاه رغم أنه بشتوني وتقف وراءه الولايات المتحدة والدول الغربية والأمم المتحدة, فإن كبر سنه واعتلال صحته هما مصدر ضعفه الأول, لأن الجميع يعرفون أن الرجل لن يحكم, لكن الذي سيحكم هم مستشاروه وأبناؤه. في الوقت نفسه فباكستان تعارض عودته, لأنه كان علي علاقة سيئة بها ويعتبرها محتلة لأراضي بشتونستان. والرئيس رباني غير مرحب به, لأنه وفريقه يقولون إن أفغانستان لم تحارب طيلة الفترة الماضية لكي تعود الملكية مرة أخري.
في الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة لا تثق كثيرا في رباني وحكمتيار, والأخير هاجم التدخل الأمريكي, وحاول أن يجمع البشتون من حوله, وطلب لذلك مساعدات من بعض الدول العربية و الإسلامية لكنه لم ينجح في محاولته.
أما الإشكال الكبير في الوضع الجديد فيكمن في أنه سيظل في كل أحواله محسوبا علي الحملة العسكرية الأمريكية, الأمر الذي سيجعله محلا للشبهة والاتهام. لذلك فإن الذين حققوا أي إنجاز بواسطة الأمريكان تحولوا إلي ضائقين بهم ومتبرمين من وجودهم في اللحظة التي قعدوا فيها علي مقاعدهم, وصعدوا بأقدامهم علي سلم السلطة من جديد.
وفي ظل وفرة السلاح في أيدي الجميع, فما أسرع أن يسحب كل فصيل سلاحه لكي يعزز موقفه ويرفع حصته ويحقق تطلعاته, الأمر الذي يرشح كلمة الفوضي لكي تكون عنوانا عريضا لأفغانستان القادمة.