هويدي 16-10-2001
هل الاشارات إلي مراجعة أو تعديل للموقف الأمريكي في الشرق الأوسط بعد فاجعة الحادي عشر من سبتمبر, تعكس تحولا حقيقيا, أم أنها من قبيل جبر الخواطر وترطيب جوانح العرب والمسلمين؟
الكلام في هذا الموضوع شاغل لنا حقا, لكن الحديث الجاد عن المراجعة أو التعديل يظل مبكرا, رغم أن ثمة اشارات وتلميحات توحي به. ذلك أن واشنطن مشغولة الآن بأولوية أخري, وبصرها ممتد إلي أفغانستان وليس إلي الشرق الأوسط. ولاننسي أن إدارة الرئيس بوش حين نظرت إلي الشرق الأوسط في السابق, فإنها أعطت أولوية للعراق وليس إلي قضية فلسطين. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن أي حديث يتطرق الآن إلي الشرق الأوسط في الخطاب الأمريكي سيكون بالقدر الذي يمكن واشنطن من أن تحقق مرادها في أفغانستان علي نحو أفضل.
(1)
لنتفق علي أننا نتعامل مع سؤال افتراضي, من وحي الاشارات التي لاحت في الأفق السياسي خلال الأسبوعين الآخيرين, واضعين في الاعتبار أمورا عدة, منها أننا بإزاء تلميحات وتلويحات لا أكثر, وينبغي ألا تعطي حجما أكبر من ذلك. من تلك الاعتبارات أيضا أن الأمر كله معلق علي الكيفية التي ستنتهي بها الحملة العسكرية الراهنة, التي لايعرف أحد لها أجلا, والله وحده يعلم تداعياتها ونتائجها سواء علي الصعيد الاقليمي أوالدولي. إن شئت فقل إنها مراهنة علي مجهول, الأمر الذي يجعل من إصدار الأحكام فيها مغامرة محفوفة بالمخاطر, لا تستند إلي شئ يقيني.
ثمة موقفان استقبلا الاشارات الأمريكية, الأول استبشر بها خيرا وتفاءل بها, والثاني تعامل معها بخليط من الحذر والشك, مغلبا التشاؤم ومستبعدا البراءة. وقد حاولت أن أبحث لنفسي عن موقف اصطف فيه, فوجدتني بعدما قلبت الأمر منحازا إلي الموقف الثاني, لأسباب نظرية وعملية سأضعها بين يديك, عل أحدا يراجعني أو يخطئني فيها, ومن ثم يرد إلينا أملا كثيرا ما تمنيناه, لكنه ظل عزيزا وعصيا علينا دائما.
لماذا الحذر والتشاؤم؟
علي صعيد التحليل النظري ومن خلال الخبرة التاريخية, نجد أن الولايات المتحدة نادرا ما حاولت أن تراجع سياساتها, في ضوء مطالعة وجهها في مرآة العالم الخارجي. وهي حين تفعل ذلك فإنه يتحقق مصادفة وعن غير قصد, فقد اعتادت أن تتعامل مع الآخرين بنظرة فوقية, تجعلها دائما ترسل ولا تستقبل, وترفض الاستماع إلي أية نصائح منهم, والآخرون هنا ليسوا حكومات العالم الثالث, ولكنهم حلفاؤها وأصدقاؤها المقربون في أوروبا أو آسيا.
لقد اعتادت الادارة الأمريكية أن تصدر التعليمات وأن توجه الآخرين, وترسم أمامهم الخطوط والشروط. وتوقعت دائما أن يستجيب الآخرون لها دون تساؤل أو مناقشة طويلة. ففي التفجيرات الأخيرة حددت واشنطن المتهمين دون أن تعلن أدلة الإدانة وقررت حملتها العسكرية خارج الشرعية الدولية ودون مشورة أحد, واعتبرت أن من لم يناصرها في حملتها منحاز إلي الارهاب, ومضت في خطوات التنفيذ دون أن تحدد الأهداف.
إذا كان ذلك حاصلا في مجمل التوجهات السياسية, فإن الوضع بالنسبة لاسرائيل له خصوصية شديدة, لسبب جوهري لايخفي علي أحد يتمثل في قوة اللوبي الصهيوني المهيمن إلي حد كبير علي الكونجرس وعلي وسائل الاعلام, التي أصبحت العامل الرئيسي في تشكيل اتجاهات الرأي العام.
لقد نجح ذلك اللوبي في أن يؤسس اجماعا علي تبني الموقف الإسرائيلي الرسمي في كل قطاعات الاعلام الامريكي, من السينما إلي التليفزيون والراديو والصحف والمطبوعات الاسبوعية والشهرية والفصلية واليومية, وكانت النتيجة أن أصبحت تلك القطاعات المهيمنة علي الادراك العام في الولايات المتحدة, تعبر بصورة أو أخري عن الموقف الإسرائيلي الرسمي, الذي أصبح أيضا الموقف الامريكي الرسمي.
هذه العبارة اقتبستها من واحدة من ثلاث مقالات كتبها في عام99 الدكتور ادوارد سعيد عن الصهيونية الامريكية, وفيها دلل علي التوافق بين السياستين الامريكية والإسرائيلية منذ عام67 الذي ظل حاكما ـ بثبات مدهش ـ لقضية الشرق الأوسط طيلة العقود الثلاثة الماضية, وهو التوافق الذي انتج مفارقة لافتة للنظر. تتمثل في أن النخبة والمجتمع في الولايات المتحدة التي توافرت لها كل أسباب المعرفة, ظلت علي جهل مطبق بحقائق الصراع العربي الاسرائيلي, حتي أصبحت علي استعداد لأن تقبل بأن فلسطين كانت للإسرائيليين, وأن الفلسطينيين جاءوا لكي ينازعوهم عليها ويغتصبوها منهم!
(2)
هناك تجربة عملية جديرة بالدراسة, تعبر بصدق عن أسلوب التفكير الامريكي, تتمثل في واقعة اخراج الولايات المتحدة من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة( في شهر مايو الماضي), وهو الموقف الذي واجهته الولايات المتحدة لأول مرة منذ تأسيس اللجنة في عام1947 م. فقد أحدث ما جري صدي في واشنطون, لأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها عضوا مؤسسا في اللجنة, ولأن الاخراج كان مفاجئا ومهينا, ثم لأنها لم تستوعب فكرة أن تخرج هي من اللجنة, بينما تدخل في عضويتها دولتان أخريان هما: ليبيا والسودان.
غضبت واشنطن واضطربت, وتصرفت علي نحو عصبي, واذ تعددت ردود افعالها, فانها لم تحاول أن تجيب بشجاعة وصراحة علي السؤال: لماذا؟( تماما كما حدث في التفجيرات الاخيرة ـ وكانت النتيجة انها لم تحاول ان تربط بين سياستها الخارجية وبين النتيجة التي حدثت).
لم تعرف الولايات المتحدة كيف تتعامل مع الحدث, فلجأت إلي التمويه وتوزيع الاتهامات يمينا وشمالا, وانطلقت أبواق الادارة الامريكية ووسائل الاعلام وثيقة الصلة بها تتساءل: كيف يمكن أن تطرد دولة مثل امريكا, وتنتخب لعضوية اللجنة ليبيا والسودان.
قالت الادارة الامريكية أنها كانت قد تلقت قبل الاقتراع السري ضمانات مكتوبة بانتخابها من جانب43 دولة من أصل53 دولة مخولة بالاشتراك في الانتخابات التي تجري سنويا. غير أنها تلقت29 صوتا, مما يعني أن14 دولة لم تف بإلتزاماتها المكتوبة. وهو ما دعا وسائل الاعلام الامريكية الي التساؤل عن أولئك الخونة!( فرنسا فازت بـ52 صوتا, والنمسا41 والسويد32.. الخ)
لفت الانتباه في هذا الصدد أن الادارة الامريكية ووسائل الاعلام لجأت إلي تضليل الرأي العام, فدأبت علي اتهام الأمم المتحدة بطرد الولايات المتحدة من اللجنة في الوقت الذي انتخبت ليبيا والسودان, مما أوحي للأمريكيين بأن الطرد تم لحساب الدولتين المتهمتين بالارهاب, وكأن ما جري كان تنافسا بين الولايات المتحدة وهاتين الدولتين. وهو ما أثار غضبا شديدا لدي الرأي العام وسخطا علي الأمم المتحدة بوجه خاص.
ما لم يوضح للرأي العام الامريكي أن آليات الاقتراع في الأمم المتحدة تحدد لكل منطقة من العالم حصة من التمثيل, فيكون التنافس داخل المنطقة نفسها, كما بين الافريقيين دون غيرهم, وقد خصصت لدول أوروبا وأمريكا في لجنة حقوق الإنسان أربعة مقاعد يكون التنافس بينها دون غيرها. وهذه المرة كان التنافس بين امريكا وفرنسا والسويد والنمسا وكثيرا ماكانت الولايات المتحدة في السابق تضغط علي الدول الأوروبية للانسحاب لمصلحتها, مما جعلها تطمئن بمضي الوقت, فلم تبذل اي جهد في هذا الصدد, واعتبرت ان فوزها مضمون. لذلك كانت مفاجأتها كبيرة حين تم الاعلان عن نتائج الاقتراع السري.
(3)
الفشل بحد ذاته ليس المهم, وانما المهم هو كيف كانت ردود الفعل في الولايات المتحدة, وكيف رأت امريكا نفسها في مرآة العالم حين اضطرت الي ذلك؟ ـ قرأت رصدا دقيقا لاصداء الحدث, فيما كتبه احد العلماء الأمريكيين ذوي الأصول العربية, هو الدكتور حليم بركات الأستاذ في جامعة جورجتاون بواشنطون( الحياة2001/5/28) في رصده ميز الدكتور بركات بين أربعة اتجاهات متمايز هي.
* قلة من الرأي العام الأمريكي, كما تجلي في تعليقات وسائل الاعلام, عبرت عن استيائها بانتقاد الادارة الأمريكية نفسها معترفة بان المسئولية في طرد امريكا من لجنة حقوق الانسان لاتقع علي أعدائها كالصين وايران وكوبا وغيرها من الدول العربية والأفريقية والآسيوية, بل علي اصدقائها الأوروبيين وغيرهم ممن حنثوا بتعهداتهم. وذهبت هذه الأقلية الي لوم الادارة الأمريكية نفسها التي اهملت المسألة كليا, فلم تظهر ادارة بوش اهتماما بارسال مندوبها الي الأمم المتحدة, وقد ارتأي هؤلاء ان علي امريكا ان تتقبل الأمر الواقع وتعد العدة للسنة المقبلة وان تمتنع عن تهديد الأمم المتحدة بحجب ديونها عنها.
* ظهر ثانيا توجه يستدل اليه من خلال رد فعل قادة الادارة الأمريكية الذين استخدموا التضليل والتسويغ تمويها لفشلهم, قال وزير الخارجية كولن باول ان بعض حلفاء أمريكا واصدقائها تهاونوا في الأمر لاعتقادهم ان عضوية أمريكا مضمونة لاشك, وقد فوجيء هؤلاء بالنتائج كما فوجئت الادارة الأمريكية نفسها. بهذا الخصوص, قال الناطق باسم البيت الأبيض ان لجنة حقوق الانسان نفسها اظهرت حقيقة موقفها اللامبالي من مسألة حقوق الانسان حين انتخبت السودان وليبيا وطردت الولايات المتحدة.. كذلك, وجه الرئيس بوش نفسه في خطاب امام اللجنة اليهودية الأمريكية اقسي استنكاراته ضد تلك البلدان التي تقمع الحريات الدينية مكتفيا بذكر السودان وانتقاده متعهدا استمرار ملاحقته في الوقت الذي ذكر الحضور بأنه حرص في الاجتماع الأول لمجلس امنه القومي علي تأكيد ان حماية اسرائيل وأمنها هما في طليعة اولويات السياسة الخارجية الأمريكية( نيويورك تايمز2001/5/4)
* تجلي الاتجاه الثالث من خلال رد فعل المحافظين الذين هددوا بمعاقبة الأمم المتحدة. فأنذرت وزيرة الخارجية السابقة مادلين اولبرايت منذ اليوم الأول لاعلان نتائج الانتخابات ان طرد أمريكا سيلحق الضرر بالأمم المتحدة في وقت هي في أشد الحاجة للمساعدات الأمريكية.
وعبر عدد من المحافظين في الكونجرس, ومنهم ديك آرمي زعيم الغالبية عن غضبهم الشديد منذ اللحظة الأولي لاعلان نتائج الاقتراع, وهددوا بحجب الـ244 مليون دولار المستحقة لقاء العضوية في الأمم المتحدة, وقال النائب توم لانتوس المعروف جدا بدعمه لاسرائيل وتحريضه المستمر ضد العراق ان هذا الاجراء الأمريكي سيعلم هذه البلدان درسا... وفي السابق كانت منظمة اليونسكو الفاسدة والمعادية لامريكا قد تعلمت الدرس واصلحت مسارها( نيويورك تايمز2001/5/11) وفعلا قرر مجلس النواب في الكونجرس في العاشر من آيار( مايو) الحالي باكثرية252 مقابل165 حجب مستحقات العضوية هذه في الأمم المتحدة, مالم تتم عودة أمريكا الي لجنة حقوق الانسان.
اما الاتجاه الأخير فيتمثل بموقف نقدي رأي من الضروري ان تضبط أمريكا اعصابها وتتمعن في الأمر فتحلل اسباب عدم انتخابها علي حقيقتها بحيث تتوصل الي استنتاج بأنها يجب ان تكون قد اخطأت حقا وارتكبت عملا شنيعا كي تستحق الطرد, ويكون عليها في هذه الحالة ان تتقبل ماحدث وتعيد النظر في نهجها. ويقول اصحاب هذا الرأي ان ماحدث ربما جاء تعبيرا صادقا عن موقف العالم من الهيمنة الأمريكية ومن سياسة العولمة التي تفرضها علي الشعوب والحضارات الأخري.
بكلام آخر, ذهب هؤلاء الي انه ربما يكون الاقتراع نوعا من الاحتجاج العالمي علي عنجهية إمريكا وتحكمها ورفضها الانضمام للمحكمة الدولية, ومواقفها المعارضة لعدد من الاتفاقات الدولية ومنها اتفاقية ازالة الألغام واتفاقية قانون البحار, ولسياستها السلبية في عدد من المجالات والقضايا المتعلقة بالدفاع الصاروخي وحقوق السيادة والتجارة الحرة والبيئة والتدخل في شئون الأمم الداخلية والحصار الذي تفرضه علي عدد من البلدان وتفاقم الفجوات العميقة بين الفقراء والأغنياء شعوبا وطبقات. وقد سبق ان وجهت انتقادات عدة لأمريكا في السنوات الأخيرة لتراكم ديونها للأمم المتحدة, ولرفضها عددا من الاتفاقات الدولية.
(4)
الخلاصة ان سبب عدم انتخاب امريكا لعضوية لجنة حقوق الانسان ربما يعود الي انها تلجأ للأمم المتحدة حين تري مصلحتها في استخدامها لتنفيذ سياستها, كما يظهر من خلال ممارسة حق الفيتو لمصلحة اسرائيل واستصدار قرارات تدعم حربها ضد العراق ومواصلة الحصار عليه حتي الوقت الحاضر. وعلي العكس, توجه امريكا انتقاداتها وتهديداتها ضد الأمم المتحدة حين تمتنع عن أن تكون وسيلة طيعة من وسائل الاستراتيجية الأمريكية. في هذا المجال يعترف بعض المسئولين الأمريكيين ضمنا بأنهم لم يتفهموا مايجري من تطورات داخل المجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للأمم المتحدة, ولم يدركوا عمق استياء الشعوب من احادية النظام العالمي وكون الولايات المتحدة القوة العظمي الوحيدة. وفي الوقت الذي تبشر امريكا بالتعددية داخل كل بلد تسعي لفرض نظام واحد في العالم.
قصدت التفصيل في هذه القصة, لأنها تلقي اضواء قوية علي المسلك الأمريكي في الوقت الراهن, خصوصا بعدما لاحظنا ان الادارة الأمريكية مابرحت تلح علي ان الهجوم الذي وقع علي نيويورك وواشنطن موجه ضد الحضارة الغربية وقيم الحرية والديمقراطية.. الخ وهي اللغة التي رددها الاعلام بقوة, ووظفتها اكثر الأقلام والكتابات, خصوصا تلك التي تحرص علي اعتبار المسلمين والعرب جميعا معادين للغرب وحضارته وقيمه( لاحظ ان اسرائيل في هذه الحالة تصنف جزءا من الغرب)
هذا التضليل الذي تتمسك به يصرف انتباه الناس عن اسباب الغضب الحقيقي, هو الأقوي تأثيرا علي الرأي العام والقرارات السياسية, ورغم وجود اصوات متزنة وعاقلة تحاول مصارحة الأمريكيين بالحقيقة, الا ان تلك الأصوات مازالت قاصرة عن التأثير علي القرار السياسي, لهذا السبب فانني اعتقد ان السياسة الخارجية الامريكية ازاء قضية فلسطين بوجه خاص, وغيرها من القضايا التي تثير استياء العرب والمسلمين,حصار العراق مثلا ـ هذه السياسة لن تتغير في الأجل المنظور علي الأقل, وانما ستبقي ريمة ـ او حليمة ـ علي عادتها القديمة ـ الأمر الذي يعني ان واشنطون لن تتعامل ايجابيا مع الدرس, وستظل مصرة علي المضي في طريق الندامة! ـ اما اشاراتها الأخيرة في صدي الشأن الفلسطيني فهي تدخل في اطار جبر الخواطر لا أكثر ــ والله اعلم.
هل الاشارات إلي مراجعة أو تعديل للموقف الأمريكي في الشرق الأوسط بعد فاجعة الحادي عشر من سبتمبر, تعكس تحولا حقيقيا, أم أنها من قبيل جبر الخواطر وترطيب جوانح العرب والمسلمين؟
الكلام في هذا الموضوع شاغل لنا حقا, لكن الحديث الجاد عن المراجعة أو التعديل يظل مبكرا, رغم أن ثمة اشارات وتلميحات توحي به. ذلك أن واشنطن مشغولة الآن بأولوية أخري, وبصرها ممتد إلي أفغانستان وليس إلي الشرق الأوسط. ولاننسي أن إدارة الرئيس بوش حين نظرت إلي الشرق الأوسط في السابق, فإنها أعطت أولوية للعراق وليس إلي قضية فلسطين. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن أي حديث يتطرق الآن إلي الشرق الأوسط في الخطاب الأمريكي سيكون بالقدر الذي يمكن واشنطن من أن تحقق مرادها في أفغانستان علي نحو أفضل.
(1)
لنتفق علي أننا نتعامل مع سؤال افتراضي, من وحي الاشارات التي لاحت في الأفق السياسي خلال الأسبوعين الآخيرين, واضعين في الاعتبار أمورا عدة, منها أننا بإزاء تلميحات وتلويحات لا أكثر, وينبغي ألا تعطي حجما أكبر من ذلك. من تلك الاعتبارات أيضا أن الأمر كله معلق علي الكيفية التي ستنتهي بها الحملة العسكرية الراهنة, التي لايعرف أحد لها أجلا, والله وحده يعلم تداعياتها ونتائجها سواء علي الصعيد الاقليمي أوالدولي. إن شئت فقل إنها مراهنة علي مجهول, الأمر الذي يجعل من إصدار الأحكام فيها مغامرة محفوفة بالمخاطر, لا تستند إلي شئ يقيني.
ثمة موقفان استقبلا الاشارات الأمريكية, الأول استبشر بها خيرا وتفاءل بها, والثاني تعامل معها بخليط من الحذر والشك, مغلبا التشاؤم ومستبعدا البراءة. وقد حاولت أن أبحث لنفسي عن موقف اصطف فيه, فوجدتني بعدما قلبت الأمر منحازا إلي الموقف الثاني, لأسباب نظرية وعملية سأضعها بين يديك, عل أحدا يراجعني أو يخطئني فيها, ومن ثم يرد إلينا أملا كثيرا ما تمنيناه, لكنه ظل عزيزا وعصيا علينا دائما.
لماذا الحذر والتشاؤم؟
علي صعيد التحليل النظري ومن خلال الخبرة التاريخية, نجد أن الولايات المتحدة نادرا ما حاولت أن تراجع سياساتها, في ضوء مطالعة وجهها في مرآة العالم الخارجي. وهي حين تفعل ذلك فإنه يتحقق مصادفة وعن غير قصد, فقد اعتادت أن تتعامل مع الآخرين بنظرة فوقية, تجعلها دائما ترسل ولا تستقبل, وترفض الاستماع إلي أية نصائح منهم, والآخرون هنا ليسوا حكومات العالم الثالث, ولكنهم حلفاؤها وأصدقاؤها المقربون في أوروبا أو آسيا.
لقد اعتادت الادارة الأمريكية أن تصدر التعليمات وأن توجه الآخرين, وترسم أمامهم الخطوط والشروط. وتوقعت دائما أن يستجيب الآخرون لها دون تساؤل أو مناقشة طويلة. ففي التفجيرات الأخيرة حددت واشنطن المتهمين دون أن تعلن أدلة الإدانة وقررت حملتها العسكرية خارج الشرعية الدولية ودون مشورة أحد, واعتبرت أن من لم يناصرها في حملتها منحاز إلي الارهاب, ومضت في خطوات التنفيذ دون أن تحدد الأهداف.
إذا كان ذلك حاصلا في مجمل التوجهات السياسية, فإن الوضع بالنسبة لاسرائيل له خصوصية شديدة, لسبب جوهري لايخفي علي أحد يتمثل في قوة اللوبي الصهيوني المهيمن إلي حد كبير علي الكونجرس وعلي وسائل الاعلام, التي أصبحت العامل الرئيسي في تشكيل اتجاهات الرأي العام.
لقد نجح ذلك اللوبي في أن يؤسس اجماعا علي تبني الموقف الإسرائيلي الرسمي في كل قطاعات الاعلام الامريكي, من السينما إلي التليفزيون والراديو والصحف والمطبوعات الاسبوعية والشهرية والفصلية واليومية, وكانت النتيجة أن أصبحت تلك القطاعات المهيمنة علي الادراك العام في الولايات المتحدة, تعبر بصورة أو أخري عن الموقف الإسرائيلي الرسمي, الذي أصبح أيضا الموقف الامريكي الرسمي.
هذه العبارة اقتبستها من واحدة من ثلاث مقالات كتبها في عام99 الدكتور ادوارد سعيد عن الصهيونية الامريكية, وفيها دلل علي التوافق بين السياستين الامريكية والإسرائيلية منذ عام67 الذي ظل حاكما ـ بثبات مدهش ـ لقضية الشرق الأوسط طيلة العقود الثلاثة الماضية, وهو التوافق الذي انتج مفارقة لافتة للنظر. تتمثل في أن النخبة والمجتمع في الولايات المتحدة التي توافرت لها كل أسباب المعرفة, ظلت علي جهل مطبق بحقائق الصراع العربي الاسرائيلي, حتي أصبحت علي استعداد لأن تقبل بأن فلسطين كانت للإسرائيليين, وأن الفلسطينيين جاءوا لكي ينازعوهم عليها ويغتصبوها منهم!
(2)
هناك تجربة عملية جديرة بالدراسة, تعبر بصدق عن أسلوب التفكير الامريكي, تتمثل في واقعة اخراج الولايات المتحدة من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة( في شهر مايو الماضي), وهو الموقف الذي واجهته الولايات المتحدة لأول مرة منذ تأسيس اللجنة في عام1947 م. فقد أحدث ما جري صدي في واشنطون, لأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها عضوا مؤسسا في اللجنة, ولأن الاخراج كان مفاجئا ومهينا, ثم لأنها لم تستوعب فكرة أن تخرج هي من اللجنة, بينما تدخل في عضويتها دولتان أخريان هما: ليبيا والسودان.
غضبت واشنطن واضطربت, وتصرفت علي نحو عصبي, واذ تعددت ردود افعالها, فانها لم تحاول أن تجيب بشجاعة وصراحة علي السؤال: لماذا؟( تماما كما حدث في التفجيرات الاخيرة ـ وكانت النتيجة انها لم تحاول ان تربط بين سياستها الخارجية وبين النتيجة التي حدثت).
لم تعرف الولايات المتحدة كيف تتعامل مع الحدث, فلجأت إلي التمويه وتوزيع الاتهامات يمينا وشمالا, وانطلقت أبواق الادارة الامريكية ووسائل الاعلام وثيقة الصلة بها تتساءل: كيف يمكن أن تطرد دولة مثل امريكا, وتنتخب لعضوية اللجنة ليبيا والسودان.
قالت الادارة الامريكية أنها كانت قد تلقت قبل الاقتراع السري ضمانات مكتوبة بانتخابها من جانب43 دولة من أصل53 دولة مخولة بالاشتراك في الانتخابات التي تجري سنويا. غير أنها تلقت29 صوتا, مما يعني أن14 دولة لم تف بإلتزاماتها المكتوبة. وهو ما دعا وسائل الاعلام الامريكية الي التساؤل عن أولئك الخونة!( فرنسا فازت بـ52 صوتا, والنمسا41 والسويد32.. الخ)
لفت الانتباه في هذا الصدد أن الادارة الامريكية ووسائل الاعلام لجأت إلي تضليل الرأي العام, فدأبت علي اتهام الأمم المتحدة بطرد الولايات المتحدة من اللجنة في الوقت الذي انتخبت ليبيا والسودان, مما أوحي للأمريكيين بأن الطرد تم لحساب الدولتين المتهمتين بالارهاب, وكأن ما جري كان تنافسا بين الولايات المتحدة وهاتين الدولتين. وهو ما أثار غضبا شديدا لدي الرأي العام وسخطا علي الأمم المتحدة بوجه خاص.
ما لم يوضح للرأي العام الامريكي أن آليات الاقتراع في الأمم المتحدة تحدد لكل منطقة من العالم حصة من التمثيل, فيكون التنافس داخل المنطقة نفسها, كما بين الافريقيين دون غيرهم, وقد خصصت لدول أوروبا وأمريكا في لجنة حقوق الإنسان أربعة مقاعد يكون التنافس بينها دون غيرها. وهذه المرة كان التنافس بين امريكا وفرنسا والسويد والنمسا وكثيرا ماكانت الولايات المتحدة في السابق تضغط علي الدول الأوروبية للانسحاب لمصلحتها, مما جعلها تطمئن بمضي الوقت, فلم تبذل اي جهد في هذا الصدد, واعتبرت ان فوزها مضمون. لذلك كانت مفاجأتها كبيرة حين تم الاعلان عن نتائج الاقتراع السري.
(3)
الفشل بحد ذاته ليس المهم, وانما المهم هو كيف كانت ردود الفعل في الولايات المتحدة, وكيف رأت امريكا نفسها في مرآة العالم حين اضطرت الي ذلك؟ ـ قرأت رصدا دقيقا لاصداء الحدث, فيما كتبه احد العلماء الأمريكيين ذوي الأصول العربية, هو الدكتور حليم بركات الأستاذ في جامعة جورجتاون بواشنطون( الحياة2001/5/28) في رصده ميز الدكتور بركات بين أربعة اتجاهات متمايز هي.
* قلة من الرأي العام الأمريكي, كما تجلي في تعليقات وسائل الاعلام, عبرت عن استيائها بانتقاد الادارة الأمريكية نفسها معترفة بان المسئولية في طرد امريكا من لجنة حقوق الانسان لاتقع علي أعدائها كالصين وايران وكوبا وغيرها من الدول العربية والأفريقية والآسيوية, بل علي اصدقائها الأوروبيين وغيرهم ممن حنثوا بتعهداتهم. وذهبت هذه الأقلية الي لوم الادارة الأمريكية نفسها التي اهملت المسألة كليا, فلم تظهر ادارة بوش اهتماما بارسال مندوبها الي الأمم المتحدة, وقد ارتأي هؤلاء ان علي امريكا ان تتقبل الأمر الواقع وتعد العدة للسنة المقبلة وان تمتنع عن تهديد الأمم المتحدة بحجب ديونها عنها.
* ظهر ثانيا توجه يستدل اليه من خلال رد فعل قادة الادارة الأمريكية الذين استخدموا التضليل والتسويغ تمويها لفشلهم, قال وزير الخارجية كولن باول ان بعض حلفاء أمريكا واصدقائها تهاونوا في الأمر لاعتقادهم ان عضوية أمريكا مضمونة لاشك, وقد فوجيء هؤلاء بالنتائج كما فوجئت الادارة الأمريكية نفسها. بهذا الخصوص, قال الناطق باسم البيت الأبيض ان لجنة حقوق الانسان نفسها اظهرت حقيقة موقفها اللامبالي من مسألة حقوق الانسان حين انتخبت السودان وليبيا وطردت الولايات المتحدة.. كذلك, وجه الرئيس بوش نفسه في خطاب امام اللجنة اليهودية الأمريكية اقسي استنكاراته ضد تلك البلدان التي تقمع الحريات الدينية مكتفيا بذكر السودان وانتقاده متعهدا استمرار ملاحقته في الوقت الذي ذكر الحضور بأنه حرص في الاجتماع الأول لمجلس امنه القومي علي تأكيد ان حماية اسرائيل وأمنها هما في طليعة اولويات السياسة الخارجية الأمريكية( نيويورك تايمز2001/5/4)
* تجلي الاتجاه الثالث من خلال رد فعل المحافظين الذين هددوا بمعاقبة الأمم المتحدة. فأنذرت وزيرة الخارجية السابقة مادلين اولبرايت منذ اليوم الأول لاعلان نتائج الانتخابات ان طرد أمريكا سيلحق الضرر بالأمم المتحدة في وقت هي في أشد الحاجة للمساعدات الأمريكية.
وعبر عدد من المحافظين في الكونجرس, ومنهم ديك آرمي زعيم الغالبية عن غضبهم الشديد منذ اللحظة الأولي لاعلان نتائج الاقتراع, وهددوا بحجب الـ244 مليون دولار المستحقة لقاء العضوية في الأمم المتحدة, وقال النائب توم لانتوس المعروف جدا بدعمه لاسرائيل وتحريضه المستمر ضد العراق ان هذا الاجراء الأمريكي سيعلم هذه البلدان درسا... وفي السابق كانت منظمة اليونسكو الفاسدة والمعادية لامريكا قد تعلمت الدرس واصلحت مسارها( نيويورك تايمز2001/5/11) وفعلا قرر مجلس النواب في الكونجرس في العاشر من آيار( مايو) الحالي باكثرية252 مقابل165 حجب مستحقات العضوية هذه في الأمم المتحدة, مالم تتم عودة أمريكا الي لجنة حقوق الانسان.
اما الاتجاه الأخير فيتمثل بموقف نقدي رأي من الضروري ان تضبط أمريكا اعصابها وتتمعن في الأمر فتحلل اسباب عدم انتخابها علي حقيقتها بحيث تتوصل الي استنتاج بأنها يجب ان تكون قد اخطأت حقا وارتكبت عملا شنيعا كي تستحق الطرد, ويكون عليها في هذه الحالة ان تتقبل ماحدث وتعيد النظر في نهجها. ويقول اصحاب هذا الرأي ان ماحدث ربما جاء تعبيرا صادقا عن موقف العالم من الهيمنة الأمريكية ومن سياسة العولمة التي تفرضها علي الشعوب والحضارات الأخري.
بكلام آخر, ذهب هؤلاء الي انه ربما يكون الاقتراع نوعا من الاحتجاج العالمي علي عنجهية إمريكا وتحكمها ورفضها الانضمام للمحكمة الدولية, ومواقفها المعارضة لعدد من الاتفاقات الدولية ومنها اتفاقية ازالة الألغام واتفاقية قانون البحار, ولسياستها السلبية في عدد من المجالات والقضايا المتعلقة بالدفاع الصاروخي وحقوق السيادة والتجارة الحرة والبيئة والتدخل في شئون الأمم الداخلية والحصار الذي تفرضه علي عدد من البلدان وتفاقم الفجوات العميقة بين الفقراء والأغنياء شعوبا وطبقات. وقد سبق ان وجهت انتقادات عدة لأمريكا في السنوات الأخيرة لتراكم ديونها للأمم المتحدة, ولرفضها عددا من الاتفاقات الدولية.
(4)
الخلاصة ان سبب عدم انتخاب امريكا لعضوية لجنة حقوق الانسان ربما يعود الي انها تلجأ للأمم المتحدة حين تري مصلحتها في استخدامها لتنفيذ سياستها, كما يظهر من خلال ممارسة حق الفيتو لمصلحة اسرائيل واستصدار قرارات تدعم حربها ضد العراق ومواصلة الحصار عليه حتي الوقت الحاضر. وعلي العكس, توجه امريكا انتقاداتها وتهديداتها ضد الأمم المتحدة حين تمتنع عن أن تكون وسيلة طيعة من وسائل الاستراتيجية الأمريكية. في هذا المجال يعترف بعض المسئولين الأمريكيين ضمنا بأنهم لم يتفهموا مايجري من تطورات داخل المجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للأمم المتحدة, ولم يدركوا عمق استياء الشعوب من احادية النظام العالمي وكون الولايات المتحدة القوة العظمي الوحيدة. وفي الوقت الذي تبشر امريكا بالتعددية داخل كل بلد تسعي لفرض نظام واحد في العالم.
قصدت التفصيل في هذه القصة, لأنها تلقي اضواء قوية علي المسلك الأمريكي في الوقت الراهن, خصوصا بعدما لاحظنا ان الادارة الأمريكية مابرحت تلح علي ان الهجوم الذي وقع علي نيويورك وواشنطن موجه ضد الحضارة الغربية وقيم الحرية والديمقراطية.. الخ وهي اللغة التي رددها الاعلام بقوة, ووظفتها اكثر الأقلام والكتابات, خصوصا تلك التي تحرص علي اعتبار المسلمين والعرب جميعا معادين للغرب وحضارته وقيمه( لاحظ ان اسرائيل في هذه الحالة تصنف جزءا من الغرب)
هذا التضليل الذي تتمسك به يصرف انتباه الناس عن اسباب الغضب الحقيقي, هو الأقوي تأثيرا علي الرأي العام والقرارات السياسية, ورغم وجود اصوات متزنة وعاقلة تحاول مصارحة الأمريكيين بالحقيقة, الا ان تلك الأصوات مازالت قاصرة عن التأثير علي القرار السياسي, لهذا السبب فانني اعتقد ان السياسة الخارجية الامريكية ازاء قضية فلسطين بوجه خاص, وغيرها من القضايا التي تثير استياء العرب والمسلمين,حصار العراق مثلا ـ هذه السياسة لن تتغير في الأجل المنظور علي الأقل, وانما ستبقي ريمة ـ او حليمة ـ علي عادتها القديمة ـ الأمر الذي يعني ان واشنطون لن تتعامل ايجابيا مع الدرس, وستظل مصرة علي المضي في طريق الندامة! ـ اما اشاراتها الأخيرة في صدي الشأن الفلسطيني فهي تدخل في اطار جبر الخواطر لا أكثر ــ والله اعلم.