هويدي 9-10-2001
حوار الساعة انتقل في الأسبوع الماضي الي روما, حيث التقي هناك فريقان من الشخصيات الاسلامية والمسيحية, الذين أمضوا يومين كاملين في مناقشات مفتوحة واخري مغلقة حاولت الإجابة علي العديد من الأسئلة الكبيرة المثارة, بدءا من السؤال لماذا جري ما جري؟ وانتهاء بالسؤال ما العمل, ومرورا بالسؤال كيف تستأصل جذور الارهاب ؟ ـ جمعية سانت اجيديو التي نظمت اللقاء الاول من نوعه في العالم الغربي اطلقت عليه وصف القمة الاسلامية ـ المسيحية وهو وصف لا يخلو من مبالغة, لأن اشتراك واحد مثلي فيه دليل ينقض ذلك الادعاء, ويثبت ان القاعدة كانت ممثلة هناك بدليل قاطع!
(1)
لم نبدأ الحوار بطبيعة الحال, لأنه منذ الحادي عشر من سبتمبر لا حديث للإيطاليين الا حول الذي جري في ذلك اليوم الاسود. ليس فقط لأن كل واحد عاش الحدث ورآه بعينيه اكثر من مرة وهو مالم يحدث من قبل في اي عمل ارهابي. وليس فقط لأن وسائل الاعلام الغربية ما برحت تحذر الناس من ان الغرب كله اصبح مستهدفا من قبل الجماعات الارهابية, ولكن ايضا لأن الايطاليين لا يكفون عن الحديث طوال اليوم, في كل شئ يحدث بالدنيا. فهم شعب حكاء بالسليقة تعدادهم58 مليونا و40 مليونا منهم يستخدمون الهواتف المحمولة.
قبل اللقاء كان الجدل مستمرا بين الايطاليين انفسهم. وكان صوت العناصر الموالية لإسرائيل هو الأعلي لأن الابواب مفتوحة امامها فضلا عن ان الرياح مواتية لها, نعم هناك برامج تليفزيونية عالجت الحدث بجرأة شديدة وفتحت مناقشات متصلة منذ ذلك التاريخ قدمت مختلف الآراء واكثرها صراحة وشجاعة. وهو ما دأب عليه مثلا الصحفي ومقدم البرامج الشهير ماوريتسو كلوستانسو الذي يقدم برنامجا باسمه طوال خمسة أيام من كل أسبوع أتسم بتلك الجرأة المدهشة التي لا تعرف الخطوط الحمراء.
هناك ايضا صراع واشتباك علي صفحات الصحف, بين المحرضين والكارهين للعرب والمسلمين, وبين الرافضين لهذا الموقف, الذين يقولون ان الارهاب لا دين له ولا قومية او وطن, ويحذرون من القاء التهم جزافا علي العرب والمسلمين, ومن مغبة استمرار الانحياز الامريكي والغربي لإسرائيل, ومن قبيل مقالات الكارهين والمحرضين ما نشرته الصحفية الايطالية المقيمة في نيويورك اوريانا فلاشي في صحيفة كوريري ديلا سيرا9/29 المضمون معروف ويكفي ان استاذا بجامعة باليرمو( في صقلية) هو البروفيسور انطونينو بيليتيري وصفه بأنه مشحون بالعنصرية والكراهية نحو الاسلام والعرب والمسلمين والمهاجرين. وهي المقالة التي ردت عليها بقوة وفندت افتراءاتها الكاتبة داتشا ماريا بيتي في الصحيفة ذاتها( عدد10/5).
ذلك الحوار الداخلي كان مستمرا ولا يزال وان ظل الصوت المنصف فيه اقلية. وما استجد في المشهد ان فريقا من المسلمين والعرب وقفوا بشخوصهم علي مسرح الحوار في روما واسمعوا صوتهم للجميع.
لم يكن خافيا قلق الإيطاليين مما حدث وهم الشعب المحب للحياة والمرح, والكاره للكآبة التي تسببها رائحة العنف والموت, اذ منذ شاهد الناس ما جري علي شاشات التليفزيون لزم كثيرون بيوتهم وعزفوا عن الترحال والسفر, كما هبطت الي ما دون النصف حركة السياح القادمين من الخارج, بل انهم عزفوا أيضا عن شراء السلع الكمالية تحت تأثير الحرص علي الاحتفاظ بأموالهم تحسبا لاحتمالات المستقبل. مرافقي الدكتور فابيو ريكاردي( طبيب متطوع للعمل بالمجان مع جمعية سانت ايجيديو اوقف مشروعه لاستبدال سيارته بأخري. وهو الذي قال لي انت لا تستطيع ان تقرأ في صحف الصباح اخبارا عن احتمال وجود خلية ارهابية في روما, ثم تذهب بعد ذلك لشراء سيارة جديدة, أو حتي تفكر في الخروج لتناول العشاء في الخارج, وانت مطمئن. وهو الكلام الذي سمعته في اكثر من واحد, وقال لي احد التجار الذين يتعاملون مع العالم العربي انه قرر قبل ايام ان يقوم برحلة الي دبي لتصريف بعض اعماله المعلقة فإن مدير المبيعات الذي يصحبه في كل سفرة اعتذر عن عدم الذهاب معه هذه المرة وقال انه لا يستطيع ان يركب طائرة غير عربية انها ستكون معرضة للتفجير من جانب الارهابيين ولا يمكنه أن يركب طائرة عربية لانها بدورها ستكون معرضة للتفجير من قبل الذين يريدون الانتقام من العرب. وهو إشكال لا حل له الا بالبقاء في ر وما وعدم مغادرتها لأي سبب.
(2)
شاءت المقادير ان تستقبل الوفود القادمة عاصفة سياسية لم تكن في الحسبان كان مصدرها السيد برليسكوني رئيس الوزراء وهو رجل الاعمال ذو السجل المثير للجدل, الذي دخل حديثا الي عالم السياسة وتعثرت خطواته في الداخل, فوجد في احداث11 سبتمبر فرصة في الحديث عن السياسة الخارجية, والهرولة صوب الولايات المتحدة في مزايدة مكشوفة علي تأييدها والانضمام الي حملتها علي الارهاب.
انضم برليسكوني الي جوقة الناقدين للإسلام فتحدث عن تفوق الحضارة الغربية علي الحضارة الاسلامية, واشار الي مسئولية الغرب عن تحضير المسلمين المتخلفين بذات اللغة التي استخدمها السياسيون الغربيون في القرنين الثامن والتاسع عشر لتسويغ استعمار دول آسيا وافريقيا للارتقاء بها!.
احدث كلامه صدمة في الأوساط الايطالية وضجة ترددت اصداؤها في العالم الاسلامي, كما يذكر الجميع. ووجدت المعارضة السياسية في كلامه بغيتها في التنديد به والكشف عن جهله بالسياسة الخارجية وعدم ادراكه لطبيعة العلاقات التي تربط بين ايطاليا والعالم الاسلامي والعربي.
لجأ بيرليسكوني الي اسلوب بسيط للغاية, فأعلن انه لم يقل هذا الكلام وان خصومه السياسيين هم الذين قولوه بما لم يقل. وجمع السفراء العرب وقال لهم هذا الكلام, ثم امتدح المسلمين وحضارتهم ببعض عبارات المجاملة, معتبرا ان الصفحة طويت والأمر انتهي.
مرافقي الدكتور فابيو استغرق في الضحك حين بلغه ما جري وقال: هذا الرجل دخل الي عالم السياسة من بابين: المال والكذب, وهو مستعد لأن يلقي عليك تحية الصباح, ثم يقطب جبينه في وجهك بعد لحظة ويقسم بأغلظ الايمان علي انه لم يتفوه من ذلك القبيل ولا يتردد في ان يرميك بتهمتي الافتراء وسوء القصد اذا تمسكت بقولك انك سمعته بأذنيك قبل دقيقة واحدة وهو يردد عبارة التحية!.
الطريف في الأمر انه رغم النفي الذي صدر عنه, فقد تصرف الجميع بعد ذلك علي ان الرجل حاول اصلاح خطئه بكذبة مكشوفة, ومن ثم فإنهم تجاهلوا بيان النفي, وظلوا ينتقدون رأيه وكان رئيس الجمهورية الإيطالي كارلو تشامبي في مقدمة أولئك الناقدين, حيث استمعنا منه حين التقيناه الي نقد قوي لفكرة المفاضلة بين الحضارات.
(3)
هي خطوة جريئة لا ريب تلك التي أقدمت عليها جمعية سانتا اجيديو حين اختارت ان تسبح ضد التيار السائد في الغرب, وان تدعو المسلمين للقاء مع المسيحيين في روما, لكي يقولوا للمتهم فيما جري لكن لم أفاجأ حين تلقيت دعوتها وهي التي حرصت منذ تأسيسها في عام68 علي القيام بدور في الدفاع عن المصالحة والسلام في اقطار عدة, فكان لها دورها في توقيع اتفاق السلام بين الفصيلين المتصارعين في موزمبيق بعد قتال بينهما استمر15 عاما. اذ رعت المفاوضات التي جرت بين ممثليهما في روما علي مدي26 شهرا. وهي ايضا التي دعت الي البحث عن حل للمأزق الجزائري حين جمعت ممثلي القوي السياسية الجزائرية في العاصمة الإيطالية الذين توصلوا الي اتفاق قبل أربع سنوات, لم يحقق المراد منه لأن الحكومة الجزائرية رفضته آنذاك.
فيما فهمت لاحقا فإن الذي حركها هذه المرة ودفعها للمسارعة الي عقد اللقاء الذي شهدت عوامل عدة, منها الحملة المسعورة علي الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي, وعودة البعض الي الحديث عن فكرة صدام الحضارات والخطأ الذي وقع فيه الرئيس الأمريكي بوش حين شبه الدعوة لإقامة ما سمي بالتحالف ضد الارهاب بالحروب الصليبية.
كنا أحد عشر شخصا من المشرق والمغرب ومنطقة الخليج وإيران تقدمهم الشيخ يوسف القرضاوي وبيننا اثنان يمثلان المسلمين في الولايات المتحدة الامريكية, وعلي الجانب الآخر, كان هناك لا ندريا ريكاردي مؤسس جمعية سانت أجيديو ورئيسها و14 شخصا من كرادلة وأساقفة الكنيسة اغلبهم من الكاثوليك واقلهم من الأرثوذكس, وفي المقدمة منهم كان الكاردينال كارلو مارتيني أسقف ميلانو المرشح لخلافة البابا الحالي, ومايكل فيتزجيرالد الأمين العام للمجلس البابوي للحوار بين الأديان بالفاتيكان.
أدار الحوار طيلة اليومين الرئيس الإيطالي السابق اوسكار سكالفارو النائب حاليا في مجلس الشيوخ, كما دعي الي مخاطبة المؤتمر رئيس مجلس الشيوخ الايطالي مارتشيلو بيرا ووزير الخارجية غيناتو روجيرو ورئيس بلدية روما فلتر فلتروني.
اليوم الأول كان يوم اعلان المواقف امام الجمهور الكبير الذي احتشد في مركز المؤتمرات في منطقة باب كاستيلو بحضور200 مراسل صحفي ومحطة تليفزيونية وبين جلستي الصباح والمساء كان لقاؤنا مع الرئيس تشامبي, اما اليوم الثاني فقد خصص لمناقشة مغلقة بمقر الجمعية في ميدان اوبيازا سانت اجيديو بقلب مدينة روما القديمة.
كلام الكرادلة والأساقفة انطلق من الموقف الرافض للإرهاب والعنف والداعي الي ضرورة الحوار ومكافحة الظلم والفقر واقامة السلام علي اساس من الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة استبعدوا فكرة الصراع بين الأديان والحضارات ومنهم من قال ان مكافحة الارهاب ليست هي الواجب الوحيد, وانما علي الجميع ان يسعوا الي العيش المشترك بروح التسامح والمودة.
احد الكرادلة القادمين من الولايات المتحدة قال ان الكارثة لم تخل من فائدة, ففي اعقابها تزايد اعداد المقبلين علي حضور الصلوات في الكنائس, وقلت معدلات الطلاق وادرك الجميع اهمية الترابط الاسري وتوحد الشعب الأمريكي كما لم يتوحد من قبل.
(4)
ضم المتحدثون المسلمون اصواتهم الي صوت إدانة العنف والارهاب ورفض تشخيص الحملات الراهنة بحسبانها تعبيرا عن الصراع بين الحضارات, ولكنهم افاضوا كثيرا ووقفوا طويلا أمام الدعوة الي التصدي للارهاب بمعالجة اسبابه, كما رفضوا مبدأ مواجهة الارهاب بإرهاب من نوع آخر.
اشار الدكتور يوسف القرضاوي الي هذا المعني في كلمته التي قال فيها: إن المظالم وكبت الحريات في مقدمة الاسباب التي تؤدي الي الارهاب والتطرف, وضرب مثلا بما يتعرض له الشعب الفلسطيني, معتبرا انه يعد نموذجا للظلم الذي يسكت عليه المجتمع الدولي والذي تسوغه بعض الدول الكبري. وحذر في هذا الصدد من الخلط بين الإرهاب الذي هدد حياة الأبرياء بالخطر, وبين المقاومة الشرعية للاحتلال, التي هي حق مشروع ككل المواثيق الدولية فضلا عن التعاليم الدينية.
دعا القرضاوي ايضا الي اشاعة ثقافة الحوار بدلا من ثقافة الصراع, والي تفاعل الحضارات وتكاملها بدلا من التفاضل او الاستعلاء الحضاري. وقال اننا نريد للغرب ان يتحرر من عقدة الخوف من الاسلام ومن رواسب الحروب القديمة, وقال ان المطلوب الآن هو التركيز علي القواسم المشتركة بين أبناء الديانات وتعاون الجميع في الدفاع عن الإيمان الديني ضد الإلحاد والتحلل, وعلي نصرة قضايا العدل وتأييد المستضعفين, وإشاعة روح التسامح والرفق دون التعصب والعنف.
ركز الدكتور فريد واصل مفتي مصر علي موقف الاسلام في قضية السلام القائم علي العدل وليس الإجحاف والظلم, وكان واضحا حرص بقية المتحدثين علي تسليط الضوء علي الأسباب المؤدية الي العنف التي لا يشار اليها عادة في الاعلام الغربي, في هذا المعني تحدث الدكتور أحمد طالب الابراهيمي من الجزائر والشيخ محمد سعيد نعمان من إيران, والشيخ عبد الله بن بيه من موريتانيا والدكتور محمد العوا من مصر والدكتور عز الدين ابراهيم من دولة الامارات العربية والدكتور عبد الله ناصيف من السعودية.
الدكتور كمال ابو المجد تحدث عن جهود لجنة حوار الحضارات التابعة للأمم المتحدة التي قطعت شوطا بعيدا في صياغة اطار لنظام دولي جديد يضمن التعددية ويحترم الخصوصات الحضارية, ويحث علي التعاون في مواجهة الأخطار المشتركة القادمة, التي لن ينجو منها احد, وأبدي قلقا ازاء غالبية الرغبة في الثأر والانتقام, ردا علي ما جري في11 سبتمبر الأمر الذي يمكن ان يؤدي الي ابتداع اسلوب جديد في التعامل الدولي يقدم القوة علي الحق.
(5)
في كلمتي ركزت علي أربع نقاط: الأولي اننا ونحن بصدد الاعلان عن الحزن العميق لمقتل ستة آلاف مواطن أمريكي بريء ينبغي الا نسقط من الذاكرة مليون طفل عراقي بريء ماتوا من بين الحصار, وعشرات الآلاف الفلسطينيين الأبرياء الذين سقطوا ضحية الاحتلال. الثانية انه اذا كان اهل السياسة قد دعوا الي تحالف دولي ضد الارهاب فأولي بأهل الضمير ان يدعوا بالتوازي مع ذلك الي تحالف دولي ضد الظلم والكراهية. الثالثة ان ما قاله السيد برليسكوني عن الحضارة الاسلامية ينبغي ان يشكر عليه لا لأننا نوافقه علي ما قال, ولكن لأنه كشف المستور وأفصح عن حقيقة مشاعر أغلب السياسيين والمثقفين في العالم الغربي وهي المشاعر المسكونة بالاستعلاء والبغض ازاء الاسلام والمسلمين, الأمر الذي ينبهنا الي ضرورة الالتفات الي دور الثقافة السائدة في الغرب في إذكاء التعصب وإشاعة الكراهية ضدنا بين الناس.
النقطة الرابعة انني لم ار فرقا يذكر في النظر الي الآخرين: بن لادن وبين السيد برليسكوني, فهما ضحايا الفهم المغلوط ويقفان في مربع واحد من الكراهية, الأول يكره الغرب ويحاربه بسلاحه, والثاني يكره الإسلام ويوجه اليه سهام تصريحاته.
لا استطيع ان انهي ذكر ما جري دون الاشارة الي ضغوط العناصر الموالية لإسرائيل في داخل الفاتيكان لحصار لقاء سانت اجيديو والتقليل من فاعليته وهي العناصر التي كان لها دورها في الحيلولة دون التقاء المشاركين في الحوار مع البابا الذي تحمس في البداية لإجراء الحوار والاجتماع مع المتحاورين, وكان لهذه العناصر أيضا دورها في الضغط لاستبعاد الإشارة الي قضية فلسطين حين طرحت فكرة اصدار بيان ختامي عن اللقاء, وازاء تمسك الطرف الإسلامي بتلك النقطة, فقد استقر الرأي علي عدم اصدار البيان, والاكتفاء بالاعلان عن اقامة مكتب اتصال دائم بين الطرفين الإسلامي والمسيحي للتحرك المشترك لمواجهة اي موقف يستلزم ذلك.
حوار الساعة انتقل في الأسبوع الماضي الي روما, حيث التقي هناك فريقان من الشخصيات الاسلامية والمسيحية, الذين أمضوا يومين كاملين في مناقشات مفتوحة واخري مغلقة حاولت الإجابة علي العديد من الأسئلة الكبيرة المثارة, بدءا من السؤال لماذا جري ما جري؟ وانتهاء بالسؤال ما العمل, ومرورا بالسؤال كيف تستأصل جذور الارهاب ؟ ـ جمعية سانت اجيديو التي نظمت اللقاء الاول من نوعه في العالم الغربي اطلقت عليه وصف القمة الاسلامية ـ المسيحية وهو وصف لا يخلو من مبالغة, لأن اشتراك واحد مثلي فيه دليل ينقض ذلك الادعاء, ويثبت ان القاعدة كانت ممثلة هناك بدليل قاطع!
(1)
لم نبدأ الحوار بطبيعة الحال, لأنه منذ الحادي عشر من سبتمبر لا حديث للإيطاليين الا حول الذي جري في ذلك اليوم الاسود. ليس فقط لأن كل واحد عاش الحدث ورآه بعينيه اكثر من مرة وهو مالم يحدث من قبل في اي عمل ارهابي. وليس فقط لأن وسائل الاعلام الغربية ما برحت تحذر الناس من ان الغرب كله اصبح مستهدفا من قبل الجماعات الارهابية, ولكن ايضا لأن الايطاليين لا يكفون عن الحديث طوال اليوم, في كل شئ يحدث بالدنيا. فهم شعب حكاء بالسليقة تعدادهم58 مليونا و40 مليونا منهم يستخدمون الهواتف المحمولة.
قبل اللقاء كان الجدل مستمرا بين الايطاليين انفسهم. وكان صوت العناصر الموالية لإسرائيل هو الأعلي لأن الابواب مفتوحة امامها فضلا عن ان الرياح مواتية لها, نعم هناك برامج تليفزيونية عالجت الحدث بجرأة شديدة وفتحت مناقشات متصلة منذ ذلك التاريخ قدمت مختلف الآراء واكثرها صراحة وشجاعة. وهو ما دأب عليه مثلا الصحفي ومقدم البرامج الشهير ماوريتسو كلوستانسو الذي يقدم برنامجا باسمه طوال خمسة أيام من كل أسبوع أتسم بتلك الجرأة المدهشة التي لا تعرف الخطوط الحمراء.
هناك ايضا صراع واشتباك علي صفحات الصحف, بين المحرضين والكارهين للعرب والمسلمين, وبين الرافضين لهذا الموقف, الذين يقولون ان الارهاب لا دين له ولا قومية او وطن, ويحذرون من القاء التهم جزافا علي العرب والمسلمين, ومن مغبة استمرار الانحياز الامريكي والغربي لإسرائيل, ومن قبيل مقالات الكارهين والمحرضين ما نشرته الصحفية الايطالية المقيمة في نيويورك اوريانا فلاشي في صحيفة كوريري ديلا سيرا9/29 المضمون معروف ويكفي ان استاذا بجامعة باليرمو( في صقلية) هو البروفيسور انطونينو بيليتيري وصفه بأنه مشحون بالعنصرية والكراهية نحو الاسلام والعرب والمسلمين والمهاجرين. وهي المقالة التي ردت عليها بقوة وفندت افتراءاتها الكاتبة داتشا ماريا بيتي في الصحيفة ذاتها( عدد10/5).
ذلك الحوار الداخلي كان مستمرا ولا يزال وان ظل الصوت المنصف فيه اقلية. وما استجد في المشهد ان فريقا من المسلمين والعرب وقفوا بشخوصهم علي مسرح الحوار في روما واسمعوا صوتهم للجميع.
لم يكن خافيا قلق الإيطاليين مما حدث وهم الشعب المحب للحياة والمرح, والكاره للكآبة التي تسببها رائحة العنف والموت, اذ منذ شاهد الناس ما جري علي شاشات التليفزيون لزم كثيرون بيوتهم وعزفوا عن الترحال والسفر, كما هبطت الي ما دون النصف حركة السياح القادمين من الخارج, بل انهم عزفوا أيضا عن شراء السلع الكمالية تحت تأثير الحرص علي الاحتفاظ بأموالهم تحسبا لاحتمالات المستقبل. مرافقي الدكتور فابيو ريكاردي( طبيب متطوع للعمل بالمجان مع جمعية سانت ايجيديو اوقف مشروعه لاستبدال سيارته بأخري. وهو الذي قال لي انت لا تستطيع ان تقرأ في صحف الصباح اخبارا عن احتمال وجود خلية ارهابية في روما, ثم تذهب بعد ذلك لشراء سيارة جديدة, أو حتي تفكر في الخروج لتناول العشاء في الخارج, وانت مطمئن. وهو الكلام الذي سمعته في اكثر من واحد, وقال لي احد التجار الذين يتعاملون مع العالم العربي انه قرر قبل ايام ان يقوم برحلة الي دبي لتصريف بعض اعماله المعلقة فإن مدير المبيعات الذي يصحبه في كل سفرة اعتذر عن عدم الذهاب معه هذه المرة وقال انه لا يستطيع ان يركب طائرة غير عربية انها ستكون معرضة للتفجير من جانب الارهابيين ولا يمكنه أن يركب طائرة عربية لانها بدورها ستكون معرضة للتفجير من قبل الذين يريدون الانتقام من العرب. وهو إشكال لا حل له الا بالبقاء في ر وما وعدم مغادرتها لأي سبب.
(2)
شاءت المقادير ان تستقبل الوفود القادمة عاصفة سياسية لم تكن في الحسبان كان مصدرها السيد برليسكوني رئيس الوزراء وهو رجل الاعمال ذو السجل المثير للجدل, الذي دخل حديثا الي عالم السياسة وتعثرت خطواته في الداخل, فوجد في احداث11 سبتمبر فرصة في الحديث عن السياسة الخارجية, والهرولة صوب الولايات المتحدة في مزايدة مكشوفة علي تأييدها والانضمام الي حملتها علي الارهاب.
انضم برليسكوني الي جوقة الناقدين للإسلام فتحدث عن تفوق الحضارة الغربية علي الحضارة الاسلامية, واشار الي مسئولية الغرب عن تحضير المسلمين المتخلفين بذات اللغة التي استخدمها السياسيون الغربيون في القرنين الثامن والتاسع عشر لتسويغ استعمار دول آسيا وافريقيا للارتقاء بها!.
احدث كلامه صدمة في الأوساط الايطالية وضجة ترددت اصداؤها في العالم الاسلامي, كما يذكر الجميع. ووجدت المعارضة السياسية في كلامه بغيتها في التنديد به والكشف عن جهله بالسياسة الخارجية وعدم ادراكه لطبيعة العلاقات التي تربط بين ايطاليا والعالم الاسلامي والعربي.
لجأ بيرليسكوني الي اسلوب بسيط للغاية, فأعلن انه لم يقل هذا الكلام وان خصومه السياسيين هم الذين قولوه بما لم يقل. وجمع السفراء العرب وقال لهم هذا الكلام, ثم امتدح المسلمين وحضارتهم ببعض عبارات المجاملة, معتبرا ان الصفحة طويت والأمر انتهي.
مرافقي الدكتور فابيو استغرق في الضحك حين بلغه ما جري وقال: هذا الرجل دخل الي عالم السياسة من بابين: المال والكذب, وهو مستعد لأن يلقي عليك تحية الصباح, ثم يقطب جبينه في وجهك بعد لحظة ويقسم بأغلظ الايمان علي انه لم يتفوه من ذلك القبيل ولا يتردد في ان يرميك بتهمتي الافتراء وسوء القصد اذا تمسكت بقولك انك سمعته بأذنيك قبل دقيقة واحدة وهو يردد عبارة التحية!.
الطريف في الأمر انه رغم النفي الذي صدر عنه, فقد تصرف الجميع بعد ذلك علي ان الرجل حاول اصلاح خطئه بكذبة مكشوفة, ومن ثم فإنهم تجاهلوا بيان النفي, وظلوا ينتقدون رأيه وكان رئيس الجمهورية الإيطالي كارلو تشامبي في مقدمة أولئك الناقدين, حيث استمعنا منه حين التقيناه الي نقد قوي لفكرة المفاضلة بين الحضارات.
(3)
هي خطوة جريئة لا ريب تلك التي أقدمت عليها جمعية سانتا اجيديو حين اختارت ان تسبح ضد التيار السائد في الغرب, وان تدعو المسلمين للقاء مع المسيحيين في روما, لكي يقولوا للمتهم فيما جري لكن لم أفاجأ حين تلقيت دعوتها وهي التي حرصت منذ تأسيسها في عام68 علي القيام بدور في الدفاع عن المصالحة والسلام في اقطار عدة, فكان لها دورها في توقيع اتفاق السلام بين الفصيلين المتصارعين في موزمبيق بعد قتال بينهما استمر15 عاما. اذ رعت المفاوضات التي جرت بين ممثليهما في روما علي مدي26 شهرا. وهي ايضا التي دعت الي البحث عن حل للمأزق الجزائري حين جمعت ممثلي القوي السياسية الجزائرية في العاصمة الإيطالية الذين توصلوا الي اتفاق قبل أربع سنوات, لم يحقق المراد منه لأن الحكومة الجزائرية رفضته آنذاك.
فيما فهمت لاحقا فإن الذي حركها هذه المرة ودفعها للمسارعة الي عقد اللقاء الذي شهدت عوامل عدة, منها الحملة المسعورة علي الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي, وعودة البعض الي الحديث عن فكرة صدام الحضارات والخطأ الذي وقع فيه الرئيس الأمريكي بوش حين شبه الدعوة لإقامة ما سمي بالتحالف ضد الارهاب بالحروب الصليبية.
كنا أحد عشر شخصا من المشرق والمغرب ومنطقة الخليج وإيران تقدمهم الشيخ يوسف القرضاوي وبيننا اثنان يمثلان المسلمين في الولايات المتحدة الامريكية, وعلي الجانب الآخر, كان هناك لا ندريا ريكاردي مؤسس جمعية سانت أجيديو ورئيسها و14 شخصا من كرادلة وأساقفة الكنيسة اغلبهم من الكاثوليك واقلهم من الأرثوذكس, وفي المقدمة منهم كان الكاردينال كارلو مارتيني أسقف ميلانو المرشح لخلافة البابا الحالي, ومايكل فيتزجيرالد الأمين العام للمجلس البابوي للحوار بين الأديان بالفاتيكان.
أدار الحوار طيلة اليومين الرئيس الإيطالي السابق اوسكار سكالفارو النائب حاليا في مجلس الشيوخ, كما دعي الي مخاطبة المؤتمر رئيس مجلس الشيوخ الايطالي مارتشيلو بيرا ووزير الخارجية غيناتو روجيرو ورئيس بلدية روما فلتر فلتروني.
اليوم الأول كان يوم اعلان المواقف امام الجمهور الكبير الذي احتشد في مركز المؤتمرات في منطقة باب كاستيلو بحضور200 مراسل صحفي ومحطة تليفزيونية وبين جلستي الصباح والمساء كان لقاؤنا مع الرئيس تشامبي, اما اليوم الثاني فقد خصص لمناقشة مغلقة بمقر الجمعية في ميدان اوبيازا سانت اجيديو بقلب مدينة روما القديمة.
كلام الكرادلة والأساقفة انطلق من الموقف الرافض للإرهاب والعنف والداعي الي ضرورة الحوار ومكافحة الظلم والفقر واقامة السلام علي اساس من الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة استبعدوا فكرة الصراع بين الأديان والحضارات ومنهم من قال ان مكافحة الارهاب ليست هي الواجب الوحيد, وانما علي الجميع ان يسعوا الي العيش المشترك بروح التسامح والمودة.
احد الكرادلة القادمين من الولايات المتحدة قال ان الكارثة لم تخل من فائدة, ففي اعقابها تزايد اعداد المقبلين علي حضور الصلوات في الكنائس, وقلت معدلات الطلاق وادرك الجميع اهمية الترابط الاسري وتوحد الشعب الأمريكي كما لم يتوحد من قبل.
(4)
ضم المتحدثون المسلمون اصواتهم الي صوت إدانة العنف والارهاب ورفض تشخيص الحملات الراهنة بحسبانها تعبيرا عن الصراع بين الحضارات, ولكنهم افاضوا كثيرا ووقفوا طويلا أمام الدعوة الي التصدي للارهاب بمعالجة اسبابه, كما رفضوا مبدأ مواجهة الارهاب بإرهاب من نوع آخر.
اشار الدكتور يوسف القرضاوي الي هذا المعني في كلمته التي قال فيها: إن المظالم وكبت الحريات في مقدمة الاسباب التي تؤدي الي الارهاب والتطرف, وضرب مثلا بما يتعرض له الشعب الفلسطيني, معتبرا انه يعد نموذجا للظلم الذي يسكت عليه المجتمع الدولي والذي تسوغه بعض الدول الكبري. وحذر في هذا الصدد من الخلط بين الإرهاب الذي هدد حياة الأبرياء بالخطر, وبين المقاومة الشرعية للاحتلال, التي هي حق مشروع ككل المواثيق الدولية فضلا عن التعاليم الدينية.
دعا القرضاوي ايضا الي اشاعة ثقافة الحوار بدلا من ثقافة الصراع, والي تفاعل الحضارات وتكاملها بدلا من التفاضل او الاستعلاء الحضاري. وقال اننا نريد للغرب ان يتحرر من عقدة الخوف من الاسلام ومن رواسب الحروب القديمة, وقال ان المطلوب الآن هو التركيز علي القواسم المشتركة بين أبناء الديانات وتعاون الجميع في الدفاع عن الإيمان الديني ضد الإلحاد والتحلل, وعلي نصرة قضايا العدل وتأييد المستضعفين, وإشاعة روح التسامح والرفق دون التعصب والعنف.
ركز الدكتور فريد واصل مفتي مصر علي موقف الاسلام في قضية السلام القائم علي العدل وليس الإجحاف والظلم, وكان واضحا حرص بقية المتحدثين علي تسليط الضوء علي الأسباب المؤدية الي العنف التي لا يشار اليها عادة في الاعلام الغربي, في هذا المعني تحدث الدكتور أحمد طالب الابراهيمي من الجزائر والشيخ محمد سعيد نعمان من إيران, والشيخ عبد الله بن بيه من موريتانيا والدكتور محمد العوا من مصر والدكتور عز الدين ابراهيم من دولة الامارات العربية والدكتور عبد الله ناصيف من السعودية.
الدكتور كمال ابو المجد تحدث عن جهود لجنة حوار الحضارات التابعة للأمم المتحدة التي قطعت شوطا بعيدا في صياغة اطار لنظام دولي جديد يضمن التعددية ويحترم الخصوصات الحضارية, ويحث علي التعاون في مواجهة الأخطار المشتركة القادمة, التي لن ينجو منها احد, وأبدي قلقا ازاء غالبية الرغبة في الثأر والانتقام, ردا علي ما جري في11 سبتمبر الأمر الذي يمكن ان يؤدي الي ابتداع اسلوب جديد في التعامل الدولي يقدم القوة علي الحق.
(5)
في كلمتي ركزت علي أربع نقاط: الأولي اننا ونحن بصدد الاعلان عن الحزن العميق لمقتل ستة آلاف مواطن أمريكي بريء ينبغي الا نسقط من الذاكرة مليون طفل عراقي بريء ماتوا من بين الحصار, وعشرات الآلاف الفلسطينيين الأبرياء الذين سقطوا ضحية الاحتلال. الثانية انه اذا كان اهل السياسة قد دعوا الي تحالف دولي ضد الارهاب فأولي بأهل الضمير ان يدعوا بالتوازي مع ذلك الي تحالف دولي ضد الظلم والكراهية. الثالثة ان ما قاله السيد برليسكوني عن الحضارة الاسلامية ينبغي ان يشكر عليه لا لأننا نوافقه علي ما قال, ولكن لأنه كشف المستور وأفصح عن حقيقة مشاعر أغلب السياسيين والمثقفين في العالم الغربي وهي المشاعر المسكونة بالاستعلاء والبغض ازاء الاسلام والمسلمين, الأمر الذي ينبهنا الي ضرورة الالتفات الي دور الثقافة السائدة في الغرب في إذكاء التعصب وإشاعة الكراهية ضدنا بين الناس.
النقطة الرابعة انني لم ار فرقا يذكر في النظر الي الآخرين: بن لادن وبين السيد برليسكوني, فهما ضحايا الفهم المغلوط ويقفان في مربع واحد من الكراهية, الأول يكره الغرب ويحاربه بسلاحه, والثاني يكره الإسلام ويوجه اليه سهام تصريحاته.
لا استطيع ان انهي ذكر ما جري دون الاشارة الي ضغوط العناصر الموالية لإسرائيل في داخل الفاتيكان لحصار لقاء سانت اجيديو والتقليل من فاعليته وهي العناصر التي كان لها دورها في الحيلولة دون التقاء المشاركين في الحوار مع البابا الذي تحمس في البداية لإجراء الحوار والاجتماع مع المتحاورين, وكان لهذه العناصر أيضا دورها في الضغط لاستبعاد الإشارة الي قضية فلسطين حين طرحت فكرة اصدار بيان ختامي عن اللقاء, وازاء تمسك الطرف الإسلامي بتلك النقطة, فقد استقر الرأي علي عدم اصدار البيان, والاكتفاء بالاعلان عن اقامة مكتب اتصال دائم بين الطرفين الإسلامي والمسيحي للتحرك المشترك لمواجهة اي موقف يستلزم ذلك.