هويدي 2-10-2001
حين تابعت نشرات الأخبار يوم الجمعة الماضي, الذي أتمت فيه الانتفاضة عامها الأول, لاحظت ان ترتيبها في أولوية البث تراجع الي المرتبة الرابعة أو الخامسة في معظم الفضائيات العربية ـ لا تسأل عن العالمية!ـ وكانت تلك إشارة غير مستغربة إلي الانحسار النسبي لموقع الانتفاضة في الاهتمامات العربية, وبدرجة أو أخري لدي الرأي العام العربي, بعدما استولي الحدث الأمريكي علي الأسماع والأفئدة والأبصار, وخطف الأضواء من كل حدث آخر, وإذا صح ذلك التقرير, فإنه يثير العديد من الأسئلة القلقة حول مصير الانتفاضة, وما اذا كانت دماء700 شهيد وجراح30 ألف فلسطيني وتهديم4 آلاف بيت وخسائر4 مليارات دولار للاقتصاد الفلسطيني, ذلك كله ذهب هباء في مغامرة خاسرة.
(1)
لست واثقا من أن ذلك الانصراف يمثل لحظة زمنية عابرة, خصوصا ان الحدث الأمريكي مرشح للامتداد الي اجل غير معروف, كما ان وتيرة الأحداث مرشحة بدورها للتصاعد الي مدي غير معلوم, وكل ما نستطيع ان نقوله الآن ان استيلاء الحدث الأمريكي علي الوجدان العام ـ حتي في عالمنا العربي ـ سيظل مستمرا حتي إشعار آخر:
ويبدو أن الحدث الأمريكي الذي فاجأ الجميع وصرف أنظار كثيرين عن الشأن الفلسطيني سرب شعورا بالإحباط لدي البعض ممن رأوا فيما جري نذيرا بإسدال الستار علي الانتفاضة, ومسارا مؤديا الي طي صفحتها دون مقابل يذكر للتضحيات الجسيمة التي قدمت خلال العام المنصرم. وقد قرأنا أخيرا كتابات عبرت عن هذا الموقف في جريدة الحياة اللندنية بوجه أخص, حيث ما برح هؤلاء يتحدثون عن حجم الدمار الذي تلحقه آلة الحرب الإسرائيلية والاستباحة شبه الكاملة لكل ركائز الحياة والوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع, ويسألون عما إذا كانت الانتفاضة مطلوبة بذاتها, كي يحتفل العرب بها كل عام, أم أنها وسيلة لتحقيق اهداف بعينها, وقد يتبين أولا يتبين ان هناك وسائل اخري تقصر الطريق لبلوغ الهدف ذاته, وهو تقصير عمر الاحتلال اوالحفاظ علي سلامة النسيج الاجتماعي.
وتعزيز مقومات الحياة في مرحلة من المراحل ـ( محمود الريماوي ـ الحياة ـ9/11).
هذه الكتابات ذاتها اتكأت علي تهافت الدعم العربي وابدت تبرما واستياء ممن اطلقوا عليهم حزب المتفرجين العرب, الذين يؤدون ادوارهم البطولية من خلال الحماس للتضحية بآخر فلسطيني علي مذبح القضية.
محدودة هذه الأصوات حقا, لكنها تظل معبرة عن نبرة اليأس التي تسللت الي نفوس البعض ممن راعتهم فكرة احتمال انتهاء الانتفاضة فجأة, بعد الذي جري في الولايات المتحدة, في حين ان الآمال التي علقت عليها لم تتحقق بعد, او هكذا بدا لهم علي الأقل.
هذه النقطة الأخيرة هي ما اردت تحريره اليوم.. لكن قبل ذلك ارجو ان الفت النظر الي ان الحكم علي الانتفاضة من منظور الهدف النهائي يظلمها كثيرا, ويحملها بما لا تحتمل. فإذا قال قائل انها لم تحقق الاستقلال المنشود فقوله صحيح لا ريب, لكنه ايضا ظالم ومتعسف الي حد كبير, حيث لم يقل احد ان الانتفاضة هي الفصل الأخير في سجل الصراع, الذي بعده سيبزغ الفجر ويتحقق الحلم, وإنما الكلام يغدو أكثر صوابا وإنصافا لو أنه ناقش الأمر من زاوية مدي التقدم الذي حققته الانتفاضة للاقتراب من الهدف المنشود.
(2)
يساعدنا علي تحرير الموقف ملاحظة أمرين أحسبهما من الأهمية بمكان, اولهما ان وصف ما شهدته الأرض المحتلة خلال العام الماضي بأنه انتفاضة يفتقر الي الدقة, من حيث انه يكاد يهون من المشهد, ويوحي بأنه تكرار لانتفاضة الحجارة التي تفجرت في عام87, وإذا كانت مشاهد استخدام الحجارة تكررت هذه المرة ايضا, فإننا ينبغي الا نتجاهل ان مدافع الهاون الفلسطينية شاركت في المعركة, وان بعضا من القوات الفلسطينية( التي لم تكن موجودة في الانتفاضة الأولي) كانت طرفا في الاشتباكات التي حدثت ضد الاسرائيليين ـ وكذلك فلسنا نبالغ اذا قلنا ان ما جري كان اكبر من الانتفاضة واقرب الي الثورة المسلحة, التي شارك فيها الشعب الفلسطيني بأسره, بما في ذلك فلسطينيو عام48 الذين قتل منهم بالرصاص الإسرائيلي13 شخصا.
الأمر الثاني ان الجميع ادركوا من خلال تجربة العام ان الصراع طويل وممتد, وان الكلام عن إنهائه باتفاقات توقع او تصريحات يسوقها بعض السياسيين, هو تعبير عن الغفلة, او الاستغفال إذ أثبتت التجربة ان محاولة فرض تسوية غيرمقبولة وظالمة للشعب الفلسطيني لن تضع حدا للصراع, فقبل عام كان الظن ان الرئيس الأمريكي حينما ألقي بثقله في المفاوضات سيحقق النجاح المنشود. وقبل عشرة أعوام ساد اعتقاد بأن اتفاقات أوسلو قد وضعت نهاية للصراع علي فلسطين, واثبتت الأيام ان كل التوقعين جانبه الصواب, وان تطورات الاحداث وتعقيدات الصراع اكدت سذاجة الإقدام علي توقعات من ذلك القبيل.
في8/31 الماضي نشرت صحيفة يديعوت احرونوت في ملحقها الاسبوعي وقائع ندوة تعرضت لهذا الموضوع اشترك فيها عدد من كبار المثقفين الاسرائيليين, وكان احد الأسئلة التي طرحت يقول: هل ثمة بارقة امل في نهاية للصراع علي الأقل حتي سنة2006 كما يقول احد سيناريوهات شعبة الاستخبارات العسكرية.
رد علي السؤال البروفيسور رابينوفتش قائلا: ثمة صراعات تاريخية وقومية ليس لها حلول في الأجل المنظور, وهذا ينطبق علي حالتنا ـ اثارت الاجابة دهشة الشخص الذي ادار الحوار فتساءل قائلا: نزاع بلا حل؟ لقد قيل قبل سنة اننا قريبون من الحل.
رد مشارك آخر هو البروفيسور جلبر قائلا: ليس صحيحا اننا كنا قريبين من الحل ولكننا اوهمنا انفسنا بذلك بتشجيع من النخبة السياسية, واليوم يواجه مصممو الرأي العام في المجتمع الاسرائيلي صعوبة شديدة في الاعتراف بأن هذا الصراع غير قابل للحل!
(3)
هل يمكن القول حقا إن الانتفاضة كانت صفقة خاسرة, دفع فيها الكثير وكان العائد صفرا ودون مردود يذكر؟
حين نجيب علي السؤال ينبغي ان نستحضر الحقائق التالية:
* كشفت الانتفاضة عن ان الشعب الفلسطيني يتمتع بقدرة علي الصمود أسطورية ومذهلة, وهي قدرة فاجأت كل الذين راهنوا علي محدودية طاقة الاحتمال لدي ذلك الشعب البطل. الأمر الذي دفعهم الي المطالبة بالتوصل الي اي حل سياسي سريع يخلص الناس في المعاناة والعذاب ويضع حدا للأحوال التي يتعرضون لها يوما بعد يوم, سواء في ظروف الحرب المعلنة ضدهم او ظروف المعيشة البائسة التي فرضت عليهم, وبعدما استمر الصمود حتي الآن, مستصحبا درجة عالية من الكبرياء والاصرار علي رفض الركوع والانكسار امام العدو, عاد المتشككون يتحدثون عن امكانية الصمود ومواصلة الانتفاضة لسنوات مقبلة.
* حققت الانتفاضة درجة عالية من التلاحم بين فئات وفصائل الشعب الفلسطيني, اذ خلال العام المنصرم وضعت الوحدة الفلسطينية والالتفاف حول خيارالمقاومة موضع الاختبار وقد نجحت فيه بامتياز علي الأقل في حدود الفصائل الثلاث عشرة الموجودة علي الساحة وفي المقدمة منها فتح وحماس والجهاد الاسلامي وفي محطات كثيرة تحقق التلاحم مع السلطة الفلسطينية ذاتها, خصوصا بعدما اثبتت في مفاوضات كامب ديفيد الثانية انها ملتزمة بالثوابت الوطنية التي لا يمكن التفريط فيها او المساومة عليها.
* كشفت الانتفاضة عن عقم المفاوضات التي استمرت عقدا من الزمن ولم تحقق شيئا, سوي محاولات تقنين الاحتلال وترسيخ اقدامه. ويلفت النظر في هذا الصدد ان انتفاضة87 هي التي دفعت اسرائيل الي الدخول في مفاوضات أوسلو لوقف وامتصاص غضب الشعب الفلسطيني, من خلال تزيين المستقبل له وإيهامه بانفراج قادم. وقد جاءت انتفاضة العام ألفين لكي توقف العبث وتبطل السحر وتنهي العرض الهزلي.
* أثبتت الانتفاضة ان الحل العسكري الاسرائيلي لا طائل من ورائه وأن آلة الحرب التي استخدمها شارون وفريقه لم ترهب احدا ولم توقف مسيرة المقاومة حتي بات التصعيد الاسرائيلي وكأنه قتل من اجل القتل. وبدا واضحا ان المسار الوحيد الذي يمكن ان ينقذ شارون من كل ما صادفه هوالوساطات والتراجعات للوصول الي اتفاقات ما, لوقف العنف والعودة الي طاولة المفاوضات الأمر الذي رسخ حقيقة ان الأمن لن يتحقق للإسرائيليين دون حل سلمي مع الفلسطينيين حيث لم يجلب لهم التصعيد العسكري الا المزيد من الترويع والفزع.
* أثبتت الانتفاضة أيضا ان الفلسطينيين لا يستطيعون ان يعيشوا مع الاستيطان, كما اثبتت للإسرائيليين ان فلسطينيي اليوم ليسوا فلسطينيي العامين48 و67 وأنهم لن يخضعوا لمحاولات ترحيلهم وتهجيرهم من اراضيهم, فالاستيطان يظل رمزا للاغتصاب والاحتلال لابد ان يزول في ظل اي وضع سياسي مستقبلي, ثم ان زمن الانكسار والهزيمة قد ولي, ناهيك عن ان الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر سقطت هيبته في مواجهات الأرض المحتلة, وفي جنوب لبنان, وقد تلقي الاسرائيليون تلك الرسالة حين حاولوا احتلال بعض المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية( في جنين وبيت جالا), حيث ووجهوا بمقاومة من الأهالي لم يتوقعوها, الأمر الذي أسقط ورقة التهديد باعادة احتلال تلك المناطق الذي كثيرا ما لوح بها العسكريون الاسرائيليون.
* اثبتت الانتفاضة انه ليس بوسع الاسرائيليين ان ينعموا بالأمن والاستقرار, الا اذا توصلوا الي حل سلمي مع الفلسطينيين ليس اي حل وليس حلا مفروضا, وانما حل يلبي الحد الأدني من الحقوق الفلسطينية الأمر الذي من شأنه ان ينزع فتيل الشعور بالظلم والمهانة, الذي يفجر الغضب الفلسطيني بمختلف تجلياته, التي ذاق الاسرائيليون مرارتها.
* أعادت الانتفاضة ملف القضية الي مكانته الطبيعية في الوجدان العربي وهي المكانة التي اهتزت بصورة نسبية حين بدا ان القيادة الفلسطينية انفردت بالإبحار خارج السرب العربي. ومع تنامي المشاعر القطرية في ظل تهتك النظام العربي عقب غزو العراق للكويت عام1990 م.
ورغم ان الجماهير العربية لم يتح لها ان تعبر عن حقيقة مشاعرها لأسباب مختلفة تراوحت بين قطر وآخر, الا اننا لمسنا ذلك الالتفاف في دعوات مقاطعة البضائع الاسرائيلية والامريكية, وفي الفتاوي التي حثت علي تلك المقاطعة وباركت العمليات الاستشهادية داخل الأراضي المحتلة.
(4)
كشف العام الذي انقضي من عمر الانتفاضة ان بنية المجتمع الاسرائيلي علي قدر كبير من الهشاشة والضعف, يكفي في التدليل علي ذلك ملاحظة ان عددا كبيرا من الكتاب والسياسيين أفزعتهم الانتفاضة, التي تفجرت عقب فشل تسويق عملية السلام, وهؤلاء اصبحوا يتحدثون عن الانتفاضة كأكبر تهديد وجودي في تاريخ دولة اسرائيل وتحفل الصحف الاسرائيلية بالمعلومات التي ترسم معالم تلك الهشاشة التي كانت بعيدة عن اذهاننا, اغلب الظن لأن المقاومة الفلسطينية نقلت معركتها الي داخل اسرائيل ذاتها لأول مرة في تاريخ الصراع.
الفزع الذي اصاب الاسرائيليين من جراء شعورهم بالتهديد والخطر مهم في ذاته وفي دلالته ذلك انه يعد قرينة علي فشل المشروع الصهيوني الاستيطاني والإحلالي, ذلك ان آباء المشروع حين استقدموهم أوهموهم بأن اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها, والاستقرار في أرض الميعاد هو نهاية الأحزان, وبداية الاستقرار والأمان, لكن الانتفاضة نبهتهم بعد نصف قرن من قيام دولة إسرائيل إلي أن ما وعدوا به كان سرابا, وان الذي يتمدد فوق جثة شعب آخر وأشلائه لن يستقيم له أمان, وحين بدأ بعض الاسرائيليين يقولون عبر الصحف ومن خلال البرامج التليفزيونية والإذاعية أنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان إلا بعد مغادرة إسرائيل, فإن هذا الاعتراف يعد إشهارا ضمنيا لفشل المشروع الاستيطاني وإفلاسه.
لم يعد هناك مقهي أو مطعم او محل تجاري في إسرائيل الا وهو تحت الحراسة طيلة24 ساعة, والذين تابعوا مشهد بداية العام الدراسي هناك لاحظوا ان المدارس فتحت تحت حراسة7500 شرطي وآلاف المتطوعين, وثمة مناقشات مستمرة في الصحف حول ارتفاع عدد رافضي الخدمة في الضفة والقطاع وزيادة معدلات الهرب من المستوطنات, والارتفاع الهائل في تعاطي المهدئات, يضاف الي ذلك ان الأوضاع الاقتصادية أصيبت بما يشبه الشلل, حيث تجاوز الأمر هروب رؤوس الأموال, وتسريح اعداد كبيرة من العمال وانخفاض60% من حركة الزوار لإسرائيل, وتوقف حركة الطيران الا بالنسبة للإسرائيليين المغادرين للخارج,( معاريف2001/8/15).
(5)
بعض الفلسطينيين يقولون ان مؤسسة السلطة تمثل نقطة ضعف في المشهد فهي التي وقعت اتفاقيات أوسلو وتحمست لها, وهي التي اعلنت فشلها. وهذا الفشل كان ينبغي ان يستتبع خروج الذين وقعوا علي الاتفاقيات في المشهد كي يفسحوا الطريق لغيرهم ممن لم يتحمل مسئولية الخطأ السياسي الكبير الذي ارتكب لكن ذلك لم يحدث.
البعض الآخر يقول ان الانتفاضة أسقطت حكومة اسرائيلية, وبسبيلها لإسقاط الثانية, لكنها لم تفلح في إرغام اي وزير فاسد في السلطة الفلسطينية علي الاستقالة, وهؤلاء وهؤلاء يقولون ان الاصلاح السياسي داخل البيت الفلسطيني مهم في كل وقت, وأكثر أهمية في الوقت الراهن, لاستمرار الانتفاضة, لأن الانتفاضة والفساد في السلطة لا يجتمعان.
يبقي بعد ذلك السؤال الكبير هل توقفت الانتفاضة, وهل تتوافر لها مقومات الاستمرار في ظل الظروف الدولية والإقليمية الراهنة؟.
ردي علي ذلك ان الانتفاضة لم تتوقف, بشهادة الدم الذي لا يزال يسيل كل يوم, وإذا كانت الفصائل المختلفة قد هدأت من وتيرة عملياتها, فغاية ما يمكن ان يقال ان ذلك الهدوء نسبي, ولحسابات مفهومة لكنه لا يمكن ان يوصف بأكثر من انه شبه هدنة بين جولات الصراع.
ثم انه ليس هناك سبب لإيقاف استمرار الانتفاضة, اولا لأن الاحتلال قائم ولم يتغير فيه شيء وثانيا لأن شارون ليس لديه شيء يقدمه وسياسته لا تعرف سوي شيء واحد هو القمع, وهو ما يعني ان الانتفاضة صارت قدرا لا خيار للفلسطينيين فيه ولا بديل لها سوي اعلان الهزيمة والانكسار.
من ثم فلا مجال للتساؤل عما إذا كانت ستوقف أم لا, ولكن السؤال هو ما الذي يتعين علينا ان نفعله لكي نعزز مسيرتها, ونجعلها تستمر لأطول أجل ممكن, وبأكثر فاعلية ممكنة؟.
حين تابعت نشرات الأخبار يوم الجمعة الماضي, الذي أتمت فيه الانتفاضة عامها الأول, لاحظت ان ترتيبها في أولوية البث تراجع الي المرتبة الرابعة أو الخامسة في معظم الفضائيات العربية ـ لا تسأل عن العالمية!ـ وكانت تلك إشارة غير مستغربة إلي الانحسار النسبي لموقع الانتفاضة في الاهتمامات العربية, وبدرجة أو أخري لدي الرأي العام العربي, بعدما استولي الحدث الأمريكي علي الأسماع والأفئدة والأبصار, وخطف الأضواء من كل حدث آخر, وإذا صح ذلك التقرير, فإنه يثير العديد من الأسئلة القلقة حول مصير الانتفاضة, وما اذا كانت دماء700 شهيد وجراح30 ألف فلسطيني وتهديم4 آلاف بيت وخسائر4 مليارات دولار للاقتصاد الفلسطيني, ذلك كله ذهب هباء في مغامرة خاسرة.
(1)
لست واثقا من أن ذلك الانصراف يمثل لحظة زمنية عابرة, خصوصا ان الحدث الأمريكي مرشح للامتداد الي اجل غير معروف, كما ان وتيرة الأحداث مرشحة بدورها للتصاعد الي مدي غير معلوم, وكل ما نستطيع ان نقوله الآن ان استيلاء الحدث الأمريكي علي الوجدان العام ـ حتي في عالمنا العربي ـ سيظل مستمرا حتي إشعار آخر:
ويبدو أن الحدث الأمريكي الذي فاجأ الجميع وصرف أنظار كثيرين عن الشأن الفلسطيني سرب شعورا بالإحباط لدي البعض ممن رأوا فيما جري نذيرا بإسدال الستار علي الانتفاضة, ومسارا مؤديا الي طي صفحتها دون مقابل يذكر للتضحيات الجسيمة التي قدمت خلال العام المنصرم. وقد قرأنا أخيرا كتابات عبرت عن هذا الموقف في جريدة الحياة اللندنية بوجه أخص, حيث ما برح هؤلاء يتحدثون عن حجم الدمار الذي تلحقه آلة الحرب الإسرائيلية والاستباحة شبه الكاملة لكل ركائز الحياة والوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع, ويسألون عما إذا كانت الانتفاضة مطلوبة بذاتها, كي يحتفل العرب بها كل عام, أم أنها وسيلة لتحقيق اهداف بعينها, وقد يتبين أولا يتبين ان هناك وسائل اخري تقصر الطريق لبلوغ الهدف ذاته, وهو تقصير عمر الاحتلال اوالحفاظ علي سلامة النسيج الاجتماعي.
وتعزيز مقومات الحياة في مرحلة من المراحل ـ( محمود الريماوي ـ الحياة ـ9/11).
هذه الكتابات ذاتها اتكأت علي تهافت الدعم العربي وابدت تبرما واستياء ممن اطلقوا عليهم حزب المتفرجين العرب, الذين يؤدون ادوارهم البطولية من خلال الحماس للتضحية بآخر فلسطيني علي مذبح القضية.
محدودة هذه الأصوات حقا, لكنها تظل معبرة عن نبرة اليأس التي تسللت الي نفوس البعض ممن راعتهم فكرة احتمال انتهاء الانتفاضة فجأة, بعد الذي جري في الولايات المتحدة, في حين ان الآمال التي علقت عليها لم تتحقق بعد, او هكذا بدا لهم علي الأقل.
هذه النقطة الأخيرة هي ما اردت تحريره اليوم.. لكن قبل ذلك ارجو ان الفت النظر الي ان الحكم علي الانتفاضة من منظور الهدف النهائي يظلمها كثيرا, ويحملها بما لا تحتمل. فإذا قال قائل انها لم تحقق الاستقلال المنشود فقوله صحيح لا ريب, لكنه ايضا ظالم ومتعسف الي حد كبير, حيث لم يقل احد ان الانتفاضة هي الفصل الأخير في سجل الصراع, الذي بعده سيبزغ الفجر ويتحقق الحلم, وإنما الكلام يغدو أكثر صوابا وإنصافا لو أنه ناقش الأمر من زاوية مدي التقدم الذي حققته الانتفاضة للاقتراب من الهدف المنشود.
(2)
يساعدنا علي تحرير الموقف ملاحظة أمرين أحسبهما من الأهمية بمكان, اولهما ان وصف ما شهدته الأرض المحتلة خلال العام الماضي بأنه انتفاضة يفتقر الي الدقة, من حيث انه يكاد يهون من المشهد, ويوحي بأنه تكرار لانتفاضة الحجارة التي تفجرت في عام87, وإذا كانت مشاهد استخدام الحجارة تكررت هذه المرة ايضا, فإننا ينبغي الا نتجاهل ان مدافع الهاون الفلسطينية شاركت في المعركة, وان بعضا من القوات الفلسطينية( التي لم تكن موجودة في الانتفاضة الأولي) كانت طرفا في الاشتباكات التي حدثت ضد الاسرائيليين ـ وكذلك فلسنا نبالغ اذا قلنا ان ما جري كان اكبر من الانتفاضة واقرب الي الثورة المسلحة, التي شارك فيها الشعب الفلسطيني بأسره, بما في ذلك فلسطينيو عام48 الذين قتل منهم بالرصاص الإسرائيلي13 شخصا.
الأمر الثاني ان الجميع ادركوا من خلال تجربة العام ان الصراع طويل وممتد, وان الكلام عن إنهائه باتفاقات توقع او تصريحات يسوقها بعض السياسيين, هو تعبير عن الغفلة, او الاستغفال إذ أثبتت التجربة ان محاولة فرض تسوية غيرمقبولة وظالمة للشعب الفلسطيني لن تضع حدا للصراع, فقبل عام كان الظن ان الرئيس الأمريكي حينما ألقي بثقله في المفاوضات سيحقق النجاح المنشود. وقبل عشرة أعوام ساد اعتقاد بأن اتفاقات أوسلو قد وضعت نهاية للصراع علي فلسطين, واثبتت الأيام ان كل التوقعين جانبه الصواب, وان تطورات الاحداث وتعقيدات الصراع اكدت سذاجة الإقدام علي توقعات من ذلك القبيل.
في8/31 الماضي نشرت صحيفة يديعوت احرونوت في ملحقها الاسبوعي وقائع ندوة تعرضت لهذا الموضوع اشترك فيها عدد من كبار المثقفين الاسرائيليين, وكان احد الأسئلة التي طرحت يقول: هل ثمة بارقة امل في نهاية للصراع علي الأقل حتي سنة2006 كما يقول احد سيناريوهات شعبة الاستخبارات العسكرية.
رد علي السؤال البروفيسور رابينوفتش قائلا: ثمة صراعات تاريخية وقومية ليس لها حلول في الأجل المنظور, وهذا ينطبق علي حالتنا ـ اثارت الاجابة دهشة الشخص الذي ادار الحوار فتساءل قائلا: نزاع بلا حل؟ لقد قيل قبل سنة اننا قريبون من الحل.
رد مشارك آخر هو البروفيسور جلبر قائلا: ليس صحيحا اننا كنا قريبين من الحل ولكننا اوهمنا انفسنا بذلك بتشجيع من النخبة السياسية, واليوم يواجه مصممو الرأي العام في المجتمع الاسرائيلي صعوبة شديدة في الاعتراف بأن هذا الصراع غير قابل للحل!
(3)
هل يمكن القول حقا إن الانتفاضة كانت صفقة خاسرة, دفع فيها الكثير وكان العائد صفرا ودون مردود يذكر؟
حين نجيب علي السؤال ينبغي ان نستحضر الحقائق التالية:
* كشفت الانتفاضة عن ان الشعب الفلسطيني يتمتع بقدرة علي الصمود أسطورية ومذهلة, وهي قدرة فاجأت كل الذين راهنوا علي محدودية طاقة الاحتمال لدي ذلك الشعب البطل. الأمر الذي دفعهم الي المطالبة بالتوصل الي اي حل سياسي سريع يخلص الناس في المعاناة والعذاب ويضع حدا للأحوال التي يتعرضون لها يوما بعد يوم, سواء في ظروف الحرب المعلنة ضدهم او ظروف المعيشة البائسة التي فرضت عليهم, وبعدما استمر الصمود حتي الآن, مستصحبا درجة عالية من الكبرياء والاصرار علي رفض الركوع والانكسار امام العدو, عاد المتشككون يتحدثون عن امكانية الصمود ومواصلة الانتفاضة لسنوات مقبلة.
* حققت الانتفاضة درجة عالية من التلاحم بين فئات وفصائل الشعب الفلسطيني, اذ خلال العام المنصرم وضعت الوحدة الفلسطينية والالتفاف حول خيارالمقاومة موضع الاختبار وقد نجحت فيه بامتياز علي الأقل في حدود الفصائل الثلاث عشرة الموجودة علي الساحة وفي المقدمة منها فتح وحماس والجهاد الاسلامي وفي محطات كثيرة تحقق التلاحم مع السلطة الفلسطينية ذاتها, خصوصا بعدما اثبتت في مفاوضات كامب ديفيد الثانية انها ملتزمة بالثوابت الوطنية التي لا يمكن التفريط فيها او المساومة عليها.
* كشفت الانتفاضة عن عقم المفاوضات التي استمرت عقدا من الزمن ولم تحقق شيئا, سوي محاولات تقنين الاحتلال وترسيخ اقدامه. ويلفت النظر في هذا الصدد ان انتفاضة87 هي التي دفعت اسرائيل الي الدخول في مفاوضات أوسلو لوقف وامتصاص غضب الشعب الفلسطيني, من خلال تزيين المستقبل له وإيهامه بانفراج قادم. وقد جاءت انتفاضة العام ألفين لكي توقف العبث وتبطل السحر وتنهي العرض الهزلي.
* أثبتت الانتفاضة ان الحل العسكري الاسرائيلي لا طائل من ورائه وأن آلة الحرب التي استخدمها شارون وفريقه لم ترهب احدا ولم توقف مسيرة المقاومة حتي بات التصعيد الاسرائيلي وكأنه قتل من اجل القتل. وبدا واضحا ان المسار الوحيد الذي يمكن ان ينقذ شارون من كل ما صادفه هوالوساطات والتراجعات للوصول الي اتفاقات ما, لوقف العنف والعودة الي طاولة المفاوضات الأمر الذي رسخ حقيقة ان الأمن لن يتحقق للإسرائيليين دون حل سلمي مع الفلسطينيين حيث لم يجلب لهم التصعيد العسكري الا المزيد من الترويع والفزع.
* أثبتت الانتفاضة أيضا ان الفلسطينيين لا يستطيعون ان يعيشوا مع الاستيطان, كما اثبتت للإسرائيليين ان فلسطينيي اليوم ليسوا فلسطينيي العامين48 و67 وأنهم لن يخضعوا لمحاولات ترحيلهم وتهجيرهم من اراضيهم, فالاستيطان يظل رمزا للاغتصاب والاحتلال لابد ان يزول في ظل اي وضع سياسي مستقبلي, ثم ان زمن الانكسار والهزيمة قد ولي, ناهيك عن ان الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر سقطت هيبته في مواجهات الأرض المحتلة, وفي جنوب لبنان, وقد تلقي الاسرائيليون تلك الرسالة حين حاولوا احتلال بعض المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية( في جنين وبيت جالا), حيث ووجهوا بمقاومة من الأهالي لم يتوقعوها, الأمر الذي أسقط ورقة التهديد باعادة احتلال تلك المناطق الذي كثيرا ما لوح بها العسكريون الاسرائيليون.
* اثبتت الانتفاضة انه ليس بوسع الاسرائيليين ان ينعموا بالأمن والاستقرار, الا اذا توصلوا الي حل سلمي مع الفلسطينيين ليس اي حل وليس حلا مفروضا, وانما حل يلبي الحد الأدني من الحقوق الفلسطينية الأمر الذي من شأنه ان ينزع فتيل الشعور بالظلم والمهانة, الذي يفجر الغضب الفلسطيني بمختلف تجلياته, التي ذاق الاسرائيليون مرارتها.
* أعادت الانتفاضة ملف القضية الي مكانته الطبيعية في الوجدان العربي وهي المكانة التي اهتزت بصورة نسبية حين بدا ان القيادة الفلسطينية انفردت بالإبحار خارج السرب العربي. ومع تنامي المشاعر القطرية في ظل تهتك النظام العربي عقب غزو العراق للكويت عام1990 م.
ورغم ان الجماهير العربية لم يتح لها ان تعبر عن حقيقة مشاعرها لأسباب مختلفة تراوحت بين قطر وآخر, الا اننا لمسنا ذلك الالتفاف في دعوات مقاطعة البضائع الاسرائيلية والامريكية, وفي الفتاوي التي حثت علي تلك المقاطعة وباركت العمليات الاستشهادية داخل الأراضي المحتلة.
(4)
كشف العام الذي انقضي من عمر الانتفاضة ان بنية المجتمع الاسرائيلي علي قدر كبير من الهشاشة والضعف, يكفي في التدليل علي ذلك ملاحظة ان عددا كبيرا من الكتاب والسياسيين أفزعتهم الانتفاضة, التي تفجرت عقب فشل تسويق عملية السلام, وهؤلاء اصبحوا يتحدثون عن الانتفاضة كأكبر تهديد وجودي في تاريخ دولة اسرائيل وتحفل الصحف الاسرائيلية بالمعلومات التي ترسم معالم تلك الهشاشة التي كانت بعيدة عن اذهاننا, اغلب الظن لأن المقاومة الفلسطينية نقلت معركتها الي داخل اسرائيل ذاتها لأول مرة في تاريخ الصراع.
الفزع الذي اصاب الاسرائيليين من جراء شعورهم بالتهديد والخطر مهم في ذاته وفي دلالته ذلك انه يعد قرينة علي فشل المشروع الصهيوني الاستيطاني والإحلالي, ذلك ان آباء المشروع حين استقدموهم أوهموهم بأن اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها, والاستقرار في أرض الميعاد هو نهاية الأحزان, وبداية الاستقرار والأمان, لكن الانتفاضة نبهتهم بعد نصف قرن من قيام دولة إسرائيل إلي أن ما وعدوا به كان سرابا, وان الذي يتمدد فوق جثة شعب آخر وأشلائه لن يستقيم له أمان, وحين بدأ بعض الاسرائيليين يقولون عبر الصحف ومن خلال البرامج التليفزيونية والإذاعية أنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان إلا بعد مغادرة إسرائيل, فإن هذا الاعتراف يعد إشهارا ضمنيا لفشل المشروع الاستيطاني وإفلاسه.
لم يعد هناك مقهي أو مطعم او محل تجاري في إسرائيل الا وهو تحت الحراسة طيلة24 ساعة, والذين تابعوا مشهد بداية العام الدراسي هناك لاحظوا ان المدارس فتحت تحت حراسة7500 شرطي وآلاف المتطوعين, وثمة مناقشات مستمرة في الصحف حول ارتفاع عدد رافضي الخدمة في الضفة والقطاع وزيادة معدلات الهرب من المستوطنات, والارتفاع الهائل في تعاطي المهدئات, يضاف الي ذلك ان الأوضاع الاقتصادية أصيبت بما يشبه الشلل, حيث تجاوز الأمر هروب رؤوس الأموال, وتسريح اعداد كبيرة من العمال وانخفاض60% من حركة الزوار لإسرائيل, وتوقف حركة الطيران الا بالنسبة للإسرائيليين المغادرين للخارج,( معاريف2001/8/15).
(5)
بعض الفلسطينيين يقولون ان مؤسسة السلطة تمثل نقطة ضعف في المشهد فهي التي وقعت اتفاقيات أوسلو وتحمست لها, وهي التي اعلنت فشلها. وهذا الفشل كان ينبغي ان يستتبع خروج الذين وقعوا علي الاتفاقيات في المشهد كي يفسحوا الطريق لغيرهم ممن لم يتحمل مسئولية الخطأ السياسي الكبير الذي ارتكب لكن ذلك لم يحدث.
البعض الآخر يقول ان الانتفاضة أسقطت حكومة اسرائيلية, وبسبيلها لإسقاط الثانية, لكنها لم تفلح في إرغام اي وزير فاسد في السلطة الفلسطينية علي الاستقالة, وهؤلاء وهؤلاء يقولون ان الاصلاح السياسي داخل البيت الفلسطيني مهم في كل وقت, وأكثر أهمية في الوقت الراهن, لاستمرار الانتفاضة, لأن الانتفاضة والفساد في السلطة لا يجتمعان.
يبقي بعد ذلك السؤال الكبير هل توقفت الانتفاضة, وهل تتوافر لها مقومات الاستمرار في ظل الظروف الدولية والإقليمية الراهنة؟.
ردي علي ذلك ان الانتفاضة لم تتوقف, بشهادة الدم الذي لا يزال يسيل كل يوم, وإذا كانت الفصائل المختلفة قد هدأت من وتيرة عملياتها, فغاية ما يمكن ان يقال ان ذلك الهدوء نسبي, ولحسابات مفهومة لكنه لا يمكن ان يوصف بأكثر من انه شبه هدنة بين جولات الصراع.
ثم انه ليس هناك سبب لإيقاف استمرار الانتفاضة, اولا لأن الاحتلال قائم ولم يتغير فيه شيء وثانيا لأن شارون ليس لديه شيء يقدمه وسياسته لا تعرف سوي شيء واحد هو القمع, وهو ما يعني ان الانتفاضة صارت قدرا لا خيار للفلسطينيين فيه ولا بديل لها سوي اعلان الهزيمة والانكسار.
من ثم فلا مجال للتساؤل عما إذا كانت ستوقف أم لا, ولكن السؤال هو ما الذي يتعين علينا ان نفعله لكي نعزز مسيرتها, ونجعلها تستمر لأطول أجل ممكن, وبأكثر فاعلية ممكنة؟.