هويدي 25-9-2001
الأخطر من انهيار برجي مركز التجارة العالمي ألا يري الأمريكيون في المشهد سوي سحابات الدخان الكثيف أو تلال الأنقاض أو حتي أرقام الضحايا. نعم الحدث مرعب حقا. لكن ما يرعب أكثر هو الاستسلام للانفعال والرغبة في الانتقام, وتغييب الاجابة الصحيحة علي السؤال: لماذا؟ ـ ذلك ان ثمة اسئلة في صميم الموضوع مسكوت عنها. ولا يجرؤ أحد. من أهل السياسة ان يجهر بها في الوقت الراهن علي الأقل, لأن الهراوة الصهيونية جاهزة لاسكاته. من هذه الاسئلة مثلا: لماذا استهدفت الولايات المتحدة. دون غيرها من جميع الدول الغربية؟ و.. هل كان يمكن ان تتعرض الولايات المتحدة لذلك الهجوم لو انها كانت اقل انحيازا لإسرائيل؟.. و.. هل كتب علي المواطنين الامريكيين ان يدفعوا ثمن تأييد ساستهم وحكومتهم لإسرائيل مرتين: مرة من أموالهم( ذكر الدكتور ادوارد سعيد ان مجموع ما قدم لإسرائيل من اموال دافعي الضرائب الأمريكيين وصل الي92 مليار دولار) ـ والمرة الثانية من دمائهم. كما حدث في الفاجعة الأخيرة, التي وصل عدد ضحاياها حتي الآن الي نحو7 آلاف شخص.
(1)
لاحظ أننا لم نتعرض لإجابة السؤال من, علي أهميته البالغة, لأنه لا تزال هناك العديد من التساؤلات الحائرة حول هوية الفاعلين. وفي العالم العربي والاسلامي علي الأقل فان الرواية والترجيحات الأمريكية ليست مقنعة. وثمة ثقة شديدة حتي بين الخبراء في ان الفاعلين ليسوا عربا أو مسلمين, ثم ان هناك قرائن عدة علي دور لجهاز المخابرات الإسرائيلي في العملية.
لقد تلقيت دراسة من الدكتور أحمد حسن مأمون, أحد أقطاب الهندسة والصناعة في مصر. اثبت فيها براءة العرب والمسلمين من الجريمة ودحض الأدلة التي قدمتها الجهات الأمريكية, خصوصا تلك التي عثر عليها في اماكن عدة, وقال في هذا الصدد ان جريمة بهذا الترتيب العبقري, لا يمكن ان يتصرف فاعلوها بذلك القدر من الغباء والاهمال, فيما خلفوه من آثار. ثم إن الذين قادوا الطائرات النفاثة هم طيارون محترفون علي درجة عالية من الكفاءة, ولا يمكن ان يكونوا بعض الطلاب العرب الهواة, الذين درسوا في فلوريدا أو غيرها. أضاف أنهم لو كانوا عربا حقا وبلغ بهم الغضب مبلغه إزاء المواقف والسياسات الامريكية, الم تكن تكفيهم طائرة واحدة تتوجه لهدف واحد؟ ـ وأليس تعدد الأهداف واستخدام أربع أو ست طائرات, يدل علي ان هناك هدفا اكبر هو تفجير مواجهة واسعة النطاق يذهب ضحيتها المسلمون.
في رأيه أن الذين قاموا بالعملية جماعة دينية متطرفة في الغرب, مسيحية أو يهودية, من أولئك المهووسين الذين يعتنقون افكارا مشوهة, من قبيل تلك التي تنادي بالاستعداد لعودة المسيح وانتصاره علي الشر, لاقامة السلام في الأرض وبناء هيكل سليمان.
من ناحية أخري فثمة اشارات عدة إلي دور إسرائيلي في العملية. من ذلك مثلا ما نقلته وكالة ستيرن الكندية في9/17, من ان المخابرات المركزية الامريكية تلقت تقريرا قبل الهجوم بأربعة اسابيع, ذكر ان المخابرات الإسرائيلية( الموساد) بصدد القيام بعملية علي الأراضي الامريكية لصرف الانتباه عن الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة من ذلك ايضا, مانشر في صحيفة هاآرتس في9/15 من ان المخابرات المركزية الامريكية القت القبض علي خمسة إسرائيليين في نيويورك عبروا عن فرحهم وتهليلهم لانفجار مركز التجارة العالمي, وقاموا بتصويره. من ذلك كذلك ما نقلته قناة المنار الفضائية اللبنانية في9/17, من ان مركز التجارة العالمي يعمل به أربعة آلاف إسرائيلي, تغيبوا عن العمل في اليوم الذي تم فيه الهجوم.
ايا كان مدي الدقة أو الافتعال في تلك الاشارات, فرواجها في أوساط العرب والمسلمين, وترديدها في مختلف المجالس, يعبر عن ان العقل والضمير العربيين لايزالان غير قادرين علي استيعاب ماجري, فضلا عن تصديق ضلوع العرب أو المسلمين فيه.
(2)
لن أستغرب إذا ظل الفاعل مجهولا لأمد طويل, فالجدل حول الجهة المسئولة عن قتل الرئيس كيندي في عام63 لم يحسم في الولايات المتحدة طيلة الـ38 سنة الماضية, لكن الحاصل أن تهمة الهجوم علي الولايات المتحدة الصقت بالمسلمين, أعجبهم ذلك أم لم يعجبهم, ولأن الاحداث تتحرك انطلاقا من ذلك الادعاء أو الافتراض, فلن نستطيع ان نتشبث بموقع الشك, ونتوقف عند هذه النقطة, لا نغادرها.
سنتعامل حتي إشعار آخر مع ما هو متواتر ومشهور الآن علي ألسنة الساسة الأمريكيين وما تبثه مختلف الأبواق الاعلامية. محملا العرب والمسلمين ـ والاسلام ايضا ـ بالمسئولية عما جري. وهو خطاب ينطلق من التسليم بان هؤلاء يكرهون الولايات المتحدة, ولم يعودوا يطيقون لها وجودا علي وجه البسيطة, فقرروا تدمير رموزها وتوجيه طعنة قاتلة إلي كبريائها. وهو ما يطرح سؤالا بديهيا هو لماذا؟
من أغرب ما قرأت في الرد علي ذلك السؤال قول البعض ان العرب والمسلمين ينقمون علي أمريكا بسبب الغيرة والحسد كراهة لما تمثله من وفرة وديمقراطية وتقدم تكنولوجي.. الخ. الي غير ذلك مما اعتبره نموذجا للاجابة الغلط, التي تضلل وتخفي الحقيقة أو تتعامي عنها.
لا تضحك, فهذا الكلام المدهش عن الغيرة والحسد تردد علي ألسنة وفي كتابات شخصيات امريكية لها وزنها المعتبر. فواحد مثل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق ـ كتب يقول ان الذين قاموا بالهجوم مدفوعون بالكراهية العميقة للقيم الغربية ـ( لوس انجيلوس تايمز9/16) ـ والصحفي المعروف توماس فريدمان قال ان المهاجمين: يريدون تدمير المباديء التي تقف امريكا دفاعا عنها( الشرق الأوسط9/19) ـ وفي العدد الأخير من مجلة نيوزويك الصادر في9/25 كتب اثنان من المحررين تقريرا قالا فيه: إنهم يريدون تدمير الحداثة الغربية, التي تهدد بحجب قدرتهم علي تحقيق حلمهم في اقامة دولتهم الدينية( ص50) ـ وثمة كاتب آخر قال: هناك تهديد حقيقي للعالم الحر, من جانب أولئك الذين يكرهون امريكا, ليس لما تقوم به, ولكن لما هي عليه( ص38) ـ والمعني ذاته كرره رونالد براونستيني في لوس انجيلوس تايمز( في9/17) حيث قال انهم يكرهون امريكا لا لما تفعله ولكن لما تمثله باعتبارها نموذجا للديمقراطية الغربية. في صحيفة الجارديان عدد9/20 كتب جوناثان فريدلاند يقول: إن ما يستثير العرب والمسلمين في الولايات المتحدة هو ثراؤها والحداثة المتمثلين فيها.
(3)
لم يسأل أحد من أولئك الجهابذة نفسه, اذا كانت المسألة حقا غيرة ورفضا للحداثة والقيم الغربية, فلماذا لم يصب المهاجمون غضبهم صوب بلد آخر أقرب جغرافيا مثل انجلترا وفرنسا وكل منهما. اعرق في التاريخ الأوروبي وأجدر بتمثيل الغرب, ثم انهما دولتان استعماريتان تركتا في الذاكرة العربية مرارات يصعب نسيانها. وذلك كله غير متوافر في الولايات المتحدة, الابعد جغرافيا والأحداث في الانضمام الي النادي الغربي, والتي ليس لها ماض استعماري يستفز الذاكرة العربية والاسلامية.
ثم, هل يعقل ان يضحي نفر من الشباب بأنفسهم واحلامهم, فيستقلون الطائرات ويفجرونها في أهم رموز المؤسسة الأمريكية, لمجرد انهم ضد القيم الغربية أو ان الغيرة استبدت بهم ازاء ثراء الولايات المتحدة وديمقراطيتها. وهل مثل هذه الأمور مما يملأ أي انسان حماسا, ويدفعه الي التضحية بحياته في سبيلها.
لو انك سألت أي مواطن عربي أو مسلم عادي, حتي ولو كان أميا لا يجيد القراءة والكتابة ماهو شعورك تجاه امريكا, لمط شفتيه وقال دون تفكير انه يمقت سياستها الداعمة لإسرائيل والراعية لتعنتها واستكبارها وقمعها للفلسطينيين. المتعلم العادي يعرف اكثر من ذلك, وسوف يحدثك عن الطائرات الامريكية التي يقتل بها الفلسطينيون, وعن المساعدات الامريكية التي تمول مرتبات الجنود الاسرائيليين الذين يحتلون الأرض, وعن التأييد والمباركة الامريكية لكل السياسات الوحشية الاسرائيلية, التي وصلت الي حد استخدام واشنطن للفيتو لمنع اي ادانة لاسرائيل في مجلس الامن.
أما إذا كان محدثك من اهل السياسة الغيورين علي وطنهم وامنهم فسوف يقول لك أضعاف ذلك عن السياسة الامريكية التي تدلل اسرائيل إلي حد فرضها علي الآخرين, وتقديمها مصالح تل ابيب علي مصالح واشنطون في بعض الاحيان.
ما اريد ان اقوله ـ والحقيقة التي يريد كثيرون اخفاءها ـ ان اسرائيل تمثل العقدة التي تعترض العلاقات الامريكية ـ العربية, وان اي كراهية يكنها العرب أو المسلمون للسياسة الأمريكية, يعد التحيز الأعمي للبطش والاحتلال الاسرائيليين علي رأس اسبابها, وتلك مسألة واضحة وضوح الشمس, بحيث ان الذي لا يدركها أو يراها لابد ان يكون واحدا من اثنين, إما أن يكون أعمي العين والقلب, أو مدعيا ذلك.
ولأنه من المعلوم بالسياسة بالضرورة فاهل السياسة الامريكيون والغربيون يدركونها جيدا, لكنهم لا يستطيعون اثارتها في العلن, لان مراكز القوي الصهيونية واقفة للجميع بالمرصاد, واي واحد يبدي اي قدر من التحفظ ازاء الابتزاز الاسرائيلي للولايات المتحدة. يعلم مقدما انهم سيحيلون حياته جحيما, اذ سيصبح هدفا للتشهير والفضائح, وعند الحد الادني فانه سيفقد منصبه اذا كان منسوبا الي السلطة التنفيذية, ولن يعاد انتخابه مرة اخري اذا كان من اعضاء مجلس الشيوخ أو النواب.
حين زار الرئيس بوش المركز الاسلامي في واشنطن الاسبوع الماضي, وأمضي فيه ساعتين لتطييب خاطر المسلمين الذين صوتت أغلبيتهم لصالحه في الانتخابات الرئاسية(92% منهم أعطوا أصواتهم له في فلوريدا), أثار ممثلو المسلمين الامريكيين معه مسألة الاعباء التي يتحملها دافع الضرائب الامريكي من جراء التحيز لاسرائيل, فاستمع الرئيس بوش للكلام ولم يعقب عليه. وفي أثناء الخروج همس مسئول امريكي كبير في اذن احد القيادات الاسلامية قائلا: من اسف ان امريكا مصدر الدعم الاساسي لاسرائيل, وقد اصبحنا الآن ضحية له!
(4)
مثل هذه الملاحظات يبديها المسئولون السياسيون همسا فقط, للاسباب التي ذكرناها توا. لكن بعض الاكاديميين الذين لا يحتاجون الي دعم اللوبي الصهيوني في شيء, مثل اليهودي النبيل نعوم تشومسكي, جهروا بآرائهم في هذا الصدد دون تردد. وهو الذي دأب في تصريحاته الصحفية وكتاباته علي التحذير من الاستسلام لنداءات الانتقام, ودعوة الامريكيين لفهم ماجري, وعلاقته بالاحباط واليأس الذي اصاب الشباب العربي من جراء انسداد آفاق حل الصراع العربي ـ الاسرائيلي والدعم الامريكي المستمر لسياسة الاحتلال والبطش. وقال في هذا الصدد اننا اذا لم نعي جيدا تلك الاسباب, فان الامريكيين قد يتعرضون لما هو اسوأ مما جري في المستقبل( الاهرام ويكلي9/20).
الأصوات المنصفة أعلا في الصحافة الانجليزية. وكان روبرت فيسك ابرز الذين كتبوا من ذلك المنطلق, ومقاله في صحيفة الاندبندنت( عدد الاحد9/16) نموذج لذلك. وفيه قال صراحة انه اذا كانت امريكا تحمل طالبان مسئولية بن لادن, فهل تتحمل هي مسئولية اسرائيل؟ واضاف انه اذا كان الفاعلون عربا فهم أبناء مجتمع مستاء من فشل امريكا في التصرف بشرف في الشرق الأوسط, ومن بيعها الصواريخ الي اولئك الذين يستخدمونها ضد المدنيين الفلسطينيين.
انتقد فيسك بشدة ادعاء الرئيس بوش ومعه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ان الحرب المزمع اعلانها ضد الديمقراطية والحرية, وانها ضد رجال يهاجمون الحضارة, وقال انهما يخدعاننا بتلك المزاعم. فالولايات المتحدة لم تستهدف لانها رمز للحرية, ولكن اذا كان الهجوم بفعل عرب ومسلمين, فليس لذلك سوي تفسير واحد, وثيق الصلة بالسياسة الامريكية البائسة في المنطقة العربية.
المفارقة اللافتة للنظر انه بينما يتحدث السياسيون الغربيون ـ في امريكا خاصة ـ عن حكاية حقد العرب والمسلمين علي الغربيين وحضارتهم, ويردد بعض كبار الصحفيين تلك المقولة, نجد كاتبا اسرائيليا مثل اوري افنيري يتصدي لدحض الادعاء فيما كتبه بصحيفة معاريف( عدد9/16), حيث قال ما نصه: لقد قرر منفذو العمليات المضي في خطتهم, بعد ان اثارت امريكا غضبا شديدا في انحاء واسعة من العالم, ليس فقط بسبب قوتها, ولكن بسبب الطريقة التي تستخدم بها تلك القوة. يكرهها اعداء العولمة, ويتهمونها بالمسئولية عن الفجوة المتسعة بين الاثرياء والفقراء في العالم. ويكرهها ملايين العرب بسبب دعمها للاحتلال الاسرائيلي, وبسبب معاناة الشعب الفلسطيني. وتكرهها جماهير المسلمين بسبب دعمها للسيطرة اليهودية علي المقدسات الاسلامية في القدس.
ختم افنيري مقالته بقوله سواء كان الذين نفذوا العمليات عربا و غير عرب, فيجب علي العالم أن يعالج الدم المتقيح للنزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني, الذي يسمم الجسم البشري كله, ومن يتهرب من ذلك النزاع, فانه سيلاحقه, حتي عقر داره.
(5)
بعد التشخيص الغلط توجهت الينا الادارة الامريكية بالدعوة الغلط.. وهو ماتجلي في رفع شعار هو اشبه بالانذار يقول: اما ان تكونوا معنا أو مع الارهاب. وهو كلام لم يصدر عند الهواة المحدثين في الساحة السياسية فحسب, من امثال الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول, لكننا وجدنا سياسيا محنكا مثل هنري كيسنجر يتبناه ويردده, في مقاله الاخير المنشور في9/16. وهو ما كنا قد سمعناه قبل اربعة عقود من وزير الخارجية جون فوستر دالاس وغيره من الساسة الامريكيين, الذين ما برحوا يهددون الجميع ابان الحرب الباردة ضد السوفيت, بقولهم ان من ليس معنا فهو ضدنا وعلينا, ومعروف ان هذه اللهجة المتعجرفة هي التي استفزت بعضا من الزعماء الوطنيين في العالم الثالث, فقالوا اننا لسنا مع هؤلاء ولا هؤلاء, ومن ثم انشأوا حركة عدم الانحياز
يعبر هذا المنطق عن حالة من الغرور والاستعلاء لا تري في الكون غير القوة الامريكية والمصالح الامريكية. فهي زعيمة العالم الحر, وهي الحضارة والديمقراطية والرفاهية... الخ. ومن يتأبي علي الالتحاق بها فهو مطرود من جنتها, ولا مكان له الا في الجحيم!
كما حشد الامريكيون حشودهم واستنفروا العالم بأسره لأجل معركة لم تتحدد اهدافها, فانهم طالبوا الجميع بالاصطفاف الي جانبهم في مواجهة الارهاب, دون ان يعرف المقصود به, وهل تصنف فيه ـ مثلا ـ المقاومة الفلسطينية وحركات التحرر من الاحتلال ام لا؟!
إن تقسيم الناس وتوزيعهم بين الجنة والنار هو منطق اخروي بامتياز, لان الله سبحانه وتعالي ـ مصدر العدل المطلق ـ وحده الذي يملك ذلك التصنيف. اما في الدنيا فإن الأمريكان فانهم لا يملكون حق تصنيف المجتمعات علي ذلك النحو, لان من حق اي جماعة من الناس ان تختار موقفا ثالثا, ترفض فيه الاثنين معا: الارهاب والامريكان.
المدهش في الامر ان مثل هذا الموقف يضيق به الخطاب السياسي الامريكي, الذي يطالب الجميع باثبات الحضور في بيت الطاعة أولا. وهو مايضيف الينا سببا جديدا للنفور والاستياء.
الأخطر من انهيار برجي مركز التجارة العالمي ألا يري الأمريكيون في المشهد سوي سحابات الدخان الكثيف أو تلال الأنقاض أو حتي أرقام الضحايا. نعم الحدث مرعب حقا. لكن ما يرعب أكثر هو الاستسلام للانفعال والرغبة في الانتقام, وتغييب الاجابة الصحيحة علي السؤال: لماذا؟ ـ ذلك ان ثمة اسئلة في صميم الموضوع مسكوت عنها. ولا يجرؤ أحد. من أهل السياسة ان يجهر بها في الوقت الراهن علي الأقل, لأن الهراوة الصهيونية جاهزة لاسكاته. من هذه الاسئلة مثلا: لماذا استهدفت الولايات المتحدة. دون غيرها من جميع الدول الغربية؟ و.. هل كان يمكن ان تتعرض الولايات المتحدة لذلك الهجوم لو انها كانت اقل انحيازا لإسرائيل؟.. و.. هل كتب علي المواطنين الامريكيين ان يدفعوا ثمن تأييد ساستهم وحكومتهم لإسرائيل مرتين: مرة من أموالهم( ذكر الدكتور ادوارد سعيد ان مجموع ما قدم لإسرائيل من اموال دافعي الضرائب الأمريكيين وصل الي92 مليار دولار) ـ والمرة الثانية من دمائهم. كما حدث في الفاجعة الأخيرة, التي وصل عدد ضحاياها حتي الآن الي نحو7 آلاف شخص.
(1)
لاحظ أننا لم نتعرض لإجابة السؤال من, علي أهميته البالغة, لأنه لا تزال هناك العديد من التساؤلات الحائرة حول هوية الفاعلين. وفي العالم العربي والاسلامي علي الأقل فان الرواية والترجيحات الأمريكية ليست مقنعة. وثمة ثقة شديدة حتي بين الخبراء في ان الفاعلين ليسوا عربا أو مسلمين, ثم ان هناك قرائن عدة علي دور لجهاز المخابرات الإسرائيلي في العملية.
لقد تلقيت دراسة من الدكتور أحمد حسن مأمون, أحد أقطاب الهندسة والصناعة في مصر. اثبت فيها براءة العرب والمسلمين من الجريمة ودحض الأدلة التي قدمتها الجهات الأمريكية, خصوصا تلك التي عثر عليها في اماكن عدة, وقال في هذا الصدد ان جريمة بهذا الترتيب العبقري, لا يمكن ان يتصرف فاعلوها بذلك القدر من الغباء والاهمال, فيما خلفوه من آثار. ثم إن الذين قادوا الطائرات النفاثة هم طيارون محترفون علي درجة عالية من الكفاءة, ولا يمكن ان يكونوا بعض الطلاب العرب الهواة, الذين درسوا في فلوريدا أو غيرها. أضاف أنهم لو كانوا عربا حقا وبلغ بهم الغضب مبلغه إزاء المواقف والسياسات الامريكية, الم تكن تكفيهم طائرة واحدة تتوجه لهدف واحد؟ ـ وأليس تعدد الأهداف واستخدام أربع أو ست طائرات, يدل علي ان هناك هدفا اكبر هو تفجير مواجهة واسعة النطاق يذهب ضحيتها المسلمون.
في رأيه أن الذين قاموا بالعملية جماعة دينية متطرفة في الغرب, مسيحية أو يهودية, من أولئك المهووسين الذين يعتنقون افكارا مشوهة, من قبيل تلك التي تنادي بالاستعداد لعودة المسيح وانتصاره علي الشر, لاقامة السلام في الأرض وبناء هيكل سليمان.
من ناحية أخري فثمة اشارات عدة إلي دور إسرائيلي في العملية. من ذلك مثلا ما نقلته وكالة ستيرن الكندية في9/17, من ان المخابرات المركزية الامريكية تلقت تقريرا قبل الهجوم بأربعة اسابيع, ذكر ان المخابرات الإسرائيلية( الموساد) بصدد القيام بعملية علي الأراضي الامريكية لصرف الانتباه عن الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة من ذلك ايضا, مانشر في صحيفة هاآرتس في9/15 من ان المخابرات المركزية الامريكية القت القبض علي خمسة إسرائيليين في نيويورك عبروا عن فرحهم وتهليلهم لانفجار مركز التجارة العالمي, وقاموا بتصويره. من ذلك كذلك ما نقلته قناة المنار الفضائية اللبنانية في9/17, من ان مركز التجارة العالمي يعمل به أربعة آلاف إسرائيلي, تغيبوا عن العمل في اليوم الذي تم فيه الهجوم.
ايا كان مدي الدقة أو الافتعال في تلك الاشارات, فرواجها في أوساط العرب والمسلمين, وترديدها في مختلف المجالس, يعبر عن ان العقل والضمير العربيين لايزالان غير قادرين علي استيعاب ماجري, فضلا عن تصديق ضلوع العرب أو المسلمين فيه.
(2)
لن أستغرب إذا ظل الفاعل مجهولا لأمد طويل, فالجدل حول الجهة المسئولة عن قتل الرئيس كيندي في عام63 لم يحسم في الولايات المتحدة طيلة الـ38 سنة الماضية, لكن الحاصل أن تهمة الهجوم علي الولايات المتحدة الصقت بالمسلمين, أعجبهم ذلك أم لم يعجبهم, ولأن الاحداث تتحرك انطلاقا من ذلك الادعاء أو الافتراض, فلن نستطيع ان نتشبث بموقع الشك, ونتوقف عند هذه النقطة, لا نغادرها.
سنتعامل حتي إشعار آخر مع ما هو متواتر ومشهور الآن علي ألسنة الساسة الأمريكيين وما تبثه مختلف الأبواق الاعلامية. محملا العرب والمسلمين ـ والاسلام ايضا ـ بالمسئولية عما جري. وهو خطاب ينطلق من التسليم بان هؤلاء يكرهون الولايات المتحدة, ولم يعودوا يطيقون لها وجودا علي وجه البسيطة, فقرروا تدمير رموزها وتوجيه طعنة قاتلة إلي كبريائها. وهو ما يطرح سؤالا بديهيا هو لماذا؟
من أغرب ما قرأت في الرد علي ذلك السؤال قول البعض ان العرب والمسلمين ينقمون علي أمريكا بسبب الغيرة والحسد كراهة لما تمثله من وفرة وديمقراطية وتقدم تكنولوجي.. الخ. الي غير ذلك مما اعتبره نموذجا للاجابة الغلط, التي تضلل وتخفي الحقيقة أو تتعامي عنها.
لا تضحك, فهذا الكلام المدهش عن الغيرة والحسد تردد علي ألسنة وفي كتابات شخصيات امريكية لها وزنها المعتبر. فواحد مثل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق ـ كتب يقول ان الذين قاموا بالهجوم مدفوعون بالكراهية العميقة للقيم الغربية ـ( لوس انجيلوس تايمز9/16) ـ والصحفي المعروف توماس فريدمان قال ان المهاجمين: يريدون تدمير المباديء التي تقف امريكا دفاعا عنها( الشرق الأوسط9/19) ـ وفي العدد الأخير من مجلة نيوزويك الصادر في9/25 كتب اثنان من المحررين تقريرا قالا فيه: إنهم يريدون تدمير الحداثة الغربية, التي تهدد بحجب قدرتهم علي تحقيق حلمهم في اقامة دولتهم الدينية( ص50) ـ وثمة كاتب آخر قال: هناك تهديد حقيقي للعالم الحر, من جانب أولئك الذين يكرهون امريكا, ليس لما تقوم به, ولكن لما هي عليه( ص38) ـ والمعني ذاته كرره رونالد براونستيني في لوس انجيلوس تايمز( في9/17) حيث قال انهم يكرهون امريكا لا لما تفعله ولكن لما تمثله باعتبارها نموذجا للديمقراطية الغربية. في صحيفة الجارديان عدد9/20 كتب جوناثان فريدلاند يقول: إن ما يستثير العرب والمسلمين في الولايات المتحدة هو ثراؤها والحداثة المتمثلين فيها.
(3)
لم يسأل أحد من أولئك الجهابذة نفسه, اذا كانت المسألة حقا غيرة ورفضا للحداثة والقيم الغربية, فلماذا لم يصب المهاجمون غضبهم صوب بلد آخر أقرب جغرافيا مثل انجلترا وفرنسا وكل منهما. اعرق في التاريخ الأوروبي وأجدر بتمثيل الغرب, ثم انهما دولتان استعماريتان تركتا في الذاكرة العربية مرارات يصعب نسيانها. وذلك كله غير متوافر في الولايات المتحدة, الابعد جغرافيا والأحداث في الانضمام الي النادي الغربي, والتي ليس لها ماض استعماري يستفز الذاكرة العربية والاسلامية.
ثم, هل يعقل ان يضحي نفر من الشباب بأنفسهم واحلامهم, فيستقلون الطائرات ويفجرونها في أهم رموز المؤسسة الأمريكية, لمجرد انهم ضد القيم الغربية أو ان الغيرة استبدت بهم ازاء ثراء الولايات المتحدة وديمقراطيتها. وهل مثل هذه الأمور مما يملأ أي انسان حماسا, ويدفعه الي التضحية بحياته في سبيلها.
لو انك سألت أي مواطن عربي أو مسلم عادي, حتي ولو كان أميا لا يجيد القراءة والكتابة ماهو شعورك تجاه امريكا, لمط شفتيه وقال دون تفكير انه يمقت سياستها الداعمة لإسرائيل والراعية لتعنتها واستكبارها وقمعها للفلسطينيين. المتعلم العادي يعرف اكثر من ذلك, وسوف يحدثك عن الطائرات الامريكية التي يقتل بها الفلسطينيون, وعن المساعدات الامريكية التي تمول مرتبات الجنود الاسرائيليين الذين يحتلون الأرض, وعن التأييد والمباركة الامريكية لكل السياسات الوحشية الاسرائيلية, التي وصلت الي حد استخدام واشنطن للفيتو لمنع اي ادانة لاسرائيل في مجلس الامن.
أما إذا كان محدثك من اهل السياسة الغيورين علي وطنهم وامنهم فسوف يقول لك أضعاف ذلك عن السياسة الامريكية التي تدلل اسرائيل إلي حد فرضها علي الآخرين, وتقديمها مصالح تل ابيب علي مصالح واشنطون في بعض الاحيان.
ما اريد ان اقوله ـ والحقيقة التي يريد كثيرون اخفاءها ـ ان اسرائيل تمثل العقدة التي تعترض العلاقات الامريكية ـ العربية, وان اي كراهية يكنها العرب أو المسلمون للسياسة الأمريكية, يعد التحيز الأعمي للبطش والاحتلال الاسرائيليين علي رأس اسبابها, وتلك مسألة واضحة وضوح الشمس, بحيث ان الذي لا يدركها أو يراها لابد ان يكون واحدا من اثنين, إما أن يكون أعمي العين والقلب, أو مدعيا ذلك.
ولأنه من المعلوم بالسياسة بالضرورة فاهل السياسة الامريكيون والغربيون يدركونها جيدا, لكنهم لا يستطيعون اثارتها في العلن, لان مراكز القوي الصهيونية واقفة للجميع بالمرصاد, واي واحد يبدي اي قدر من التحفظ ازاء الابتزاز الاسرائيلي للولايات المتحدة. يعلم مقدما انهم سيحيلون حياته جحيما, اذ سيصبح هدفا للتشهير والفضائح, وعند الحد الادني فانه سيفقد منصبه اذا كان منسوبا الي السلطة التنفيذية, ولن يعاد انتخابه مرة اخري اذا كان من اعضاء مجلس الشيوخ أو النواب.
حين زار الرئيس بوش المركز الاسلامي في واشنطن الاسبوع الماضي, وأمضي فيه ساعتين لتطييب خاطر المسلمين الذين صوتت أغلبيتهم لصالحه في الانتخابات الرئاسية(92% منهم أعطوا أصواتهم له في فلوريدا), أثار ممثلو المسلمين الامريكيين معه مسألة الاعباء التي يتحملها دافع الضرائب الامريكي من جراء التحيز لاسرائيل, فاستمع الرئيس بوش للكلام ولم يعقب عليه. وفي أثناء الخروج همس مسئول امريكي كبير في اذن احد القيادات الاسلامية قائلا: من اسف ان امريكا مصدر الدعم الاساسي لاسرائيل, وقد اصبحنا الآن ضحية له!
(4)
مثل هذه الملاحظات يبديها المسئولون السياسيون همسا فقط, للاسباب التي ذكرناها توا. لكن بعض الاكاديميين الذين لا يحتاجون الي دعم اللوبي الصهيوني في شيء, مثل اليهودي النبيل نعوم تشومسكي, جهروا بآرائهم في هذا الصدد دون تردد. وهو الذي دأب في تصريحاته الصحفية وكتاباته علي التحذير من الاستسلام لنداءات الانتقام, ودعوة الامريكيين لفهم ماجري, وعلاقته بالاحباط واليأس الذي اصاب الشباب العربي من جراء انسداد آفاق حل الصراع العربي ـ الاسرائيلي والدعم الامريكي المستمر لسياسة الاحتلال والبطش. وقال في هذا الصدد اننا اذا لم نعي جيدا تلك الاسباب, فان الامريكيين قد يتعرضون لما هو اسوأ مما جري في المستقبل( الاهرام ويكلي9/20).
الأصوات المنصفة أعلا في الصحافة الانجليزية. وكان روبرت فيسك ابرز الذين كتبوا من ذلك المنطلق, ومقاله في صحيفة الاندبندنت( عدد الاحد9/16) نموذج لذلك. وفيه قال صراحة انه اذا كانت امريكا تحمل طالبان مسئولية بن لادن, فهل تتحمل هي مسئولية اسرائيل؟ واضاف انه اذا كان الفاعلون عربا فهم أبناء مجتمع مستاء من فشل امريكا في التصرف بشرف في الشرق الأوسط, ومن بيعها الصواريخ الي اولئك الذين يستخدمونها ضد المدنيين الفلسطينيين.
انتقد فيسك بشدة ادعاء الرئيس بوش ومعه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ان الحرب المزمع اعلانها ضد الديمقراطية والحرية, وانها ضد رجال يهاجمون الحضارة, وقال انهما يخدعاننا بتلك المزاعم. فالولايات المتحدة لم تستهدف لانها رمز للحرية, ولكن اذا كان الهجوم بفعل عرب ومسلمين, فليس لذلك سوي تفسير واحد, وثيق الصلة بالسياسة الامريكية البائسة في المنطقة العربية.
المفارقة اللافتة للنظر انه بينما يتحدث السياسيون الغربيون ـ في امريكا خاصة ـ عن حكاية حقد العرب والمسلمين علي الغربيين وحضارتهم, ويردد بعض كبار الصحفيين تلك المقولة, نجد كاتبا اسرائيليا مثل اوري افنيري يتصدي لدحض الادعاء فيما كتبه بصحيفة معاريف( عدد9/16), حيث قال ما نصه: لقد قرر منفذو العمليات المضي في خطتهم, بعد ان اثارت امريكا غضبا شديدا في انحاء واسعة من العالم, ليس فقط بسبب قوتها, ولكن بسبب الطريقة التي تستخدم بها تلك القوة. يكرهها اعداء العولمة, ويتهمونها بالمسئولية عن الفجوة المتسعة بين الاثرياء والفقراء في العالم. ويكرهها ملايين العرب بسبب دعمها للاحتلال الاسرائيلي, وبسبب معاناة الشعب الفلسطيني. وتكرهها جماهير المسلمين بسبب دعمها للسيطرة اليهودية علي المقدسات الاسلامية في القدس.
ختم افنيري مقالته بقوله سواء كان الذين نفذوا العمليات عربا و غير عرب, فيجب علي العالم أن يعالج الدم المتقيح للنزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني, الذي يسمم الجسم البشري كله, ومن يتهرب من ذلك النزاع, فانه سيلاحقه, حتي عقر داره.
(5)
بعد التشخيص الغلط توجهت الينا الادارة الامريكية بالدعوة الغلط.. وهو ماتجلي في رفع شعار هو اشبه بالانذار يقول: اما ان تكونوا معنا أو مع الارهاب. وهو كلام لم يصدر عند الهواة المحدثين في الساحة السياسية فحسب, من امثال الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول, لكننا وجدنا سياسيا محنكا مثل هنري كيسنجر يتبناه ويردده, في مقاله الاخير المنشور في9/16. وهو ما كنا قد سمعناه قبل اربعة عقود من وزير الخارجية جون فوستر دالاس وغيره من الساسة الامريكيين, الذين ما برحوا يهددون الجميع ابان الحرب الباردة ضد السوفيت, بقولهم ان من ليس معنا فهو ضدنا وعلينا, ومعروف ان هذه اللهجة المتعجرفة هي التي استفزت بعضا من الزعماء الوطنيين في العالم الثالث, فقالوا اننا لسنا مع هؤلاء ولا هؤلاء, ومن ثم انشأوا حركة عدم الانحياز
يعبر هذا المنطق عن حالة من الغرور والاستعلاء لا تري في الكون غير القوة الامريكية والمصالح الامريكية. فهي زعيمة العالم الحر, وهي الحضارة والديمقراطية والرفاهية... الخ. ومن يتأبي علي الالتحاق بها فهو مطرود من جنتها, ولا مكان له الا في الجحيم!
كما حشد الامريكيون حشودهم واستنفروا العالم بأسره لأجل معركة لم تتحدد اهدافها, فانهم طالبوا الجميع بالاصطفاف الي جانبهم في مواجهة الارهاب, دون ان يعرف المقصود به, وهل تصنف فيه ـ مثلا ـ المقاومة الفلسطينية وحركات التحرر من الاحتلال ام لا؟!
إن تقسيم الناس وتوزيعهم بين الجنة والنار هو منطق اخروي بامتياز, لان الله سبحانه وتعالي ـ مصدر العدل المطلق ـ وحده الذي يملك ذلك التصنيف. اما في الدنيا فإن الأمريكان فانهم لا يملكون حق تصنيف المجتمعات علي ذلك النحو, لان من حق اي جماعة من الناس ان تختار موقفا ثالثا, ترفض فيه الاثنين معا: الارهاب والامريكان.
المدهش في الامر ان مثل هذا الموقف يضيق به الخطاب السياسي الامريكي, الذي يطالب الجميع باثبات الحضور في بيت الطاعة أولا. وهو مايضيف الينا سببا جديدا للنفور والاستياء.