مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
مشـــــاهد مســــكونة بالعـــبث
هويدي 18-9-2001

مازلت غير قادر علي تصديق الذي رأته عيناي في نيويورك وواشنطون‏,‏ علي شاشات التليفزيون يوم الثلاثاء الماضي‏,‏ مع ذلك فلم تكن تلك هي المفاجأة الوحيدة‏,‏ لأن ما توالي بعد ذلك من مشاهد ظل مسكونا بدرجات متفاوتة من العبثية‏,‏ الأمر الذي جعل من الدهشة قاسما مشتركا أعظم بين الزلزال وتوابعه وأصدائه‏,‏ حتي إشعار آخر علي الأقل‏.‏

‏(1)‏
الذي جري ما كان له أن يخطر علي قلب بشر‏,‏ ولا يمكن أن يوصف بأقل من أنه حرب خاطفة‏,‏ خسرت فيها الولايات المتحدة الجولة الأولي‏,‏ التي فقدت فيها الهيبة والمكانة وتهشم وجه الدولة العظمي‏,‏ ولو أن مخرجا سينمائيا كان قد استبق وصور هجوما من ذلك القبيل علي الولايات المتحدة‏,‏ لاعتبر مغرقا في الخيال‏,‏ ولاتهم بأنه غير مدرك لحقيقة وقدرات الدولة الكبري‏,‏ بآلة الدولة الجبارة التي تملكها‏,‏ وبالأسلحة المهولة التي تحت يدها‏,‏ وبالمؤسسات التي ترصد دبيب النمل في العالم‏,‏ ولا تفوتها شاردة‏,‏ ولا واردة في الاتصالات الجارية بين الجهات الأربع‏,‏ ثم بالأجهزة الأمنية التي تنفق سنويا ثلاثين بليون دولار‏,‏ ويعمل بها عشرات الألوف من الخبراء والعملاء الذين يحفظون في جيوبهم أسرار الكون‏,‏ ويمسكون بمفاتيح عالم الدسائس والمؤامرات وبحر الظلمات‏.‏
الدهشة ليست مقصورة علينا وحدنا‏,‏ لكنها ترددت بقوة علي ألسنة كثيرين في داخل الولايات المتحدة ذاتها‏,‏ من الرئيس الأسبق جورج بوش‏(‏ الأب‏),‏ الذي كان مديرا للمخابرات المركزية يوما ما‏,‏ الي أعضاء الكونجرس ومسئولي لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ‏,‏ حيث انعقد اجماع علي أن ما حدث يمثل فشلا ذريعا لكل الأجهزة المعنية‏,‏ ليس له سابقة أو مثيل‏,‏ ومنهم من قال إن ما جري أخطر من تدمير اليابانيين للأسطول الأمريكي في بيرل هاربر عام‏48(‏ الذي ردت عليه واشنطون بقصف هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية‏),‏ وذهبوا في ذلك الي أن تدمير الأسطول حدث خارج الولايات المتحدة‏,‏ ولم يهدد كيانها ولم يروع شعبها‏,‏ بينما الهجوم الأخير فعل كل ذلك‏.‏

عبرت الكاتبة الأمريكية مورين داود عن رأيها في المشهد قائلة‏:‏ إن ما يثير القشعريرة حقا‏,‏ هو ذلك العجز الذي بدا في الجهات التي يفترض فيها التخطيط والتحسب لاحتمال وقوع ما وقع‏,‏ خصوصا أن ذلك العجز ظهر بعد سنوات من تكرار التحذيرات من احتمال حصول ما حصل‏(‏ خدمة نيويورك تايمز في‏9/14).‏
ليس ذلك فحسب‏,‏ وإنما بدا الارتباك واضحا في القيادة الأمريكية‏,‏ الرئيس بوش اختفي بعض الوقت في قاعدة عسكرية‏,‏ ولاحقا ذهب الي نيويورك ثم نقل نائبه تشيني الي منتجع كامب ديفيد‏,‏ حتي لا يوجد الاثنان في مكان واحد‏,‏ ووزير الخارجية أعلن أن بن لادن علي رأس المتهمين في العملية‏,‏ لكن المدعي العام صرح بعد ذلك بأن التحقيقات لم تتوصل الي أسماء بذاتها في هذا الموضوع‏,‏ وبعد ثلاثة أيام‏,‏ أعلن الرئيس الأمريكي أن بن لادن هو المسئول‏,‏ وفيما أعلن البيت الأبيض أن الولايات المتحدة اتفقت مع حلفائها علي توجيه ضربة عسكرية‏,‏ اختلفت الأصداء لدي الحلفاء‏,‏ فالاتحاد الأوروبي‏,‏ دعا الي التريث في العمل العسكري‏,‏ وباكستان طلبت أن يتم التدخل في إطار الأمم المتحدة‏,‏ وليس من جانب الولايات المتحدة وحدها‏,‏ أما رئيس وزراء بلجيكا فقد أثار نقطة أخطر‏,‏ حيث طالب بتحديد هوية الجناة أولا‏!‏

‏(2)‏
هذه المسألة الأخيرة تعكس وجها آخر من وجوه العبثية في المشهد‏,‏ لأن الرئيس الأمريكي أعلن حالة التأهب القصوي‏,‏ واستنفرت لأجل ذلك‏36‏ قاعدة عسكرية أمريكية في أنحاء العالم‏,‏ وتم استدعاء‏50‏ ألفا من جنود الاحتياط الأمريكي‏,‏ واعتمد الكونجرس‏40‏ مليار دولار لتغطية تكلفة الحرب وتعويض ضحاياها‏,‏ دون أن يعرف علي وجه الدقة العدو الحقيقي الذي ستوجه إليه المدافع والصواريخ والجيوش الجرارة في نهاية المطاف‏,‏ وهو ما عبر عنه كولن باول وزير الخارجية ـ وهو القائد العسكري السابق ـ بقوله‏:‏ إن الرد سيكون عسكريا‏,‏ وآمل أن نتمكن من العثور علي أهدافنا‏!‏
لا غرابة والأمر كذلك أن يدعو رئيس وزراء بلجيكا الي تحديد الجناة أولا‏,‏ لأن كل ما هو متوافر حتي الآن‏,‏ هو شكوك وقرائن وربما أدلة أيضا‏,‏ لكن ذلك كله لا يرقي الي مستوي الإدانة القاطعة‏,‏ ومن ثم لا يمكن من الناحية السياسية ـ ناهيك عن القانونية ـ أن يشكل سندا لشن حرب بالحجم الذي تلوح به الولايات المتحدة‏.‏

الذين استطلعت رأيهم من خبراء وأساتذة القانون الدولي‏,‏ مصابون بالدهشة والذهول من هذا الموقف‏,‏ وقد وصفه الدكتور كمال أبوالمجد ـ وهو أحد قضاة الأمم المتحدة ـ بأنه تعبير عن الاستعلاء المتحكم الناشيء عن الإسراف في الشعور بالقوة‏,‏ الأمر الذي يؤدي الي إهدار أبسط قواعد العدالة والمنطق في آن واحد‏.‏
القدر المتيقن أن ثمة استهجانا واسع النطاق للهجوم الإرهابي‏,‏ ولكن الطريقة التي تم بها ذلك الهجوم تثير شكوكا قوية حول هوية الفاعلين‏,‏ خصوصا أن الأداء في العملية يتجاوز بكثير سقف المحاولات التي قام بها بن لادن وجماعته‏,‏ وهم المستهدفون الآن من الحرب المنتظرة‏,‏ ذلك أن العملية تطلبت تنظيما خارقا كما ذكر بحق هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق‏,‏ كما تطلبت مستوي رفيعا من الكفاءة الفنية في قيادة الطائرات‏,‏ ناهيك عما توافر لها من خيال وابتكار واسعين‏,‏ وهذه العناصر لم تتوافر من قبل في أي عملية ـ لم تجتمع إن شئت الدقة ـ في أي عملية قام بها منسوبون الي الشرق الأوسط خلال الأربعين سنة الأخيرة علي الأقل‏.‏

بسب ذلك‏,‏ فلم يكن مستغربا أن يشير واحد من أبرز المتخصصين الفرنسيين في الإرهاب الدولي ـ فرانسوا داجوزان ـ الي احتمال أن تكون الميليشيات اليمينية الأمريكية ـ التي قام أحد عناصرها بتفجير المبني الفيدرالي في أوكلاهوما عام‏1995‏ مما أدي الي مصرع‏168‏ شخصا ـ وراء ذلك الهجوم الإرهابي‏,(‏ صحيفة ليبراسيون‏9/13)..‏ وقد عادت صحيفة لوموند في وقت لاحق الي إثارة تلك النقطة‏,‏ حين ذكرت في عدد‏9/15‏ أنه من الضروري في التحقيقات‏,‏ عدم استبعاد احتمال أن يكون هناك عمل منظم من داخل الولايات المتحدة ذاتها‏,‏ وذكرت في هذا السياق بما جري في أوكلاهوما‏,‏ مشيرة الي أن الفاعل فيها‏(‏ تيموثي ماكفاي‏)‏ كان ينتمي الي فئة أطلقت علي نفسها جماعة الكراهية‏,‏ التي ضمت عددا من عناصر الجيش الأمريكي ذاته‏.‏
يضاف الي هذا وذاك‏,‏ أن قائمة العرب المشتبه فيهم‏,‏ التي وزعتها وزارة العدل الأمريكية كان‏19‏ شخصا لم يعرف ما اذا كانوا خاطفين للطائرات أم ركابا عاديين عليها‏..‏ هذه القائمة تضمنت أسماء ثلاثة أشخاص سعوديين‏,‏ تبين أن أحدهم توفي منذ سنة‏,‏ والثاني يعمل بالخطوط الجوية السعودية وقد أنهي تدريبه بالولايات المتحدة ثم عاد الي بلده‏,‏ والثالث يعيش في جدة‏!‏

من ناحية أخري‏,‏ فقد قرأت تقريرا في لوس أنجيلوس عن الخاطفين وزعته صحيفة يو‏.‏إس‏.‏إيه توداي ونشرته صحيفة الشرق الأوسط في‏9/15,‏ ذكرت فيه كاتبته ـ لورا باركر ـ أن اثنين من خاطفي الطائرات قضيا ساعات طويلة في الليلة السابقة علي الهجوم الإرهابي‏,‏ بأحد مطاعم المدينة في حالة من السعادة والنشوة‏,‏ طبقا لرواية نادلة المطعم‏,‏ حيث كانا يحتسيان الفودكا وشراب الروم‏,‏ وقد استغربت كيف يمكن لاثنين من الإسلاميين المتطرفين أن يقضيا شطرا من الليل عشية مهمتهما الجهادية والاستشهادية وهما يعاقران الفودكا ومشروبا كحوليا آخر من العيار الثقيل مثل الروم؟‏!‏

‏(3)‏
الحدث كان جسيما بما فيه الكفاية‏,‏ فالهجوم الذي تم علي رموز السيادة والقوة في الولايات المتحدة‏,‏ ثم مقتل ألوف البشر الأبرياء وترويع ملايين غيرهم‏,‏ لايمكن التهوين من شأنه‏,‏ ويشكل صدمة هائلة لا ريب‏,‏ حتي عند أمثالنا من المنكوبين بالعدوان الإسرائيلي والمملوئين غضبا لأن ذلك العدوان يتم بأسلحة أمريكية وبتأييد وتبرير أمريكيين‏,‏ غير أن الخطاب السياسي الأمريكي لم يكتف بما توافر للحدث من جسامة وفداحة‏,‏ فذهب الي تصويره بحسبانه هجوما علي الحرية والحضارة والحق والعدل‏,‏ كما ذكر وزير الخارجية كولن باول‏,‏ وأغلب الظن أنه تبني ذلك الخطاب لاستنفار العالم الغربي بأسره‏,‏ الذي قد يصبح في هذه الحالة هدفا لمثل ذلك الهجوم الإرهابي‏,‏ ورغم أن دول الغرب الأخري ـ في كندا واستراليا وأوروبا ـ قد استنفرت بالفعل‏,‏ ولم تتردد في إعلان وقوفها وتضامنها مع الولايات المتحدة‏,‏ إلا أن واشنطون آثرت أن تضع المواجهة تحت تلك العناوين الكبيرة‏,‏ التي تمثل عودة غير مبررة الي مفردات زمن الحرب الباردة‏.‏
فكما كانت الشيوعية قابعة وراء دول الستار الحديدي‏,‏ وتمثل تهديدا لدول العالم الحر فإنه يراد للمواجهة الراهنة أن تضع الإرهاب وقوي الظلام ـ والكلام لوزير الخارجية الأمريكي ـ في مواجهة الحرية والحضارة‏....‏ الخ‏,‏ في الغرب‏.‏

دعك الآن من المسعي الإسرائيلي الخبيث واللحوح لإذكاء تلك الفكرة‏,‏ ومحاولتها اثبات الحضور ضمن معسكر الحرية والحضارة وإيهام الجميع بأنها بدورها مستهدفة من جانب قوي الظلام لأن ما نريد أن نلفت الانتباه إليه شيء اخر‏,‏ هو أن هذا الخطاب يعود بالولايات المتحدة سنوات الي الوراء‏,‏ إذ يغريها بالسعي لقسمة العالم مرة أخري‏,‏ مع تكريس موقعها في زعامة العالم الحر‏,‏ وتلك أجواء تستصحب تناميا للقوي اليمينية داخل الولايات المتحدة‏,‏ وتهديدا للحريات العامة والمدنية‏,‏ الأمر الذي سيكون العرب والمسلمون في مقدمة ضحاياه‏,‏ باعتبارهم منسوبين الي قوي الظلام المفترضة‏,‏ وذلك ينذر بموجة جديدة من الإرهاب والعنصرية‏,‏ قد لا تختلف كثيرا عما تعرض له اليابانيون في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية‏.‏

‏(4)‏
يلفت النظر في المشهد أيضا‏,‏ أننا كثيرا ما أخذنا علي الأمريكيين والغربيين بعامة‏,‏ أنهم عادة ما يعممون الاتهام علي العرب والمسلمين كافة‏,‏ اذا ارتكب واحد منسوب إليهم جرما في أي مكان بالعالم‏,‏ وهذا صحيح‏,‏ لأنه ما إن وقع التفجير في نيويورك وواشنطن حتي كانت له أصداؤه السريعة في مختلف الأقطار الغربية‏,‏ فضلا عن الولايات المتحدة بطبيعة الحال‏,‏ فأغلقت مدرسة للمسلمين في كندا‏,‏ وألقيت قنبلة حارقة علي مسجد باستراليا‏,‏ واعتدي بالضرب علي محجبات في لندن‏,‏ وحطم مطعم يملكه أحد المسلمين في برلين‏,‏ واخلت الشرطة مسجدا في لشبونة‏,‏ واضطر بعض المسلمين الأتراك الي حلق لحاهم في هولندا‏!‏
ورغم أن جهود المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة نجحت بصورة نسبية في دفع الإدارة الأمريكية الي اتخاذ موقف متوازن‏,‏ والدعوة الي منع المساس بالمسلمين أو مساجدهم‏,‏ فضلا عن أن عمدة نيويورك وفر لهم حماية أمنهم‏,‏ إلا أن ذلك لم يكن كافيا في وقف العدوان علي المسلمين الأمريكيين وعلي العرب بعامة‏.‏

المفارقة التي حدثت تتمثل في أن العرب والمسلمين‏,‏ وهم يدينون ويستنكرون تعميم الاتهام عليهم‏,‏ فإنهم تصرفوا في الواقع كما لو كانوا جميعا متهمين‏,‏ ويتعين عليهم أن يغسلوا أيديهم ويعلنوا براءتهم من التهمة‏,‏ وهو ما تبدي في التسابق الذي حدث علي استنكار ما جري من جانب كل ذي شأن‏,‏ وفي الإلحاح عبر وسائل الإعلام المختلفة‏,‏ علي أن الإسلام دين السلام‏,‏ وأنه يرفض العنف وينهي ـ حتي في الحرب ـ عن المساس بالمدنيين الأبرياء‏...‏الخ‏.‏
تنافس الجميع في الاعتذار عن شيء لم يفعلوه ولم يكونوا طرفا فيه‏,‏ بل لم يثبتت بشكل قاطع من الذي فعله‏,‏ وحتي اذا ثبت مسئولية بعض المسلمين عما جري‏,‏ فليس مفهوما لماذا لا يحاسب كل بجرمه‏,‏ ولماذا تطالب كل فئة مسلمة بإعلان البراءة والتنصل من الفعل‏.‏

ليس ذلك فحسب‏,‏ وإنما تصرف بعضنا كما لو أنه تعين علينا أن نحبس أنفاسنا وننفض أيدينا من كل شيء‏,‏ انتظارا لرد الفعل الأمريكي‏,‏ الذي لا نعرف مداه‏,‏ ولسنا متأكدين من كل أهدافه‏,‏ حتي إن مركز العودة الفلسطيني في لندن وزع تعميما أعلن فيه عن إلغاء ندوة كان قد أعلن عن عقدها في‏17‏ من شهر سبتمبر الحالي بمناسبة ذكري مذبحة صبرا وشاتيلا‏,‏ بمقر كلية الدراسات الشرقية والإفريقية‏,‏ كما أعلن المركز عن إلغاء مسيرة كان يفترض القيام بها في لندن في الثلاثين من شهر سبتمبر الحالي‏,‏ احتفالا بمرور عام علي الانتفاضة‏,‏ وهو ما فعلته جهات أخري مماثلة‏.‏
والأمر كذلك‏,‏ فهل لنا أن نقول إننا بصدد طور جديد في العلاقات الدولية تفرض فيه الولايات المتحدة أجندتها علي الجميع‏,‏ بحيث لا ننشغل إلا بهمومها‏,‏ ولا نفرح ولا نحزن إلا لأفراحها وأتراحها؟‏!‏

‏(5)‏
نشر موقع إسلام أون لاين في‏9/13‏ رسائل متعددة لمسلمين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ طالبوا فيها بتشكيل لجنة دولية للإشراف علي التحقيق فيما جري‏,‏ ليس فقط باعتبار أن ضحايا التفجيرات بينهم عدد غير قليل من العرب والمسلمين الأمريكيين‏,‏ أو الذين ينتمون الي جنسيات أخري‏,‏ ولكن أيضا لأن المباحث الفيدرالية الأمريكية لها سوابق مشهودة في التأثير علي سير التحقيقات وتلفيق التهم‏,‏ وتلبيسها لأطراف دون أخري‏,‏ اقترحت فكرة لجنة التحقيق الدولية فتاة من الينوي اسمها إيمان محمد‏,‏ أما الذين شككوا في دور المباحث الفيدرالية‏,‏ فكان بينهم عاصف بيات ولارا جميل‏,‏ وآخرون‏.‏
حين طالعت هذه الرسائل خطرت لي علي الفور قصة عالم الذرة الأمريكي‏,‏ ذي الأصول الصينية‏,‏ وان هو لي‏,‏ الذي اتهم قبل سنتين بتسريب معلومات حول الأبحاث الذرية الأمريكية والتجسس لحساب وطنه الأصلي‏,‏ وألقت المباحث الفيدرالية القبض عليه‏,‏ بعد أن وجهت إليه‏59‏ تهمة‏,‏ منها‏39‏ تهمة عقوبتها السجن مدي الحياة‏,‏ فضح الرجل وقدمه الإعلام الأمريكي بحسبانه جاسوسا خطيرا عمل علي تهديد الأمن القومي‏,‏ وما برح التليفزيون يبث صورته في كل مناسبة وهو مكبل بالسلاسل‏.‏

أمضي العالم الكبير تسعة أشهر في السجن‏,‏ دمرت فيها حياته وأسرته‏,‏ ولكن فريق المحامين الذي تولي الدفاع عنه نجح في اثبات تلفيق التهم له‏,‏ وخداع المباحث الفيدرالية للقاضي الذي أمر بسجنه‏,‏ وبين أن أنباء كانت قد تسربت عن إمكانية حدوث اختراق من قبل الصين للجدار الأمني في مختبر لوس الموس‏,‏ أهم معقل للأبحاث النووية بالولايات المتحدة‏,‏ وكان صاحبنا هذا الذي يعمل به صيدا ثمينا ومناسبا تماما لتلبيسه التهمة‏,‏ ومن ثم وقف الحديث عن التسريب‏,‏ ففعلوها دون تردد‏.‏
حين انكشف الأمر‏,‏ ووضحت الحقيقة أمام القاضي جيمس باركر‏,‏ فإنه أصدر أمره ببراءته وإطلاق سراحه فورا‏,‏ ووجه لوما شديدا للمباحث الفيدرالية قائلا الي رجالها اخجلوا وأهانوا هذه الأمة وكل مواطن فيها‏.‏

قبل أيام كان مدير مكتب مجلة نيوزويك بالقاهرة يناقشني في ردود الفعل الأمريكي علي التفجيرات والهجوم‏,‏ أبديت اعتراضا علي اللجوء الي القيام بعمل عسكري ضد بن لادن دون اثبات ضلوعه فيما جري‏,‏ قال لي‏:‏ إن الولايات المتحدة قد تكون لديها أدلة علي تورطه‏,‏ وحين ذكرته بما جري للعالم الصيني وان هو لي‏,‏ فإن الرجل ضحك ضحكة قصيرة وسكت‏!‏
أضافة تعليق