هويدي 11-9-2001
لا أحد يعترض علي أهمية التعامل بشكل جاد مع قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين, غير ان بعض ما كتب أخيرا في ذلك الاتجاه يعود بنا خطوات عديدة إلي الوراء ـ إلي ما تحت نقطة الصفر ـ من حيث إنه يقتضي فتح حوار حول تعريف الجدية المبتغاه, والفرق بينها وبين الهزل والغوغائية.
ـ 1
في عدد الأهرام الذي صدر يوم9/4 نشر الدكتور عبدالمنعم سعيد مقالا لافتا للنظر انتقد فيه خطاب انتقاد او استنكار البيانات الصادرة عن الاجتماعات العربية, التي تستنكر بدورها العدوان الإسرائيلي علي الشعب الفلسطيني, وتشجب السلوك الامريكي, ووصف موقف استنكار الاستنكار ـ علي حد تعبيره ـ بأنه يتبني منطقا أجوف معتبرا ان البيانات التي صدرت في هذا الصدد بأنها لم تتضمن سوي كلمات حماسية وعنترية وأنها تمثل مفارقة فكرية أخري نعيش فيها بين الخيال والواقع.
وبعد ان سجل استنكاره لموقف استنكار الاستنكار, أثار عدة نقاط أخري في مقدمتها مايلي:
* ان الاصوات طالبت في طور سابق باجتماع العرب ولو لاصدار بيان يقول لا للعدوان ويدين سياسة الادانة والهيمنة الغاشمة ـ وبعد ان تعددت تلك الاجتماعات علي مستوي القمة ووزراء الخارجية العرب وصدر عن الجميع البيانات والاعلانات التي تدين وتشجب وتستنكر, كما كان يطالب المطالبون.
* ان مستنكري الاستنكار قصدوا المزايدة حيث لم يحدث ابدا إلا في القليل النادر ـ ان طور احد أجابة السؤال ما العمل وما الذي يستطيع الكاتب نفسه أو شعبه أن يفعل علي وجه التحديد, في مواجهة هذه الحالة المأساوية والبطولية في آن واحد من ثم فلم يكن هناك احد يريد الدخول إلي صلب الموضوع والذين دخلوا فيه لم يكونوا جادين بالمرة وكانت اقتراحاتهم علي سبيل المزايدة, التي دعت مثلا لفتح الحدود للمتطوعين العرب لشن الهجوم علي إسرائيل أو لتحرك الجيوش لشن الحرب الاخيرة علي العدو الصهيوني, او علي الأقل قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل من قبل مصر والأردن, ومقاطعة البضائع الإسرائيلية والامريكية من قبل كل الدول العربية.
* معني هذه الاطروحات هو الحرب, وهؤلاء لم يكونوا جادين في كلامهم بدليل انه لم يحدث ابدا من قبل المقترحين بالقتال والنزال ان طرحوا ضرورة عقد جلسة طارئة لمجلس الشعب المصري لزيادة الضرائب بنسبة معينة ـ25% مثلا ـ للانفاق علي المعارك المقبلة أو حتي علي أسر الشهداء القادمين, ولم يحدث أبدا ان طالب احد مجلس الوزراء المصري مثلا باعادة النظر في خطط التنمية الوطنية للتحول إلي اقتصاد الحرب..
* علي الأرجح فأننا سوف ندفع الثمن من العالم الذي قد ياخذنا علي محمل الجد, فندفع تأمينا أكثر علي وارداتنا, لان السفن سوف تأتي لمنطقة حرب.. وتنصرف عنا رؤوس الاموال والسائحون لاننا في ساحة قتال, وتمتنع المؤسسات الدولية عن اقراضنا لأن مهمتها الاساسية تتعلق بالتنمية وليس بالصراع.. إلخ.
* من دلائل عدم الجدية التي استشهد بها الكاتب واعتبرها أمرا مدهشا انه علي كثرة الجماعات الاسلامية المؤيدة للانتفاضة والعمليات الاستشهادية وفتح الحدود للجيوش والمتطوعين, ان أحدا منهم لم يبذل جهدا كافيا او ان يطلب من الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر, التوقف عن ذبح الجزائريين لكي يمكن ذلك الدولة الجزائرية من المشاركة فيما نحن مقبلون عليه, علي الاقل بدفع نصيبها كاملا في ميزانية الجامعة العربية(!).
ـ 2
قلت ان المرء لايملك سوي ان يرحب بالفكرة الاساسية في الدعوة, خصوصا حين تصدر من مثقف بارز يحتل موقعا مهما في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام, إذ يعمل مديرا له, اضافة إلي أنه من الناشطين في مجموعة كوبنهاجن التي كانت من توابع عملية أوسلو وتشكلت لدفع عملية السلام والتطبيع مع إسرائيل ـ لكن لنا ملاحظات عدة علي المنهج الذي اتبعه اهمها ما يلي:
* أنه استنكر بشدة الذين انتقدوا البيانات التي صدرت عن المنظمات العربية, ووصمهم بتهم عدة, في حين ان تصريحات المسئولين التي صدرت عقب اجتماعات تلك المنظمات مابرحت تذكر ان بياناتها وتوصياتها لاتلبي طموحات الشارع العربي, ولكنها تمثل القدر الذي أمكن التوافق عليه, وهو ماحدث عقب القمة العربية الاخيرة, وكذلك مؤتمر وزراء الخارجية العرب, واذا كان المتحدثون باسم تلك الاجتماعات يعترفون بما شاب البيانات من قصور أو ضعف فرضته اعتبارات التوافق السياسي, ألا يعد الاستنكار هنا ضروريا بل واجبا, ولماذا يستكثر الكاتب علي المثقفين اتخاذ هذا الموقف؟ ـ وهل يكون الموقف صحيا ومرغوبا, لو ان المسئولين قالوا هذا الكلام, ثم هلل المثقفون للبيانات الصادرة, واعتبروها غاية المراد من رب العباد؟!
* انه تحدث وعيناه مركزتان علي مواقف الانظمة والحكومات, واسقط في الاعتبار مايمكن ان تقوم به الشعوب, وفي الوقت نفسه فإنه خلط بين مواقف المثقفين ومواقف السياسيين. وللحكومات ضروراتها وحساباتها, وللشعوب وللمثقفين بالدرجة الاولي, خياراتهم. واذاكان علينا ان نقدر للحكومة ضروراتها, فإن ذلك لن يتوازن اذا لم تتح للشعوب وللمثقفين ان يتحركوا بحرية اكثر في تحديد خياراتهم, والرفض والاستنكار أحد تلك الخيارات التي تتمتع بتأييد شعبي واسع, فلماذا السعي إلي اجهاضه واحباطه والدعوة إلي اختزاله في اطار حسابات السياسيين.
* انه في استهجانة للاستنكار ذهب إلي حد اتهام ذلك الخطاب بالمزايدة, في تعميم يفتقد إلي الدقة ومن ثم الموضوعية, صحيح انه اجري استثناء واحدا, وصفه بالقليل النادر, إلا أنه اطلق التعميم فيما بعد, وظل المقال متبنيا ذلك التعميم في بقية مواضعه, وهو مابدا في اشارته إلي النخبة الفكرية في الصحف والمحطات الفضائية والبرامج التليفزيونية الارضية والاحزاب والجماعات السياسية( من بقي في ساحة الخطاب بعد هؤلاء جميعا) الأمر الذي يدعونا إلي طرح السؤال التالي: هل صحيح ان كل الذين انتقدوا البيانات الرسمية ـ أو حتي أغلبهم ـ دعوا إلي فتح الحدود للمتطوعين العرب وتحرك الجيوش لشن الحرب الاخيرة؟ واذا أخذنا بلدا في حجم مصر مثلا,هل يستطيع احد ـ بمن فيهم الكاتب نفسه ـ أن يحدد لنا خمسة أشخاص فقط من عناصر النخبة الفكرية أطلقوا مثل هذا الكلام؟
انه وهو الذي دعانا إلي الجدية, وتحدث في موضع آخر عن ضرورة ضبط الكلام, لم يقل لنا من قال ماذا, واين ومتي؟ ثم ماهو المعيار الذي استخدمه لكي يقرر تارة ان الكل إلا في القليل النادر, وتارة أخري ان النخب الفكرية جميعها, في الصحف والاذاعات والجماعات السياسية.. إلخ هؤلاء جميعا تبنوا ذلك الخطاب العنتري الاجوف, الذي اتسم بالمزايدة.
* مثلما اتهم الاغلبية الساحقة أو الكل بتلك المزايدة, وراح يهاجمها, فانه نسب إلي النخبة او ما سماه الدعوة الذائعة ـ هكذا ايضا دون ضبط أو تحديد ـ انها طالبت بعقد الاجتماعات العربية لمجرد الشجب والاستنكار, وعندما استجابت القيادات العربية لذلك المطلب لم يعجب ذلك أحدا وتوالت بيانات استنكار الاستنكار, وهو موقف عبثي سجله الكاتب ثم وجه اليه سهام النقد والتبكيت, ومن اسف ان ذلك ادعاء لا أساس له ولادليل عليه, إذ ليس صحيحا ان النخبة او الناس تمنوا عقد الاجتماعات العربية لمجرد اصدار بيانات الشجب والاستنكار, واي متابع للصحف المصرية والعربية بعامة يجد أن هذا الموقف بالذات ـ الذي أعتبره الكاتب مطلبا عاما ـ أصبح محل نقد وسخرية من الجميع, بل اصبح الموضوع الاثير لدي رسامي الكاريكاتير في الامة العربية كلها, من المحيط إلي الخليج, إنما الصحيح ان الناس استنكروا البيانات لانها اكتفت بالاستنكار والشجب, ولم تتضمن خطوات جادة وفعالة سواء لدعم نضال وصمود الشعب الفلسطيني ولاخطوات حقيقية سواء للضغط علي إسرائيل, أو لدعم التعاون العربي وتقوية جبهة الامة في مواجهة العدو المشترك.
ـ 3
من ناحية المضمون, يلاحظ المرء علي المقال مايلي:
* انه حين انتقد موقف استنكار الاستنكار اخذ علي أصحابه ان احدا منهم لم يطور إجابة علي السؤال: ما العمل؟ وهي الحجة التي دأب أنصار جماعة كوبنهاجن تحديدا علي ترديدها, والذين يتابعون حوارات قناة الجزيرة خصوصا في برنامج الاتجاه المعاكس لابد انهم سمعوها أكثر من مرة من عناصر المجموعة, واسمح لنفسي ان اقول إن إلقاء السؤال بهذه الطريقة يبعث علي الدهشة, فحين يكون اي شعب في العالم تحت الاحتلال, فان القاء السؤال ما العمل, يدل علي سذاجة مفرطة او علي استعباط مبالغ فيه, ذلك ان الرد الذي يخطر علي بال اي انسان لديه حد أدني من الكرامة والمسئولية هو المقاومة بكل صورها, وعلي كل طرف ان يختار الاسلوب الذي يناسبه منها.
مايدعو إلي الاستغراب حقا ليس استعصاء الاجابة علي السؤال, ولكن مجرد طرحه واعتباره اشكالية تستدعي التسفيه والتوبيخ, لذلك اخشي ما أخشاه ان يكون الهدف من القائه ليس البحث عن اجابة له, ولكن استبعاد خيار المقاومة من أساسه.
* في ادانة موقف نقد البيانات الرسمية خلط الكاتب بين الإجراءات العسكرية التي يمكن ان تتخذها الامة العربية ضد إسرائيل, الضغوط التي يمكن ان يمارسها العرب ضدها مثل المقاطعة السياسية او الاقتصادية, وبعد ان اجري ذلك الخلط المفتعل قال ان معني هذه الاطروحات هو الحرب, وهو بهذا وضعنا أمام أحد خيارين, ان نسلم بالموجود ونؤيد ونصفق للبيانات الصادرة عن الاجتماعات العربية, او نتحمل مسئولية التورط في الحرب.
وعرض الامر بهذه الصورة معيب من ناحيتين, حيث لامحل للخلط بين الاجراءات العسكرية والضغوط السياسية والاقتصادية, ولاينبغي ان يوضع الموقفان في كفة واحدة, واذا كانت بعض القيادات السياسية في صنعاء او بغداد قد دعت إلي فتح الحدود والتطوع وغير ذلك فذلك موقف استثنائي بامتياز, لاينبغي ان ينسب إلي المثقفين بعامة.
من ناحية ثانية, فان اعتبار الحرب بديلا حتي للمقاطعة السياسية والاقتصادية ليس صحيحا بالضرورة, وسوريا ـ وهي دولة مواجهة ـ التزمت بهذا الموقف, دون أن يضطرها ذلك إلي الدخول في حرب.
ان الكاتب ـ وهو مدير مركز الدراسات الاستراتيجية ـ غيب تماما الخيار الثالث, الذي يقف بين التسليم بالمعروض, وبين الحرب, وهو المقاومة والرفض علي الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وليس عندي تفسير لتلك الحساسية المؤدية إلي استبعاد فكرة المقاومة بآفاقها الواسعة التي تحتمل تنويعات معينة في الاراضي المحتلة, وأساليب أخري في بقية الدول العربية.
ـ 4
* بعد ان عمد الكاتب إلي تسخيف موقف الاستنكار, فأنه لجأ إلي التخويف من فكرة الحرب بالمطلق. وسعي في ذلك إلي اثارة مخاوف الشعب المصري عبر الضغط علي المسألة الاقتصادية( زيادة الضرائب ـ وقف خطط التنمية ـ أرتفاع اسعار الواردات ـ ووقف معونات المؤسسات الدولية والمساعدات الامريكية).
ولا أحد يحب الحرب أو يتمناها بطبيعة الحال لكن التخويف منها بدغدغة مشاعر الناس والعزف علي وتر معاناتهم, لايفسر إلا بحسبانه تثبيطا للهمم ودعوة مبطنة تصب في مجري الحث علي الاستسلام لما هو قائم, لان البديل هو الحرب, والحرب ستضاعف من معاناة الناس وهمومهم, من ثم فاذا كان المعروض علينا هو شر بصورة أو أخري, فالحرب شر أعظم يجب تجنبه بأي ثمن.
والكلام الجاد في المسألة لايكون بهذه الطريقة لا بافتعال الحرب كخيار وحيد, ولا بكيفية التعامل مع الحرب, حين تفرض علي أي مجتمع. لأنه حين يجد الجد, ويتعرض أي بلد للعدوان فان المسألة لاتقاس بارتفاع الاسعار او توقف المساعدات الدولية والامريكية, حيث الذين يدافعون عن شرف بلادهم وكرامتها يفكرون بطريقة أخري ويحسبون المواقف علي أسس مغايرة, حيث لاينشغلون إلا برد العدوان بأي ثمن.
في هذا الصدد لابد أنه نحمد الله علي ان الذي خوفنا منه الكاتب ليس واردا في التفكير العسكري المصري علي الاقل. والخطاب الذي القاه المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع يوم8/29 ـ في مناسبة المشروع التدريبي للجيش الثاني الميداني ـ تبني نهجا آخر, فقد أشار إلي التطورات والتعقيدات في المنطقة, وقال انها تفوض علي القوات المسلحة المصرية الحذر والاستعداد ورفع الكفاءة مذكرا بان امتلاكنا لقوة الردع هو الضمان الحقيقي لحماية السلام ومواجهة أي تطورات محتملة
ـ 5
لا أعرف من أي باب من أبواب الجدية يمكن ان نستقبل دهشة الكاتب من انه علي كثرة الجماعات الاسلامية المؤيدة للانتفاضة والعمليات الاستشهادية ـ والكلام له ـ فان احدا منهم لم يبذل جهدا كافيا لوقف ذبح الجزائريين لتمكين الحكومة الجزائرية من المشاركة في الحرب أو دفع نصيبها في ميزانية الجامعة كاملا, فنحن اذا افترضنا صحة الكلام وبراءة القصد وصدقنا انه حريص علي حشد كل الطاقات العربية, بما في ذلك تلك التي في أقصي بلاد العرب, واستبعدنا احتمال الغمز في قناة وتشوية صورة مؤيدي العمليات الاستشهادية, فليس مفهوما لماذا لم يدع الكاتب إلي رفع الحصار عن العراق أو الاسراع بحل مشكلة الصحراء بالمغرب, او انهاء الحرب في جنوب السودان, لكي يكتمل مشهد الاحتشاد الذي المح اليه؟ وهل يفسر ذلك الاستبعاد أو التجاهل بان الكاتب اعتبر ان الجزائر هي حجر الاساس في الاحتشاد العربي لمواجهة إسرائيل؟
ليس عندي دفاع عن كل عناصر النخبة الفكرية التي خصها الكاتب بالادانة والاستنكار, ففيهم الصالح والطالح, والمهرج والمحترم, والجاد والهازل, لكني ازعم ان الكاتب كان متجنيا ومسرفا في الاتهام, حين عمم علي الجميع تهمة الغوغائية برغم اشارته اليتيمة إلي استثناء قلة نادرة منهم, في حين ان اي متبع لمشهد الخطاب العربي كما تعبر عنه الصحف والفضائيات يدرك جيدا ان الذين دعوا إلي فتح الحدود والتطوع وحشد الجيوش هم القلة النادرة, التي استولت علي ادراك الكاتب للأسف, فلم ير غيرها في الساحة العربية الواسعة.
لقد حثنا الدكتور عبدالمنعم سعيد علي ان نتعلم من التاريخ ونقول كلاما جادا, لكنه اكتفي بنقد وتسفيه الجميع ولم يقل لنا ماهو الكلام الجاد الذي ينبغي ان يقال, وأرجو إلا يعتبر كلامه نموذجا في هذا الصدد, لان ذلك سوف يدفعنا في النهاية إلي المطالبة بإعادة تعريف مفهوم الجدية, وربما وجد بعضنا في هذه الحالة أن الهزل أفضل!
لا أحد يعترض علي أهمية التعامل بشكل جاد مع قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين, غير ان بعض ما كتب أخيرا في ذلك الاتجاه يعود بنا خطوات عديدة إلي الوراء ـ إلي ما تحت نقطة الصفر ـ من حيث إنه يقتضي فتح حوار حول تعريف الجدية المبتغاه, والفرق بينها وبين الهزل والغوغائية.
ـ 1
في عدد الأهرام الذي صدر يوم9/4 نشر الدكتور عبدالمنعم سعيد مقالا لافتا للنظر انتقد فيه خطاب انتقاد او استنكار البيانات الصادرة عن الاجتماعات العربية, التي تستنكر بدورها العدوان الإسرائيلي علي الشعب الفلسطيني, وتشجب السلوك الامريكي, ووصف موقف استنكار الاستنكار ـ علي حد تعبيره ـ بأنه يتبني منطقا أجوف معتبرا ان البيانات التي صدرت في هذا الصدد بأنها لم تتضمن سوي كلمات حماسية وعنترية وأنها تمثل مفارقة فكرية أخري نعيش فيها بين الخيال والواقع.
وبعد ان سجل استنكاره لموقف استنكار الاستنكار, أثار عدة نقاط أخري في مقدمتها مايلي:
* ان الاصوات طالبت في طور سابق باجتماع العرب ولو لاصدار بيان يقول لا للعدوان ويدين سياسة الادانة والهيمنة الغاشمة ـ وبعد ان تعددت تلك الاجتماعات علي مستوي القمة ووزراء الخارجية العرب وصدر عن الجميع البيانات والاعلانات التي تدين وتشجب وتستنكر, كما كان يطالب المطالبون.
* ان مستنكري الاستنكار قصدوا المزايدة حيث لم يحدث ابدا إلا في القليل النادر ـ ان طور احد أجابة السؤال ما العمل وما الذي يستطيع الكاتب نفسه أو شعبه أن يفعل علي وجه التحديد, في مواجهة هذه الحالة المأساوية والبطولية في آن واحد من ثم فلم يكن هناك احد يريد الدخول إلي صلب الموضوع والذين دخلوا فيه لم يكونوا جادين بالمرة وكانت اقتراحاتهم علي سبيل المزايدة, التي دعت مثلا لفتح الحدود للمتطوعين العرب لشن الهجوم علي إسرائيل أو لتحرك الجيوش لشن الحرب الاخيرة علي العدو الصهيوني, او علي الأقل قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل من قبل مصر والأردن, ومقاطعة البضائع الإسرائيلية والامريكية من قبل كل الدول العربية.
* معني هذه الاطروحات هو الحرب, وهؤلاء لم يكونوا جادين في كلامهم بدليل انه لم يحدث ابدا من قبل المقترحين بالقتال والنزال ان طرحوا ضرورة عقد جلسة طارئة لمجلس الشعب المصري لزيادة الضرائب بنسبة معينة ـ25% مثلا ـ للانفاق علي المعارك المقبلة أو حتي علي أسر الشهداء القادمين, ولم يحدث أبدا ان طالب احد مجلس الوزراء المصري مثلا باعادة النظر في خطط التنمية الوطنية للتحول إلي اقتصاد الحرب..
* علي الأرجح فأننا سوف ندفع الثمن من العالم الذي قد ياخذنا علي محمل الجد, فندفع تأمينا أكثر علي وارداتنا, لان السفن سوف تأتي لمنطقة حرب.. وتنصرف عنا رؤوس الاموال والسائحون لاننا في ساحة قتال, وتمتنع المؤسسات الدولية عن اقراضنا لأن مهمتها الاساسية تتعلق بالتنمية وليس بالصراع.. إلخ.
* من دلائل عدم الجدية التي استشهد بها الكاتب واعتبرها أمرا مدهشا انه علي كثرة الجماعات الاسلامية المؤيدة للانتفاضة والعمليات الاستشهادية وفتح الحدود للجيوش والمتطوعين, ان أحدا منهم لم يبذل جهدا كافيا او ان يطلب من الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر, التوقف عن ذبح الجزائريين لكي يمكن ذلك الدولة الجزائرية من المشاركة فيما نحن مقبلون عليه, علي الاقل بدفع نصيبها كاملا في ميزانية الجامعة العربية(!).
ـ 2
قلت ان المرء لايملك سوي ان يرحب بالفكرة الاساسية في الدعوة, خصوصا حين تصدر من مثقف بارز يحتل موقعا مهما في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام, إذ يعمل مديرا له, اضافة إلي أنه من الناشطين في مجموعة كوبنهاجن التي كانت من توابع عملية أوسلو وتشكلت لدفع عملية السلام والتطبيع مع إسرائيل ـ لكن لنا ملاحظات عدة علي المنهج الذي اتبعه اهمها ما يلي:
* أنه استنكر بشدة الذين انتقدوا البيانات التي صدرت عن المنظمات العربية, ووصمهم بتهم عدة, في حين ان تصريحات المسئولين التي صدرت عقب اجتماعات تلك المنظمات مابرحت تذكر ان بياناتها وتوصياتها لاتلبي طموحات الشارع العربي, ولكنها تمثل القدر الذي أمكن التوافق عليه, وهو ماحدث عقب القمة العربية الاخيرة, وكذلك مؤتمر وزراء الخارجية العرب, واذا كان المتحدثون باسم تلك الاجتماعات يعترفون بما شاب البيانات من قصور أو ضعف فرضته اعتبارات التوافق السياسي, ألا يعد الاستنكار هنا ضروريا بل واجبا, ولماذا يستكثر الكاتب علي المثقفين اتخاذ هذا الموقف؟ ـ وهل يكون الموقف صحيا ومرغوبا, لو ان المسئولين قالوا هذا الكلام, ثم هلل المثقفون للبيانات الصادرة, واعتبروها غاية المراد من رب العباد؟!
* انه تحدث وعيناه مركزتان علي مواقف الانظمة والحكومات, واسقط في الاعتبار مايمكن ان تقوم به الشعوب, وفي الوقت نفسه فإنه خلط بين مواقف المثقفين ومواقف السياسيين. وللحكومات ضروراتها وحساباتها, وللشعوب وللمثقفين بالدرجة الاولي, خياراتهم. واذاكان علينا ان نقدر للحكومة ضروراتها, فإن ذلك لن يتوازن اذا لم تتح للشعوب وللمثقفين ان يتحركوا بحرية اكثر في تحديد خياراتهم, والرفض والاستنكار أحد تلك الخيارات التي تتمتع بتأييد شعبي واسع, فلماذا السعي إلي اجهاضه واحباطه والدعوة إلي اختزاله في اطار حسابات السياسيين.
* انه في استهجانة للاستنكار ذهب إلي حد اتهام ذلك الخطاب بالمزايدة, في تعميم يفتقد إلي الدقة ومن ثم الموضوعية, صحيح انه اجري استثناء واحدا, وصفه بالقليل النادر, إلا أنه اطلق التعميم فيما بعد, وظل المقال متبنيا ذلك التعميم في بقية مواضعه, وهو مابدا في اشارته إلي النخبة الفكرية في الصحف والمحطات الفضائية والبرامج التليفزيونية الارضية والاحزاب والجماعات السياسية( من بقي في ساحة الخطاب بعد هؤلاء جميعا) الأمر الذي يدعونا إلي طرح السؤال التالي: هل صحيح ان كل الذين انتقدوا البيانات الرسمية ـ أو حتي أغلبهم ـ دعوا إلي فتح الحدود للمتطوعين العرب وتحرك الجيوش لشن الحرب الاخيرة؟ واذا أخذنا بلدا في حجم مصر مثلا,هل يستطيع احد ـ بمن فيهم الكاتب نفسه ـ أن يحدد لنا خمسة أشخاص فقط من عناصر النخبة الفكرية أطلقوا مثل هذا الكلام؟
انه وهو الذي دعانا إلي الجدية, وتحدث في موضع آخر عن ضرورة ضبط الكلام, لم يقل لنا من قال ماذا, واين ومتي؟ ثم ماهو المعيار الذي استخدمه لكي يقرر تارة ان الكل إلا في القليل النادر, وتارة أخري ان النخب الفكرية جميعها, في الصحف والاذاعات والجماعات السياسية.. إلخ هؤلاء جميعا تبنوا ذلك الخطاب العنتري الاجوف, الذي اتسم بالمزايدة.
* مثلما اتهم الاغلبية الساحقة أو الكل بتلك المزايدة, وراح يهاجمها, فانه نسب إلي النخبة او ما سماه الدعوة الذائعة ـ هكذا ايضا دون ضبط أو تحديد ـ انها طالبت بعقد الاجتماعات العربية لمجرد الشجب والاستنكار, وعندما استجابت القيادات العربية لذلك المطلب لم يعجب ذلك أحدا وتوالت بيانات استنكار الاستنكار, وهو موقف عبثي سجله الكاتب ثم وجه اليه سهام النقد والتبكيت, ومن اسف ان ذلك ادعاء لا أساس له ولادليل عليه, إذ ليس صحيحا ان النخبة او الناس تمنوا عقد الاجتماعات العربية لمجرد اصدار بيانات الشجب والاستنكار, واي متابع للصحف المصرية والعربية بعامة يجد أن هذا الموقف بالذات ـ الذي أعتبره الكاتب مطلبا عاما ـ أصبح محل نقد وسخرية من الجميع, بل اصبح الموضوع الاثير لدي رسامي الكاريكاتير في الامة العربية كلها, من المحيط إلي الخليج, إنما الصحيح ان الناس استنكروا البيانات لانها اكتفت بالاستنكار والشجب, ولم تتضمن خطوات جادة وفعالة سواء لدعم نضال وصمود الشعب الفلسطيني ولاخطوات حقيقية سواء للضغط علي إسرائيل, أو لدعم التعاون العربي وتقوية جبهة الامة في مواجهة العدو المشترك.
ـ 3
من ناحية المضمون, يلاحظ المرء علي المقال مايلي:
* انه حين انتقد موقف استنكار الاستنكار اخذ علي أصحابه ان احدا منهم لم يطور إجابة علي السؤال: ما العمل؟ وهي الحجة التي دأب أنصار جماعة كوبنهاجن تحديدا علي ترديدها, والذين يتابعون حوارات قناة الجزيرة خصوصا في برنامج الاتجاه المعاكس لابد انهم سمعوها أكثر من مرة من عناصر المجموعة, واسمح لنفسي ان اقول إن إلقاء السؤال بهذه الطريقة يبعث علي الدهشة, فحين يكون اي شعب في العالم تحت الاحتلال, فان القاء السؤال ما العمل, يدل علي سذاجة مفرطة او علي استعباط مبالغ فيه, ذلك ان الرد الذي يخطر علي بال اي انسان لديه حد أدني من الكرامة والمسئولية هو المقاومة بكل صورها, وعلي كل طرف ان يختار الاسلوب الذي يناسبه منها.
مايدعو إلي الاستغراب حقا ليس استعصاء الاجابة علي السؤال, ولكن مجرد طرحه واعتباره اشكالية تستدعي التسفيه والتوبيخ, لذلك اخشي ما أخشاه ان يكون الهدف من القائه ليس البحث عن اجابة له, ولكن استبعاد خيار المقاومة من أساسه.
* في ادانة موقف نقد البيانات الرسمية خلط الكاتب بين الإجراءات العسكرية التي يمكن ان تتخذها الامة العربية ضد إسرائيل, الضغوط التي يمكن ان يمارسها العرب ضدها مثل المقاطعة السياسية او الاقتصادية, وبعد ان اجري ذلك الخلط المفتعل قال ان معني هذه الاطروحات هو الحرب, وهو بهذا وضعنا أمام أحد خيارين, ان نسلم بالموجود ونؤيد ونصفق للبيانات الصادرة عن الاجتماعات العربية, او نتحمل مسئولية التورط في الحرب.
وعرض الامر بهذه الصورة معيب من ناحيتين, حيث لامحل للخلط بين الاجراءات العسكرية والضغوط السياسية والاقتصادية, ولاينبغي ان يوضع الموقفان في كفة واحدة, واذا كانت بعض القيادات السياسية في صنعاء او بغداد قد دعت إلي فتح الحدود والتطوع وغير ذلك فذلك موقف استثنائي بامتياز, لاينبغي ان ينسب إلي المثقفين بعامة.
من ناحية ثانية, فان اعتبار الحرب بديلا حتي للمقاطعة السياسية والاقتصادية ليس صحيحا بالضرورة, وسوريا ـ وهي دولة مواجهة ـ التزمت بهذا الموقف, دون أن يضطرها ذلك إلي الدخول في حرب.
ان الكاتب ـ وهو مدير مركز الدراسات الاستراتيجية ـ غيب تماما الخيار الثالث, الذي يقف بين التسليم بالمعروض, وبين الحرب, وهو المقاومة والرفض علي الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وليس عندي تفسير لتلك الحساسية المؤدية إلي استبعاد فكرة المقاومة بآفاقها الواسعة التي تحتمل تنويعات معينة في الاراضي المحتلة, وأساليب أخري في بقية الدول العربية.
ـ 4
* بعد ان عمد الكاتب إلي تسخيف موقف الاستنكار, فأنه لجأ إلي التخويف من فكرة الحرب بالمطلق. وسعي في ذلك إلي اثارة مخاوف الشعب المصري عبر الضغط علي المسألة الاقتصادية( زيادة الضرائب ـ وقف خطط التنمية ـ أرتفاع اسعار الواردات ـ ووقف معونات المؤسسات الدولية والمساعدات الامريكية).
ولا أحد يحب الحرب أو يتمناها بطبيعة الحال لكن التخويف منها بدغدغة مشاعر الناس والعزف علي وتر معاناتهم, لايفسر إلا بحسبانه تثبيطا للهمم ودعوة مبطنة تصب في مجري الحث علي الاستسلام لما هو قائم, لان البديل هو الحرب, والحرب ستضاعف من معاناة الناس وهمومهم, من ثم فاذا كان المعروض علينا هو شر بصورة أو أخري, فالحرب شر أعظم يجب تجنبه بأي ثمن.
والكلام الجاد في المسألة لايكون بهذه الطريقة لا بافتعال الحرب كخيار وحيد, ولا بكيفية التعامل مع الحرب, حين تفرض علي أي مجتمع. لأنه حين يجد الجد, ويتعرض أي بلد للعدوان فان المسألة لاتقاس بارتفاع الاسعار او توقف المساعدات الدولية والامريكية, حيث الذين يدافعون عن شرف بلادهم وكرامتها يفكرون بطريقة أخري ويحسبون المواقف علي أسس مغايرة, حيث لاينشغلون إلا برد العدوان بأي ثمن.
في هذا الصدد لابد أنه نحمد الله علي ان الذي خوفنا منه الكاتب ليس واردا في التفكير العسكري المصري علي الاقل. والخطاب الذي القاه المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع يوم8/29 ـ في مناسبة المشروع التدريبي للجيش الثاني الميداني ـ تبني نهجا آخر, فقد أشار إلي التطورات والتعقيدات في المنطقة, وقال انها تفوض علي القوات المسلحة المصرية الحذر والاستعداد ورفع الكفاءة مذكرا بان امتلاكنا لقوة الردع هو الضمان الحقيقي لحماية السلام ومواجهة أي تطورات محتملة
ـ 5
لا أعرف من أي باب من أبواب الجدية يمكن ان نستقبل دهشة الكاتب من انه علي كثرة الجماعات الاسلامية المؤيدة للانتفاضة والعمليات الاستشهادية ـ والكلام له ـ فان احدا منهم لم يبذل جهدا كافيا لوقف ذبح الجزائريين لتمكين الحكومة الجزائرية من المشاركة في الحرب أو دفع نصيبها في ميزانية الجامعة كاملا, فنحن اذا افترضنا صحة الكلام وبراءة القصد وصدقنا انه حريص علي حشد كل الطاقات العربية, بما في ذلك تلك التي في أقصي بلاد العرب, واستبعدنا احتمال الغمز في قناة وتشوية صورة مؤيدي العمليات الاستشهادية, فليس مفهوما لماذا لم يدع الكاتب إلي رفع الحصار عن العراق أو الاسراع بحل مشكلة الصحراء بالمغرب, او انهاء الحرب في جنوب السودان, لكي يكتمل مشهد الاحتشاد الذي المح اليه؟ وهل يفسر ذلك الاستبعاد أو التجاهل بان الكاتب اعتبر ان الجزائر هي حجر الاساس في الاحتشاد العربي لمواجهة إسرائيل؟
ليس عندي دفاع عن كل عناصر النخبة الفكرية التي خصها الكاتب بالادانة والاستنكار, ففيهم الصالح والطالح, والمهرج والمحترم, والجاد والهازل, لكني ازعم ان الكاتب كان متجنيا ومسرفا في الاتهام, حين عمم علي الجميع تهمة الغوغائية برغم اشارته اليتيمة إلي استثناء قلة نادرة منهم, في حين ان اي متبع لمشهد الخطاب العربي كما تعبر عنه الصحف والفضائيات يدرك جيدا ان الذين دعوا إلي فتح الحدود والتطوع وحشد الجيوش هم القلة النادرة, التي استولت علي ادراك الكاتب للأسف, فلم ير غيرها في الساحة العربية الواسعة.
لقد حثنا الدكتور عبدالمنعم سعيد علي ان نتعلم من التاريخ ونقول كلاما جادا, لكنه اكتفي بنقد وتسفيه الجميع ولم يقل لنا ماهو الكلام الجاد الذي ينبغي ان يقال, وأرجو إلا يعتبر كلامه نموذجا في هذا الصدد, لان ذلك سوف يدفعنا في النهاية إلي المطالبة بإعادة تعريف مفهوم الجدية, وربما وجد بعضنا في هذه الحالة أن الهزل أفضل!